تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله: القضاء و الشهادات

اشارة

سرشناسه : فاضل لنکرانی، محمد، 1310 - 1386.

عنوان و نام پديدآور : تفصیل الشریعه فی شرح تحریر الوسیله: القضاء و الشهادات/ تالیف محمد الفاضل اللنکرانی؛ تحقیق و نشر مرکز فقه الائمه الاطهار علیهم السلام.

مشخصات نشر : قم: مرکز فقه الائمه الاطهار علیهم السلام، 1427ق. = 1385.

مشخصات ظاهری : 648 ص.

شابک : 35000 ریال 964-7709-37-4 :

يادداشت : عربی.

يادداشت : چاپ دوم.

یادداشت : کتابنامه: ص. [615] - 632 ؛ همچنین به صورت زیرنویس.

موضوع : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله -- نقد و تفسیر

موضوع : فقه جعفری -- رساله عملیه

موضوع : قضاوت

موضوع : قضاوت (فقه)

موضوع : گواهی و گواهان

شناسه افزوده : خمینی، روح الله، رهبر انقلاب و بنیانگذار جمهوری اسلامی ایران، 1279 - 1368 . تحریر الوسیله. برگزیده. شرح

رده بندی کنگره : BP183/9/خ8ت30237225 1385

رده بندی دیویی : 297/3422

شماره کتابشناسی ملی : 1074585

شكر و تقدير

قد تمّت مراجعة هذا الكتاب و إخراجه في مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السّلام) بجهود الفضلاء الأماجد:

1 حجّة الإسلام و المسلمين الشيخ حسين الواثقي: المشرف المباشر.

2 الأستاذ محسن الأسدي: تنسيق كتاب القضاء و بعض المراجعة.

3 حجّة الإسلام الشيخ عباد اللّٰه سرشار الميانجي الطهراني: تخريج مصادر كتاب القضاء.

4 الأخ الفاضل محمد مهدي مقدادي: تخريج مصادر كتاب الشهادات.

هذا، و قد أُجريت مقابلة كتابي القضاء و الشهادات و مراجعتهما من قبل كلّ من الشيخ الطهراني و الأخ المقدادي.

و نحن إذ نقدِّم لهم شكرنا و تقديرنا، نسأل اللّٰه تعالى أن يوفّقهم للمزيد من الأعمال العلميّة.

قم المقدّسة مركز فقه الأئمّة الأطهار (عليهم السّلام)

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 5

[كتاب القضاء]

اشارة

كتاب القضاء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 6

باسمه تعالى

هذا شرح كتاب القضاء من تحرير الوسيلة للإمام الراحل الخميني (قدّس سرّه)، المسمّى «تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة». و أنا الأقل الفاني محمد الفاضل اللنكراني، و من اللّٰه أستمد العون لإتمامه و إتمام سائر أجزاء الكتاب بحقّ أوليائه الطاهرين صلواته عليهم أجمعين. و كان الشروع يوم السبت ثالث جمادى الأولى من شهور سنة 1418 من الهجرية النبويّة القمريّة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 7

[حول القاضي و القضاوة]

حول القاضي و القضاوة القضاء و هو الحكم بين الناس لرفع التنازع بينهم بالشرائط الآتية.

______________________________

(1) القضاء بالمد و القصر، و إن كان المدّ في أمثال هذه الموارد موجباً للدلالة علىٰ شدّة المرتبة كالبكاء، و لا يعمل مثلها في القضاء. قد ذكر لها بحسب اللغة معان متعدّدة ربّما أنهيت إلى عشرة، كما في كلام صاحب الجواهر «1». و قد استعملت فيها في ظاهر الكتاب العزيز كالحكم أو المقول في قوله تعالى وَ اللّٰهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ «2» و الحكم كما في قوله تعالى في قصّة سليمان فَلَمّٰا قَضَيْنٰا عَلَيْهِ الْمَوْتَ «3» و كالإعلام كما في قوله تعالى إِلّٰا حٰاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضٰاهٰا «4» و الأمر كما في قوله تعالى وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ «5»

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 7.

(2) سورة غافر 40: 20.

(3) سورة سبأ 34: 14.

(4) سورة يوسف 12: 68.

(5) سورة الإسراء 17: 23.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 8

..........

______________________________

و كالخلق كما في قوله تعالى: فَقَضٰاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوٰاتٍ «1» و كالفعل كما في قصّة السّحرة خطاباً إلى فرعون فَاقْضِ مٰا أَنْتَ قٰاضٍ

«2» و كالإتمام و الفراغ كما في قوله تعالى حكاية عن موسى (عليه السّلام) أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلٰا عُدْوٰانَ عَلَيَّ «3» و كما في قوله تعالى فَلَمّٰا قَضىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَ سٰارَ بِأَهْلِهِ «4» و في قوله تعالى فَإِذٰا قَضَيْتُمْ مَنٰاسِكَكُمْ «5».

إلّا أنّه نفى البعد الشيخ الأنصاري في رسالته في القضاء عن إرجاع الكلّ إلىٰ معنىٰ واحد قال: و هو إتمام الشي ء و الفراغ عنه «6»، كما اعترف به الأزهري علىٰ ما حكي عنه أي في كتاب تاج العروس في الشرح على القاموس للفيروزآبادي «7» أو فصل الأمر قولًا أو فعلًا كما في كشف اللثام «8».

أقول: الظاهر أنّ الإرجاع إلى المعنى الأوّل لا يتم، و لا يكاد يستقيم مع مثل قوله تعالى وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلّٰا تَعْبُدُوا إِلّٰا إِيّٰاهُ، فتدبّر.

و أمّا المعنى الثّاني فهو يتمّ بناءً على كون المراد من فصل الأمر غير منحصر بمورد الترافع و المخاصمة و التنازع و التقابل، كما لا يبعد.

و يؤيّد الإرجاع إلى المعنى الواحد أنّ المرتكز في الأذهان العرفيّة: أنّه لا يكون القضاء من الكلمات التي لها معان متعدّدة كالعين التي تكون كذلك، و كالقرء الذي هو مردّد بين معنيين متضادّين من الحيض و الطهر. هذا كلّه بحسب اللغة و العرف.

______________________________

(1) سورة فصّلت 41: 12.

(2) سورة طه 20: 72.

(3) سورة القصص 28: 28 و 29.

(4) سورة القصص 28: 28 و 29.

(5) سورة البقرة 2: 200.

(6) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأنصاري): 22/ 25.

(7) تاج العروس: 10/ 297.

(8) كشف اللّثام: 2/ 320 (ط ق).

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 9

..........

______________________________

معنى القضاء اصطلاحاً و أمّا بحسب الاصطلاح الذي لا يراد به إلّا الاصطلاح الفقهيّ، لا

الحقيقة الشرعيّة، بل و لا المتشرعية؛ لأنّ مورد بحثهما هو ألفاظ العبادات مثل الصلاة و الصيام و الحجّ، دون المعاملات بالمعنى الأعم أو الأخص مثل البيع و نحوه، فإنّه لا يراد منها إلّا المعاني العقلائيّة العرفيّة المتداولة، غاية الأمر اعتبار الشارع فيها بعض الأُمور نفياً و إثباتاً كالنهي عن بيع الغرر «1»، و إلّا فالمراد من مثل قوله تعالى وَ أَحَلَّ اللّٰهُ الْبَيْعَ «2» هو البيع العرفي العقلائي، و إلّا يلزم أن يكون مثل الضرورية بشرط المحمول؛ لأنّ الحكم بأنّه أنفذ اللّٰه البيع الشرعي يرجع إلى ذلك.

و كيف كان، فقد عرّفه في محكي المسالك «3» و الرياض «4» و الكشف «5» و التنقيح «6» و مثلها «7» بأنّه عبارة عن ولاية الحكم شرعاً لمن له أهليّة الفتوىٰ بجزئيّات القوانين الشرعيّة على أشخاص معيّنين من البريّة بإثبات الحقوق و استيفائها للمستحق. و عرّفه في محكي الدروس «8» بأنّه ولاية شرعيّة على الحكم و على المصالح العامّة من قبل الإمام (عليه السّلام).

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/ 45 ح 168، و عنه وسائل الشيعة: 17/ 448، كتاب التجارة، أبواب آداب التجارة ب 40 ح 3 و بحار الأنوار: 73/ 304 ح 19 و ج 103/ 81 ح 4.

(2) سورة البقرة 2: 275.

(3) مسالك الأفهام: 13/ 325.

(4) رياض المسائل: 9/ 233.

(5) كشف اللّثام: 2/ 320 (ط ق).

(6) التنقيح الرائع: 4/ 230.

(7) كالمهذّب البارع: 4/ 451، و القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 25- 26.

(8) الدروس الشرعيّة: 2/ 65.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 10

..........

______________________________

و التعريفان مشتركان في جعل القضاء بمعنى الولاية، لا نفس الحكم كما في المتن و نحوه. و ذكر

الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) في رسالة القضاء: أنّ إدراج الولاية مبني على جعل القضاء من المصادر المستعملة في شأنية المبدأ و منصبه، كما في لفظ الحكومة و الإمارة و الوزارة و نحوها لا في نفس المبدأ، فالمنصب في هذه المبادئ نظير الملكة في الكتابة و نحوها. و هذا الاستعمال و إن كان شائعاً في كثير من المصادر، و ملحوظاً في لفظ القاضي إلّا أنّه قليل في خصوص لفظ القضاء، بل ربّما يعبّر عنه عرفاً بالقضاوة، و إن لم يسمع هذا الوزن في كلام أهل اللغة «1».

و ذكر المحقّق العراقي في رسالته في القضاء بعد استظهار كون القضاء عبارة عن الولاية؛ لظهور تعلّق الجعل به في كونه من الأُمور الجعليّة، مضافاً إلى كفاية هذا المقدار في صدق القاضي و لو لم يتلبّس بعد بالقضاء أصلًا ما ملخّصه: أنّه يمكن أن يقال: بأنّ مجرّد صدق القاضي بمجرّد الجعل لا يقتضي كون المبدأ فيه بمعنى الولاية المزبورة، إذ ربما تكون الهيئة الاشتقاقيّة مقتضية لتوسعة النسبة، و غير مانعة من بقاء المبدأ علىٰ معناه من الحكم الفعليّ الحقيقي، كلفظي الحكم و الحاكم.

و من هذا الباب الفرق بين عنوان التجارة و التاجر، فيكشف ذلك عن أنّه من جهة توسعة في مدلول الهيئة، لا أنّه خلاف في مفهوم المادّة، و مرجع ما ذكرنا في الحقيقة إلى الالتزام بتوسعة في دائرة التلبّس الفعلي، لا الالتزام بتوسعة في المفهوم الصادق حتى على المتلبّس سابقاً؛ كي يكون خلاف التحقيق «2».

______________________________

(1) كتاب القضاء (تراث الشيخ الأنصاري): 25 26.

(2) كتاب القضاء للمحقّق العراقي: 3- 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 11

..........

______________________________

و كيف كان، فتعريف القضاء بنفس الحكم الظاهر في الحكم

الحقيقي الفعلي كما في المتن ليس على ما ينبغي، بل الظاهر ما ذكره المشهور و الدروس من التعريف بالولاية المتحقّقة بنفس الجعل، و إن لم يتحقّق التلبّس فضلًا عن المنقضي عنه، كما لا يخفى نعم ذكر صاحب الجواهر «1» و بعض تلامذة الشيخ الأنصاري «2» أنّ تعريف الدروس أرجح؛ لشموله لحكم الحاكم بثبوت الهلال؛ لأنّه من المصالح العامّة، مع أنّ الظاهر أنّ مجرّد الشمول لا يقتضي الترجيح إلّا بعد ثبوت كونه من مصاديق القضاء. و من الظاهر عدمه لو لم نقل بعدم كونه منها أصلًا، كما لا يخفى.

بقي الكلام في أمرين أحدهما: أنّ الحكم سواء كان القضاء عبارة عن نفسه، أو الولاية عليه عبارة عن وجوده الإنشائي الذي يحصل تارة بمثل قوله: «حكمت»، و أُخرى بالقول أو الفعل الدالّ عليه سواء كان هو الكتابة أو غيرها، مثل الأُمور الاعتبارية الحاصلة بمثل ذلك كالبيع، الذي يحصل بإنشاء التمليك بقول: «بعت» و شبهه، و يحصل بالمعاطاة و نحوها، فإنّ التمليك الحاصل بالبيع أمر اعتباريّ عقلائيّ و شرعيّ، و موضوع الأحكام كثيرة و آثار غير عديدة، و كذا النكاح و نحوه، إلّا فيما قام دليل خاصّ على عدم جريان مثل المعاطاة فيه، و كذا المقام، فإنّ الحكم يحصل تارة بمثل قول: «حكمت» في مقام فصل

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 9.

(2) كتاب القضاء للآشتياني: 1/ 43- 44.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 12

..........

______________________________

الخصومة و رفع التنازع، و أُخرى بقول آخر أو فعل آخر، كالرأي الثابت في زماننا الحاصل بالكتابة من دون أن يكون القاضي متلفّظاً أصلًا.

ثانيهما: الفرق بين القضاء و الفتوى عبارة عن أنّ الفتوىٰ هي بيان الأحكام الكلّية و الكبريات العامّة من

دون نظر إلى التطبيق على الموارد و بيان المصاديق، ففي قوله: «الخمر حرام» تكون الفتوىٰ عبارة عن الحكم بالحرمة الثابتة للخمر، و أمّا أنّ أيّ مائع خمر خارجاً أو لا يكون خمراً، فهو لا يرتبط بالمجتهد و من إليه رجع في التقليد، فإذا قال المجتهد: «هذا المائع خمر»، فلا يكون قوله حجّة من جهة الاجتهاد و المرجعيّة، بل يكون من مصاديق شهادة العادل الواحد في الموضوعات الخارجيّة، و الحجّية و عدمها محلّ خلاف. و قد أثبتنا في قواعدنا الفقهيّة عدم الحجّية؛ و أنّ جعل حجّية البيّنة ناف لحجّيّته بعد كون الأمرين من سنخ واحد، و الفارق التعدّد و عدمه، بخلاف جعل الحجّيّة للاستصحاب مثلًا في مقابل البيّنة فراجع «1».

و كيف كان فقول المجتهد و شهادته لا يكون حجّة إلّا من هذا الباب.

و أمّا القضاء فهو الحكم في القضايا الشخصيّة التي هي مورد التشاجر و الترافع، كحكم القاضي بأنّ المال الفلاني لزيد، أو أنّ المرأة الفلانيّة زوجة عمرو و هكذا. و بعبارة اخرىٰ أنّ القضاء الذي هو عبارة عن الحكم، أو الولاية عليه عبارة عن الأمر الإنشائي الاعتباري و قد مرّ، و الفتوى عبارة عن الإخبار عن النظر و الرأي الحاصل بالاستنباط عن المنابع اللازمة و الأدلّة الواردة.

نعم ذكر بعض الأعلام (قدّس سرّه) أنّه قد يكون منشأ التّرافع الاختلاف في الفتوىٰ، كما

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة: 1/ 476 479.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 13

و منصب القضاء من المناصب الجليلة الثابتة من قبل اللّٰه تعالى للنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) و من قبله للأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، و من قبلهم للفقيه الجامع للشرائط الآتية. و لا يخفىٰ أنّ خطره عظيم.

______________________________

(1)

إذا تنازعت الورثة في الأراضي، و ادّعت الزوجة ذات الولد الإرث منها، و ادعى الباقي حرمانها فتحاكما لدى القاضي، فإنّ حكمه يكون نافذاً عليهما، و إن كان مخالفاً لفتوىٰ من يرجع إليه المحكوم عليه «1».

أقول: و منه يظهر أنّ كتاب القضاء و مسألة فصل الخصومة ليس من شعب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما نسب إلى صاحب الجواهر (قدّس سرّه) و بعض آخر «2». فإنّ المدّعى و المنكر في مثل المثال المذكور ليسا تاركين للمعروف و العاملين بالمنكر، بل في كمال التعهّد و الإيمان و العمل بأحكام الإسلام، غاية الأمر أنّ منشأ ترافعها و تخاصمهما هو اختلاف المجتهدين المقلّدين، و قد يتّفق الترافع و التنازع في صورة الاشتباه و النسيان، فيدّعي كلّ من زيد و عمرو ملكيّة الدار التي هي في يد زيد مثلًا مع عدم كون عمرو من المريدين لأكل مال الغير و التصرّف فيه بوجه، بل يعتقد ملكيّته إرثاً مثلًا و زيد كذلك، فيقع الاشتباه و عقيبه التخاصم و التشاجر، مع أنّ مثل المورد لا يكون داخلًا في ذلك الباب أصلًا، نعم قد يقع الادّعاء أو الإنكار مع العلم و عدم الاشتباه، لكنّه لا يكون تمام مورد القضاء، كما لا يخفى.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: 1/ 3 4.

(2) جواهر الكلام: 40/ 38 39، غاية المرام: 4/ 217، كشف اللثام: 10/ 11، مستند الشيعة: 17/ 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 14

و قد ورد «أنّ القاضي علىٰ شفير جهنم» «1»، و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قال: «يا شريح قد جلست مجلساً لا يجلسه إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ» «2»، و عن أبي عبد اللّٰه

(عليه السّلام): «اتقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ أو وصيّ نبيّ» «3»، و في رواية «من حكم في درهمين بغير ما أنزل اللّٰه عزّ و جلّ فقد كفر» «4»، و في اخرىٰ «لسان القاضي بين جمرتين من نار حتّى يقضي بين الناس، فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النّار» «5» و عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنّة: رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار. و رجل قضى بالحقّ.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17/ 190، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 45 ذ ح 7 و ج 27/ 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6، و ذكره في الصوارم المهرقة: 233.

(2) الكافي: 7/ 406 ح 2، الفقيه: 3/ 4 ح 8، المقنع: 395، تهذيب الأحكام: 6/ 217 ح 509، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 3 ح 2.

(3) الكافي: 7/ 406 ح 1، الفقيه: 3/ 4 ح 7، تهذيب الأحكام: 6/ 217 ح 511، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 17، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 3 ح 3.

(4) تفسير العياشي: 1/ 323 ح 121، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 34، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 5 ح 13.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 292 ح 808، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 228، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 12 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 15

و هو لا يعلم فهو في

النّار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة» «1» و لو كان موقوفاً على الفتوى يلحقه خطر الفتوىٰ أيضاً، ففي الصحيح قال أبو جعفر (عليه السّلام): «من أفتى الناس بغير علم و لا هدى من اللّٰه لعنته ملائكة الرّحمة و ملائكة العذاب، و لحقه وزر من عمل بفتياه» «2» (1)

..........

______________________________

(1) أقول: أمّا كون القضاء من المناصب الجليلة، فلا ينبغي الارتياب فيه، و كذا في كون الأصل ثابتاً للّٰه تبارك و تعالى، و من قبله للنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) علىٰ ما يقتضيه قوله تعالى في موارد كثيرة، مثل قوله فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ «3»، بناءً على أنّ من مصاديقه التنازع و التخاصم المفروض في مورد القضاء، و قوله تعالى إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ «4»، و قوله تعالى وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ «5»، و قوله تعالى: فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

______________________________

(1) الكافي: 7/ 407 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 218 ح 513، الفقيه: 3/ 3 ح 6 و عنها وسائل الشيعة: 27/ 22، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 4 ح 6.

(2) الكافي: 7/ 409 ح 2، المحاسن: 1/ 326 ح 858، وسائل الشيعة: 27/ 20، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 4 ح 1.

(3) سورة النساء 4: 59.

(4) سورة النساء 4: 105.

(5) سورة الأحزاب 33: 36.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 16

..........

______________________________

لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً «1»،

و غير ذلك من الموارد.

و قد تقرّر في محلّه «2» أنّ أحد المناصب الثّلاثة التي كانت ثابتة للرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) في المدينة المنوّرة هو القضاء كالرسالة و الحكومة. و حكومته فيها هو المبدأ و المنبع للحكومة الإسلاميّة المتحقّقة في مملكة إيران بعد فلاح الثورة و تحقّق الانقلاب. و قد ذكر الماتن (قدّس سرّه) في بحث قاعدة لا ضرر «3» أنّها لا تكون مرتبطة بالفقه لا بالعنوان الأوّلي و لا بالعنوان الثانوي، بل النهي عن الضرر و الإضرار حكم حكوميّ صادر عن الرّسول (صلّى اللّٰه عليه و آله).

و كيف كان فلا إشكال في ذلك، كما أنّه لا إشكال في ثبوته للأئمّة المعصومين (عليهم السّلام)، و يدلّ عليه مضافاً إلىٰ ثبوت الولاية العامّة لهم مسلّماً الروايات الآتية بعضها الدالّة على جعلهم القضاة و الحكّام، و من الواضح أنّ جعل القاضي و الحاكم لا يتمّ مع عدم صلاحيّتهم للقضاء، كما لا يخفىٰ.

ثبوت منصب القضاء للفقيه و أمّا الثبوت للفقيه الجامع للشرائط، فيدلّ عليه أيضاً روايات دالّة على جعله كذلك، مثل: مشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال، قال: قال أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمد الصادق (عليه السّلام): إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته

______________________________

(1) سورة النساء 4: 65.

(2) بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 103- 121.

(3) بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 103- 121.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 17

..........

______________________________

قاضياً فتحاكموا إليه «1».

و مقبولة عمر بن حنظلة: انظروا إلى من كان منكم قد روى حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا،

و عرف أحكامنا، فارضوا به حكماً، فإنّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما بحكم اللّٰه قد استخفّ، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّٰه، و هو علىٰ حدّ الشرك باللّٰه «2».

و أمّا كون خطره عظيماً فيكفي فيه الروايات التي أشار إليها في المتن، و كذا خطر الفتوى إذا كان القضاء موقوفاً عليها، و لكنّها مختلفة من حيث المفاد من جهة كون المقصود التحاكم إلى الطاغوت و قضاة الجور، و من جهة كون المحكوم به غير حقّ، و من جهة جهل القاضي و علمه بالحقّ، و من جهات أُخر، كما أنّ الظاهر أنّ المراد بوصيّ النبيّ الأعمّ منه و من منصوبة الخاصّ أو العام. كما أن المراد بالكفر هي شدّة مرتبة العصيان لا الكفر الحقيقي المساوق للارتداد. فراجع الرّوايات في هذا الباب.

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 2 ح 1، الكافي: 7/ 412 ح 4، التهذيب: 6/ 219 ح 516، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 13، أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.

(2) الكافي: 7/ 412 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 18

[القول في صفات القاضي و ما يناسب ذلك]

اشارة

القول في صفات القاضي و ما يناسب ذلك

[مسألة 1: يشترط في القاضي البلوغ و العقل و الإيمان و العدالة و الاجتهاد المطلق، و الذكورة و طهارة المولد]

مسألة 1: يشترط في القاضي البلوغ و العقل و الإيمان و العدالة و الاجتهاد المطلق، و الذكورة و طهارة المولد، و الأعلميّة ممّن في البلد أو ما يقربه على الأحوط، و الأحوط أن يكون ضابطاً غير غالب عليه النسيان، بل لو كان نسيانه بحيث سلب منه الاطمئنان، فالأقوىٰ عدم جواز قضائه. و أمّا الكتابة ففي اعتبارها نظر، و الأحوط اعتبار البصر، و إن كان عدمه لا يخلو من وجه (1).

______________________________

(1) فيما يعتبر في القاضي أو قيل أو احتمل اعتباره، و هي أُمور:

الأوّل: البلوغ، فإنّ أُمور الصّبي و إن كانت شرعيّة و الحقّ صحّتها، كما حقّقناه في قواعدنا الفقهيّة التي منها شرعيّة عبادات الصبيّ «1»، و لا مجال لأن يقال: إنّ بطلانه لعدم وجوب القضاء عليه لا كفاية و لا عيناً لرفع قلم التكليف الإلزامي عنه «2»، و إن كان الحكم الوضعي ثابتاً بالإضافة إليه، مثل الضمان فيما إذا أتلف مال

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة: 1/ 355 370.

(2) وسائل الشيعة: 1/ 45، أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح 11، و ج 29/ 90، كتاب القصاص، أبواب القصاص

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 44

..........

______________________________

الغير و هكذا، و ذلك لأنّ نفوذ الحكم غير وجوبه، و الدليل على اعتباره هو أنّ ولاية القضاء و الحكومة مجعولة لعنوان الرجل الذي فيه خصوصيّتان: الرجوليّة و عدم كونه أنثى، و البلوغ و عدم كونه صبيّاً في صحيحة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال في قوله (عليه السّلام): اجعلوا بينكم رجلًا قد عرف حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته عليكم قاضياً، و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر

«1»، مع أنّ مقتضى الأصل عدم نفوذ حكم أحد على أحد، و لا مجال لأن يقال: بإلغاء الخصوصيّة من عنوان الرجل، كما في سائر الموارد، مثل قوله: رجل صلّى فلم يدر أ في الثالثة هو أم في الرابعة «2»، حيث إنّه لا يختصّ أحكام الشكوك في باب الصلاة بالرجل، و لا لأن يقال: بأنّ التعبير في الصحيحة و إن كان بالرجل، إلّا أن التعبير في ذيل المقبولة أي مقبولة عمر بن حنظلة ب «من» الموصولة، و هي شاملة للصبي في قوله (عليه السّلام): ينظران مَن كان منكم ممّن قد روىٰ حديثنا، و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكماً، فانّي قد جعلته عليكم حاكماً، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبل منه، فإنّما استخفّ بحكم اللّٰه، و علينا ردّ، و الراد علينا الراد على اللّٰه، و هو على حدّ الشرك باللّٰه، الحديث «3».

أقول: وجه عدم جواز إلغاء الخصوصيّة كما في سائر الموارد العلم بعدم

______________________________

في النفس ب 36 ح 2، السنن الكبرى للبيهقي: 6/ 327 ح 8391، سنن الدارقطني: 3/ 102 ح 3240، سنن الترمذي: 4/ 32 ح 1427.

(1) وسائل الشيعة: 27/ 139، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي ب 11 ح 6، و قد تقدّم صدرها في ص 21.

(2) الكافي: 3/ 351 ح 1، تهذيب الأحكام: 2/ 185 ح 735، و عنهما وسائل الشيعة: 8/ 218، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 10 ح 7.

(3) وسائل الشيعة: 27/ 137، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1، و قد تقدّمت قطعة منها في ص 22- 21.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 45

..........

______________________________

الخصوصيّة فيها دون

المقام، خصوصاً بعد كون التعبير صادراً من الإمام العالم بالخصوصيّات، و خصوصاً مع أهمّية منصب القضاء، و عدم نفوذ حكم أحد بالإضافة إلى غيره بدون الدليل عليه.

و الوجه في الثاني مضافاً إلى استشكال بعض الأعلام في السند «1» و إن رفعناه سابقاً «2»، و إلى احتمال الانصراف إلى البالغين، كما لا يبعد أن جعل منصب القضاء للبالغ في قالب التعبير بالرجل، مع كون المتكلّم فاعلًا مختاراً عالماً بتمام المعنى يغاير الجعل، بالإضافة إلى العموم الشامل لغير البالغ، و إن لم يكن له مفهوم سلبيّ في باب المفاهيم المذكورة في علم الأُصول، حتى يكون المفهوم السلبي مقيّداً للإطلاق الإيجابي، إلّا أنّ التغاير العرفي الموجب لحمل المطلق على المقيّد موجود هنا، كما لا يخفى.

الثاني: العقل، فلا يصحّ قضاء المجنون، و لو كان الجنون أدوارياً و كان القضاء في حال إفاقته؛ لأنّه مضافاً إلى أنّ علوّ مقام القضاء و شموخ هذا المنصب لا يناسب المجنون بوجه، و إلى أنّ منصب القضاء من المناصب الثلاثة الثابتة للرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) انصرف أدلّة النصب عن المجنون، و لا ريب في تحقّق هذا الانصراف خصوصاً بعد ادّعاء الشيخ في رسالة القضاء ثبوت الإجماع المحقّق و المنقول على اعتباره «3».

الثالث: الايمان المساوق للاعتقاد بالولاية و إمامة الأئمّة صلوات اللّٰه عليهم أجمعين، لا الإيمان المقابل للكفر، فإنّ اعتباره واضح، و الدليل على اعتبار الإيمان المذكور مضافاً إلى دعوى الإجماع التي عرفتها من الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) التقييد

______________________________

(1) التنقيح في شرح العروة، الاجتهاد و التقليد: 115.

(2) في ص 21.

(3) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 29.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 46

بقوله (عليه السّلام): «منكم»

في مقبولة عمر بن حنظلة، الظاهر في اعتبار كون الرجل من أهل الإيمان، و النهي عن التّرافع إلى قضاة الجور، و تطبيق قوله تعالى يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «1» على قضاة الجور، و إن كان قضاؤهم أحياناً حقّا غير باطل، و أنّه لا يجوز أخذه لكونه سحتاً علىٰ ما عرفت.

الرابع: العدالة، و الدليل على اعتبارها مضافاً إلى التعبير عن قضاة الجور المنصوبين من قبل سلاطين الجور بالفسّاق، كما في رواية أبي خديجة المتقدّمة المشتملة علىٰ قوله (عليه السّلام): «إيّاكم إلى قوله: أن تحاكموا «2» إلى أحد من هؤلاء الفسّاق» و إلى أنّ اعتبار العدالة في الشاهد و في إمام الجماعة يقتضي اعتبارها في القاضي بنحو الأولويّة القطعيّة، مع أنّه من مصاديق الركون إلى الظالم المنهيّ عنه في الآية الشريفة، و الإجماع الذي حكاه الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه) شامل له.

الخامس: الاجتهاد المطلق الشامل لأمرين: أصل الاجتهاد و كونه مجتهداً مطلقاً.

فنقول: أصل اعتبار الاجتهاد ممّا لا إشكال فيه، و إن عبّر عنه العلّامة في محكيّ القواعد بالعلم «3»، لكنّ المراد به هو الاجتهاد الناشئ عن الأدلّة المتعارفة، لا العلم من أيّ سبب كان، و إن كان حجّة في نفسه في القطع الطريقي كما بيّن في الأُصول «4»، و لا يختصّ بالعلم المقابل للظنّ، بل يشمل الظنّ المعتبر و الأُصول العمليّة.

______________________________

(1) سورة النساء 4: 60.

(2) في ص 21.

(3) قواعد الأحكام: 2/ 421، الفصل الثاني.

(4) سيرى كامل در اصول فقه: 9/ 233- 247.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 47

..........

______________________________

و أمّا اعتبار كونه مجتهداً مطلقاً، فالمنسوب «1» إلى صاحب المسالك دعوى الإجماع عليه، و لكن ملاحظة عبارة

المسالك «2» تقضي بخلافه، بل ذكر الشيخ الأنصاري (قدّس سرّه): إنّ المشهور صحّة التجزي «3»، بل القول بعدمها لم نعرفه من الإماميّة قبل صاحب المعالم «4».

أقول: إن كان المراد صحّة التجزّي في باب القضاء لا في نفسه في مقابل من يقول بالاستحالة، فقد ذكر المحقّق في الشرائع قوله: و مع عدم الإمام (عليه السّلام) ينفذ قضاء الفقيه من فقهاء أهل البيت (عليهم السّلام) الجامع للصفات المشروطة في الفتوى «5». و من الواضح أنّ من جملة تلك الصفات الاجتهاد المطلق.

و كيف كان فقد قوّى عدمَ الفرق في المجتهد بين المطلق و المتجزّي في باب القضاء الشيخُ في الرسالة «6»، وفاقاً للمصنّف أي العلّامة في القواعد «7» و الشهيدين «8» و المحقّق السبزواري في الكفاية «9»، و المحقّق القمّي في الغنائم «10» و بعض آخر «11»، و لا بدّ من ملاحظة الروايات الواردة في هذا المجال.

______________________________

(1) الناسب هو السبزواري في كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 662.

(2) مسالك الأفهام: 13/ 328.

(3) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 32.

(4) معالم الدين: 27 و 239.

(5) شرائع الإسلام: 4/ 68.

(6) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأنصاري): 30.

(7) قواعد الأحكام: 3/ 422- 423، و كذا في تحرير الأحكام: 5/ 111.

(8) الدروس الشرعيّة: 2/ 66، الروضة البهيّة: 2/ 418.

(9) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 662.

(10) غنائم الأيّام: 672 673.

(11) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 7، كشف اللثام: 10/ 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 48

..........

______________________________

فنقول: إنّ لأبي خديجة سالم بن مكرم الجمال روايتين بحسب الظاهر، إحداهما: ما عرفت «1»، و الثانية: قال: قال أبو عبد اللّٰه جعفر بن محمّد الصادق (عليه السّلام): إيّاكم

أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا) فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضياً، فتحاكموا إليه «2».

و قد تبع صاحب الجواهر (قدّس سرّه) صاحب الوسائل في تعدّد الرّواية و تكثّرها «3»، و لكنّ الظاهر عدم التعدّد كما أشرنا إليه مراراً، و يؤيّد عدم التعدّد في المقام أنّه لا بدّ بناءً على التعدّد من الحكم بأنّ قوله (عليه السّلام): «فإنّي قد جعلته قاضياً» يكون الجعل في المتقدّم جعلًا إنشائيّاً صادراً في مقام بيان النصب، و في المتأخّر جعلًا خبريّاً حاكياً عن الجعل الإنشائيّ القبلي، كما في قول القائل: بعت داري. فإنّه إذا كان في مقام عقد البيع يكون هذا الكلام إنشائيّاً صادراً لبيان إنشاء البيع و عقده، و إذا كان في مقام الإخبار عن البيع الواقع سابقاً يكون أخباريّا حاكياً عنه، مع أنّ العبارة في الرّواية تأبىٰ عن الأمرين جميعاً، فلا يلتئم إلّا مع الوحدة و عدم التعدّد.

و حينئذٍ فإن كان الصادر هو الأوّل ينطبق على بعض الأُمور المذكورة في المقبولة، و سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى. و إن كان الصادر هو الثاني المشتمل على قوله: «يعلم شيئاً من قضايانا (قضائنا)» فالظاهر أنّ المراد من الشي ء هو المقدار المعتدّ به، كما ربّما يظهر بملاحظة التعبيرات العرفيّة لا الشي ء الصادق بالواحد، و حينئذٍ فإن كان الصادر «قضايانا» يصير المراد مقداراً معتدّاً به من

______________________________

(1) في ص 21.

(2) الفقيه: 3/ 2 ح 1، الكافي: 7/ 412 ح 7، تهذيب الأحكام: 6/ 219 ح 516، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 13، أبواب صفات القاضي ب 1 ح 5.

(3) جواهر الكلام: 40/ 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 49

..........

______________________________

أحكامهم، فإنّ القضايا جمع القضيّة المشتملة على الموضوع و المحمول، و الإضافة تفيد الاختصاص أي الأحكام المختصّة بهم، و لا دلالة للرواية حينئذٍ على اعتبار الاجتهاد المطلق بوجه، و إن كان الصّادر (قضائنا) فكذلك أيضاً، إلّا أنّه يرد أنّه لا بدّ من حذف المضاف، أي يكون المراد حكمنا في القضاء؛ لأنّهم لم يكونوا متصدّين للقضاء، و لعدم مساعدة الجوّ و الفضاء لقضائهم، بل لتدريسهم أيضاً. و على أيّ فلم يعلم الصّادر؛ لأنّ الرواية واحدة و الجملة الصادرة مردّدة، علىٰ ما عرفت.

و أمّا المقبولة، فربّما يقال: إنّ الدالّ على اعتبار الاجتهاد المطلق هو قوله (عليه السّلام): «و عرف أحكامنا» نظراً إلى أنّ الجمع المضاف يفيد العموم، أي جميع أحكامهم.

لكنّه أورد عليه الشيخ في الرسالة: بأنّ حمل الجمع على العموم غير ممكن مع إبقاء قوله (عليه السّلام) «عَرَفَ» علىٰ ظاهره من المعرفة الفعليّة؛ للإجماع بل الضرورة على عدم اعتبار العلم الفعليّ بجميع الأحكام، فحمل الفعل الماضي على إرادة الملكة ليس بأولى من حمل المضاف على الجنس، بل هو أولىٰ بمراتب، و مع التّساوي فيسقط الاستدلال «1».

أقول: بل لا يمكن اعتبار العلم الفعلي بجميع أحكام الأئمّة (عليهم السّلام) خصوصاً مع أنّ علومنا ليس في مقابل علومهم إلّا كالقطرة من البحر، و لكنّ الاستدلال لا يتوقّف على إفادة الأحكام للعموم، حتّى يمنع بأنّ الجمع المضاف لا يفيد العموم، بل لو كان الجنس مكان الجمع كما في الأمرين الأوّلين لأفاد اعتبار الاجتهاد المطلق أيضاً؛ لأنّه لا يراد من رواية الحديث المضاف إليهم حينئذٍ، و لا من النظر في حلالهم

______________________________

(1) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 31.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات،

ص: 50

..........

______________________________

و حرامهم، و لا من معرفة حكمهم ما يكون منطبقاً عليه الجنس و هو الواحد؛ لأنّه مضافاً إلى عدم تناسب ذلك مع جعل منصب القضاء و الحكومة، و لا بدّ من تناسب الحكم و الموضوع لا يكون المتفاهم العرفي من هذه التعبيرات إلّا ما ينطبق على الاجتهاد المطلق، مع أنّ محدودة اجتهاد المتجزّي إن كانت غير باب القضاء فاعتباره في مسألة القضاء لا يعرف له وجه، و إن كانت في محدودة القضاء فلا يكون في الرواية إشعار إليه.

و علىٰ تقدير كون الصادر «شيئاً من قضائنا» في رواية أبي خديجة يدلّ على اعتبار التجزّي في باب القضاء كما لا يخفىٰ، و كيف كان فاعتبار التجزّي بنحو الإطلاق الشامل لباب الصلاة مثلًا في صحّة القضاء لا يعرف له وجه. و من هنا يشكل الحكم بكفاية التجزّي في الاجتهاد بعد الحكم باعتبار أصله.

كما أنّه يشكل الحكم باعتبار الاجتهاد المطلق؛ لأنّ المنصوبين في عصر النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) و عليّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) في زمان حكومته و بسط يده لم يكونوا واجدين لذلك، و على الأقلّ جميعهم لا يكون كذلك بالضرورة. و لو قلنا: بأنّ الاجتهاد المطلق في تلك الأزمنة لم يكن بهذه السعة المتحقّقة في هذه الأزمنة، و لم يكن متوقّفاً علىٰ علوم كثيرة صعبة كالأدبيّة العرفيّة لغير من تكون لغته عربيّة، و علم الرجال و غيرهما، بل كان متوقّفاً علىٰ مسائل سهلة و أُمور يسيرة مثلًا.

و الّذي يختلج بالبال في كلّ أساس الإشكال أن يقال و لو على سبيل الاحتمال: إنّ دلالة المقبولة على اعتبار الاجتهاد المطلق فيمن جعل له القضاء و الحكومة، و إن كان ممّا لا تنبغي المناقشة فيه، إلّا

أنّه لا يلزم الاعتبار مطلقاً بالإضافة إلىٰ زمن الغيبة، و في جميع الحالات و الشرائط و الأمكنة و الأزمنة.

توضيح ذلك: أنّ التشكيلات القضائيّة في كلّ نظام و حكومة حتى الحكومات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 51

..........

______________________________

الدنيويّة المنكرة لأساس الأديان فضلًا عن الإسلام، لها دخالة كاملة في حفظ تلك الحكومة و ذلك النظام، و إجراء مقرّراته و قوانينه، و حفظ الأمنيّة التامّة و حقوق الناس، و يصحّ التعبير عنها بأنّها يد الحكومة و قوام بقائها و ضامن حفظها، و هكذا في النظام الإسلامي و الحكومة المبتنية عليه.

و حينئذٍ نقول: إنّ إصرار الأئمّة (عليهم السّلام) و تأكيدهم و التشديد على عدم جواز الترافع إلى قضاة الجور، و حرمة ما أُخذ بحكمهم و لو كان حقّا؛ لأنّه قد أُخذ بحكم الطاغوت، و هو من مصاديق قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ «1» ليس لمجرّد كونهم فاسقين غير عادلين، و كون حكمهم بالباطل غالباً و بغير حقّ، بل لكونهم أيادي الظلمة و سلاطين الجور الغاصبين لحقّهم (عليهم السّلام)، و يكون الترافع إليهم تأييداً لهم و لمن هم من أياديهم، و عدم الترافع يكون موجباً لضعفهم و ضعف الحكومة الناصبة لهم.

و من ناحية أُخرى لم يكن للأئمّة (عليهم السّلام) القدرة الموجبة للنصب الخاصّ بالإضافة إلى الأفراد الذين هم مورد لنظرهم؛ لأنّ القدرة و السلطة كانت في اختيار الجائرين الغاصبين، و كذلك لم يكن الحضور إلى محضرهم أمراً ممكناً غالباً، لأنّهم كانوا في حصر شديد و مراقبة كاملة، و لم يكن للشيعة الوصول إليهم في أيّ زمان أرادوا.

و عليه فيمكن أن يقال: بأنّ مفاد المقبولة النصب العامّ

بالإضافة إلى زمن الحضور، لمن كان مجتهداً مطلقاً لا يحتاج إلى مراجعة شخص الإمام (عليه السّلام) نوعاً. و أمّا إذا كانت الحكومة شيعيّة، و كان الحاكم لائقاً شرعاً للحكومة، فلا حاجة إلى الاجتهاد المطلق، كما كان في زمن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) و عليّ (عليه السّلام) في زمان حكومته و خلافته ظاهراً.

______________________________

(1) سورة النساء 4: 60.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 52

..........

______________________________

كما أنّ الأمر كذلك في زماننا هذا بالنسبة إلى النظام الحاكم على مملكة إيران، فإن إدارة التشكيلات القضائيّة نوعاً بيد القضاة غير الواجدين للاجتهاد المطلق، و لا مجال لأن يقال: إنّ المجوّز لذلك الضرورة أو إذن المجتهد المطلق، بل لا دليل على الاعتبار بعد كون اللّازم عليهم إجراء المصوّبات، أو الرجوع إلى فتوى مرجع خاصّ، و ليس لهم إعمال الاجتهاد الشخصي، و إن كان ثابتاً بالإضافة إلى بعضهم.

فالتحقيق أنّ مفاد المقبولة إذن نصب عامّ بالإضافة إلى الشرائط المشابهة لا مطلقاً، و لا دليل على اعتبار غير المقبولة حتى رواية أبي خديجة على ما عرفت. نعم مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي أن يكون القاضي عالماً بشئون القضاء و الحكومة، و لم يكن عواماً محضاً غير قادر على فصل الخصومة و رفع التنازع بالموازين الشرعيّة المقرّرة كذلك، و العجب أنّ مثل المحقّق في الشرائع أضاف على اعتبار الشرائط و الصفات المعتبرة في الفتوىٰ و رجوع المقلّد، أنّه و لا بدّ أن يكون عارفاً بجميع ما وَلِيَه «1»، فراجع.

السادس: الذكورة، و يدلّ على اعتبارها مضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه و لا إشكال من حيث الفتوى التعبير بالرجل في معتبرة أبي خديجة المتقدّمة على كلا نقلها، و قد عرفت

أنّ هذا التعبير في مقابل الصبيّ و المرأة، و لا مجال لدعوى إلغاء الخصوصيّة كما مرّ «2»، و يؤيّده ما رواه الصدوق بإسناده عن حمّاد بن عمرو و أنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمّد، عن آبائه (عليهم السّلام) في وصيّة النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) لعليّ (عليه السّلام) قال: يا عليّ ليس

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 860.

(2) في ص 44- 45.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 53

..........

______________________________

على المرأة جمعة إلى أن قال: و لا تولّى القضاء «1».

و السّند و إن كان ضعفه منجبراً بالشهرة المحقّقة و ما فوقها، إلّا أنّ الدّلالة أيضاً غير واضحة؛ لأنّ عدم وجوب الجمعة و كذا الجماعة على النساء لا يرجع إلى البطلان لهنّ، و هكذا تولّى القضاء و إن كان لا يكون واجباً لهنّ لا كفائيّاً و لا عينيّاً، إلّا أنّ عدم نفوذ حكمهنّ و عدم صحته الذي هو المدّعى لا يستفاد منها. و لكن قد عرفت دلالة رواية أبي خديجة عليه مع أنّه لا خلاف فيه و لا إشكال.

و دعوى أنّ التعبير ب «من» الموصولة الشاملة للنساء في المقبولة المتقدّمة مطلق لا يختصّ بالرجال مدفوعة مضافاً إلى الانصراف كما ادّعي بأنّ الإطلاق يقيّد برواية أبي خديجة و مثلها، و مضافاً إلى أنّ منع إمامة المرأة للرجال و إمامتها للنساء أيضاً كما اخترناه علىٰ سبيل الاحتياط الوجوبيّ يقتضي المنع هنا بطريق أولىٰ؛ لأنّ منصب القضاء أهمّ من الإمامة للجماعة، خصوصاً مع توقّف القضاء على أمور لا يجتمع مع تستّر النساء الذي هو مطلوب أيضاً.

السابع: طهارة المولد، و يدلّ على اعتبارها مضافاً إلى أهميّة منصب القضاء، و غير طاهر المولد محقّر

في المجتمع، و لا يعبأ به كثيراً. و إلى أنّ مقتضى الأصل عدم نفوذ حكمه و قضائه الأولويّة القطعيّة بالإضافة إلى إمام الجماعة و الشاهد، فإنّه إذا كانت الطهارة معتبرة فيهما ففي القاضي بطريق أولىٰ، و يمكن دعوى انصراف أدلّة النصب عن مثله، كما لا يخفىٰ.

الثامن: الأعلميّة ممّن هو في البلد أو ما يقربه، و قد ذكر في المتن أنّ اعتبارها إنّما هو على سبيل الاحتياط. و غير خفيّ أنّ اعتبارها في المرجع علىٰ تقدير الاعتبار إنّما

______________________________

(1) الفقيه: 4/ 263 ح 821، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 16، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 2 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 54

يكون هي الأعلميّة المطلقة لا الأعلميّة بنحو ما ذكر.

و يدلّ على اعتبارها مثل قول علي (عليه السّلام) فيما عهده إلى مالك الأشتر: ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك «1».

و ما ورد في المقبولة المتقدّمة من الترجيح بالأفقهيّة و الأصدقيّة و الأعدليّة، و موردها و إن كان صورة اختيار كلّ من المترافعين حاكماً، أو صورة رضاهما بحكمين فاختلفا، إلّا أنّه يستفاد أنّ المدار على الأرجح عند التعارض مطلقاً، و لكن ظهور الاستفادة و وضوحها ممنوع.

التاسع: أن يكون ضابطاً غير عارض عليه النسيان علىٰ خلاف العادة، أمّا إذا كان الغالب عليه النسيان بحيث كان مسلوب الاطمئنان، فالأقوىٰ اعتبار عدمه؛ لانصراف الأدلّة عن مثل ذلك انصرافاً ظاهراً لا ينبغي الارتياب فيه، و هو أي الانصراف الظاهر هو الدليل الوحيد من غير أن يكون له دليل آخر. و أمّا إذا كان عدم الضبط في مرحلة متوسّطة، فإن كان القضاء متوقّفاً عليه، كما لو لم يكن له معين

و كاتب و منشئ؛ فالظاهر الاعتبار؛ للتوقّف المزبور. و إن لم يكن القضاء متوقّفاً عليه، فالدليل على اعتبار هذه المرحلة من الضبط هو الانصراف أيضاً لا الانصراف بالنحو الموجود في الفرض السابق؛ و لذا يكون الاعتبار في هذا الفرض على الأحوط كما في المتن.

العاشر: الكتابة، و قد تنظّر في المتن في اعتبارها، و إن ذهب إليه عامّة المتأخّرين

______________________________

(1) نهج البلاغة للدكتور صبحي صالح: 434 كتاب 53، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 159، كتاب القضاء أبواب صفات القاضي ب 12 ح 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 55

..........

______________________________

من الأصحاب «1»، بل استظهر من السرائر دعوى الإجماع عليه، حيث نسبه إلى مقتضىٰ مذهبنا «2». و لكن لا دليل على الاعتبار، و الإجماع على ذلك غير ثابت.

الحادي عشر: اعتبار البصر على رأي، محكيّ عن الأكثر «3» بل عامّة من تأخّر «4»، و عن الرياض أنّ شهرة هذا القول بالغة حدّ الإجماع؛ لعدم معروفيّة القائل بالخلاف من الأصحاب، و إن أشعر بوجوده بعض العبارات «5»، و قد جعل في المتن اعتباره بنحو الاحتياط الاستحبابي؛ لعدم الدليل على الاعتبار سوى الانصراف الذي يمكن منعه؛ لعدم وضوحه، كدعوى توقّف تميّز الخصوم على البصر، الذي لو فرض التوقّف في مورد التزمنا به، لكن هذا لا يثبت القاعدة الكلّيّة و الاعتبار بنحو الإطلاق، كما لا يخفى.

______________________________

(1) رياض المسائل: 9/ 240، التنقيح الرائع: 4/ 236.

(2) السرائر: 2/ 166.

(3) كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 664، القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 42.

(4) رياض المسائل: 13/ 42.

(5) رياض المسائل: 13/ 42.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 56

[مسألة 2: تثبت الصفات المعتبرة في القاضي بالوجدان و الشياع المفيد للعلم، أو الاطمئنان و البيّنة العادلة]

مسألة 2: تثبت الصفات

المعتبرة في القاضي بالوجدان و الشياع المفيد للعلم، أو الاطمئنان و البيّنة العادلة، و الشاهد على الاجتهاد أو الأعلميّة لا بدّ و أن يكون من أهل الخبرة (1).

______________________________

(1) لا شبهة في ثبوت الصفات المعتبرة في القاضي عند كلّ من المترافعين كما سيصرّح به في المسألة الآتية بالوجدان أي العلم، و تثبت بالشياع و الاستفاضة أيضاً، بشرط أن يكون مفيداً للعلم أو الاطمئنان، و مرجع ذلك إلى عدم حجّية الشياع في نفسه، بل الحجّة هي العلم أو الاطمئنان، و حجّية الأوّل واضحة لا ريب فيه، و أمّا حجّية الاطمئنان؛ فلأنّه عند العرف و العقلاء علم، و يعامل معه معاملة العلم، و الشارع لم يردع عنه، بل أكثر العلوم يرجع إليه.

و في الحقيقة لا يكون علماً. نعم ورد في باب الشياع صحيحة حريز، و ربّما يستفاد منها اعتبار الشياع؛ و لو لم يكن مفيداً للاطمئنان، أي الظنّ المتاخم للعلم. قال:

كانت لإسماعيل بن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) دنانير، و أراد رجل من قريش أن يخرج إلى اليمن، فقال إسماعيل: يا أبه إنّ فلاناً يريد الخروج إلى اليمن، و عندي كذا و كذا ديناراً، أ فترىٰ أن أدفعها إليه يبتاع لي بها بضاعة من اليمن؟ فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): يا بنيّ أما بلغك أنّه يشرب الخمر؟ فقال إسماعيل: هكذا يقول النّاس. فقال: يا بنيّ لا تفعل. فعصى إسماعيل أباه و دفع إليه دنانيره، فاستهلكها و لم يأته بشي ء منها.

فخرج إسماعيل و قضى أنّ أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) حجّ و حجّ إسماعيل تلك السنة، فجعل يطوف بالبيت و هو يقول: «اللّهم أجرني و اخلف عليّ، فلحقه أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) فهمزه بيده من خلفه و

قال له: مه يا بنيّ، فلا و اللّٰه مالك على اللّٰه هذا، و لا لك أن يأجرك و لا يخلف عليك، و قد بلغك أنّه يشرب الخمر فائتمنته. فقال إسماعيل: يا أبه إنّي لم أره يشرب الخمر، إنّما سمعت الناس يقولون.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 57

..........

______________________________

فقال: يا بنيّ إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول في كتابه يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «1» يقول: يصدّق للّٰه و يصدق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدّقهم، و لا تأتمن شارب الخمر، فإنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ «2» فأيّ سفيه أسفه من شارب الخمر؟! إنّ شارب الخمر لا يزوّج إذا خطب، و لا يشفّع إذا شفع، و لا يؤتمن على أمانة، فمن ائتمنه على أمانة فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على اللّٰه أن يأجره و لا يخلف عليه «3».

و الرواية و إن كانت صحيحة، لكن في دلالتها مناقشة أو مناقشات من جهة أنّ تصديق النّبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) للمؤمنين مرجعه إلى تصديقه (صلّى اللّٰه عليه و آله) لكلّ مؤمن، لا للمجموع الذي يفيد قولهم العلم أو الاطمئنان، و من الواضح أنّ تصديق الواحد لا يرجع إلى ترتيب الأثر العملي على قول الواحد و لو كان فاسقاً، بل إلى قوله تعالى أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ «4» مع أنّ الرواية ظاهرة في كون الرجل شارب الخمر، و الظاهر أنّ الإمام (عليه السّلام) كان عالماً بذلك، و إلّا فمجرّد البلوغ الذي يتحقّق بإخبار واحد فاسق، لا يجوز النسبة إليه من مثل الإمام الناهي عن ائتمان شارب الخمر، و لا يكاد يحتمل الجمع بين ائتمان شارب الخمر الموجب لأداء

الدنانير إليه، و حصول الاطمئنان له بشرب الخمر من قول الناس، كما يؤيّده قوله: «إنّي لم أره يشرب الخمر». كما لا يخفى.

فالإنصاف أنّه لا يتمّ الاستدلال بالرواية علىٰ حجّية الشياع مطلقاً، و لو لم يفد العلم أو الاطمئنان.

______________________________

(1) سورة التوبة 9: 61.

(2) سورة النساء 4: 5.

(3) الكافي: 5/ 299 ح 1، و عنه وسائل الشيعة: 19/ 82، كتاب الوديعة ب 6 ح 1.

(4) سورة التوبة 9: 61.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 58

[مسألة 3: لا بدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي عند كلّ من المترافعين]

مسألة 3: لا بدّ من ثبوت شرائط القضاء في القاضي عند كلّ من المترافعين، و لا يكفي الثبوت عند أحدهما (1).

[مسألة 4: يشكل للقاضي القضاء بفتوى المجتهد الآخر]

مسألة 4: يشكل للقاضي القضاء بفتوى المجتهد الآخر، فلا بدّ له من الحكم علىٰ طبق رأيه، لا رأي غيره و لو كان أعلم (2).

______________________________

(1) لأنّ القضاء عبارة عن فصل الخصومة و رفع التنازع، أو ولاية علىٰ ذلك، و لا يتحقّق ذلك إلّا بالاجتماع عند كلّ منهما.

(2) بناءً على اعتبار الاجتهاد في القاضي مطلقاً أو في زمان خاصّ كما عرفت «1»، يكون الوجه في ذلك رفع التنازع و التخاصم بما يراه الحاكم رفعاً شرعيّاً، خصوصاً فيما إذا كان منشأ التخاصم اختلاف مرجعي التقليد للمتداعيين كما عرفت مثاله سابقاً «2»، فإنّه حينئذٍ لا يرتفع النزاع و التخاصم إلّا بما يراه الحاكم الشرعي حكماً إلٰهيّاً، و إلّا فالحكم علىٰ طبق رأي الغير لا يكون كذلك.

و هذا لا فرق فيه بين أن يرى الغير مساوياً له أو أعلم منه، فإنّ المجتهد و لو كان متجزّياً إذا خالف رأيه رأي الغير يرى الغير مخطئاً و لو كان أعلم، و هذا بخلاف اعتبار العدالة في القاضي، الذي يكون الوجه فيه عند العرف تساويهما عنده بحيث يطمئنان بذلك.

______________________________

(1) في ص 51- 52.

(2) في ص 12- 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 59

[مسألة 5: لو اختار كلّ من المدّعى و المنكر حاكماً لرفع الخصومة]

مسألة 5: لو اختار كلّ من المدّعى و المنكر حاكماً لرفع الخصومة، فلا يبعد تقديم اختيار المدّعى لو كان القاضيان متساويين في العلم، و إلّا فالأحوط اختيار الأعلم. و لو كان كلّ منهما مدّعياً من جهةٍ و منكراً من جهةٍ أُخرى، فالظاهر في صورة التساوي الرجوع إلى القرعة (1).

______________________________

(1) لو كان القاضيان متساويين في العلم لا مختلفين، الذي عرفت أنّ مقتضى الاحتياط الوجوبي تعيّنه للمراجعة إليه، و كان كلّ من المدعي و المنكر متمحّضاً

في هذه الجهة بأن كان المدّعى مدّعياً فقط و المنكر منكراً كذلك، و اختار كلّ منهما حاكماً خاصّاً لرفع الخصومة مع تساويهما في العلم، فقد نفى البعد في المتن عن تقديم اختيار المدّعى.

و عمدة المستند في ذلك الإجماع، كما استدلّ به صاحب المستند فيما حكي عنه «1»، و هو إنّما يتمّ علىٰ تقدير ثبوت الأصالة له، بأن لا يكون مستند المجمعين بعض الوجوه الاعتباريّة التي أضافها المستدلّ إلى الإجماع، مثل أنّه لم يطالب بالحقّ و لا حقّ لغيره أوّلًا، فمن طلب منه المدّعى استنقاذ حقّه يجب عليه الفحص، فيجب اتّباعه و لا وجوب لغيره «2».

و استشكل عليه السيّد في ملحقات العروة: بأنّ كون الحقّ له غير معلوم، و إن أريد أنّ حقّ الدعوى له، حيث إنّ له أن يدّعي و له أن يترك، ففيه: أنّ مجرّد هذا لا يوجب تقديم مختاره، إذ بعد الدعوى يكون للآخر أيضاً حقّ الجواب، مع أنّه يمكن أن يسبق المدّعى عليه بعد الدعوى إلى حاكم، و يطلب منه تخليصه من دعوى المدّعى «3».

______________________________

(1) مستند الشيعة: 17/ 51 المسألة التاسعة.

(2) مستند الشيعة: 17/ 51 المسألة التاسعة.

(3) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 14 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 60

..........

______________________________

أقول: الظاهر تحقّق الإجماع و ثبوت الأصالة له بعد أن لا يكون في المسألة نصّ، و لا وجه آخر يصلح الاعتماد عليه. هذا، و أمّا لو كان كلّ منهما مدّعياً من جهة و منكراً من جهة أُخرى، كما إذا زوّجت الباكرة الرشيدة نفسها من رجل، و زوّجها أبوها من آخر، فتنازع الرجلان في زوجيّتها. أو تنازع اثنان فيما في يد ثالث يقول: بأنّه لا يكون ملكاً، و لا

يؤيّد أحدهما بالخصوص، أو موارد أُخر تكون من هذا القبيل، فلا محيص إلّا القرعة التي هي لكلّ أمرٍ مشتبه، سيّما في الأُمور المالية التي هي حقّ الناس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 61

[مسألة 6: إذا كان لأحد من الرّعية دعوى على القاضي، فرفع إلى قاض آخر، تسمع دعواه و أحضره]

مسألة 6: إذا كان لأحد من الرّعية دعوى على القاضي، فرفع إلى قاض آخر، تسمع دعواه و أحضره، و يجب على القاضي إجابته، و يعمل معه الحاكم في القضيّة معاملته مع مدّعيه من التساوي في الآداب الآتية (1).

______________________________

(1) ذكروا أنّه إذا كان للحاكم منازعة مع غيره لا ينفذ حكمه لنفسه علىٰ ذلك الغير، و لو بأن يوكّل غيره في المرافعة معه ترافعا إليه، بل يلزم الرجوع إلى حاكم آخر بالإجماع و أخبار رجوع المتنازعين إلى من عرف أحكامهم، و نظر في حلالهم و حرامهم «1».

فاللّازم أن يكون الحاكم غيرهما. نعم له أن ينقل حقّه إلى غيره، ثمّ يرجع ذلك الغير مع الخصم إليه، فإنّه حينئذٍ ينفذ حكمه لذلك الغير و إن انتقل إليه بعد ذلك بإقالةٍ و نحوها، بل استظهر جواز ذلك و إن كان النقل إلى الغير بشرط الخيار لنفسه في الفسخ، أي بشرط أن يكون الفسخ فسخاً من الحين لا من حين أصل الانتقال، كما هو الظاهر «2».

و كذا لا ينفذ حكمه لمن له عليه ولاية خاصّة كالأُبوّة و الوصاية؛ لأنّه هو المنازع في الحقيقة، و إن وكّل غيره في المرافعة فترافعا إليه. و أمّا فيما لو كان له ولاية عامّة كالولاية على الأيتام و المجانين و الغيّب و غيرهم، ففي نفوذ حكمه لهم قولان: اختار العلّامة في محكيّ التحرير و تبعه صاحب الجواهر (قدّس سرّه) النفوذ «3»؛ لأنّ كلّ قاض وليّ اليتيم، و

لا فرق بينه و بين قاض آخر.

______________________________

(1) يراجع وسائل الشيعة: 27/ 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 16 مسألة 13.

(3) تحرير الأحكام: 5/ 117، جواهر الكلام: 40/ 71- 72.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 62

..........

______________________________

و أمّا الفرض المذكور في المتن فهو عبارة عن أنّه إذا رفع أحد الرعيّة التي تدّعي على القاضي المرافعة إلى قاض آخر، ثمّ أحضر القاضي الأوّل، فالواجب عليه الإجابة و الحضور كآحاد من الناس، و يعامل الحاكم الآخر معه معاملته مع مدّعيه في التساوي في الآداب من دون فرق، كما ربّما يحكى أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) حضر مجلس شريح القاضي كحضور أحدٍ من الناس من دون تفاوت «2». و لعلّ هذا من خصائص الإسلام، الذي له أحكام خاصّة و مقرّرات مخصوصة سيّما في باب القضاء، كما لا يخفى.

______________________________

(2) حلية الأولياء: 4/ 139، تلخيص الحبير: 4/ 469 ح 2105، المغني لابن قدامة: 11/ 444.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 63

[مسألة 7: يجوز للحاكم الآخر تنفيذ الحكم الصادر عن القاضي، بل قد يجب]

مسألة 7: يجوز للحاكم الآخر تنفيذ الحكم الصادر عن القاضي، بل قد يجب، نعم لو شكّ في اجتهاده أو عدالته أو سائر شرائطه لا يجوز إلّا بعد الإحراز، كما لا يجوز نقض حكمه مع الشكّ و احتمال صدور حكمه صحيحاً، و مع علمه بعدم أهليّته ينتقض حكمه (1).

______________________________

(1) أقول: بعد ما عرفت في المسألة المفصّلة الثامنة المتقدّمة قبل القول في صفات القاضي و خصوصيّاته، أنّه لا يجوز للمترافعين بعد رفع التنازع و الخصومة بسبب فقيه جامع للشرائط قاض علىٰ طبق موازين الشرع الترافع إلى قاض آخر، و لو كان كلاهما متوافقين

على ذلك، و أنّه لا يجوز للحاكم الثاني النظر فيه و نقضه إلّا في بعض الموارد. و بعد ما عرفت في المسألة الثالثة المتقدّمة في هذا الفصل أنّه لا بدّ و أن تكون الشرائط المعتبرة في القاضي مجتمعة عند المترافعين، و لا يكفي الثبوت عند أحدهما، و ظاهره كفاية الاجتماع لديهما، و إن كان غيرَ واجد للشرائط عند آخرين، بل و القضاة الأُخرى يقع الكلام في أنّ الماتن (قدّس سرّه) في طرح هذه المسألة ما ذا يريد و ما ذا يهدف و يكون متعلّقاً لغرضه؟

و الظّاهر أنّ مراده أن هنا عناوين ثلاثة: الحكم، و إجراء الحكم، و تنفيذ الحكم، الذي هو أمر متوسّط بين الحكم و الإجراء، و يكون موجباً لأصل الإجراء أو قوّته أحياناً، كما سيصرّح به في بعض المسائل الآتية. و المقصود هنا أنّ مرحلة التنفيذ، التي ليست بحكم مستقلّ يجوز أن تصدر من الحاكم الآخر، بل قد يجب ذلك. و الظاهر أنّ مراده الوجوب فيما إذا كان إجراء الحكم الأوّل متوقّفاً عليه، أو إذا كانت شرائط القاضي و صفاته الموجودة في القاضي الأوّل عند المترافعين و عنده

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 64

..........

______________________________

مشكوكة لدى الناس بخلافه، و إن كان يرد على الأوّل عدم وجوب المقدّمة عنده كما بيّنه في الأُصول «1»، و على الثاني أنّه لا يوجب ذلك الاتّصاف بالوجوب بوجه.

و لا يجوز للحاكم الثاني نقض حكم الحاكم الأوّل و إن كان شاكّاً في الاتّصاف بالشرائط حين الحكم؛ لجريان أصالة الصحّة الجارية في سائر الموارد مع الشكّ في وقوعها صحيحة أو فاسدة؛ لعدم الفرق. نعم مع العلم بعدم أهليّته يجوز له نقض حكمه، بناءً علىٰ

عدم كفاية الاعتبار عند المترافعين فقط، كما هو المفروض.

______________________________

(1) تهذيب الأصول: 1/ 198- 286.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 65

[مسألة 8: يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه من دون بيّنة أو إقرار أو حلف في حقوق الناس]

مسألة 8: يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه من دون بيّنة أو إقرار أو حلف في حقوق الناس، و كذا في حقوق اللّٰه تعالى، بل لا يجوز له الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلمه، أو إحلاف من يكون كاذباً في نظره. نعم يجوز له عدم التصدّي للقضاء في هذه الصورة مع عدم التعيّن عليه (1).

______________________________

(1) قد وقع التعرّض لهذه المسألة هنا، و في اللواحق من مسائل حدّ الزنا المسألة الرابعة في كتاب الحدود «1»، حيث إنّا قد تعرّضنا لشرحها هناك بما لا مزيد عليه. و قد طبع كتاب الحدود في الأزمنة السّابقة فلا نرى وجهاً للإعادة، و اللّازم الرجوع إليها، نعم ينبغي التعرّض لأُمور ثلاثة:

الأوّل: أنّه لو كان الإمام المعصوم (عليه السّلام) إمّا بعنوان القاضي، و إمّا بعنوان أحد المتداعيين فهو خارج عن محلّ البحث.

الثاني: أنّه لا يجوز الحكم بالبيّنة إذا كانت مخالفة لعلمه، بناءً علىٰ جواز أن يحكم القاضي بعلمه، و لا إحلاف من يكون كاذباً في نظره.

الثالث: يجوز للقاضي العالم إذا لم يشأ أن يحكم بعلمه عدم التصدّي للقضاء في هذه الصورة إذا لم يكن القضاء متعيّناً عليه، و إلّا فيجب كما لا يخفى.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 261- 273.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 66

[مسألة 9: لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً]

مسألة 9: لو ترافعا إليه في واقعة قد حكم فيها سابقاً يجوز أن يحكم فيها علىٰ طبقه فعلًا، إذا تذكّر حكمه، و إن لم يتذكّر مستنده. و إن لم يتذكّر الحكم فقامت البيّنة عليه جاز له الحكم. و كذا لو رأى خطّه و خاتمه و حصل منهما القطع أو الاطمئنان به، و لو تبدّل رأيه فعلًا من رأي

سابقه الذي حكم به جاز تنفيذ حكمه إلّا مع العلم بخلافه، بأن يكون حكمه مخالفاً لحكم ضروريّ أو إجماع قطعيّ، فيجب عليه نقضه (2).

______________________________

(1) مقتضى ما أفاده في المسألة الثامنة قبل القول في صفات القاضي، أنّه بعد حكم القاضي الواجد للشرائط عند المتخاصمين من أنّه لا يجوز الترافع إلى حاكم آخر، عدم جواز الترافع إلى القاضي الأوّل ثانياً حتى مع تراضي الطرفين؛ لاتّحاد ملاك المسألتين، مع أنّ الوجه في الترافع إلى القاضي الثاني في صورة إظهار المحكوم عليه عدم كون القاضي واجداً للشرائط، لا يجري هنا بعد اتّفاقهما على الترافع إلى القاضي الأوّل؛ لأنّه لا بدّ و أن يكون محرزاً للشرائط عند كليهما كما لا يخفى. فيصير الإشكال في أصل فرض المسألة و موضوعها.

و يمكن أن يكون الفرض أنّ المترافعين و إن كان لا يجوز لهما الترافع بعد حكم القاضي الأوّل لا إليه و لا إلى غيره من القاضي الثاني، إلّا أنّه لا يعتبر فيهما مثل العدالة المانعة عن ارتكاب المعصية نوعاً، فيمكن أن يكون الترافع حراماً، و مع ذلك قد تحقّق هذا الحرام منهما.

و يمكن أن يكون الفرض صورة تراضي الطرفين مع الالتزام بعدم الحرمة في صورة التراضي لا هنا و لا هناك، كما التزم به بعض؛ نظراً إلى عدم كونه موجباً للردّ على القضاة المنصوبين من قبلهم (عليهم السّلام) حتّى يكون الردّ عليهم كالردّ عليهم، و الردّ

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 67

..........

______________________________

عليهم كالردّ على اللّٰه، و هو في حدّ الشرك باللّٰه «1» كما لا يخفى.

و كيف كان إذا تحقّق الترافع إلى القاضي الأوّل في نفس تلك الواقعة، مع عدم تغيّر خصوصيّاتها و جهاتها، و قد

حكم فيها سابقاً بحكم شرعيّ علىٰ طبق الموازين الشرعيّة، فهنا صور و فروض:

الأوّل: أن يكون متذكّراً لحكمه السابق، سواء تذكّر مستنده أم لم يتذكّر، و في هذه الصورة يجوز له الحكم علىٰ طبق الحكم السابق؛ لكونه محرزاً عنده، و الواقعة لم تتغيّر بوجه.

الثاني: أن لا يكون متذكّراً لحكمه السابق، فإن قامت البيّنة الشرعيّة المعتبرة في الموضوعات إلّا ما خرج بالدليل علىٰ صدور الحكم الفلاني منه، يجوز له ترتيب الأثر علىٰ طبق البيّنة و الحكم علىٰ طبق الحكم السابق، كما أنّه لو رأى خطّه و خاتمه، فإن حصل منهما القطع العقليّ أو الاطمئنان الذي هو علم عرفيّ يجوز ترتيب الأثر عليهما، و إلّا فلا يكون في شي ء منهما في نفسه حجّية أصلًا.

الثالث: أن يكون متذكّراً لحكمه السّابق، لكنّه تبدّل رأيه مع رأيه السابق الذي حكم به، فاللازم تنفيذ الحكم السابق و إن كان علىٰ خلاف رأيه فعلًا؛ لأنّ كلا الرأيين اجتهاد، و المجتهد لا يكون عالماً بالحكم، و لا يجوز له نقض الحكم الناشئ عن الاجتهاد، إلّا أن يكون الحكم السابق مخالفاً لضروريّ الفقه أو إجماع قطعيّ، فيجوز بل يجب النقض في هذه الصورة كما مرّ سابقاً «2».

______________________________

(1) انظر وسائل الشيعة: 1/ 34، مقدّمة العبادات ب 2 ح 12، و ج 27/ 136، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 2، و تقدم في ص 17.

(2) في ص 39.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 68

[مسألة 10: يجوز للحاكم تنفيذ حكم من له أهليّة القضاء من غير الفحص عن مستنده]

مسألة 10: يجوز للحاكم تنفيذ حكم من له أهليّة القضاء من غير الفحص عن مستنده، و لا يجوز له الحكم في الواقعة مع عدم العلم بموافقته لرأيه، و هل له الحكم مع العلم به؟ الظاهر أنّه

لا أثر لحكمه بعد حكم القاضي الأوّل بحسب الواقعة، و إن كان قد يؤثّر في إجراء الحكم كالتنفيذ، فإنّه أيضاً غير مؤثّر في الواقعة، و إن يؤثّر في الإجراء أحياناً. و لا فرق في جواز التنفيذ بين كونه حيّاً أو ميّتاً، و لا بين كونه باقياً على الأهليّة أم لا، بشرط أن لا يكون إمضاؤه موجباً لاغراء الغير بأنّه أهل فعلًا (1).

[مسألة 11: لا يجوز إمضاء الحكم الصادر من غير الأهل]

مسألة 11: لا يجوز إمضاء الحكم الصادر من غير الأهل، سواء كان غير مجتهد أو غير عادل و نحو ذلك، و إن علم بكونه موافقاً للقواعد، بل يجب نقضه مع الرفع إليه أو مطلقاً (2).

______________________________

(1) و

(2) الغرض من هاتين المسألتين بيان صور جواز التنفيذ، بمعنى إيجاب العمل علىٰ طبق حكم الحاكم القبلي و عدم جوازه، و جواز الحكم الاستقلالي و عدمه.

الغرض من هاتين المسألتين بيان صور جواز التنفيذ، بمعنى إيجاب العمل علىٰ طبق حكم الحاكم القبلي و عدم جوازه، و جواز الحكم الاستقلالي و عدمه.

فنقول: يجوز التنفيذ بالمعنى الذي ذكرناه، و شرطه أن يكون القاضي الأوّل ممّن له أهليّة القضاء، سواء كان هناك فحص عن مستنده أم لا؛ لأنّ غايته كون رأيه مخالفاً لرأيه و هو لا ينافي التنفيذ؛ لأنّ مرجعه ليس إلى الحكم الثاني حتّى لا يجوز أن يتحقّق مخالفاً لرأيه بعد فرض اعتبار الاجتهاد في القاضي مطلقاً.

نعم إذا لم يكن له أهليّة القضاء كأن لم يكن مجتهداً أو عادلًا، لا يجوز تنفيذ حكمه و إن علم بكونه موافقاً للقاعدة؛ لعدم كون حكمه شرعيّاً حينئذٍ، فالواجب

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 69

..........

______________________________

عليه مكان التنفيذ النقض، إمّا في خصوص صورة الترافع إليه، و إمّا مطلقاً

بناءً علىٰ كون عمله محرّماً؛ لعدم صلاحيّته للقضاء كما تقدّم «1».

و هذا أي جواز التنفيذ في صورة الجواز لا فرق فيه بين الميّت و الحيّ، و لا بين بقاء القاضي الأوّل علىٰ شرائط القضاء، أو ارتفاع بعض الصفات كالعدالة عنه. و اشترط في الجواز حينئذٍ أن لا يكون إمضاؤه موجباً لاغراء الغير بأنّه أهل فعلًا، مع أنّه لو فرض حرمة الإغراء يكون هذا عنواناً آخر، و اتّحاده مع التنفيذ فضلًا عن الملازمة لا يوجب اتّصاف التنفيذ بعدم الجواز، و علىٰ تقديره و تقدير كونه قادحاً في العدالة يكون ذلك بعد التنفيذ و به، لا قبله حتى يخرج من الأهليّة.

و أمّا الحكم الاستقلالي من الحاكم الثاني فمشروط بالعلم بموافقته لرأيه؛ لأنّ المفروض تحقّق الحكم، و هو لا بدّ أن يكون عن اجتهاد و رأي بخلاف التنفيذ. نعم ظاهر المتن أنّه في صورة العلم بالحكم السابق لا يجوز الحكم؛ لأنّه لا أثر له، مع أنّ عدم الأثر بمعنى اللغويّة لا يوجب الحرمة؛ لأنّه ليس كلّ لغو بمعنى عدم ترتّب الأثر عليه بحرام، فهذا الاستثناء غير تامّ.

______________________________

(1) في ص 20- 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 70

[مسألة 12: إنّما يجوز إمضاء حكم القاضي الأوّل للثاني إذا علم بصدور الحكم منه]

مسألة 12: إنّما يجوز إمضاء حكم القاضي الأوّل للثاني إذا علم بصدور الحكم منه إمّا بنحو المشافهة أو التواتر و نحو ذلك، و في جوازه بإقرار المحكوم عليه إشكال، و لا يكفي مشاهدة خطّه و إمضائه، و لا قيام البيّنة على ذلك، نعم لو قامت على أنّه حكم بذلك فالظاهر جوازه (1).

______________________________

(1) لا بدّ و أن يكون حكم الحاكم الأوّل محرزاً عند الحاكم الثاني إذا أراد إمضاءه و إيجاب العمل على طبقه إمّا بالعلم الحاصل

بنحو المشافهة أو التواتر أو غيرهما، و إمّا بالاطمئنان أي الظنّ المتاخم للعلم الذي عرفت أنّه علم عرفيّ و عقلائيّ، و إمّا بقيام البيّنة على نفس صدور الحكم و تحقّق رفع التنازع و الخصومة من القاضي الأوّل. نعم يمكن أن يقال بإمكان جريان التعليق فيه، بأن يقول الحاكم الثاني: إذا صدر الحكم من الحاكم الفلاني فقد أمضيته، خصوصاً بعد أن لا يكون له أثر سوى الإجراء أحياناً، و حينئذٍ فمع فرض صدوره منه لا مانع من تحقّق الإمضاء و التنفيذ، كما لا يخفىٰ.

و أمّا جواز الإمضاء بسبب إقرار المحكوم عليه ففيه إشكال، على ما في المتن من جريان قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، و الفرض أن المقرّ هو المحكوم عليه. و من لزوم الاقتصار في جريان القاعدة على المقدار الذي هو على المقرّ من دون ثبوت خصوصيّاته و لوازمه. فإذا أقرّ بأنّ الحاكم الأوّل حكم بأنّ الدار التي هي في يده لزيد مثلًا يحكم بمقتضى قاعدة الإقرار بأنّ الدّار له، و لا يثبت بمقتضى الإقرار حكم الحاكم الأوّل، و هذا كما في الأصول الشرعيّة مثل الاستصحاب، الذي يقتصر فيها على اللوازم الشرعيّة و الآثار المترتّبة عليها، و لا تثبت بها اللوازم غير الشرعيّة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 71

..........

______________________________

و لا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليها، فلا يثبت باستصحاب حياة زيد إلّا حرمته تزويج امرأته و تقسيم أمواله و نحوهما، و لا يثبت به بياض لحيته و لا الآثار الشرعيّة المترتّبة عليه، كما لا يخفى.

و هكذا لا يثبت حكمه بمشاهدة خطّه و إمضائه، سواء علم بكونه خطّاً و إمضاءً له، أو قامت البيّنة علىٰ ذلك؛ لعدم حجّية الخطّ و الإمضاء

شرعاً إلّا في صورة العلم أو الاطمئنان كما عرفت.

و قد ورد في رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليه السّلام) أنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض في حدّ و لا غيره حتّى وليت بنو أُميّة فأجازوا بالبيّنات «1». و سيأتي البحث في مفاد الرواية في الفصل الأوّل من الفصلين المبحوث عنهما في خاتمة كتاب القضاء إن شاء اللّٰه، فانتظر «2».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 300 ح 840 و 841، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 297، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 28 ح 1.

(2) في ص 363- 366.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 73

[القول في وظائف القاضي]

اشارة

القول في وظائف القاضي و هي أُمور:

[الأوّل: يجب التسوية بين الخصوم و إن تفاوتا في الشرف و الضعة]

الأوّل: يجب التسوية بين الخصوم و إن تفاوتا في الشرف و الضعة- في السلام و الردّ و الإجلاس، و النظر و الكلام و الإنصات و طلاقة الوجه، و سائر الآداب، و أنواع الإكرام، و العدل في الحكم. و أمّا التسوية في الميل بالقلب فلا يجب، هذا إذا كانا مسلمين، و أمّا إذا كان أحدهما غير مسلم يجوز تكريم المسلم زائداً علىٰ خصمه. و أمّا العدل في الحكم فيجب على أيّ حال (1).

______________________________

(1) الكلام في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأوّل: ما إذا كان الخصمان مسلمين، و إن كانا متفاوتين في الشرف و الضّعة، ظاهر المتن وجوب التسوية بينهما في الأُمور المذكورة، و في الرياض أنّ هذا أي الوجوب هو الأظهر الأشهر وفاقاً للصدوقين «1»، بل حكى عليه

______________________________

(1) المقنع: 397، و نقل في المختلف: 8/ 421 مسألة 22 عن الصدوقين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 74

..........

______________________________

الشهرة المطلقة في المسالك و الروضة «1»، «2»، لكن في الجواهر: أنّ الموجود في المسالك النسبة إلى الأكثر، بل الظاهر عدم تحقّق ذلك علىٰ سبيل الوجوب، خصوصاً في مثل عبارة الصّدوقين التابعة للتعبير بما في النصوص غالباً «3».

و كيف كان فالدليل على الوجوب بعض الروايات:

مثل: رواية سلمة بن كهيل، التي في سندها الحسن بن محبوب، قال: سمعت عليّاً (عليه السّلام) يقول لشريح: إلى أن قال: ثمّ واسِ بين المسلمين بوجهك و منطقك و مجلسك، حتّى لا يطمع قريبك في حيفك، و لا ييأس عدوّك من عدلك الحديث «4».

و الإجماع علىٰ تصحيح ما يصحّ عن جماعة «5» لا يرجع إلى صحّة روايتهم، و عدم النظر إلى من يروون عنه

بلا واسطة أو معها، بل غايته كما مرّ في بعض المباحث «6» السّابقة الإجماع علىٰ وثاقته و اعتباره، و أنّه ممتاز من هذه الجهة فقط. و عليه فلا تكون الرواية معتبرة، و قد صرّح المحقّق في كلماته بضعف سلمة «7».

و رواية عبيد اللّٰه بن علي الحلبي قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): قال أمير المؤمنين (عليه السّلام) لعمر بن الخطّاب: ثلاث إن حفظتهنَّ، و عملت بهنّ كفتك ما سواهنّ، و إن تركتهنّ

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 13/ 428، الروضة البهيّة: 3/ 72.

(2) رياض المسائل: 13/ 79.

(3) جواهر الكلام: 40/ 141.

(4) الكافي: 7/ 412 ح 1، الفقيه: 3/ 8 ح 10، تهذيب الأحكام: 6/ 225 ح 541، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 211، كتاب القضاء أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1.

(5) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 238، الرقم 431، و ص 375، و الرقم 705 و ص 556، الرقم 1050.

(6) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 448- 453.

(7) شرائع الإسلام: 4/ 288.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 75

..........

______________________________

لم ينفعك شي ء سواهنّ. قال: و ما هنّ يا أبا الحسن؟ قال: إقامة الحدود على القريب و البعيد، و الحكم بكتاب اللّٰه في الرضا و السّخط، و القسم بالعدل بين الأحمر و الأسود. قال عمر: لعمري لقد أوجزت و أبلغت «1».

و رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): من ابتلي بالقضاء فليواس بينهم في الإشارة، و في النظر، و في المجلس «2». و الظاهر أنّه ليس المراد الاختصاص بهذه الأُمور.

و الظاهر أنّ الروايات الواردة لا تخلو من الخلل في السند أو

المناقشة في الدّلالة، و إثبات الحكم الوجوبي بها مشكل. فالإنصاف أنّه لا تكون التسوية المذكورة بواجبة، بل مستحبّة كما عن العلّامة في المختلف «3»، و تبعه صاحب الجواهر «4».

المقام الثاني: إذا كان أحدهما مسلماً و الآخر غير مسلم مثل الكافر الذّمي، و في هذه الصورة لا تجب التسوية بل و لا تستحبّ، بل يجوز إكرام المسلم زائداً علىٰ خصمه. نعم لا ينبغي المناقشة في وجوب العدالة في الحكم.

و عن علي (عليه السّلام) أنّه جلس بجنب شريح في حكومة له مع يهوديّ في درع، و قال: لو كان خصمي من المسلمين لساويته في المجلس، و لكنّي سمعت رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) يقول: لا تساووهم في المجلس «5».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 227 ح 547، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 212، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 1 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 413 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 226 ح 543، الفقيه: 3/ 8 ح 9، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 214، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 3 ح 1.

(3) مختلف الشيعة: 8/ 421 مسألة 22.

(4) جواهر الكلام: 40/ 141 142.

(5) حلية الأولياء: 4/ 139، تلخيص الحبير: 4/ 469 ح 2105، المغني لابن قدامة: 11/ 444.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 76

[الثاني: لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين شيئاً يستظهر به على خصمه]

الثاني: لا يجوز للقاضي أن يلقّن أحد الخصمين شيئاً يستظهر به على خصمه كأن يدّعي بنحو الاحتمال، فيلقنه أن يدّعي جزماً حتى تُسمع دعواه أو يدّعي أداء الأمانة أو الدين، فيلقّنه الإنكار، و كذا لا يجوز أن يعلّمه كيفيّة الاحتجاج و طريق الغلبة، هذا إذا لم يعلم أنّ الحقّ معه، و إلّا جاز كما جاز له

الحكم بعلمه، و أمّا غير القاضي فيجوز له ذلك مع علمه بصحّة دعواه، و لا يجوز مع علمه بعدمها، و مع جهله فالأحوط التّرك (1).

______________________________

(1) إن قلنا بوجوب التسوية في الأمر الأوّل، فعدم الجواز في هذا الأمر الثاني يكون بطريق أولىٰ، فإنّه إذا لم يجز للقاضي النظر بغير المساوي إلى الخصمين، فعدم جواز التلقين المذكور في المتن إنّما يكون بنحو الأولويّة. و أمّا إذا قلنا في الأمر الأوّل: بعدم الوجوب؛ لأنّه لا دليل عليه كما اخترناه فيه، فيشكل الأمر في عدم الجواز الشرعي في هذه الصّورة خصوصاً بعد عدم رواية و لا نصّ عليه، كما يستفاد من تعليل المحقّق (قدّس سرّه) في الشرائع، حيث إنّه علّله بأنّ ذلك يفتح باب المنازعة و قد نصب لسدّها «1»، و يرد عليه أنّه إن لم يكن إجماع، ما الدليل علىٰ حرمة ذلك، خصوصاً بعد انتهاء القضيّة إلى حكم القاضي الرافع للتنازع و الخصومة، و خصوصاً بعد إمكان اندراجه في تعليم محاورات الشرع؟

هذا كلّه مع عدم علم القاضي بالواقعة، و أنّ الحقّ مع الذي يلقّنه، و إلّا فكما يجوز للحاكم الحكم بعلمه كما عرفت في بعض المسائل المتقدّمة «2»، من دون فرق

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 870.

(2) في ص 65.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 77

[الثالث: لو ورد الخصوم مترتّبين بدأ الحاكم في سماع الدعوى بالأوّل فالأوّل]

الثالث: لو ورد الخصوم مترتّبين بدأ الحاكم في سماع الدعوى بالأوّل فالأوّل إلّا إذا رضي المتقدّم تأخيره، من غير فرق بين الشريف و الوضيع و الذكر و الأُنثى، و إن وردوا معاً أو لم يعلم كيفيّة ورودهم و لم يكن طريق لإثباته يقرع بينهم مع التشاحّ (1).

______________________________

بين حدود اللّٰه و حقوق الناس خلافاً لجملة آخرين يجوز تعليمه

ليصل إلى حقّه مع فرض وجود المانع عن الحكم بالعلم، كشدّة التّهمة و نحوها.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 77

و أمّا غير القاضي فإن كان عالماً بصحّة دعواه يجوز له ذلك أي التعليم و التلقين، كما أنّه إذا كان عالماً بعدم صحّة دعواه لا يجوز له ذلك؛ لأنّه من باب التعاون على الإثم و العدوان المحرّمين بمقتضى الآية الشريفة «1». و أمّا إذا كان جاهلًا بالصحّة و عدمها، فمقتضى القاعدة في الشبهة التحريميّة المصداقيّة، و إن كان هو الجواز عقلًا إلّا أنّه مع ملاحظة القول بعدم الجواز، و كون القضاء الإسلامي لا بدّ لكلّ أحد و أن يحفظ في مقامه العالي و الرتبة الشامخة، يكون مقتضى الاحتياط الترك، كما في المتن.

(1) قال المحقّق في الشرائع: في الفرض الأخير: فإن وردوا جميعاً قيل: يقرع بينهم، و قيل: يكتب أسماء المدّعين، و لا يحتاج إلى ذكر الخصوم، و قيل: يذكرهم أيضاً لتحضر الحكومة معه، و ليس بمعتمد، و يجعلها تحت ساتر، ثمّ يخرج رقعة رقعة و يستدعي صاحبها. و قيل: إنّما تكتب أسماؤهم مع تعسّر القرعة بالكثرة «2».

أقول: لو لم نقل بوجوب التسوية بين الخصمين في الأُمور المذكورة في الأمر

______________________________

(1) و هي قوله تعالى في سورة المائدة 5: 2 وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 871.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 78

[الرّابع: لو قطع المدعى عليه دعوى المدّعى بدعوىٰ لم يسمعها حتّى يجيب عن دعوى صاحبه، و تنتهي الحكومة]

الرّابع: لو قطع المدعى عليه دعوى المدّعى بدعوىٰ لم

يسمعها حتّى يجيب عن دعوى صاحبه، و تنتهي الحكومة، ثمّ يستأنف هو دعواه إلّا مع رضا

______________________________

الأوّل كما اخترناه، لا يكون هناك دليل على وجوب البدأَة في سماع الدعوى بالأول فالأوّل فيما إذا ورد الخصوم مع التعاقب، و لا على وجوب القرعة فيما إذا وردا جميعاً، أو لم يعلم كيفيّة ورودهم. فإنّ إطلاق الأمر بالحكومة للحاكم لا يقتضي إلّا التخيير في المقام، و إن كانت الحكومة واجبة بالوجوب العيني أو الكفائي.

نعم هنا شبهة الإجماع على لزوم البدأة بالأوّل فالأوّل، أو القرعة في الفرض الثاني، و أدلّة القرعة لا دلالة لها على الوجوب خصوصاً في مورد الورود جميعاً بلا تقدّم و تأخّر.

نعم لو قلنا: بوجوب التسوية في الأمر الأوّل لأمكن أن يقال: باللزوم في هذا الأمر بطريق أولىٰ على تأمّل، كما لا يخفى.

و كيف كان فالمستفاد من عبارة الشرائع المتقدّمة أنّ القرعة أمر و كتابة أسمائهم أمر آخر و أنّه لا ينتقل إلى الثاني إلّا مع تعسّر القرعة بالكثرة، كما هو مقتضى القول الأخير من الأقوال المذكورة فيها. و الظاهر أنّ النظر بالطريق المتعارف في القرعة و هو وضع الرقاع في بنادق من طين و نحوه، و إلّا فالظاهر أنّ كتابة الأسماء بالنحو المذكور فيها هي أيضاً قسم من القرعة، و أنّه لا يكون لها كيفيّة مخصوصة؛ و لعلّه لأجل ذلك لم يذكر للقرعة طريقاً مخصوصاً في المتن، كما لا يخفى.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه كان ينبغي له أن يذكر كلمة «الخصمين» مقام الخصوم في الأمر الأوّل. و أمّا الخصوم فيناسب هذا الأمر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 79

المدّعى الأوّل بالتقديم (1).

[الخامس: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولىٰ]

الخامس: إذا بدر أحد الخصمين بالدعوى فهو أولىٰ، و

لو ابتدرا معاً يسمع من الذي على يمين صاحبه، و لو اتّفق مسافر و حاضر فهما سواء

______________________________

(1) لو قطع المدّعى عليه دعوى المدّعى بدعوى، فتارة تكون تلك الدعوى مرتبطة بنفس الواقعة التي يكون هو فيها منكراً و الآخر مدّعياً، و أُخرى مرتبطة بواقعة اخرىٰ، بحيث تكون هناك واقعتان يكون في الأُولىٰ منكراً و في الثانية مدّعياً.

لا إشكال في عدم سماع دعواه في صورة القطع ما دام لم يجب عن دعوى صاحبه في الواقعة الاولىٰ، و عدم انتهاء الحكومة فيه؛ لأنّه لها حقّ السّبق. نعم في صورة رضا المدّعى الأوّل بالتقديم، و رفع اليد عن الدعوى الاولى فعلًا يجوز التقديم. أمّا في صورة عدم الرّضا تكون النوبة له كما لا يخفى.

و أمّا في صورة عدم تعدّد الواقعة، ففرض المسألة إنّما هو في صورة تحوّل المنكر مدّعياً، كما إذا ادّعى زيد أنّ له عند عمرو أمانة، و قال عمرو ابتداءً ما يكون لك عندي أمانة، فهذا المقدار يوجب كون عمرو منكراً لما ادّعاه زيد. أمّا إذا قطع دعواه و ادّعى أداء الأمانة إليه في يوم كذا و مكان كذا و ساعة كذا يصير عمرو مدّعياً؛ لأنّه مع قبول ثبوت الأمانة عنده يدّعي أداءَها، و الأصل عدم الأداء و بقاء الأمانة عنده.

فهذه الصورة يجي ء حكمها في بعض المسائل الآتية «1»، و الظاهر عدم كون شمول

______________________________

(1) في ص 241- 244.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 80

ما لم يستضرّ أحدهما بالتأخير، فيقدّم دفعاً للضرر، و فيه تردّد (1).

______________________________

العبارة مقصوداً للماتن (قدّس سرّه) كما لا يخفى.

(1) في صورة مبادرة أحد الخصمين بالدعوى يكون حقّ الأولويّة له من دون فرق بين أن يكون مدّعياً أو

منكراً، و مجرّد كون أحدهما مدّعياً لا يوجب ثبوت هذا الحقّ له بوجه.

و أمّا في صورة الابتداء معاً، فظاهر المتن أنّه يسمع من الذي على يمين صاحبه. و العمدة هنا بعض الروايات الصحيحة، و إن حكي الإجماع عليه عن السيّد المرتضى و الشيخ الطوسي (قدّس سرّهما) «1» مثل:

صحيحة عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا تقدّمت مع خصم إلى والٍ أو إلى قاضٍ فكن عن يمينه يعني يمين الخصم- «2».

و صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قضى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) أن يقدّم صاحب اليمين في المجلس بالكلام «3».

هذا، و لكن دلالة الروايتين مخدوشة؛ لأنّ في الأولى مضافاً إلى ذكر الوالي مع القاضي، و الظاهر كون القاضي من قضاة الجور، و إلى عدم انطباقها على المدّعى؛ لأنّه عبارة عن سماع القاضي دعوى من على يمين صاحبه، و الرواية آمرة بالكون عن يمينه عدم وضوح كون الضمير في «يمينه» راجعاً إلى الخصم، بل إلى الوالي

______________________________

(1) الانتصار: 495، النهاية: 338.

(2) الفقيه: 3/ 7 ح 8، الانتصار: 496، تهذيب الأحكام: 6/ 227 ح 548، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 218، كتاب القضاء أبواب آداب القاضي ب 5 ح 1.

(3) الفقيه: 3/ 7 ح 25، الانتصار: 495، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 218، أبواب آداب القاضي ب 5 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 81

..........

______________________________

أو القاضي. و التفسير المذكور ليس من الإمام (عليه السّلام)، أو لا يعلم كونه منه.

و الرواية الثانية مضافاً إلى الظهور في كون المراد يمين المتكلّم لا دلالة لها على مسألة القضاء بوجه، و الإطلاق بحيث

يشمل مجلس القاضي مشكل.

و كيف كان فلم ينهض دليل قويّ على ما أفاده في المتن، و إن لم ينقل الخلاف فيه من أحد من علمائنا الإماميّة رضوان اللّٰه تعالى عليهم أجمعين، و إن كان يظهر من محكيّ المبسوط أنّ لهم فيه أقوالًا مختلفة:

القول بالقرعة.

و القول بتقديم الحاكم من شاء.

و القول بأنّه يصرفهما حتى يصطلحا.

و القول بأنّه يستحلف كلّ واحد منهما لصاحبه «1».

بقي الكلام في أنّه لو اتّفق حاضر و مسافر، فذكر في المتن أنّهما سواء ما لم يستضرّ أحدهما بالتأخير فيقدّم دفعاً لضرره، ثمّ قال: «و فيه تردّد». و الظاهر أنّ وجه التساوي عدم قيام الدليل على تقديم الحاضر بعنوانه أو المسافر كذلك. نعم في صورة تضرّر أحدهما بالتأخير يقدّم لقاعدة نفي الضرر و الضرار، و حيث إنّ مفادها مختلف بحسب الأنظار من جهة كونه حكماً حكوميّاً كما عليه الماتن «2»، أو دالّاً على الحكم الشرعيّ الأوّلي، مثل قوله تعالى فَلٰا رَفَثَ وَ لٰا فُسُوقَ وَ لٰا جِدٰالَ فِي الْحَجِّ «3»، أو دالّاً على الحكم الشرعيّ الثانوي، كما عليه

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 153 154.

(2) بدائع الدرر في قاعدة نفي الضرر: 103- 121.

(3) سورة البقرة 2: 197.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 82

..........

______________________________

الشيخ الأنصاريّ «1» و المحقّق الخراسانيّ «2»، و إن كان بينهما اختلاف في بعض الجهات؛ فلذا قد تردّد فيه. فتدبّر.

______________________________

(1) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 118، فرائد الأُصول (تراث الشيخ الأعظم): 2/ 460- 462.

(2) كفاية الاصول: 430 435.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 83

[القول في شروط سماع الدّعوى]

اشارة

القول في شروط سماع الدّعوى و ليعلم أنّ تشخيص المدعي و المنكر عرفيّ كسائر الموضوعات العرفيّة، و

ليس للشارع الأقدس اصطلاح خاصّ فيهما، و قد عرِّف بتعاريف متقاربة، و التعاريف جلّها مربوطة بتشخيص المورد، كقولهم: إنّه من لو تَرَكَ تُرِكَ، أو يدّعي خلاف الأصل، أو من يكون في مقام إثبات أمر علىٰ غيره. و الأولى الإيكال إلى العرف، و قد يختلف المدّعى و المنكر عرفاً بحسب طرح الدعوى و مصبّها، و قد يكون من قبيل التداعي بحسب المصبّ (1)

______________________________

(1) قد عرِّف المدّعى بتعاريف:

أحدها: أنّه من لو ترك ترك، و الظاهر أنّ المراد تركه في تلك الدعوى لا مطلقاً، فلو كان عنده مال للغير و ادّعى الردّ يكون مدّعياً؛ لأنّه لو ترك هذه الدعوى ترك فيها، فيكون المال باقياً عنده، و لا ينافي عدم تركه من هذه الجهة.

ثانيها: أنّه من يدّعي خلاف الأصل، و الظاهر أنّ المراد منه أعمّ من الأصل العملي و الأمارات المعتبرة شرعاً كاليد و نحوها، فلو ادعى داراً تكون في يد المنكر يكون هو مدّعياً؛ لأنّه يدّعي خلاف الأمارة المعتبرة و هي اليد. و أمّا أصالة عدم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 84

..........

______________________________

الملكيّة فهي مشتركة بين المتخاصمين، كما لا يخفى.

ثالثها: من يدّعي خلاف الظاهر أو خلاف الأصل أو الظاهر، و الظاهر أنّ المراد بالظاهر هو الظاهر المعتبر، فيرجع إلى ما قبله، و الظاهر غير المعتبر لا عبرة به أصلًا.

رابعها: من يكون في مقام إثبات أمر على غيره، و هنا تعاريف أُخر غير ما ذكرنا، لكنّه ينبغي أن يعلم:

أوّلًا: أنّ الشارع الأقدس لا يكون له بالإضافة إليهما اصطلاح خاصّ بصورة الحقيقة الشرعيّة أو المجاز الشرعي؛ لعدم كون معناهما مستحدثاً بوجه، بل استعماله إنّما يكون كاستعمال الغير.

و ثانياً: أنّ المراد من التعاريف بيان الموارد

و المصاديق، و إلّا فاللفظان لا إشكال و لا شبهة فيهما من حيث المادّة و الهيئة، و لا اختلاف فيهما من حيث اللغة، و ليسا كلفظ الصعيد المذكور في آية التيمّم «1»، المردّد بين خصوص التراب الخالص أو مطلق وجه الأرض؛ لاختلاف اللغة في ذلك.

و ثالثاً: أنّ المذكور في الروايات بالمقدار الذي تتبّعنا على أنّ بعض الروايات الواردة في قصّة فدك المنقولة في الوسائل و المستدرك قد وردت فيها مادّة المنكر «2» فراجع من ادّعي عليه بدل المنكر حتى في الرواية المعروفة عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله)، ففي صحيحة جميل و هشام، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله):

______________________________

(1) سورة النساء 4: 43.

(2) الوسائل: 27/ 293، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 25 ح 3، مستدرك الوسائل: 17/ 397، أبواب كيفيّة الحكم ب 18 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 85

..........

______________________________

البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه «1».

و رابعاً: أولويّة الإيكال إلى العرف كسائر الموضوعات العرفيّة التي لا يكون فيها اصطلاح خاصّ و لو مجازاً.

و خامساً: أنّ الملاك في ذلك طرح الدعوى و مصبّها، و قد عرفت «2» في بعض المسائل السابقة أنّ من عنده الوديعة و قد أدّاها، لو ادّعى أداء الأمانة و ردّها يكون مدّعياً، و لو قال: بأنّه ليس شي ء بعنوان الأمانة لزيد موجوداً عنده يصير منكراً، فتدبّر.

و سادساً: أنّه قد لا يكون في البين مدّعٍ و منكر، بل يتحقّق التداعي بحسب طرح الدعوى و مصبّها، و سيجي ء حكمه إن شاء اللّٰه تعالى. «3»

______________________________

(1) الكافي: 7/ 415 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/

229 ح 553، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 233، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 3 ح 1.

(2) في ص 79.

(3) في ص 103 مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 86

[مسألة 1: يشترط في سماع دعوى المدّعى أُمور]

اشارة

مسألة 1: يشترط في سماع دعوى المدّعى أُمور: بعضها مربوط بالمدّعي. و بعضها بالدعوى. و بعضها بالمدّعى عليه. و بعضها بالمدّعى به.

[الأوّل: البلوغ]

الأوّل: البلوغ، فلا تسمع من الطفل و لو كان مراهقاً. نعم لو رفع الطفل المميّز ظلامته إلى القاضي، فإن كان له وليّ أحضره لطرح الدّعوىٰ، و إلّا فأحضر المدّعى عليه ولاية، أو نصب قيّماً له، أو وكّل وكيلًا في الدعوى، أو تكفّل بنفسه، و أحلف المنكر لو لم تكن له بيّنة، و لو ردّ الحلف فلا أثر لحلف الصغير، و لو علم الوكيل أو الوليّ صحّة دعواه، جاز لهما الحلف.

[الثاني: العقل]

الثاني: العقل، فلا تسمع من المجنون و لو كان أدواريّاً إذا رفع حال جنونه.

[الثالث: عدم الحجر لسفه]

الثالث: عدم الحجر لسفه، إذا استلزم منها التصرّف المالي، و أمّا السفيه قبل الحجر فتسمع دعواه مطلقاً (1).

______________________________

(1) قد استدلّ لاعتبار البلوغ في سماع دعوى المدّعى و إن كان مميّزاً مراهقاً بأنّه لا خلاف فيه، بل الإجماع عليه، كما ادّعاه بعضهم «1»، و بأنّ المتبادر من الأدلّة هو البالغ العاقل، و بما دلّ من الأخبار على أنّه لا يجوز أمر الصبيّ في الشراء حتى يبلغ خمس عشرة سنة «2»، و بأنّه مسلوب العبارة، و بأنّه يجري في صورة الشكّ أصالة عدم ترتّب آثار الدعوى من وجوب السماع، و قبول البيّنة، و الإقرار، و سقوطها بالحلف و نحو ذلك.

______________________________

(1) رياض المسائل: 13/ 36، القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 29.

(2) الكافي: 7/ 197 ح 1، مستطرفات السرائر: 86 ح 34، و عنهما وسائل الشيعة: 17/ 360، كتاب التجارة، أبواب عقد البيع ب 14 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 87

..........

______________________________

و لكن يرد على ما ذكر أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد لا حجّة فيه، مضافاً إلى استبعاد أن يكون مستند المجمعين غير ما ذكر. و دعوى التبادر المذكور ممنوعة. و استفادة اعتبار الرجوليّة في القاضي الذي قد عرفت «1» أنّ فيه خصوصيّتين: عدم الأُنوثيّة و عدم كونه صبيّاً إنّما هو باعتبار ذكر عنوان الرجل في بعض الروايات المرتبطة بشرائط القاضي «2». و أمّا بالإضافة إلى المتخاصمين فلم يرد مثل ذلك فيهما، كما لا يخفى.

و الأخبار الدالّة على أنّه لا يجوز أمر الصبيّ حتى يصير بالغاً بالبلوغ الشرعيّ «3»، موردها التصرّفات الماليّة التي يكون هو ممنوعاً عنها،

بل له فيها وليّ كالأب و الجدّ و غيرهما، و لا يشمل غير تلك التصرّفات، كما إذا ادّعى على شخص أنّه أخذ ما في يده أو غصب دابّته أو نحو ذلك. و كونه مسلوب العبارة لم يقم عليه دليل شرعي، لو لم نقل بقيام الدليل على خلافه، و هي شرعيّة عبادات الصبي و عدم كونها تمرينيّة محضة، كما حقّقناه في القواعد الفقهية «4».

و عليه فلا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة المذكورة في الذيل الجارية في صورة الشكّ و عدم الدليل، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الدليل على عدم مسلوبيّة العبارة ما أفاده في المتن: من أنّه لو رفع الطفل ظلامته إلى القاضي يجب على القاضي أن يحضر وليّه في صورة وجوده، و مع عدمه فتجري الأحكام المذكورة في المتن، فإنّ الظلامة المرفوعة إن كانت معلومة

______________________________

(1) في ص 52- 53.

(2) تقدم في ص 2.

(3) وسائل الشيعة: 18/ 410- 412، كتاب الحجر 2.

(4) القواعد الفقهيّة: 1/ 355 370.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 88

[الرابع: أن لا يكون أجنبيّا عن الدعوىٰ]

الرابع: أن لا يكون أجنبيّا عن الدعوىٰ، فلو ادّعى بدين شخص أجنبيّ على الآخر لم تسمع، فلا بدّ فيه من نحو تعلّق به كالولاية و الوكالة، أو كان المورد متعلّق حقّ له (1).

______________________________

للقاضي، فرفعها لا يرتبط بمسألة القضاء و المدّعي و المنكر، و إن كانت غير معلومة، كما يدلّ عليه استثناء صورة العلم من عدم جواز حلف الولي أو الوكيل، فمجرّد لزوم إحضار الولي دليل على عدم كونه مسلوب العبارة، كما لا يخفى.

و كيف كان فلم ينهض دليل قويّ على أنّه لا تسمع دعوى الصبيّ المميّز المراهق، خصوصاً إذا كان واجداً لبعض المزايا و المراتب أيضاً.

و هكذا

الحال بالإضافة إلى المجنون غير البالغ سلب العبارة بنظر العرف و العقلاء، فإنّه لا دليل فيه أيضاً إلّا الإجماع الذي ادّعاه بعض «1» و لا حجّية فيه.

هذا، و أمّا السفيه فإن لم يقع محجوراً عليه فتسمع دعواه مطلقاً بلا إشكال، و إن وقع محجوراً عليه فهو ممنوع من التصرّفات الماليّة فقط لا مطلقاً، فالشرط الثالث عبارة عن السفيه المحجور إذا استلزم التصرّفات الماليّة الممنوعة.

(1) الوجه في اعتبار هذا الشرط انصراف العمومات الدالّة علىٰ وجوب الفصل بين المتخاصمين، و الحكم بالقسط و العدل و الحقّ عن مثل ذلك، و في صورة الشكّ تجري الأُصول المشار إليها في الأمر المتقدّم. نعم يمكن المناقشة في الانصراف في سماع الدعاوي الحسبيّة في مثل ما إذا ادّعى شخص على ميّت له صغار بدين و لا جدّ لهم، و هو يعلم أنّه أوفاه و ذمّته بريئة و له بيّنة علىٰ ذلك، فإنّه لا وجه في مثل ذلك؛ لعدم سماع دعواه مع ثبوت البيّنة له،

______________________________

(1) رياض المسائل: 13/ 36.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 89

[الخامس: أن يكون للدعوى أثر لو حكم علىٰ طبقها]

الخامس: أن يكون للدعوى أثر لو حكم علىٰ طبقها، فلو ادّعى أنّ الأرض متحرّكة، و أنكرها الآخر لم تسمع، و من هذا الباب ما لو ادّعى الوقف عليه أو الهبة مع عدم التسالم علىٰ عدم القبض، أو الاختلاف في البيع و عدمه مع التسالم على بطلانه علىٰ فرض الوقوع، كمن ادّعى أنّه باع ربويّاً و أنكر الآخر أصل الوقوع، و من ذلك ما لو ادّعى أمراً محالًا، أو ادّعى أنّ هذا العنب الذي عند فلان من بستاني و ليس لي إلّا هذه الدعوى لم تسمع؛ لأنّه بعد ثبوته بالبيّنة لا يؤخذ

من الغير؛ لعدم ثبوت كونه له، و من هذا الباب لو ادّعى ما لا يصحّ تملّكه، كما لو ادّعى أنّ هذا الخنزير أو الخمر لي، فإنّه بعد الثبوت لا يحكم بردّه إليه إلّا فيما يكون له الأولويّة فيه، و من ذلك الدعوى علىٰ غير محصور، كمن ادّعى أنّ لي على واحد من أهل هذا البلد ديناً (1).

______________________________

خصوصاً إذا كان المدّعى بحيث لو أثبت دعواه و أخذ ما يدّعيه لا يمكن الاسترداد منه بوجه، فإنّ دعوى الانصراف في مثل ذلك ممنوعة جدّاً، و إن كان المتصدّي لهذا الأمر الحسبي لا نفع له في هذه الواقعة و لا ضرر بوجه، كما لا يخفىٰ.

(1) اعتبار هذا الأمر واضح، فإنّ ادّعاء تحرّك الأرض لا يترتّب عليه أثر علىٰ فرض الثبوت أصلًا، كما في الوقف أو الهبة أو البيع مع التسالم على البطلان علىٰ فرض الوقوع. نعم ربّما يقال باعتبار اللزوم بحيث يمكن إلزام المدّعى عليه به على فرض ثبوته، فإذا اختلفا في البيع الخياري لا تكون الدعوى مسموعة، لا لأنّ إنكاره رجوع كما قيل لأنّه ممنوع، بل لأنّ من لوازم الدعوى أن يكون المدّعى عليه ملزماً بما ثبت عليه بحيث يمكن إجباره عليه، و مع الجواز لا يكون كذلك.

و يرد عليه أنّ هذا الدليل مصادرة، و جواز الرجوع قد لا يتعلّق به الغرض، بل يجوز تعلّقه بعدم وقوع البيع أصلًا، و لم يرد في دليل اعتبار اللزوم حتى يقال كما عن

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 90

[السادس: أن يكون المدّعى به معلوماً بوجه]

السادس: أن يكون المدّعى به معلوماً بوجه، فلا تسمع دعوى المجهول المطلق، كأن ادّعى أنّ لي عنده شيئاً، للتردّد بين كونه ممّا تسمع فيه الدعوى

أم لا، و أمّا لو قال: «إنّ لي عنده فرساً أو دابّة أو ثوباً» فالظاهر أنّه تسمع، فبعد الحكم بثبوتها يطالب المدعى عليه بالتفسير، فإن فسّر و لم يصدّقه المدّعى فهو دعوى اخرىٰ، و إن لم يفسّر لجهالته مثلًا فإن كان المدّعى به بين أشياء محدودة يقرع على الأقوى،

______________________________

صاحب الجواهر: إنّ المراد من اللزوم ليس كونه بحيث لا يكون للمدّعى عليه الرجوع أو الفسخ، بل المراد استحقاق المدّعى بعد الإثبات «1».

و من ذلك ما لو ادّعى أمراً محالًا، سواء كان محالًا عادةً كالطيران إلى السماء، أو عقلًا كاجتماع النقيضين و ارتفاعهما، أو شرعاً كتملّك المسلم للخمر أو الخنزير.

و من ذلك أيضاً المثال المربوط بالعنب، فإنّ كونه من بستانه و عدم ادّعاء آخر معه لا يترتّب عليه أثر علىٰ فرض الثبوت، و لا يوجب أخذ العنب بعد كونه في يد الغير، و احتمال الانتقال إليه بأحد الطرق الشرعيّة كما لا يخفىٰ، و عدم ثبوت دعوى أزيد من هذا، و من هذا الباب أيضاً دعوى ملكيّة المسلم للخمر أو الخنزير و ماليّتهما له، و هو داخل في المحال الشرعي، و كان ينبغي له التقييد بالمسلم؛ و لذا ذكروا في باب الديات أنّ إتلافهما على الذمّي يوجب الغرامة، فتدبّر.

و من ذلك أيضاً الدعوىٰ على غير المحصورين، الذي لا يترتّب على احتماله عند العقلاء أثر، و أمّا ادّعاء الدين على المحصورين فسيأتي حكمهم.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 378.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 91

و إن أقرّ بالتلف و لم ينازعه الطّرف، فإن اتّفقا في القيمة و إلّا ففي الزيادة دعوى أُخرى مسموعة (1).

______________________________

(1) حكي عن الشيخ و أبي الصلاح و بني زهرة و حمزة

و إدريس «1»، و العلّامة في بعض كتبه، و كذا الشهيد الأوّل في الدروس «2» اعتبار أن يكون المدّعى به معلوماً بالجنس و النوع و الوصف و القدر، و أنّه لا تسمع الدعوىٰ في كلا الفرضين المذكورين في المتن.

و الظاهر أنّه لم يقم دليل عليه، خصوصاً بعد ما ذكروه في كتاب الإقرار: من أنّ الإقرار المتعلّق بالمجهول المطلق و المبهم كذلك يكون مسموعاً بمقتضىٰ قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، غاية الأمر أنّه يلزم المقرّ بالتفسير، و يقبل تفسيره إن لم يكن مخالفاً للعرف. و عليه فمقتضى القاعدة مسموعيّة الدعوى حتى في الفرض الأوّل الذي حكم ببطلانه في المتن، غاية الأمر أنّه علّل البطلان فيه بالتّردد بين ما تسمع و ما لا تسمع.

و يرد عليه أنّ التّردّد إن كان بلحاظ أنّه يمكن أن لا يكون الشي ء الذي ادّعى أنّ له عنده شيئاً مالًا، فيرد عليه عدم اعتبار الماليّة في المدّعى به، كعدم اعتبارها في المقرّ به، إن لم يكن الكلام ظاهراً فيها، و إن كان بلحاظ أنّه يمكن أن لا يكون ملكاً أيضاً، فمضافاً إلى أنّ لازمه المسموعيّة فيما إذا كان للكلام ظهور في الملكيّة، كما أنّها مقتضىٰ اللّام أحياناً. يرد عليه أنّه لا دليل على اعتبار الملكيّة أيضاً، و لا يدّعيها المدّعى، بل منشأ دعواه في بعض الموارد ثبوت حقّ الاختصاص له، و حينئذٍ

______________________________

(1) المبسوط: 3/ 4 و ج 8/ 156، الكافي في الفقه: 445، غنية النزوع: 444، الوسيلة: 216 217، السرائر:

2/ 177.

(2) تحرير الأحكام: 5/ 155، تذكرة الفقهاء: 2/ 151، الدروس الشرعيّة: 2/ 84.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 92

[السّابع: أن يكون للمدّعي طرف يدّعي عليه]

السّابع: أن يكون للمدّعي طرف يدّعي

عليه، فلو ادّعىٰ أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلًا لم تسمع، كما لو أراد إصدار حكم من فقيه يكون قاطعاً للدعوى المحتملة، فإنّ هذه الدعوى غير مسموعة، و لو حكم الحاكم بعد سماعها، فإن كان حكمه من قبيل الفتوىٰ، كأن حكم بصحّة الوقف الكذائي أو البيع الكذائي فلا أثر له في قطع المنازعة لو فرض وقوعها.

______________________________

فلم يعلم وجه للتردّد بين كونه ممّا لا تسمع دعواه أم لا، فالإنصاف أنّه لا دليل على البطلان في الفرض الأوّل.

و أمّا الفرض الثاني فهو أولىٰ بالصحّة لمعلوميّة المدّعىٰ به بوجه، و حينئذٍ فإن لم يكن الحكم بنفعه فبها، و إن كانت المحاكمة منتهية بنفعه و فصل الخصومة علىٰ طبق ما ادّعاه، فلا يثبت بالحكم في هذه الدعوى أزيد ممّا ادّعاه، بل بعد الحكم يطالب المدّعى عليه بالتفسير، فإن فسّر بما رضي به المدّعى فهو، و إلّا فهو دعوى اخرىٰ تحتاج إلى محاكمة جديدة، و إن لم يفسّر أصلًا لجهالته مثلًا، فإن كان المدّعى به مردّداً بين أشياء محدودة لا محيص إلّا عن القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل «1».

و في صورة الإقرار بالتلف و عدم منازعة الطرف، فإن تحقّق التوافق بالإضافة إلى القيمة التي تحقّق الانتقال إليها بعد التلف فبها، و إلّا فمع الاختلاف في الزيادة و النقيصة يكون القدر المتيقّن هو الأقلّ، و بالنسبة إلى الزيادة تكون هنا دعوى أُخرى مسموعة بوجود شرائط السّماع فيها، و هذا لا فرق بين أن يكون الملاك قيمة يوم التلف، أو يوم الأداء، أو أعلى القيم، كما لا يخفى.

______________________________

(1) انظر السرائر: 2/ 170 و 173 و ج 3/ 417.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص:

93

و إن كان من قبيل أنّ لفلان علىٰ فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما، فهذا ليس حكماً يترتّب عليه الفصل و حرمة النقض، بل من قبيل الشهادة. فإن رفع الأمر إلى قاضٍ آخر يسمع دعواه، و يكون ذلك الحاكم من قبيل أحد الشهود، و لو رفع الأمر إليه و بقي على علمه بالواقعة له الحكم علىٰ طبق علمه (1).

______________________________

(1) لا خفاء في أنّ رفع التنازع و فصل الخصومة يفتقر إلى أن يكون هنا شخصان متنازعان، فلو ادّعى أمراً من دون أن تكون على شخص ينازعه فعلًا فيها، لم تسمع كما في المثال المذكور في المتن، فإنّه لا يجب على الحاكم سماع هذه الدعوى. نعم لو حكم الحاكم بعد سماعها، فإن كان حكمه من قبيل الفتوى فلا أثر له في قطع المنازعة الآتية؛ لأنّه بالفعل لا يكون تنازع في المستقبل، و إن تحقّقت المنازعة فرضاً، إلّا أنّ صرف الفتوى التي هي بيان الحكم الكلّي و الكبرى التامّة لا يكفي في رفع المخاصمة المتحقّقة في القضايا الشخصيّة، و إن ذكرنا فيما سبق أنّه قد يكون منشأ الاختلاف بين المدّعى و المنكر اختلاف النظر فيمن يرجع إليه للتقليد «1»، و ذكرنا أيضاً أنّ الحاكم يقضي علىٰ طبق نظره و رايه «2»، إلّا أنّه لا إشكال في أن الفتوىٰ أمر و القضاء أمر آخر، و لا يكفي الأوّل لرفع الخصومة و الفصل، و عليه فمجرّد الفتوى لا أثر له في قطع المنازعة و المخاصمة، و إن قلنا بمقالة الشهيد في الدروس في تفسير القضاء و تعريفه من شموله للولاية على الحكم في المصالح العامّة أيضاً؛ كالحكم بثبوت الهلال علىٰ خلاف ما ذكرناه سابقاً «3».

______________________________

(1) في ص 13 و

58.

(2) في ص 58.

(3) في ص 9- 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 94

[الثامن: الجزم في الدّعوىٰ في الجملة]

الثامن: الجزم في الدّعوىٰ في الجملة، و التفصيل أنّه لا إشكال في سماع الدعوى إذا أوردها جزماً، و أمّا لو ادّعى ظنّاً أو احتمالًا ففي سماعها مطلقاً أو عدمه مطلقاً، أو التفصيل بين موارد التّهمة و عدمها بالسماع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعسّر الاطلاع عليه كالسرقة و غيره فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين ما يتعارف الخصومة به كما لو وجد الوصيّ أو الوارث سنداً أو دفتراً فيه ذلك، أو شهد به من لا يوثق به و بين غيره فتسمع في الأوّل، أو التفصيل بين موارد التّهمة و ما يتعارف الخصومة به، و بين غيرهما فتسمع فيهما وجوه، الأوجه الأخير، فحينئذٍ لو أقرّ المدّعى عليه أو قامت البيّنة فهو، و إن حلف المدّعى عليه سقطت الدعوى، و لو ردّ اليمين لا يجوز للمدّعي الحلف، فتتوقّف الدعوى. فلو ادّعى بعده جزماً أو عثر على بيّنة و رجع إلى الدعوىٰ تسمع منه (1).

______________________________

و إن كان حكمه من قبيل أنّ لفلان على فلان ديناً بعد عدم النزاع بينهما، فهذا لا يكون حكماً يترتّب عليه الفصل و حرمة النقض، بل هو من قبيل الشهادة، فإن رفع الأمر بعد تحقّق التنازع إلى قاضٍ آخر تسمع دعواه، و يكون حكم ذلك الحاكم من قبيل شهادة أحد الشاهدين، و إن رفع الأمر بعده إلىٰ نفسه، فإن كان عالماً بالواقعة فعلًا فله الحكم علىٰ طبق علمه، و إلّا يستأنف كما لا يخفىٰ.

(1) المشهور على اعتبار الجزم في الدعوى في سماعها مطلقاً، و أنّه لا تسمع الدعاوي الظنّية و الاحتماليّة أصلًا «1»،

و عن جماعة عدم اعتباره مطلقاً «2»، و عن

______________________________

(1) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 686.

(2) إيضاح الفوائد: 4/ 327 328، مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 124 126.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 95

بعض التفصيل بين الظنّية و الاحتماليّة بالسماع في الأوّل دون الثاني «1»، و هنا تفصيلات أُخر مذكورة في المتن، و بعضها غير مذكور فيه أيضاً.

و استدلّ للمشهور بأنّ المتبادر من الدعوى ما كان بنحو الجزم، و يدفعه منع ذلك، و يدلّ عليه التقسيم إلى الجزمي و غيره من الظنّي و الاحتمالي، و أجاب عنه السيّد في ملحقات العروة ثانياً بأنّه يكفي صدق المخاصمة و المنازعة، فيشمله ما عدا قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على المدّعى إلخ «2»، من العمومات كقوله (عليه السّلام): استخراج الحقوق بأربعة. إلخ «3»، «4».

و فيه: أنّ القول الأخير محكيّ في مرسلة يونس المضمرة عمّن رواه، قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعى، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه. الحديث.

و أنت خبير باشتمالها على عنواني المدّعى و المدّعى عليه، فالعمدة هو الجواب الأوّل.

و استدلّ لهم أيضاً بأنّ لازم السماع القضاء بالنكول، أو يمين المدّعى في صورة عدم الإقرار و البيّنة، و كلاهما مشكل؛ لعدم جواز أخذ المدّعى به مع عدم علمه

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 872، و قال في الروضة البهيّة: 3/ 80: بالسماع فيما يعسر عليه، و أورد جميع هذه الأقوال الشيخ الأنصاري في القضاء و الشهادات، (تراث الشيخ الأعظم): 171 172.

(2) الفقيه: 3/ 20 ح 52، و عنه وسائل

الشيعة: 27/ 234، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 3 ح 5.

(3) الكافي: 7/ 416 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 231 ح 562، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 241، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 7 ح 4 و ص 271 ب 15 ح 2.

(4) ملحقات العروة: 3/ 42.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 96

..........

______________________________

بالمدّعى به و إنكار المدّعى عليه، و احتمال كون نكوله عن الحلف للتعظيم و نحوه، و كذا عدم جواز حلف المدّعى بدون العلم.

و يرد عليه أنّ غايته أنّه لا يردّ اليمين على المدّعى مع عدم العلم و الجزم، و لكن لم يقم دليل على أنّ السّماع إنّما يتوقّف علىٰ جواز حلف المدّعى، فمن الممكن عدم الردّ في هذه الصّورة، كما سيأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

هذا و لكنّ الظاهر هو التفصيل الأخير الذي جعله الماتن (قدّس سرّه) أوجه الوجوه.

أمّا في موارد التهمة فلدلالة الأخبار الكثيرة على استحلاف الأمين مع التهمة، كقوله (عليه السّلام): لا يضمّن القصّار إلّا ما جنت يداه، و إن اتّهمته أحلفته «1». و غير ذلك من الروايات المتعدّدة. و موردها و إن كان صورة تحقّق اليد المقتضية للضمان، إلّا أنّه يستفاد منها جواز الإحلاف مع التهمة مطلقاً، و إن لم يكن هناك يد كبعض الدعاوي في المقام.

و أمّا الموارد التي يتعارف فيها الخصومة بغير الجزم أيضاً كالأمثلة المذكورة في المتن، فلصدق عنوان المخاصمة و التنازع بحسب نظر العرف و العقلاء، و لذا يكون المتعارف فيها الخصومة.

ثمّ إنّ السماع في الفرضين لا يوجب جواز الحلف للمدّعي في صورة ردّ المدّعى عليه، بل اللّازم إمّا القول بتوقّف الدعوى و انتظار تحقّق الجزم، أو حصول البيّنة

كما في الدعوى على الصّبيّ، الذي يبلغ لا محالة على فرض البقاء، و الغائب الذي يصير حاضراً نوعاً. و إمّا القول بعدم تماميّة الدعوى بحلف المدّعى، بل هي تتمّ

______________________________

(1) التهذيب: 7/ 221 ح 967، الاستبصار: 3/ 133 ح 481، الوسائل: 19/ 146، كتاب الإجارة ب 29 ح 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 97

[التاسع: تعيين المدّعى عليه]

التاسع: تعيين المدّعى عليه، فلو ادّعى على أحد الشخصين أو الأشخاص المحصورين لم تسمع علىٰ قول، و الظاهر سماعها؛ لعدم خلوّها عن الفائدة، لإمكان إقرار أحدهما لدى المخاصمة، بل لو أُقيمت البيّنة علىٰ كون أحدهما مديوناً مثلًا، فحكم الحاكم بأنّ الدين على أحدهما، فثبت بعد براءة أحدهما، يحكم بمديونيّة الآخر، بل لا يبعد بعد الحكم الرّجوع إلى القرعة، فيفرق بين ما علما أو علم أحدهما باشتغال ذمّة أحدهما، فلا تأثير فيه، و بين حكم الحاكم لفصل الخصومة فيقال بالاقراع (1).

______________________________

بنكول المنكر عن الحلف، و بطلان مقايسة المقام مع الدعوىٰ على الصغير و الغائب؛ لأنّ لهما أمداً يرتقب و ينتظر بخلاف المقام، فإنّه من الممكن عدم حصول الجزم و عدم تحقّق البيّنة، فالظاهر حينئذٍ التماميّة بنكول المنكر، كما ربّما يدلّ عليه الأخبار الواردة في استحلاف الأمين مع التهمة، فتدبّر.

(1) اعتبار هذا الشرط محلّ خلاف، فعن بعضهم الاعتبار نظراً إلى خلوّ الدعوى عن الفائدة؛ لأنّ إقامة البيّنة على أنّ أحد الشخصين أو الأشخاص المحصورين مديون للمدّعي مثلًا لا أثر لها، و كذا إقرارهما أو إقرار أحدهما بذلك، لكن استظهر في المتن السّماع، و حكي عن المحقّق في قصاص الشرائع ذلك، قال: و لو قال: قتله أحد هذين سمع، إذ لا ضرر في إحلافهما، و لو أقام

بيّنة سمعت لإثبات اللوث «1»، و تبعه جماعة منهم العلّامة في محكي القواعد بل قال: و كذا دعوى الغصب أو السرقة. و أمّا القرض و البيع و غيرهما من المعاملات فإشكال

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 217.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 98

..........

______________________________

ينشأ من تقصيره بالنسيان، و الأقرب السماع أيضاً «1». انتهىٰ.

و لعلّ الفرق بين القتل و الغصب و السّرقة و بين القرض و البيع و غيرهما من المعاملات هو أنّ الأفعال الأُولىٰ مضافاً إلى كونها فعل الغير، يكون صدورها في حال الخفاء و السرّ، بخلاف القرض و البيع و سائر المعاملات.

و كيف كان فالوجه في الاستظهار المذكور على ما أفاده هو عدم خلوّ الدعوى المزبورة عن الفائدة بعد عدم وجود نصّ في هذا الباب، و الوجه فيه إمكان إقرار أحدهما لدى المخاصمة، بل لو أقام المدّعى بيّنة، و حكم الحاكم علىٰ طبقها بأنّ أحدهما مديون مثلًا، و ثبت بعد براءة أحدهما، يحكم بأنّ الآخر معيّناً مديون، و يأخُذ الدين منه، بل لا يبعد بعد الحكم بأنّ أحدهما مديون مثلًا الرجوع إلى القرعة، و استخراج المديون بسببها؛ لأنّها لكلّ أمر مشكل أو مشتبه «2».

و عليه ففرق بين صورة العلم المذكورة في المتن و بين حكم الحاكم؛ لأنّه في الصورة الاولى لا أثر للعلم الإجمالي بعد كونه بين مكلّفين؛ لأنّ كلّ واحد منهما يجري أصالة البراءة بالإضافة إلى نفسه، و لا تكون أصالة البراءة في مكلّف معارضةً بأصالة البراءة في آخر؛ كواجدي المنيّ في الثوب المشترك بينهما مع علمهما بالارتباط بأحدهما.

و أمّا الحاكم فهو في مقام فصل الخصومة المتقوّمة باثنين و ما زاد عليه، فإذا حكم بأنّ أحد المدّعى عليهما مديون

بمقتضى الموازين الشرعيّة، فلا بأس له أن يخرج المديون الواقعيّ بسبب القرعة بعد ارتباط كليهما به علىٰ حدٍّ سواء، كما لا يخفى.

______________________________

(1) قواعد الأحكام: 3/ 611، و كذا الشهيد في المسالك: 15/ 169 170.

(2) انظر السرائر: 2/ 170 و 173 و ج 3/ 417.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 99

..........

______________________________

نعم في عكس المسألة و هو ما لو علم شخص بكونه مديوناً مثلًا لأحد الشخصين. ذكر السيّد في ملحقات العروة: بأنّه لا يجب عليه الاحتياط بدفع المقدار المعلوم إلى كلّ منهما؛ لأنّه ضرر علىٰ ذلك الشخص، بل يوزّعه عليهما أو يقرع بينهما «1».

و يرد عليه أنّ مجرّد الضرر لا يدفع وجوب الاحتياط، و التوزيع يستلزم العلم بعدم وصول مجموع الدين الواقعي إلى الدائن، فاللّازم إمّا الاحتياط و إمّا الرجوع إلى القرعة، فتدبّر، خصوصاً مع الاختلاف الذي أشرنا إليه «2» في مفاد قاعدة لا ضرر، و أنّ نظر الماتن (قدّس سرّه) إلى كونه حكماً حكوميّاً صادراً من مقام حكومة النّبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) لا حكماً شرعيّاً أوّليّاً أو ثانويّاً.

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 44.

(2) في ص 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 100

[مسألة 2: لا يشترط في سماع الدعوىٰ ذكر سبب استحقاقه]

مسألة 2: لا يشترط في سماع الدعوىٰ ذكر سبب استحقاقه، فتكفي الدعوى بنحو الإطلاق من غير ذكر السبب، سواء كان المدّعى به عيناً أو ديناً أو عقداً من العقود، نعم في دعوى القتل اشترط بعض لزوم بيان أنّه عن عمدٍ أو خطأ، بمباشرة أو تسبيب. كان هو قاتلًا أو مع الشركة (1).

______________________________

(1) هل يشترط في سماع الدعوىٰ ذكر سبب استحقاق المدّعى أو لا؟ فتكفي الدعوى بنحو الإطلاق من غير ذكر

السبب، فيه وجهان، الظاهر أنّه لا خلاف بيننا في عدم الاشتراط، و هذا لا فرق فيه بين أن يكون المدّعى به عيناً أو ديناً أو عقداً من العقود حتّى في عقد النكاح، نعم عن المبسوط دعوى الإجماع على الاشتراط في خصوص دعوى القتل، و أنّه لا بدّ فيه من بيان أنّه عن عمد أو خطأ، و أنّه بالمباشرة أو التسبيب، و كونه قاتلًا وحده أو بشركة الغير و نحو ذلك، و علّله بأنّ أمره شديد و فائته لا يستدرك و بالخلاف في أسبابه. و ذكر القلّة دليل على عدم الاعتماد على الإجماع، الذي يكون هو الناقل له «1».

و هنا أمران ذكرهما السيد (قدّس سرّه) في ملحقات العروة:

أحدهما: أنّ الأقوىٰ عدم الاشتراط، و كفاية الإجمال في السماع، نعم للحاكم أن يستفصل، و لو لم يعلم التفصيل لم تسمع.

ثانيهما: يمكن أن يقال: مقتضى النصوص الدالّة على أنّه لا يبطل دم امرئ

______________________________

(1) المبسوط: 7/ 232 و 238 و ج 8/ 260.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 101

..........

______________________________

مسلم «1» ثبوت الدّية في كلّي القتل بعد ثبوته «2».

و يرد على الأمر الأوّل أنّ مرجع عدم السماع فيما لو لم يعلم التفصيل بعد الاستفصال ثبوت الاشتراط المذكور لا نفيه.

و على الأمر الثاني أنّ نفس تلك النصوص لا تدلّ على أزيد من عدم بطلان دم امرئ مسلم، و أمّا أنّ عدم البطلان بما ذا، فالدليل قد ورد في أقسام القتل و أنواعه بنحو مختلف، ففي العمد يثبت القصاص، و في شبه العمد الدّية على القاتل، و في الخطأ على العاقلة بالنحو المذكور في كتاب الديات، و في صورة الانفراد أمر و الاشتراك أمر آخر.

و لا

يمكن الرّجوع إلى دليل عدم البطلان، و إن فرضنا أنّ مفاده الدية في عموم أقسام القتل و أنواعه، فلا شبهة في التخصيص، و يكون التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة للمخصّص غير جائز على ما بيّناه في محلّه من بحث العام و الخاصّ من علم الأُصول. «3»

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 234، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 3 ح 3 و ص 350، كتاب الشهادات ب 24 ح 1، و ج 29/ 72، كتاب القصاص في النفس ب 29 ح 1 و ص 138، أبواب دعوى القتل ب 2 ح 1.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 49.

(3) سيرى كامل در اصول فقه: 8/ 143 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 102

[مسألة 3: لو لم يكن جازماً فأراد الدعوى على الغير لا بدّ أن يبرزها بنحو ما يكون من الظّن أو الاحتمال]

مسألة 3: لو لم يكن جازماً فأراد الدعوى على الغير لا بدّ أن يبرزها بنحو ما يكون من الظّن أو الاحتمال، و لا يجوز إبرازها بنحو الجزم ليقبل دعواه، بناءً علىٰ عدم السّماع من غير الجازم (1).

______________________________

(1) لا شبهة في أنّه لا يجوز إبراز الدعوى بصورة الجزم فيما لو لم يكن جازماً، بل كان ظانّاً أو محتملًا؛ لتقبل دعواه بناءً على عدم السماع من غير الجازم، و كون الجزم من شروط سماع الدعوىٰ كما تقدّم بحثه.

و أمّا في عكس المسألة بأن كان جازماً واقعاً، و أراد أن يبرز الدعوى بصورة الظنّ و الاحتمال بناءً على السماع في بعض الموارد، مثل التهمة بناءً على عدم ثبوت ردّ الحلف فيه، كما لعلّه يظهر من الأخبار الواردة في تهمة الأمين، الذي لا يكون ضامناً في غير صورتي التعدّي و التفريط، كالقصّار و الصائغ و نحوهما «1»، نعم في صورة التهمة يجوز

إحلافه.

الظاهر الجواز؛ لأنّه تنزّل عن الواقعيّة و فيه غرض عقلائيّ؛ لأنّ فيه التخلّص من الحلف، و هذا بخلاف أصل المسألة فتأمّل، لأنّ فيه إشكالًا أيضاً باعتبار كونه خلاف الواقع.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 19/ 141 148، كتاب الإجارة ب 29 و 30.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 103

[مسألة 4: لو ادّعى اثنان مثلًا بأنّ لأحدهما على أحد كذا تسمع]

مسألة 4: لو ادّعى اثنان مثلًا بأنّ لأحدهما على أحد كذا تسمع، و بعد الإثبات علىٰ وجه الترديد يقرع بينهما (1).

______________________________

(1) كما أنّه لا يشترط في سماع الدعوىٰ أن يكون المدّعى عليه متعيّناً، كذلك لا يشترط في سماعها تعيّن المدّعى، فلو ادّعى اثنان مثلًا بأنّ لأحدهما على أحد معيّن كذا، لا وجه لعدم السماع. فلو أقاما بيّنة مطابقة لدعواهما بأن شهدت البيّنة بأنّ لأحدهما على المدّعى عليه كذا، و حكم الحاكم علىٰ طبقها يثبت الحقّ علىٰ وجه الترديد، و القرعة طريق التعيين، كما في سائر الموارد التي يكون الحقّ معلوماً و ذو الحقّ معلوماً بالإجمال، أو يقتسمان علىٰ وجه الصلح القهري، كما احتمله السيّد في الملحقات «1»، نظراً إلى ما ورد في درهم الودعي «2»، و لكن التعدّي عن مورده بلحاظ كون الحكم علىٰ خلاف القاعدة مشكل.

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 45.

(2) وسائل الشيعة: 17/ 272- 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83، و ج 18/ 450- 452، كتاب الصلح ب 9- 12، و قد تقدّم في تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الخمس: 176 و غيره، و يأتي هنا في ص 355- 356.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 104

[مسألة 5: لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه]

مسألة 5: لا يشترط في سماع الدعوى حضور المدّعى عليه في بلد الدعوى، فلو ادّعى على الغائب من البلد سواء كان مسافراً أو كان من بلد آخر قريباً كان أو بعيداً تسمع، فإذا أقام البيّنة حكم القاضي على الغائب و يردّ عليه ما ادّعى إذا كان عيناً، و يباع من مال الغائب و يؤدّى دينه إذا كان ديناً، و لا يدفع إليه إلّا مع الأمن من

تضرّر المدّعى عليه لو حضر، و قضى له بأن كان المدّعى مليّاً أو كان له كفيلٌ، و هل يجوز الحكم لو كان غائباً و أمكن إحضاره بسهولة، أو كان في البلد و تعذّر حضوره بدون إعلامه؟ فيه تأمّل. و لا فرق في سماع الدعوى على الغائب بين أن يدّعي المدّعى جحود المدّعى عليه و عدمه، نعم لو قال: «إنّه مقرّ و لا مخاصمة بيننا» فالظاهر عدم سماع دعواه و عدم الحكم، و الأحوط عدم الحكم على الغائب إلّا بضم اليمين، ثمّ إنّ الغائب على حجّته، فإذا حضر و أراد جرح الشهود أو إقامة بيّنة معارضة يقبل منه لو قلنا بسماع بيّنته (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة يقع الكلام في مقامات:

المقام الأوّل: في أصل القضاء على الغائب في الجملة، و مرجعه إلىٰ عدم شرطيّة حضور المدّعى عليه في سماع الدعوى، و الدليل عليه مضافاً إلى أنّه لا إشكال و لا خلاف فيه بيننا، بل كما في الجواهر الإجماع بقسميه عليه «1»- عدّة من الروايات:

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 220.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 105

..........

______________________________

منها: رواية جميل بن درّاج، عن جماعة من أصحابنا، عنهما (عليهما السّلام) قالا: الغائب يقضى عليه، إذا قامت عليه البيّنة و يباع ماله، و يقضى عنه دينه و هو غائب، و يكون الغائب على حجّته إذا قدم، قال: و لا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة إلّا بكفلاء، و روى جميل بن دراج، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) نحوه و زاد: إذا لم يكن ملّياً «1».

و التعبير عن الرواية بالمرسلة ليس على ما ينبغي، خصوصاً مع ملاحظة الطريق الثاني.

و منها: رواية زرارة، عن أبي

جعفر (عليه السّلام) قال: كان عليّ (عليه السّلام) يقول: لا يحبس في السّجن إلّا ثلاثة: الغاصب، و مَن أكل مال اليتيم ظلماً، و مَن ائتمن على أمانة فذهب بها، و إن وجدَ له شيئاً باعه، غائباً كان أو شاهداً «2».

و هنا: بعض الروايات الأُخر من غير طرقنا، مثل ما عن أبي موسى الأشعري، قال: كان النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) إذا حضر عنده خصمان فتواعدا الموعد، فوفى أحدهما و لم يف الآخر، قضى للذي وفى على الذي لم يفِ أي مع البيّنة «3».

و ما روي من أنّ هنداً زوجة أبي سفيان بعد ما ادّعت أنّ أبا سفيان رجل شحيح، و أنّه لا يعطيها ما يكفيها و ولدها، قال لها النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله): خذي ما يكفيك

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 296 ح 827 و 828 و ص 191 ح 413، الكافي: 5/ 102 ح 2، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 294، كتاب القضاء أبواب كيفيّة الحكم ب 26 ح 1.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 299 ح 836، الاستبصار: 3/ 47 ح 154، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 248، كتاب القضاء أبواب كيفيّة الحكم ب 11 ح 2 و ص 295 ب 26 ح 2.

(3) كنز العمال: 5/ 849 ح 14539.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 106

..........

______________________________

و بنيك بالمعروف «1». و إن أورد على الأخير السيّد في الملحقات: بأنّه لا يكون من باب بيان الحكم بل بيان الفتوى، مع أن غيبة أبي سفيان من البلد غير معلومة «2».

هذا، و في مقابل الروايات المتقدّمة ما رواه في قرب الاسناد عن السندي بن محمّد، عن أبي البختري، عن جعفر، عن

أبيه، عن عليّ (عليه السّلام) قال: لا يقضى على غائب «3».

و لكنّها مضافاً إلى إمكان حملها علىٰ صورة عدم جزم المدّعى، و كون الجزم شرطاً في سماع الدعوى، و إلى احتمال كون المراد بالقضاء القضاء الذي لا يتعقّبه كون الغائب على حجته إذا قدم، و إلى بعض الاحتمالات الأُخر، مثل كون المراد الغائب عن مجلس المرافعة، يكون على تقدير التعارض الترجيح مع الطائفة الأُولى للشهرة الفتوائيّة، التي هي أوّل المرجّحات علىٰ ما قلناه «4».

المقام الثاني: الظاهر أنّ المراد بالغائب في النصّ و الفتوىٰ هو الغائب عن البلد، سواء كان قد سافر عن البلد إلىٰ غيره بالسّفر الشرعيّ المشتمل على المسافة أو بغيره، أو كان في خارج البلد، سواء كان بعيداً أم قريباً، و يدلّ عليه مع أنّ الغائب قد يطلق و يراد به الغائب عن صلاحيّة الرؤية كالله تبارك و تعالى، و قد يطلق و يراد به الغائب عن الأنظار العرفيّة كالإمام الغائب

______________________________

(1) صحيح البخاري: 6/ 237 ح 5364 و ج 8/ 147 ح 7180، صحيح مسلم: 3/ 1079 ح 1714، السنن الكبرى للبيهقي: 11/: 475 ح 16117 و ص 492 ح 16160، و ج 15/ 148 ح 21075.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 46.

(3) قرب الإسناد: 141 ح 508، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 296، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 26 ح 4.

(4) سيرى كامل در اصول فقه: 16/ 532- 555.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 107

..........

______________________________

عجّل اللّٰه تعالى فرجه الشريف، و قد يطلق و يراد به الغائب عن مجلس المرافعة و المحاكمة، كما يستفاد من ذيل رواية جميل، و هو قوله (عليه السّلام): «يكون الغائب علىٰ

حجّته إذا قدم» كما مرّ.

مع أنّ الظاهر إمكان تحقّق هذا العنوان مع قطع النظر عن المنازعة و فصل الخصومة، خصوصاً مع أنّ المعروف هو كون التصرّف في أُمور المغيب و المقصّر من الأُمور الحسبيّة، و عليه فإذا كان المدّعى عليه في البلد، و لكن كان غائباً عن مجلس المرافعة لا يصدق عليه الغائب، و لا تشمله الرواية إلّا بإلغاء الخصوصيّة، و هذا لا فرق فيه بين صورتي تعذّر الحضور و عدمه، و الإعلام و عدمه. نعم في الغائب عن البلد إذا أمكن إحضاره بسهولة ربّما يشكل في الحكم عليه كما في المتن، و الظاهر أنّ وجهه احتمال انصراف النصّ و الفتوى عنه علىٰ تأمّل، لا لعدم شمول العنوان له.

نعم يمكن أن يقال بعدم تماميّة الإطلاق في الرّواية؛ لعدم كونها في مقام البيان، و لا تكون مقدّمات الحكمة فيها مجتمعة، فلا يجوز التمسّك بإطلاقها. و يدفعه أنّ التعرّض لجمع من خصوصيّات المسألة دليل على كونها في مقام البيان، و لا يكاد ينقضي تعجّبي ممّن يتمسّك بالإطلاق تارةً و بالقدر المتيقّن اخرىٰ.

المقام الثالث: في أنّ المدّعى قد يدّعي جحود المدّعى عليه الغائب، و قد يقول بأنّه لا يعلم جحوده و عدمه، و قد يقول: إنّه مقرّ و لا مخاصمة بيننا. لا إشكال في سماع دعواه في الصورة الأُولىٰ، كما أنّه لا ينبغي الإشكال في السماع في الصورة الثانية.

و أمّا الصورة الثالثة فقد استظهر في المتن عدم سماع دعواه، و عدم الحكم على

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 108

..........

______________________________

الغائب، و هو مبنيّ على ما أفاده في تعريف القضاء من أنّه فصل الخصومة و رفع التنازع، فإنّه مع الاعتراف بعدم المخاصمة كيف

تفصل الخصومة، مع أنّه يمكن أن يقال: بأنّ الحكم بالحقّ أو بالعدل أو بالقسط المأمور به المدلول عليه بالآيات الشريفة لا يختصّ بصورة المخاصمة، فإنّه يمكن أن يتضرّر المدّعى من تأخير وصول حقّه إليه، أو عدم الوصول فيما إذا لم يجِئ الغائب أو مات في السّفر مثلًا، و في هذه الصورة لا محيص عن الحكم، و إن لم يكن المدّعى عليه جاحداً أصلًا.

المقام الرابع: في أنّه جعل في المتن مقتضى الاحتياط اللزومي ضمّ اليمين إلى البيّنة كما عليه المشهور «1»، و الظاهر ابتناؤه على لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة في الدعوى على الميّت، التي سيأتي البحث عنها «2»؛ نظراً إلى إلغاء الخصوصيّة و تنقيح المناط، و هو محلّ تأمّل و كلام.

المقام الخامس: في اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس و عدمه، و قد تعرّض له الماتن (قدّس سرّه) في المسألة الآتية.

______________________________

(1) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 698.

(2) في ص 196- 200.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 109

[مسألة 6: الظاهر اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس]

مسألة 6: الظاهر اختصاص جواز الحكم على الغائب بحقوق الناس، فلا يجوز الحكم عليه في حقوق اللّٰه تعالى مثل الزّنا، و لو كان في جناية حقوق الناس و حقوق اللّٰه كما في السّرقة، فإنّ فيها القطع و هو من حقوق اللّٰه و أخذ المال و ردّه إلى صاحبه و هو من حقوق الناس، جاز الحكم في حقوق الناس دون حقوق اللّٰه، فلو أقام المدّعى البيّنة حكم الحاكم، و يؤخذ المال علىٰ ما تقدّم (1).

______________________________

(1) الدليل على الاختصاص المذكور في المتن، مضافاً إلى أنّ الظاهر أنّه لا خلاف فيه قاعدة «درء الحدود بالشبهات» و بناؤها على التخفيف، كما يدلّ عليه

مرسلة الصدوق المعتبرة عن رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) «1». نعم لو كانت الجناية المدّعاة ممّا اشترك فيه حقّ الناس و حقّ اللّٰه كما في السّرقة، حيث إنّ فيها القطع و هو من حقوق اللّٰه و أخذ المال و ردّه إلىٰ صاحبه و هو من حقوق الناس، فإنّه لا إشكال في جواز الحكم في حقوق الناس، و يترتّب عليه أخذ المال من السارق و ردّه إلى المسروق منه، و أمّا بالإضافة إلى القطع، فقد تردّد فيه المحقّق في الشرائع «2»؛ نظراً إلى أنّهما معلولان لعلّة واحدة، و لا وجه لتبعيض مقتضاها، و لكن هذه الأُمور بالنسبة إلى العلل التكوينيّة، فإنّه إذا كان هناك معلولان لعلّة واحدة لا يمكن التفكيك و التبعيض. و أمّا في الأُمور الشرعيّة الاعتباريّة فلا مانع من التبعيض أصلًا بعد قيام الدليل الشرعي عليه.

______________________________

(1) الفقيه: 4/ 53 ح 90، و عنه وسائل الشيعة 28: 47، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود ب 24 ح 4.

و تأتي في ص 174 و 272.

(2) شرايع الإسلام: 4/ 86.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 110

[مسألة 7: لو تمّت الدعوى من المدّعى]

مسألة 7: لو تمّت الدعوى من المدّعى، فإن التمس من الحاكم إحضار المدّعى عليه أحضره، و لا يجوز التأخير غير المتعارف. و مع عدم التماسه و عدم قرينة على إرادته فالظاهر توقّفها إلى أن يطلبه (1).

______________________________

(1) لو تمّت الدعوى من المدّعى، و كانت جامعة لشروط السماع، فإن التمس أو كانت هناك قرينة على إرادته إحضار المدّعى عليه، يجب على الحاكم إحضاره للحكم و رفع التنازع؛ لئلّا يلزم التضرّر بالتأخير الزائد، و لكن لا بدّ من تقييد إطلاق هذا الكلام بما إذا لم يكن في

إحضار المدّعى عليه وهن و تنقيص من جهة الموقعيّة و الحيثيّة، و إلّا فاللّازم ملاحظة أنّ دعواه هل تكون بحيث كان الحكم بنفعه أم لا فتأمّل.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 111

[فصل في جواب المدّعىٰ عليه]

اشارة

فصل في جواب المدّعى عليه المدّعى عليه إمّا أن يسكت عن الجواب أو يقرّ أو ينكر أو يقول: «لا أدري» أو يقول: «أدّيت»، و نحو ذلك ممّا هو تكذيب للمدّعي (1).

[القول في الجواب بالإقرار]

اشارة

القول في الجواب بالإقرار

[مسألة 1: إذا أقرّ المدّعى عليه بالحقّ عيناً أو ديناً]

مسألة 1: إذا أقرّ المدّعى عليه بالحقّ عيناً أو ديناً، و كان جامعاً لشرائط الإقرار و حكم الحاكم ألزمه به، و انفصلت الخصومة، و يترتّب عليه لوازم الحكم كعدم جواز نقضه، و عدم جواز رفعه إلى حاكم آخر، و عدم جواز سماع الحاكم دعواه و غير ذلك.

______________________________

(1) في كون السكوت جواباً مسامحة واضحة بعد كونه سكوتاً عن الجواب، و المراد معاملة المدّعى عليه في قبال ادّعاء المدّعى، كما أنّ المفعول في مثل قوله: أدّيت هو الحقّ عيناً أو ديناً، فيشمل كلتا الصورتين.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 112

و لو أقرّ و لم يحكم فهو مأخوذ بإقراره، فلا يجوز لأحد التصرّف فيما عنده إذا أقرّ به إلّا بإذن المقرّ له، و جاز لغيره إلزامه، بل وجب من باب الأمر بالمعروف. و كذا الحال لو قامت البيّنة علىٰ حقّه من جواز ترتيب الأثر على البيّنة، و عدم جواز التصرّف إلّا بإذن من قامت علىٰ حقّه، نعم في جواز إلزامه أو وجوبه مع قيام البيّنة من باب الأمر بالمعروف إشكال؛ لاحتمال أن لا يكون الحقّ عنده ثابتاً، و لم تكن البيّنة عنده عادلة، و معه لا يجوز أمره و نهيه، بخلاف الثبوت بالإقرار (1).

______________________________

(1) إذا أقرّ المدّعى عليه بالحقّ الذي ادّعاه المدّعى عيناً أو ديناً، و كان جامعاً لشرائط الإقرار المذكورة في كتاب الإقرار «1»، و في قاعدة إقرار العقلاء على أنفسهم جائز، التي هي من القواعد الفقهيّة المبحوث عنها في محالّها «2»، فتارةً يحكم الحاكم على طبقه و أُخرى لا يحكم.

ففي صورة الحكم علىٰ طبق الإقرار بناءً على القول بعدم اختصاص الحكم الذي هو إنشاء من القاضي

لرفع التنازع و فصل الخصومة، كما سيأتي «3» بغير صورة الإقرار بناءً على اختصاصه بصورة وجود المخاصمة، و مع الإقرار بدعوى المدّعى لا مخاصمة، كما عرفت «4» في الحكم على الغائب يُلزم الحاكم المقَرّ بما أقرّ به و انفصلت الخصومة، و يترتّب عليه لوازم الحكم كعدم جواز نقضه، و عدم جواز رفعه إلى حاكم آخر، و عدم جواز سماع حاكم آخر دعواه على تقدير الرفع، و غير

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الإقرار: 447- 466.

(2) القواعد الفقهيّة للمؤلّف دام ظلّه: 1/ 65- 83.

(3) في ص 119.

(4) في ص 107- 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 113

..........

______________________________

ذلك من لوازم الحكم.

و كيف كان لا فرق في صورة الحكم بين ما لو كان المنشأ هو البيّنة أو الإقرار أو غيرهما، فإذا تحقّق إنشاء الحكم يترتّب عليه جميع آثاره.

و في صورة عدم الحكم فقد ذكر الماتن (قدّس سرّه) أنّه لا فرق بين الإقرار و البيّنة من جهة، و فرق بينهما من جهة اخرىٰ.

أمّا الجهة الأُولىٰ: فهي أنّ المقرّ مأخوذ بإقراره، فلا يجوز لأحد بعد الإقرار التصرّف في مال المقرّ، الذي أقرّ له به إلّا مع إذنه و إجازته؛ لأنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه، و هو لا يكون جائزاً، كما أنّه مع قيام البيّنة يكون الحال هكذا، فلا يجوز لأحد التصرّف في المال الّذي قامت البيّنة على كونه للمدّعي بدون إذنه، و إن لم يتحقّق حكم الحاكم أصلًا.

و أمّا الجهة الثانية: فهي أنّه يجوز بل يجب في صورة الإقرار منع الغير عن التصرّف بدون الإذن؛ لأنّه من مصاديق النهي عن المنكر. و أمّا في صورة البيّنة، فقد استشكل في

الجواز أو الوجوب في المتن، نظراً إلى أنّه يمكن أن لا يكون الحقّ ثابتاً عنده، أو لم تكن البيّنة عنده عادلة معتبرة، و حكي عن المسالك في مقام الفرق بين البيّنة و الإقرار: أنّ البيّنة منوطة باجتهاد الحاكم في قبولها و ردّها و هو غير معلوم بخلاف الإقرار «1».

و أورد عليه السيّد الطباطبائي بأنّه لا فرق بينهما لا من جهة فصل الخصومة و صحّة حكم الحاكم علىٰ طبق أحدهما، و لا من جهة ثبوت الحقّ و عدمه، و جواز المطالبة و الإلزام و عدمه بناءً علىٰ عموم حجّية البيّنة.

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 13/ 442.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 114

..........

______________________________

نعم على القول الآخر و هو عدم حجّية البيّنة إلّا للحاكم يكون الفرق بينهما ثابتاً، ضرورة أنّه علىٰ هذا القول لا يثبت الحقّ إلّا بعد حكمه يعني إذا كان منشؤه البيّنة، ثمّ قال ما ملخّصه: أنّه يمكن الفرق على القول بالعموم أيضاً، نظراً إلى أنّ تحقّق الإقرار لا يحتاج إلىٰ مئونة و اجتهاد غالباً، فإنّ حجّيته معلومة، و الشرح لا يكون له تأسيس في ذلك، و دلالة الألفاظ على الإقرار واضحة غالباً بخلاف البيّنة في كلتا الجهتين، و يمكن أن يكون نظر صاحب المسالك في الفرق إلى الغالب «1».

أقول: الظاهر أنّ النزاع في عموميّة حجّية البيّنة و عدمها، فيما إذا لم تكن البيّنة قائمة على أمر يتعلّق بعموم المكلّفين، كما إذا قامت البيّنة علىٰ نجاسة مائع خارجيّ مخصوص، فإنّه لا شبهة في حجّيتها بالإضافة إلى عموم من قامت عنده و لا اختصاص لها بما إذا كان في حضور الحاكم، مثاله: ما إذا كانت البيّنة قائمة على أنّ الدار مثلًا التي في

يد عمرو المدعى عليه لزيد المدّعى، فإنّه في مثله وقع الكلام في حجّيته المطلقة و عدمها؛ لأنّ البيّنة حينئذٍ لا ترتبط بالعموم؛ لأنّ أمر الدار مردّد بين أن يكون لزيد أو عمرو، و لا ارتباط له بشخص ثالث، و التحقيق في محلّه «2».

و كيف كان فمع كون المفروض قيام البيّنة و حضور الحاكم في المقام لا يكون فرق بين الإقرار و البيّنة، كما أفاده السيّد (قدّس سرّه).

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 48- 49.

(2) القواعد الفقهيّة، للمؤلف دام ظلّه: 1/ 493- 494.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 115

[مسألة 2: بعد إقرار المدّعى عليه ليس للحاكم على الظاهر الحكم إلّا بعد طلب المدّعى]

مسألة 2: بعد إقرار المدّعى عليه ليس للحاكم على الظاهر الحكم إلّا بعد طلب المدّعى، فإذا طلب منه يجب عليه الحكم فيما يتوقّف استيفاء حقّه عليه على الأقوى، و مع عدم التوقّف على الأحوط بل لا يخلو من وجه، و إذا لم يطلب منه الحكم أو طلب عدمه فحكم الحاكم، ففي فصل الخصومة به تردّد (1).

______________________________

(1) في مفروض المسألة أربع صور:

الاولىٰ: ما إذا طلب المدّعى بعد إقرار المدّعى عليه من الحاكم الحكم، و يكون استيفاء حقّه منه متوقّفاً عليه، و بدونه لا يصل إلى حقّه الثابت بالإقرار كما هو المفروض، و في هذه الصورة يجب على الحاكم الحكم؛ لأن يصل إلى حقّه كما هي حكمة جعل القضاء، الذي هو على خلاف الأصل.

الثانية: الصورة المفروضة مع عدم كون استيفاء حقّه من المدّعى عليه متوقّفاً على حكم الحاكم، و قد احتاط في المتن وجوباً بالحكم، بل نفى خلوّه عن وجه، و الوجه فيه: أنّه و إن كان أصل الحق ثابتاً بالإقرار، و الاستيفاء غير متوقّف على الحكم، إلّا أنّه حيث كان المدّعى مطالباً له،

و فصل الخصومة الذي تترتّب عليه الأحكام المذكورة المتقدّمة لا يحصل إلّا به، يجب عليه ذلك، خصوصاً فيما إذا احتمل المدّعى رجوع المدّعى عليه عن إقراره، و الرجوع إلى حاكم آخر، و ربّما تكون نتيجة الحكم عائدة إلى المدّعى عليه، ففي هذه الصورة أيضاً يجب الحكم على الحاكم.

الثالثة و الرابعة: صورتا عدم الطلب أو طلب العدم، و في هاتين الصورتين هل يجب على الحاكم الحكم؟ و هل يتحقّق فصل الخصومة؟

فقد تردّد فيه الماتن (قدّس سرّه)، و منشؤه ما حكي عن الشيخ في المبسوط من أنّه لا يجوز؛

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 116

..........

______________________________

لأنّه حقّ له، فلا يستوفي إلّا بمسألته «1»، و قد نسبه المحقّق في الشرائع إلى القول «2» مشعراً بتمريضه.

و يرد عليه أنّه لم يعلم المراد بمرجع الضمير في قوله: «لأنّه حقّ له»، فإنّه إن كان المراد أنّ الحكم حقّ له فلا يستوفي إلّا بمساءلته. فيرد عليه أن هذا أوّل الكلام. و التعليل بما هو مصادرة غير جائز، فإنّه لم يعلم كون الحكم حقّا له و متوقّفاً على إذنه، و إن كان المراد أنّ المدّعى به حقّ له، ففيه: أنّه و إن كان كذلك في صورة الإقرار بمقتضى قاعدته، إلّا أنّ الظاهر عموميّة البحث، و التوقّف على الإذن في غير صورة الإقرار أيضاً، و فيه لا يكون المدّعى محقّاً دائماً، فإنّ الحكم قد يكون بنفعه و قد يكون بنفع المدّعى عليه.

و التحقيق عدم التوقّف مطلقاً، خصوصاً مع ملاحظة أنّ المدّعى إذا رأى أنّ طريقة المحاكمة منتهية إلى ضرره، لا يطلب من الحاكم الحكم قاعدةً. فالإنصاف أنّ المتخاصمين بعد ترافعهما إلى الحاكم بالاختيار و الإرادة و الرغبة و الرّضا

تكون سائر المسائل مرتبطة بالحاكم، كالسؤال من المدّعى عليه و كالحكم، و يكون المقام من قبيل موارد التخيير البدوي، الذي ليس الاختيار محفوظاً بعد اختيار أحد الطرفين أو الأطراف، كما لا يخفى.

نعم بعد الورود و الترافع و الحضور إذا رفعا يداً معاً أو خصوص المدّعى عن الدعوى لا يبقىٰ مجال للحكم أصلًا.

تنبيه مهمّ: و هو أنّ جعل الجواب بالإقرار أحد أقسام الجواب، و الحكم على

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 157 158.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 83.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 117

..........

______________________________

طبقه على المقرّ للمقرّ له أي المدّعى ليس على ما ينبغي؛ لأنّ المستند في ذلك على ما عرفت هو قاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، و هذه القاعدة إنّما يكون أثرها بالمقدار الذي يكون بضرر المقرّ، و أمّا من الحيثيّة الراجعة إلىٰ نفع المقرّ له فلا دلالة للقاعدة عليه.

و بالجملة: إقرار المقرّ بنفع المدّعى له حيثيّتان:

حيثيّة سلبيّة راجعة إلىٰ عدم كون المقرّ به للمقرّ، و هي مدلول الإقرار الالتزامي.

و حيثيّة إيجابيّة راجعة إلىٰ كونه للمقرّ له و هو المدلول المطابقي، و قاعدة الإقرار إنّما تكون جائزة من الحيثيّة الاولىٰ لا من الحيثيّتين، و يؤيّده أنّ المقرّ ربّما لا يكون عادلًا، و علىٰ تقديره لا يكون أزيد من واحد حتّى يتحقّق عنوان البيّنة المتقوّم بالعدالة و التعدّد، و يؤيّده أيضاً أنّه ربّما يكون في الواقع التباني بين المقرّ و المقرّ له مع عدم كون المستحقّ واحداً منهما، كما إذا أقرّ مستأجر الدار مثلًا بملكيّة زيد لها مع كون المالك هو عمراً، و عليه فكيف يتحقّق فصل الخصومة من الحاكم بنفع المقرّ له بمجرّد إقرار المقرّ المدّعى عليه و ما يكون مستنده

في ذلك؟

و قد أشار إلى ما ذكرنا المحقّق العراقي (قدّس سرّه) في رسالته في القضاء، حيث قال في العين في مقابل الدين-: أيضاً يحكم بملكيّتها للمقرّ له، لكن لا من جهة إقراره، حيث إنّه لا يكون نافذاً إلّا في نفي ملكيّة المال عن نفسه، بل إنّما هو بملاك اقتضاء اليد نفي ملكيّته لغير المقرّ له أيضاً؛ و لذا يصير المقرّ له في دعوى غيره عليه بمنزلة ذي اليد، فيقدّم قوله بيمينه، و لكن في كون أمثال هذا مناطاً للفصل إشكال، بل ما هو مناط الفصل هو إقراره بما اقتضت حجّيته، و هو نفي ملكيّته عن نفسه لا ملكيّته لغيره.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 118

..........

______________________________

و من هذه الجهة نقول: إنّ حكم الحاكم في مثل هذه الصورة لا يقتضي إلّا فصل الخصومة بينهما بحيث لا تسمع الدعوى من المقرّ، و لا يقتضي عدم سماعه من مدّع آخر، و ذلك أقوى شاهد علىٰ أنّ محطّ حكم الحاكم في مقام الفصل ليس هو الملكيّة للمقرّ له، كيف و لازمه حرمة ردّه بالنسبة إلىٰ كلّ أحد، و لازمه عدم سماع الدعوى حتّى من غير المقرّ، و عدم اختصاص الفصل المنتزع عن حرمة الردّ بالمقرّ وحده، و هو كما ترى لم يلتزم به أحد «1». انتهىٰ موضع الحاجة.

أقول: الظاهر أنّ جواز أخذ المقرّ به للمقرّ له إنّما هو في صورة كونه عالماً جازماً بأنّ المال له، و أمّا في صورة عدم العلم و الجزم فيشكل الجواز بالإضافة إليه أيضاً؛ لأنّ قاعدة الإقرار لا تدلّ على ذلك، و شهادة الواحد و لو كان عادلًا غير مؤثّرة، فلا يجوز له الأخذ بمجرّد الإقرار، بل يكون أمانة

عند الحاكم حتّى يظهر صاحبها، كما لا يخفى.

______________________________

(1) كتاب القضاء للمحقق العراقي: 73- 74.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 119

[مسألة 3: الحكم إنشاء ثبوت شي ء أو ثبوت شي ء علىٰ ذمّة شخص أو الإلزام بشي ء و نحو ذلك]

مسألة 3: الحكم إنشاء ثبوت شي ء أو ثبوت شي ء علىٰ ذمّة شخص أو الإلزام بشي ء و نحو ذلك، و لا يعتبر فيه لفظ خاصّ، بل اللّازم الإنشاء بكلّ ما دلّ على المقصود، كأن يقول: قضيت أو حكمت أو ألزمت، أو عليك دين فلان، أو هذا الشي ء لفلان، و أمثال ذلك من كلّ لغة كان، إذا أريد الإنشاء و دلّ اللّفظ بظاهره عليه و لو مع القرينة (1).

______________________________

(1) لا ينبغي الارتياب في أنّ الحكم من مقولة الإنشاء، سواء قلنا: بأن القضاء عبارة عن خصوص رفع التنازع و التخاصم كما عليه الماتن (قدّس سرّه) تبعاً للمشهور «1»، أو بأنّ معناه يشمل مثل الحكم بالهلال كما عرفت من الدروس «2». و الإنشاء في مقابل الإخبار عبارة عن إيجاد ما لا يكون موجوداً لا بالوجود الحقيقي الخارجي أو الذهني، بل بالوجود المناسب له كإيجاد البيع أو النكاح أو فصل الخصومة، و إن كان كلّ ذلك أمراً اعتباريّاً لا واقعيّة له غير الاعتبار، بخلاف الأخبار الّذي معناه الحكاية عن الأمر المتحقّق الماضي، أو عن الأمر الذي سيوجد في المستقبل بعلله؛ فقوله: «بعت داري» إن كان المقصود به الإنشاء، يكون المراد به إيجاد البيع بهذا اللّفظ، و إذا كان المقصود به الإخبار، يكون المراد الحكاية عن البيع المتحقّق في الزّمان الماضي. و يظهر من المتن أنّه يُعتبر في المقام أمران:

أحدهما: أن يكون واقعاً باللفظ، غاية الأمر أنّه لا يعتبر فيه لفظ خاصّ، بل اللّازم الإنشاء بكلّ ما دلّ على المقصود من كلّ لغة كان، و

يرد عليه بعد ملاحظة جريان المعاطاة في مثل البيع، و إن كان جريانها في

______________________________

(1) في ص 9- 11.

(2) في ص 9- 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 120

..........

______________________________

النكاح محلّ إشكال بل منع أنّه لِمَ لا تجري المعاطاة في الحكم، مثل أن يأخذ الحاكم المال المدّعى به من المدّعى عليه، و يدفعه إلى المدّعى الذي أقام البيّنة علىٰ طبق ادّعائه، أو يفطر صومه في اليوم المشكوك مع ظهور كون إفطاره لأجل ثبوت الهلال عنده، اللّهم إلّا أن يكون هنا إجماع علىٰ خلافه، أو يقال: بقلّة الموارد المذكورة، مع أنّه في مثل الدين لا تجري المعاطاة بوجه فتدبّر.

ثانيهما: كون اللّفظ ظاهراً في معناه، و لو لم يكن علىٰ سبيل الحقيقة مثل رأيت أسداً يرمي الظاهر في الرجل الشجاع بمعونة القرينة، و إن كان الاستعمال مجازيّاً، ضرورة أنّ أصالة الظهور أعمّ من أصالة الحقيقة لو كانت، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 121

[مسألة 4: لو التمس المدّعى أن يكتب له صورة الحكم أو إقرار المقرّ]

مسألة 4: لو التمس المدّعى أن يكتب له صورة الحكم أو إقرار المقرّ، فالظاهر عدم وجوبه، إلّا إذا توقّف عليه استنقاذ حقّه، و حينئذٍ هل يجوز له مطالبة الأجر أم لا؟ الأحوط ذلك و إن لا يبعد الجواز، كما لا إشكال في جواز مطالبة قيمة القرطاس و المداد، و أمّا مع عدم التوقّف فلا شبهة في شي ء منها. ثمّ إنّه لم يكتب حتّى يعلم اسم المحكوم عليه و نسبه علىٰ وجه يخرج عن الاشتراك و الإبهام، و لو لم يعلم لم يكتب إلّا مع قيام شهادة عدلين بذلك، و يكتب مع المشخّصات النافية للإيهام و التدليس، و لو لم يحتج

إلى ذكر النسب و كفى ذكر مشخّصاته اكتفى به (1).

______________________________

(1) هل كتابة الحكم مع ثبوت وجوبه واجبة أم لا؟ نسب الأوّل إلى الأشهر «1»، و لكنّ الظاهر عدم وجوبها إلّا إذا توقّف عليها استنقاذ حقّه، الذي تكون هي الحكمة في إيجابه على القاضي كفاية أو عيناً، كما تقدّم «2»، و لا إشكال في جواز مطالبة قيمة القرطاس و المداد في هذه الصّورة، و أمّا بالإضافة إلى أصل كتابه الحكم ففيه إشكال، و إن نفى البعد عن الجواز في المتن؛ نظراً إلىٰ عدم وجوب الكتابة في هذه الصورة أيضاً، و علىٰ تقديره فلا دليل علىٰ عدم جواز أخذ الأُجرة على الكتابة، و حرمة أخذ الأجرة على أصل الحكم لا تلازم الحرمة على الكتابة.

و عن المستند للنراقي حرمة أخذ الأجرة و القيمة على القرطاس و المداد؛ نظراً إلى أنّهما من مقدّمة الواجب و مقدّمة الواجب واجبة و الواجب لا يجوز أخذ

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 13/ 416.

(2) في ص 18- 22.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 122

..........

______________________________

الأُجرة عليه «1».

و يرد عليه منع الصغرىٰ و الكبرىٰ معاً، فإنّ مقدّمة الواجب لا تكون واجبة بالوجوب الشرعي، و إن كان غيريّاً كما حقّقناه في الأصول «2»، و لم يرد دليل على حرمة أخذ الأُجرة على الواجب بنحو الكلّي، كما حقّقناه في كتابنا في القواعد الفقهيّة «3»، و قد أورد عليه السيّد في الملحقات بأنّ الكتابة نظير تكفين الميّت حيث إنّه واجب بشرط وجود الكفن، و لا يلزم دفع الكفن علىٰ من وجب عليه التكفين «4».

ثمّ اللّازم في الكتابة ذكر اسم المحكوم عليه و نسبه علىٰ وجه يخرج عن الاشتراك و الإبهام، و لو مع قيام

البيّنة بذلك في صورة عدم العلم، و يكفي ذكر المشخّصات النافية للإبهام و التدليس المعبّر عنها في كلام الشرائع و غيرها بالحلية «5»؛ لعدم الدليل علىٰ خصوص الاسم و النسب، كما لا يخفى.

______________________________

(1) مستند الشيعة: 2/ 546 (ط ق).

(2) سيرى كامل در اصول فقه: 4/ 433 و ما بعدها.

(3) القواعد الفقهيّة: 1/ 531 552.

(4) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 50 مسألة 4.

(5) المبسوط: 8/ 115، شرائع الإسلام: 4/ 83، مسالك الافهام: 13/ 444، مختلف الشيعة: 8/ 442 مسألة 43.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 123

[مسألة 5: لو كان المقرّ واجداً الزم بالتأدية]

مسألة 5: لو كان المقرّ واجداً الزم بالتأدية، و لو امتنع أجبره الحاكم، و إن ماطل و أصرّ على المماطلة جازت عقوبته بالتغليظ بالقول حسب مراتب الأمر بالمعروف، بل مثل ذلك جائز لسائر النّاس، و لو ماطل حبسه الحاكم حتّى يؤدّي ما عليه، و له أن يبيع ماله إن لم يمكن إلزامه ببيعه، و لو كان المقرّ به عيناً يأخذها الحاكم، بل و غيره من باب الأمر بالمعروف، و لو كان ديناً أخذ الحاكم مثله في المثليّات و قيمته في القيميّات بعد مراعاة مستثنيات الدين، و لا فرق بين الرجل و المرأة فيما ذكر (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات:

المقام الأوّل: قد عرفت أنّ المقرّ به إن كان عيناً في يد المقرّ أي المدّعى عليه فمع عدم علم الحاكم بكونها للمدّعي لا يترتّب على إقرار المحكوم عليه إلّا مجرّد جهة سلبيّته، و إن كانت مدلولًا التزاميّاً لإقرار المقرّ، و لا يترتّب عليه جواز الحكم بكونها للمدّعي؛ لعدم صلاحيّة مجرّد الإقرار لإثبات ذلك، و إن كان ديناً لا يكون كذلك؛ فإنّ الإقرار باشتغال ذمّته

لدين للمقرّ له لا يكون قابلًا للتفكيك كما في العين، بل لازم الإقرار جواز الحكم بالاشتغال، الذي هو عبارة أُخرى عن ثبوت الدين، و لأجله يجوز للحاكم الإجبار و الحبس و بيع ماله لأجله و غير ذلك.

المقام الثاني: يجوز للمحكوم به إلزام المحكوم عليه بتأدية الدين الذي أقرّ به له، إذا كان واجداً قادراً على أداء الدين بعد مراعاة مستثنيات الدين، و إن ماطل و أصرّ على المماطلة جازت عقوبته بالتغليظ بالقول، بمثل يا ظالم يا فاسق و أمثال ذلك، الأهون فالأهون حسب مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لأجل انطباق هذا العنوان يجوز لسائر الناس غير الحاكم و غير المحكوم عليه أيضاً، مضافاً إلى رواية محمد بن جعفر، عن أبيه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 124

..........

______________________________

رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): ليّ الواجد بالدّين يحلّ عرضه و عقوبته «1».

و الظاهر أنّ مماطلة الواجد تحلّ عرضه و عقوبته للدائن مطلقاً، سواء كانت هناك مخاصمة منتهية إلى الحكم بنفعه أم لا، فما عن النراقي في المستند من إجمال الرواية «2» لأنّه لا دلالة لها على من يحلّ عقوبته و عرضه، و القدر المتيقّن حلّية العقوبة و العرض بالإضافة إلى الحاكم، و أمّا بالنسبة إلىٰ غيره فلا حتى بالإضافة إلى المحكوم له واضح الضعف و خلاف ظاهر الرواية.

المقام الثالث: في أنّه لو ماطل يجوز للحاكم حبسه حتّى يؤدّي ما عليه. و الدليل علىٰ جواز الحبس الروايات الكثيرة الدالّة عليه، مثل:

معتبرة غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه: أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يحبس في الدين، فإذا تبيّن له حاجة

و إفلاس، خلّى سبيله حتّى يستفيد مالًا «3».

و معتبرة السكوني، عن جعفر، عن أبيه: أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يحبس في الدين، ثمّ ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء، و إن لم يكن له مال رفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، فإن شئتم أجّروه، و إن شئتم فاستعملوه «4». و غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال.

و هل يختصّ الجواز أي جواز الحبس بالحاكم كما هو الظاهر من المتن

______________________________

(1) أمالي الطوسي: 520 ح 1146، و عنه وسائل الشيعة: 18/ 333، كتاب التجارة، أبواب الدين و القرض ب 8 ح 4.

(2) مستند الشيعة: 17/ 176- 178.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 196 ح 433 و ص 299 ح 834، الاستبصار: 3/ 47 ح 156، الفقيه: 3/ 19 ح 43، و عنها وسائل الشيعة: 18/ 418، كتاب الحجر ب 7 ح 1.

(4) التهذيب: 6/ 300 ح 838، الاستبصار: 3/ 47 ح 155، و عنهما وسائل الشيعة: 18/ 418، كتاب الحجر ب 7 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 125

..........

______________________________

و المحكيّ عن مستند النراقي «1»، نظراً إلى أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يعمل ذلك و التوسعة تقتضي الجواز بالإضافة إلى الحاكم، و لا دليل على الجواز بالإضافة إلى غيره، و لو كان هو المحكوم له الدائن، و لكن يمكن أن يقال: إنّ الناقل لفعل عليّ (عليه السّلام) هو الإمام، و الظاهر أنّ غرضه من الحكاية و النقل بيان الحكم الشرعي لا نقل القصّة فقط. فجواز الحبس يمكن استفادته منه بالإضافة إلىٰ غير الإمام و غير الحاكم، و لكنّ الأحوط الاقتصار عليه، خصوصاً مع أنّ التجويز بالنسبة إلى

غيره لعلّه يوجب الهرج و المرج كما لا يخفى، و لكن لا بدّ من تقييد الجواز بصورة التماس المحكوم له من الحاكم الحبس، و لا يجوز للحاكم الإقدام عليه مع عدم الالتماس فضلًا عن صورة التماس العدم؛ لأنّ الدين لا يزيد عن السّرقة التي يكون القطع فيها منوطاً بالتماس المسروق منه، كما لا يخفى.

المقام الرابع: أنّه يستفاد من المتن أنّه في صورة المماطلة يكون الحاكم مخيّراً بين الحبس حتّى يؤدّى ما عليه، و بين أن يبيع من ماله إن لم يمكن إلزامه ببيعه، و السرّ في التخيير أنّه لا دليل علىٰ تقدّم أحد الأمرين على الآخر و تأخّره، و لزوم مراعاة الترتيب بين الأمرين، و لعلّ الثاني أعني البيع من ماله مع عدم إمكان إلزامه ببيعه يكون أقرب إلى وصول حقّ الدائن إليه، إذ ترتّب أداء ما عليه على الحبس ربّما لا يتّفق أحياناً، بخلاف البيع من ماله.

المقام الخامس: أنّه إذا تبيّن في الحبس أنّ له حاجة و إفلاس، و ليس له بالفعل ما يصرفه في أداء دينه، فمقتضىٰ رواية غياث المتقدّمة أنّه (عليه السّلام) كان يخلّي سبيله حتى يستفيد مالًا يقدر به على أداء الدين، و مقتضى رواية السكوني المتقدّمة أنّه كان

______________________________

(1) مستند الشيعة: 17/ 176- 178.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 126

..........

______________________________

يدفعه أي شخصه إلى الغرماء، و يقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، فإن شئتم أجّروه، و إن شئتم استعملوه.

و قد ذكر المحقّق في الشرائع: و في تسليمه إلى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه، روايتان أشهرهما الانظار حتّى يُوسر «1». و ذكر صاحب الجواهر: أنّ المراد أشهرهما عملًا، و أصحّهما سنداً، و أكثرهما عدداً، و أوفقهما بالأصل

و الكتاب، كما أنّه ذكر أنّ الفتوى برواية السكوني قد وقعت من الشيخ (قدّس سرّه) في كتاب النهاية «2»، و حكى عنه أنّه رجع عن العمل بها إلىٰ ما عليه الأصحاب «3»، بل ذكر أنّ كتاب النهاية ليس معدّاً للفتوىٰ بل هو متون أخبار، و بذلك يظهر شذوذ الرواية المزبورة «4».

أقول: كتاب النهاية معدّ للفتوى غاية الأمر أنّ الفتوىٰ كانت في تلك الأزمنة بذكر الروايات خالية عن الأسانيد، و لأجله قد عدل عن هذه الطريقة الشيخ في كتاب المبسوط علىٰ ما يظهر من مقدّمته «5»، و إلّا فكتاب النهاية ليس من الجوامع الروائيّة ككتابي الشيخ من الكتب الأربعة للشيعة.

نعم قد فصّل في المسألة ابن حمزة صاحب كتاب الوسيلة بين ما إذا لم يكن ذا حرفة فيخلّى سبيله، و بين ما إذا كان ذا حرفة، فيدفعه إلى الغريم ليستعمله «6».

و نفى عنه البعد في محكيّ المختلف معلّلًا بأنّه متمكّن من أداء ما وجب عليه، و هو إيفاء صاحب الدين حقّه، فيجب عليه.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 84.

(2) النهاية: 339 و 352- 353.

(3) أي في الخلاف: 3/ 272 مسألة 15 و ص 276 مسألة 24.

(4) جواهر الكلام: 40/ 165 166.

(5) المبسوط: 1/ 2 3.

(6) الوسيلة: 212.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 127

..........

______________________________

أمّا الكبرى فظاهرة، و أمّا الصغرىٰ فلأنّ الفرض أنّه متمكّن من الكسب و التحصيل، و كما يجب السعي في المئونة كذا يجب في أداء الدين، قال: و نمنع إعساره؛ لأنّه متمكّن، و لا فرق بين القدرة على المال و القدرة على تحصيله؛ و لهذا منعنا القادر على التكسّب بالصنعة و الحرفة من أخذ الزكاة باعتبار إلحاقه بالغنيّ القادر على المال، إلى

أن قال: و الآية يعني آية الإنظار متأوّلة بالعاجز عن التكسّب و التحصيل، و كذا ما ورد من الأخبار «1». و أورد عليه في الجواهر: بأنّ ذلك لا يفيد إلّا وجوب التكسّب عليه، و هو غير دفعه إليهم، و جعلهم أولياء إن شاءوا استعملوه، و إن شاءوا آجروه «2».

أقول: أصل وجوب التكسّب عليه محلّ كلام، فإنّ قوله تعالى:

وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ «3» ظاهر في أنّ الوجوب عليه إنّما هو بعد تحقّق اليسار، كما أنّ وجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة، و لكن لا يلزم تحصيلها بوجه، و إن علم بأنّ في التجارة الكذائيّة تحصل الاستطاعة. و التنظير بباب الزكاة في غير محلّه، فإنّ الملاك هناك الفقير و المسكين، و لا يكاد ينطبق شي ء منهما علىٰ من له قدرة الفعل و العمل، و إن لم يكن غنيّاً بالفعل، و الملاك هنا الإعسار و الإيسار، و العسر متحقّق بأن لا يكون له بالفعل مال يقدر به على أداء دينه، و إن كان قادراً على الفعل و العمل؛ و لذا ذكر أنّ الآية مقيّدة بالعاجز عن التكسّب و التحصيل، و هو يدلّ على أنّ القادر عليه أيضاً ينطبق عليه عنوان الإعسار، لكن يرد عليه: أنّه ما الدليل على هذا التقييد في الآية و الاخبار؟

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 8/ 471- 472 مسألة 72.

(2) جواهر الكلام: 40/ 166.

(3) سورة البقرة 2: 280.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 128

..........

______________________________

و إذا كان الأمر دائراً بين أن يكون وجوب أداء الدين وجوباً مطلقاً، يجب تحصيله و لو بمقدّماته، أو وجوباً مشروطاً باليسار الفعلي و التمكّن منه بالفعل، فلا يجب تحصيل الشرط كالاستطاعة المذكورة. فإنّه و إن

كان يخطر بالبال صحّة التمسّك بالإطلاق في مواضع الجواز، و هي وجود مقدّمات الحكمة، كما اختاره المحقّق الخراساني علىٰ ما في الكفاية و بعض تلامذته «1»، إلّا أنّ الظاهر عدم إفادة هذا النحو من التمسّك للمقام و نحوه، كالدوران بين العيني و الكفائي، أو بين التعييني و التخييري؛ لأنّ الإطلاق الذي يثبت في أمثال المقام هو الإطلاق المقسمي المردّد بين المطلق و المشروط، لا الإطلاق القسمي في مقابل المشروط؛ لأنّه لا يمكن أن يكون المقسم عين بعض الأقسام من دون زيادة، كما حقّقناه في محلّه «2».

و بعد عدم فائدة في التمسّك بالإطلاق تصل النوبة إلى الأصل العملي، و هو يقتضي عدم الوجوب في الزائد على القدر المتيقّن، و هي صورة وجود الشرط كما لا يخفى، و التحقيق الزائد في محلّه.

فانقدح أنّه كما لا يترتّب علىٰ وجوب التكسّب جواز دفع شخص المديون إلىٰ غريمه أو الغرماء، كذلك لا دليل على أصل الوجوب عليه مع كونه ذا عسرة، بل لا بدّ من الإنظار إلى اليسار، فتدبّر.

المقام السادس: أنّه لا فرق فيما ذكر من أحكام الدين بين أن يكون المديون رجلًا أو امرأة، و مجرّد كونه امرأة لا يقتضي عدم جواز الحبس للحاكم عند المماطلة مع الوجدان، غاية الأمر أنّه لا بدّ من رعاية الأحكام المربوطة بالمرأة، كسائر الموارد التي يكون الحكم فيها حبس المرأة، كالمرتدّة و غيرها.

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 288 289، فوائد الأصول: 2/ 574، نهاية الأفكار: 2/ 567.

(2) سيرى كامل در اصول فقه: 9/ 16- 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 129

[مسألة 6: لو ادّعى المقرّ الإعسار و أنكره المدّعى]

مسألة 6: لو ادّعى المقرّ الإعسار و أنكره المدّعى، فإن كان مسبوقاً باليسار فادّعى عروض الإعسار فالقول قول

منكر العسر، و إن كان مسبوقاً بالعسر فالقول قوله، فإن جُهل الأمران ففي كونه من التداعي أو تقديم قول مدّعي العسر تردّد، و إن لا يبعد تقديم قوله (1).

______________________________

(1) لا شبهة في أنّ مقتضى الاستصحاب بقاء ما كان من العسر أو عدمه من اليسار، فإذا كان مسبوقاً بالعسر المعلوم فالقول قول مدّعي العسر، و إن كان مسبوقاً باليسار كذلك فالقول قول منكر العسر؛ للاستصحاب في كلا الفرضين. إلّا أنّ المستفاد من المتن أنّ الملاك في تشخيص المدّعى و المنكر هو الموافقة للأصل و المخالفة له، مع أنّه قد تقدّم منه الخلاف في ذلك «1»، و أنّ التشخيص في ذلك راجع إلى العرف بعد عدم ثبوت حقيقة شرعيّة فيهما و لا مجاز أصلًا، و كون المحكّم في أمثاله من الموارد هو العرف.

مع أنّه ليس في كلامه إشعار بأنّ تقديم قول الموافق للأصل إنّما هو لأجل كونه منكراً، أو المنكر إنّما يقدّم قوله أوّلًا مع عدم ثبوت البيّنة للمدّعي، و ثانياً يحتاج إلى الحلف علىٰ ما أنكر، كما يشهد به قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر «2»، فلِمَ لا يكون كلامه ناظراً إلى إمكان وجود البيّنة للمدّعي، و إلى أنّ تقديم قول المنكر إنّما يكون مع حلفه؟

ثمّ إنّ نفي البعد عن تقديم قول مدّعي العسر فيما لو جُهل الأمران: الإعسار و الإيسار و لأجله لا يجري الأصل في بادئ النّظر لعلّه لأجل أنّ الإعسار

______________________________

(1) في ص 83- 84.

(2) تفسير القمّي: 2/ 156، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 293، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 25 ح 3 و يأتي الحديث بتمامه في ص 288.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 130

[مسألة 7: لو ثبت عسره]

مسألة 7: لو ثبت عسره، فإن لم يكن له صنعة أو قوّة على العمل فلا إشكال في إنظاره إلى يساره، و إن كان له نحو ذلك، فهل يسلّمه الحاكم إلى غريمه، ليستعمله أو يؤاجره، أو أنظره و ألزمه بالكسب لتأدية ما عليه، و يجب عليه الكسب لذلك، أو أنظره و لم يلزمه بالكسب، و لم يجب عليه الكسب لذلك، بل لو حصل له مال يجب أداء ما عليه وجوه، لعلّ الأوجه أوسطها. نعم لو توقّف إلزامه بالكسب على تسليمه إلىٰ غريمه يسلّمه إليه ليستعمله (1).

______________________________

و الإيسار و إن كانا أمرين وجوديّين، إلّا أنّ الإعسار يرجع في الحقيقة إلى أمر عدميّ، و هو عدم كونه واجداً. و في دوران الأمر بين الوجوديّ الحادث و العدميّ الموافق للأصل، يكون التقديم مع قول مدّعي الثاني؛ لأجل كونه منكراً كما لا يخفى.

(1) تقدّم البحث في هذه المسألة في المقام الخامس من شرح المسألة الخامسة فراجع.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 131

[مسألة 8: إذا شكّ في إعساره و إيساره، و طلب المدّعى حبسه إلى أن يتبيّن الحال حبسه الحاكم]

مسألة 8: إذا شكّ في إعساره و إيساره، و طلب المدّعى حبسه إلى أن يتبيّن الحال حبسه الحاكم، و إذا تبيّن إعساره خلّىٰ سبيله و عمل معه كما تقدّم، و لا فرق في ذلك و غيره بين الرجل و المرأة، فالمرأة المماطلة يعمل معها نحو الرجل المماطل، و يحبسها الحاكم كما يحبس الرجل إلى تبيّن الحال (1).

______________________________

(1) في صورة الشكّ في الإعسار و عدمه، و طلب المدّعى من الحاكم الحبس إلى أن يتبيّن الحال، فجواز حبس الحاكم كذلك. إمّا أن يكون مستنده رواية غياث بن إبراهيم المتقدّمة الدالّة على أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يحبس في الدين، و إذا تبيّن له حاجة

و إفلاس خلّى سبيله، حيث إنّها دالّة علىٰ جواز الحبس في صورة عدم التبيّن حتّى يتبيّن له الحاجة و الإفلاس أو عدمه.

و إمّا أن يكون مستنده القاعدة المأخوذة من ظاهر الكتاب من قوله تعالى وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ «1»، نظراً إلى أنّ الشرط في وجوب الإنظار إلى الإيسار كونه ذا عسرة، و هذا العنوان يحتاج إلى الإحراز، فعند الشكّ لا يجوز للحاكم الإنظار. و إن قلنا: بأنّ وجوب أداء الدين مشروط باليسار و الواجديّة، كاشتراط وجوب الحجّ بالاستطاعة، لكن تحصيل هذا الشرط و إن كان غير واجب على ما عرفت منّا، إلّا أنّ لزوم التحقيق عن حاله من حيث التحقّق و عدمه على حاله، كما في الاستطاعة، فإنّه و إن كان لا يلزم تحصيلها مع إمكانه، إلّا أنّ التحقيق عن وجودها و عدمها لازم، كالتحقيق عن أنّ مئونة الربح في السنة هل تكون أقلّ من الربح حيث يجب الخمس، أو لا تكون أقلّ حتى لا يجب؟ حيث إنّ التحقيق لازم كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق في ذلك بين الرجل و المرأة، كما مرّ في شرح المسألة الخامسة؛ لعدم الدليل على الفرق أصلًا.

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 280.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 132

[مسألة 9: لو كان المديون مريضاً يضرّه الحبس، أو كان أجيراً للغير قبل حكم الحبس عليه]

مسألة 9: لو كان المديون مريضاً يضرّه الحبس، أو كان أجيراً للغير قبل حكم الحبس عليه، فالظاهر عدم جواز حبسه (1).

______________________________

(1) الدليل على عدم جواز الحبس فيما إذا كان المديون مريضاً يضرّه الحبس، يمكن أن يكون هو ما يدلّ على فعل عليّ (عليه السّلام)، و أنّه كان يحبس في الدين نظراً إلى أنّ الفعل لا إطلاق فيه، و أنّ القدر المتيقّن غير

صورة المرض، و لكنّك عرفت «1» أنّ الحاكي لفعل المعصوم (عليه السّلام) إن كان معصوماً آخر، و كان الغرض من الحكاية بيان الحكم الشرعي بهذه الكيفيّة، يمكن التمسّك بإطلاق كلامه (عليه السّلام)، و يمكن أن يكون قاعدة نفي الضرر و الضرار، و لكنّه مبنيّ أيضاً على أن يكون مفادها بيان الحكم بالعنوان الثانوي، كما عليه الشيخ الأنصاري و تلميذه المحقّق الخراساني (قدّس سرّهما) «2».

و أمّا علىٰ مبنى الماتن (قدّس سرّه) من كونها صادرةً من مقام الحكومة الثابتة للنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) فلا ارتباط لها بالمسائل الفقهيّة أصلًا. و قيام الدليل في موارد الوضوء و الغسل الضرريّين لا دلالة له على ثبوت قاعدة كليّة مربوطة بالضرر و الإضرار، خصوصاً مع ثبوت البدل الاضطراري لهما، و مع كون أصل الحكم في المقام و هو جواز الحبس أو وجوبه ضرريّاً، و لا وجه لإلغاء الخصوصيّة، كما لا يخفى.

فالإنصاف أنّه لا دليل على عدم الجواز هنا، إلّا إذا كان الحكم حرجيّا مشمولًا لقاعدة نفي الحرج المدلول عليها بالكتاب و السّنة.

و أمّا عدم الجواز فيما لو كان أجيراً للغير قبل حكم الحبس عليه، فالدليل عليه مجرّد تقدّم وجوب الوفاء بالعقد عليه، و تأخّر حكم الحبس عنه.

______________________________

(1) في ص 124- 125.

(2) فرائد الأُصول: 2/ 536، كفاية الأُصول: 433.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 133

[مسألة 10: ما قلنا من إلزام المعسر بالكسب مع قدرته عليه إنّما هو فيما إذا لم يكن الكسب بنفسه حرجاً عليه أو منافياً لشأنه]

مسألة 10: ما قلنا من إلزام المعسر بالكسب مع قدرته عليه إنّما هو فيما إذا لم يكن الكسب بنفسه حرجاً عليه أو منافياً لشأنه، أو الكسب الذي أمكنة لا يليق بشأنه بحيث كان تحمّله حرجاً عليه (1).

[مسألة 11: لا يجب على المرأة التزويج لأخذ المهر و أداء دينها]

مسألة 11: لا يجب على المرأة التزويج لأخذ المهر و أداء دينها، و لا على الرجل طلاق زوجته لدفع نفقتها لأداء الدين، و لو وهبه و لم يكن في قبولها مهانة و حرج عليه يجب القبول لأداء دينه (2).

______________________________

(1) قد عرفت أنّه لا دليل على إلزام المعسر بالكسب، و أمّا علىٰ تقديره، فالذي ينفي الوجوب بالإضافة إلى أصل الإلزام و كذا التكسّب هي قاعدة نفي الحرج، و أمّا مجرّد المنافاة للشأن من دون أن يكون هناك حرج و عسر شديد فلا دليل على المانعيّة من الوجوب.

(2) أمّا عدم الوجوب في الفرضين الأوّلين فلخروجهما عن التكسّب المتعارف، خصوصاً الفرض الثاني. و أمّا وجوب قبول الهديّة بناءً على وجوب التكسّب فلأنّه مع عدم ثبوت المهانة و الحرج في القبول يكون مقدّمة عرفاً لأداء الدين؛ و لذا قلنا بالاحتياط الوجوبي في خمس الهبة، و المقام أولىٰ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 134

[القول في الجواب بالإنكار]

اشارة

القول في الجواب بالإنكار

[مسألة 1: لو أجاب المدّعى عليه بالإنكار، فأنكر ما ادّعى المدّعى]

مسألة 1: لو أجاب المدّعى عليه بالإنكار، فأنكر ما ادّعى المدّعى، فإن لم يعلم أنّ عليه البيّنة أو علم و ظنّ أن لا تجوز إقامتها إلّا مع مطالبة الحاكم وجب على الحاكم أن يعرّفه ذلك بأن يقول: أ لكَ بيّنة؟ فإن لم تكن له بيّنة، و لم يعلم أنّ له حقّ إحلاف المنكر، يجب على الحاكم إعلامه بذلك (1).

[مسألة 2: ليس للحاكم إحلاف المنكر إلّا بالتماس المدّعى]

مسألة 2: ليس للحاكم إحلاف المنكر إلّا بالتماس المدّعى، و ليس للمنكر التبرّع بالحلف قبل التماسه، فلو تبرّع هو أو الحاكم لم يعتدّ بتلك اليمين، و لا بدّ من الإعادة بعد السؤال، و كذا ليس للمدّعي إحلافه بدون إذن الحاكم، فلو أحلفه لم يعتدّ به (2).

______________________________

(1) و

(2) أقول: قد وردت عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) في هذا المجال روايتان صحيحتان:

إحداهما تدلّ على قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الأيمان «1».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 414 ح 1، التهذيب: 6/ 229 ح 552، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 232، كتاب القضاء أبواب كيفيّة الحكم ب 2 ح 1.: و في مستدرك الوسائل 17/ 361 ح 21583 و ص 366 ح 21954 عن دعائم الإسلام: 2/ 1856518، و تأتي بتمامها في ص 245.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 136

..........

______________________________

و الثانية على قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه «1». أمّا القول الأوّل: فلا دلالة له على أزيد من أنّ البيّنات و الايمان موازين للقضاء الإسلامي، و إن كان شي ء منهما لا يفيد العلم للقاضي، و أمّا أنّ اللّازم هل هو المجموع أو أحدهما، و أنّ البيّنات بالإضافة

إلى المدّعين، و الايمان بالإضافة إلى المنكرين، فلا دلالة له على ذلك أصلًا.

و أمّا القول الثاني: فله دلالتان: دلالة على الاكتفاء بأحدهما؛ لأنّ التفصيل قاطع للشركة، و دلالة على أنّ البيّنة على المدّعى و اليمين على من أنكر.

نعم، قد ورد دليل خاصّ على لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة، كما في الدعوى على الميّت علىٰ ما سيأتي «2»، كما أنّه يأتي البحث عن ملاك بيّنة المنكر، هل تقوم مقام يمينه مع عموميّة دليل حجّية البيّنة و إطلاقه بالإضافة إلى الموضوعات الخارجيّة، أو لا تقوم بلحاظ كونها بيّنة النفي و بيّنة المدّعى بيّنة الإثبات؟

و كيف كان فإن لم يعلم المدّعى أنّ عليه البيّنة، أو علم أو ظنّ أنّه لا تجوز إقامتها إلّا مع مطالبة الحاكم، وجب على الحاكم أن يعرّفه ذلك بمثل قوله: أ لك بيّنة؟ و كلمة «على» في قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على المدّعى «3» لا دلالة لها على التكليف النفسي، كما في قوله تعالى وَ لِلّٰهِ عَلَى النّٰاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطٰاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «4» بحيث

______________________________

(1) تقدم في ص 84- 85.

(2) في المسألة 28 من هذه المسائل.

(3) الكافي: 7/ 361 ح 4 و ص 415 ح 2، الفقيه: 3/ 20 ح 52، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 234، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 3 ح 2 و 5.

(4) سورة آل عمران 3: 97.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 137

..........

______________________________

كان اللّازم شرعاً على المدّعى إقامة البيّنة، بل المراد هو اللّزوم إذا أراد الحكم بنفعه، و هكذا في ناحية المدّعى عليه. نعم لا دلالة لهذا القول على الترتيب، و أنّ البيّنة مقدّمة على الحلف كما

في النصوص و الفتاوىٰ.

ثمّ إنّ المذكور في المتن أنّه إن لم تكن للمدّعي بيّنة، فله حقّ إحلاف المنكر، و قد وقع التعبير بالحقّ تبعاً لمثل المحقّق في الشرائع حيث قال: و لا يحلف المدّعى عليه إلّا بعد سؤال المدّعى؛ لأنّه حقّ له فيتوقّف استيفاؤه على المطالبة» «1»، مع أنّ أقلّ آثار الحقّ هو السقوط بالإسقاط، فالأولى التعليل لذلك مضافاً إلى الإجماع المدّعى في الجواهر «2» بالروايات الواردة:

مثل: صحيحة ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحق المدّعى، فلا دعوى له، قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم، و إن أقام بعد ما استحلفه باللّٰه خمسين قسامة ما كان له، و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه «3». و غير ذلك من الروايات التي وقع فيها التعبير بالاستحلاف، الظاهر في توقّف الحلف على رضاه و التماسه، و لا يكون حضوره عند الحاكم و طرح الدعوى و سماعها، و عدم إقامة البيّنة قرينة على الرّضا بالحلف، كما لا يخفى.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 873.

(2) جواهر الكلام: 40/ 170 171.

(3) الكافي: 7/ 417 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 231 ح 565، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 244، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 9 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 138

..........

______________________________

نعم ذكر في الجواهر: أنّ في مجمع البرهان «1» النسبة إلى الأصحاب أنّه لا يستقلّ الغريم باليمين من دون إذن الحاكم، و إن كان حقّا لغيره؛ لأنّه وظيفته و إن كان إقامة الدليل عليه

إن لم يكن إجماع في غاية الصعوبة «2»، و لكنّه ذكر السيّد في ملحقات العروة: أنّ الدليل هي أصالة عدم ترتّب الأثر، و لأنّه المعهود المنصرف إليه الأخبار، و للأخبار المشتملة على قوله: «و أضفهم إلى اسمي» كخبر محمد بن قيس: إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه كيف أقضي في أُمور لم أخبر ببيانها؟ قال: فقال له: ردّهم إليّ، و أضفهم إلى اسمي يحلفون به «3»، و نحوه مرسلة أبان و صحيحة سليمان بن خالد «4»، «5».

هذا، مع أنّه من البعيد التفكيك بين البيّنة و اليمين من هذه الجهة، فتدبّر.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 187- 188.

(2) جواهر الكلام: 40/ 171.

(3) الكافي: 7/ 414 ح 2، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 230، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 1 ح 3.

(4) الكافي: 7/ 414 415 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 228 ح 550 و 551، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 229- 230، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 1 ح 1 و 3.

(5) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 60 مسألة 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 139

[مسألة 3: لو لم يكن للمدّعي بيّنة و استحلف المنكر فحلف، سقطت دعوى المدّعى في ظاهر الشرع]

مسألة 3: لو لم يكن للمدّعي بيّنة و استحلف المنكر فحلف، سقطت دعوى المدّعى في ظاهر الشرع، فليس له بعد الحلف مطالبة حقّه و لا مقاصّته، و لا رفع الدعوى إلى الحاكم، و لا تسمع دعواه، نعم لا تبرأ ذمّة المدّعى عليه، و لا تصير العين الخارجيّة بالحلف خارجاً عن ملك مالكها، فيجب عليه ردّها و إفراغ ذمّته، و إن لم يجز للمالك أخذها و لا التقاصّ منه، و لا يجوز بيعها و هبتها و سائر التصرّفات فيها، نعم يجوز إبراء المديون

من دينه على تأمّل فيه، فلو أقام المدّعى البيّنة بعد حلف المنكر لم تسمع، و لو غفل الحاكم أو رفع الأمر إلى حاكم آخر فحكم ببيّنة المدّعى لم يعتدّ بحكمه (1).

______________________________

(1) لو لم يكن للمدّعي بيّنة و استحلف المنكر، فهو أي المنكر إمّا أن يحلف و إمّا أن يردّ و إمّا أن ينكل، فإن حلف علىٰ بطلان دعوى المدّعى سقطت دعواه في ظاهر الشرع. نعم يأتي في المسألة الخامسة إن شاء اللّٰه أنّ الحلف هل هو بمجرّده موجب لسقوط الحق مطلقاً، أو بعد إذن الحاكم، أو إذا تعقّبه حكم الحاكم، أو أنّ حكمه موجب للسقوط إذا كان مستنداً إلى الحلف، و ليس للمدّعي بعد ذلك مطالبة حقّه و لا مقاصّته، و لا رفع الدعوى إلى هذا الحاكم أو حاكم آخر، و لا تسمع دعواه؟ و هذا من دون فرق بين أن تكون الدعوى متعلّقة بالعين الخارجيّة أو بالدّين أو بغيرهما، كالعقود و الإيقاعات غير المتعلّقة بالمال، التي لا يكون الغرض من النزاع فيها المال، و إن استشكل في الأخيرة السيّد في الملحقات، بل استظهر من الأخبار التي يأتي التعرّض لبعضها الدعاوي المتعلّقة بالمال «1».

و كيف كان فإن كان حلف المنكر مطابقاً لاعتقاده، بأن اعتقد أنّ العين

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 61 62.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 140

..........

______________________________

الخارجيّة لا تكون للمدّعي، و أنّ ذمّته غير مشغولة بدينه، و إن كان حلفه غير مطابق لاعتقاده بحيث يرى نفسه كاذباً بينه و بين اللّٰه، فذمّته لا تبرأ عن دين المدّعى. و إن كان حكم الحاكم بنفعه، بل و لو أبرأه الدائن من دينه علىٰ تأمّل ينشأ من أنّ الإبراء لا

بدّ و أن يتعلّق بالدين المسلّم أو المشكوك كالإبراء في موارد الشكّ في الدّين، و في المقام لا يكون دين بحسب حكم الحاكم علىٰ طبق حلفه، فتعلّق الإبراء محلّ تأمّل.

و أمّا بالإضافة إلى العين الخارجيّة فلا تصير بالحلف كاذباً خارجة عن ملك مالكها فيجب عليه ردّها، و إن لم يجز للمالك أخذها و لا التقاصّ منه، و لا يجوز بيعها و لا هبتها و سائر التصرّفات فيها، بل لا بدّ من أن ينتظر المدّعى الى أن يتحقّق الإقرار من المدّعى عليه في الآتية، أو يتبيّن للحاكم كذب المدّعى عليه في حلفه، فينتقض حكمه جوازاً أو وجوباً، كما سيأتي في المسألة الرابعة إن شاء اللّٰه تعالى، و يمكن أن يتحقّق مثل الهبة من المدّعى عليه باعتبار أنّه مالك شرعاً، فيتحقّق الانتقال منه إلى المدّعى في ظاهر الحال، و إن كان المدّعى يرىٰ نفسه مالكاً قبل الهبة.

ثمّ إنّه لا فرق في سقوط دعوى المدّعى بالحلف من المدّعى عليه بين ما لو أقام المدّعى البيّنة بعد الحلف و بين صورة عدم الإقامة، و قيل كما عن المفيد «1» و ابن حمزة «2» و القاضي «3»: يعمل بالبيّنة ما لم يشترط المنكر سقوط الحقّ باليمين، و قيل كما عن موضع من المبسوط و ابن إدريس: إن نسي بيّنته أو لم يعلم بها سمعت

______________________________

(1) المقنعة: 733.

(2) الوسيلة: 213.

(3) أي في الكامل على ما حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 375 مسألة 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 141

..........

______________________________

و إن أحلف «1». و عن المختلف أنّه قوّاه «2»، و عن موضع آخر من المبسوط أنّها تسمع مطلقاً «3».

و لكن مقتضىٰ صراحة بعض الروايات و

إطلاق البعض الآخر خلاف جميع ذلك.

ففي صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعى، فلا دعوى له، قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم. و إن أقام بعد ما استحلفه باللّٰه خمسين قسامة ما كان له، و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه.

و في رواية الصدوق زيادة: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): من حلف لكم على حقّ فصدّقوه، و من سألكم باللّٰه فأعطوه، ذهبت اليمين بدعوى المدّعى، و لا دعوى له «4».

و يستفاد من هذه الرواية الصحيحة بالصراحة نفي قول من يدّعي سماع البيّنة بعد الحلف بنحو الإطلاق، و كذا يستفاد منها بنحو الإطلاق أنّه لا فرق بين صورة عدم اشتراط المنكر سقوط الحقّ باليمين و بين صورة الاشتراط، و كذا صورة الجهل بالبيّنة أو نسيانها أو العلم بها و التذكّر و الالتفات، و يؤيّده بعض الروايات الأُخر مثل:

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 210، السرائر: 2/ 159.

(2) مختلف الشيعة: 8/ 414 مسألة 15.

(3) المبسوط: 8/ 158.

(4): الفقيه 3/ 37 ح 126، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 245، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 9 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 142

..........

______________________________

رواية خضر النخعي عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، و إن تركه و لم يستحلفه فهو على حقّه «1».

و رواية عبد اللّٰه بن وضاح قال: كانت بيني و بين رجل

من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، و قد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح و دراهم كثيرة، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده، و أحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السّلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، و قد وقع له عندي مال، فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب: لا تأخذ منه شيئاً، إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، و لكنّك رضيت بيمينه و قد ذهبت اليمين بما فيها، فلم آخذ منه شيئاً، و انتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السّلام) «2».

هذا، و الروايات واردة في الدين، و إن كان العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّة بالإضافة إلى العين، و إن كان الحكم بذلك في غيرهما محلّ إشكال. ثمّ إنّ الرواية الأخيرة محلّ إشكال من حيث الدلالة من جهة أُخرى، و هي ظهورها في كون الحلف عند الوالي لا الحاكم.

______________________________

(1) الكافي 7: 418 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 231 ح 566، الفقيه: 3/ 113 ح 481، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 246، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 10 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 430 ح 14، تهذيب الأحكام: 6/ 289 ح 802، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 246، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 10 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 143

[مسألة 4: لو تبيّن للحاكم بعد حكمه كون الحلف كذباً يجوز بل يجب عليه نقض حكمه]

مسألة 4: لو تبيّن للحاكم بعد حكمه كون الحلف كذباً يجوز بل يجب عليه نقض حكمه، فحينئذٍ يجوز للمدّعي المطالبة و المقاصّة، و سائر ما هو آثار كونه

محقّاً، و لو أقرّ المدّعى عليه بأنّ المال للمدّعي، جاز له التصرّف و المقاصّة و نحوهما، سواء تاب و أقرّ أم لا (1).

______________________________

(1) وقع التعرّض في هذه المسألة لأمرين:

الأمر الأوّل: إذا تبيّن للحاكم بعد حكمه بنفع المدّعى عليه لأجل حلفه كونه كذباً مخالفاً للواقع، يجوز بل يجب نقض حكمه لثبوت بطلان مستند الحكم. و الظاهر أنّ المراد من التبيّن هو حصول العلم له، أو ما يلحقه من الاطمئنان الذي يعامل معه معاملة العلم عند العرف و العقلاء.

و أمّا مثل شهادة البيّنة، فلا يوجب حصول التبيّن بعد عدم قدحها في الحكم بنفع المدّعى عليه بعد حلفه و قبل حكم الحاكم، و بعد النقض يصير الحكم كالعدم، فيجوز للمدّعي ما يجوز قبل الحكم و طرح الدعوى من المطالبة و المقاصّة و سائر آثار ما هو كونه محقّاً، كما لا يخفىٰ.

الأمر الثاني: ما لو أقرّ المدّعى عليه الذي حكم بنفعه لأجل حلفه بأنّ المال للمدّعي، و في الحقيقة أكذب نفسه بالإقرار، سواء كان الإقرار في حضور الحاكم بناءً على اختصاص الجواز بهذه الصورة كما ربّما يقال، أو كان في غير حضوره بناءً علىٰ عدم الاختصاص، و قد حققنا ذلك في كتابنا في القواعد الفقهيّة المشتملة علىٰ قاعدة الإقرار «1»، فقد ذكر في المتن أنّه يجوز للمدّعي التصرّف و المقاصّة و نحوهما سواء تاب و أقرّ أم لا،

______________________________

(1) القواعد الفقهية: 1/ 81- 82.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 144

..........

______________________________

لكنّا ذكرنا في بحث جواب المدّعى عليه بالإقرار «1» إنّ قاعدة الإقرار لا دلالة لها على كون المقرّ له مالكاً، بل الحيثية الثابتة بها إنّما هي حيثيّة سلبيّة راجعة إلى عدم كون المال للمقرّ، و

إن كان ذلك مدلولًا التزاميّاً لمقتضى إقراره.

و أمّا الحيثيّة الإيجابيّة الراجعة إلى ثبوت المال للمقرّ فلا دلالة لها على إثباتها، و إن كان ذلك مدلولًا مطابقيّاً لمقتضى إقراره؛ لعدم ثبوت الملكيّة للغير بمجرّد الإقرار من واحد، خصوصاً إذا لم يكن المقرّ عادلًا، لفرض عدم كون إقراره ناشئاً عن توبته على فرض العدالة.

و قد ذكرنا سابقاً «2» أنّه يمكن أن يكون المالك شخصاً ثالثاً غير المدّعى و المدّعى عليه، و قد وقع بينهما التباني على ذلك، فتدبّر.

______________________________

(1) في 117- 118.

(2) في 117- 118.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 145

[مسألة 5: هل الحلف بمجرّده موجب لسقوط حقّ المدّعى مطلقاً، أو بعد إذن الحاكم]

مسألة 5: هل الحلف بمجرّده موجب لسقوط حقّ المدّعى مطلقاً، أو بعد إذن الحاكم، أو إذا تعقّبه حكم الحاكم، أو حكمه موجب له إذا استند إلى الحلف؟ الظاهر أنّ الحلف بنفسه لا يوجبه، و لو كان بإذن الحاكم، بل بعد حكم الحاكم يسقط الحقّ، بمعنى أنّ الحلف بشرط حصول الحكم موجب للسقوط بنحو الشرط المقارن (1).

______________________________

(1) قد ذكر أنّ في الحلف الذي يكون مستنداً إلى استحلاف المدّعى و رضاه، و تعقّبه حكم الحاكم مستنداً إليه وجوهاً و احتمالات أربعة:

أحدها: أن يكون الحلف بمجرّده موجباً لسقوط حقّ المدّعى عيناً أو ديناً مطلقاً، و لو لم يكن هناك إذن الحاكم أصلًا.

ثانيها: الاحتمال الأوّل، لكن بشرط أن يكون الحلف بعد إذن الحاكم، كما يكون عقيب استحلاف المدّعى و رضاه.

ثالثها: أن يكون الحلف موجباً للسقوط مشروطاً بما إذا تعقّبه حكم الحاكم، نظير ما أفاده البعض في البيع الفضولي «1»: من أنّ الشرط لا يكون نفس الإجازة بل تعقّبها و تأخّرها، فإذا تحقّقت الإجازة يؤثِّر البيع من حين وقوعه، لا من حين تحقّق الإجازة.

رابعها: أن يكون

المؤثِّر في السقوط هو حكم الحاكم المستند إلى الحلف، فلو مات الحاكم قبل الحكم و بعد الحلف لا يترتّب على الحلف أثر أصلًا، فالحلف و إن كان موجباً للسقوط، لكنّه مشروط بالحكم بنحو الشرط المقارن، الذي لا يحصل المشروط و لا يؤثّر قبل تحقّق الشرط أصلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) جامع المقاصد: 4/ 74، الروضة البهيّة: 3/ 229، المناهل: 290.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 146

..........

______________________________

أقول: ظاهر الكلمات و الفتاوى هو الوجه الأخير الذي استظهره الماتن (قدّس سرّه)، و لذا قال في الجواهر: ثمّ إنّه قد يتوهّم من ظاهر النصوص سقوط الدعوى بمجرّد حصول اليمين من المنكر، من غير حاجة إلى إنشاء حكم من الحاكم بذلك، لكنّ التحقيق خلافه، ضرورة كون المراد من هذه النصوص و ما شابهها تعليم ما يحكم به الحاكم، و إلّا فلا بدّ من القضاء و الفصل بعد ذلك، كما أومأ إليه بقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «1». بل لو أخذ بظاهر هذه النصوص و شبهها لم يحتجّ إلى إنشاء الحكومة من الحاكم مطلقاً، ضرورة ظهورها في سقوط دعوى المدّعى و ثبوت الحقّ بالبيّنة و نحوها «2»، انتهىٰ.

أقول: و يؤيّده أنّه بناءً علىٰ ما هو ظاهر الروايات تلزم لغويّة الحكم بمعنى إنشائه، و يلزم أن يكون شأن القاضي هو استماع البيّنة مع شرائطها، و الإذن في الحلف و أمثالها، و هو كما ترى بعيد عمّا هو المرتكز في أذهان المتشرّعة من القاضي و الحاكم كما لا يخفى، فالإنصاف أنّ الظاهر هو الوجه الأخير كما هو المستفاد من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان»،

فتدبّر.

______________________________

(1) تقدّم في ص 135.

(2) جواهر الكلام: 40/ 175.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 147

[مسألة 6: للمنكر أن يردّ اليمين على المدّعى]

مسألة 6: للمنكر أن يردّ اليمين على المدّعى، فإن حلف ثبت دعواه و إلّا سقطت، و الكلام في السقوط بمجرّد عدم الحلف و النكول أو بحكم الحاكم كالمسألة السابقة، و بعد سقوط دعواه ليس له طرح الدعوى و لو في مجلس آخر، كانت له بيّنة أو لا. و لو ادّعى بعد الردّ عليه بأنّ لي بيّنة يسمع منه الحاكم، و كذا لو استمهل في الحلف لم يسقط حقّه، و ليس للمدّعي بعد الردّ عليه أن يردّ على المنكر، بل عليه إمّا الحلف أو النكول، و للمنكر أن يرجع عن ردّه قبل أن يحلف المدّعى، و كذا للمدّعي أن يرجع عنه لو طلبه من المنكر قبل حلفه (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في أُمور:

الأوّل: جواز ردّ اليمين من المنكر إلى المدّعى، و إن كان الحلف متوجّهاً إليه ابتداءً كما هو مقتضى قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه «1»، لكن الظاهر بقرينة الروايات الواردة الدالّة على جواز الردّ أنّ ثبوت اليمين على المنكر إنّما هو بملاحظة المرحلة الاولىٰ، و إلّا فيجوز له الردّ أيضاً، و هذه الروايات مثل:

صحيحة محمّد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام)، في الرّجل يدّعي و لا بيّنة له، قال: يستحلفه، فإن ردّ اليمين علىٰ صاحب الحقّ فلم يحلف فلا حقّ له «2».

و صحيحة عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يدّعى عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي، قال: يستحلف، أو يردّ اليمين علىٰ صاحب الحقّ، فإن لم

يفعل فلا حقّ له «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 233، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 3.

(2) الكافي: 7/ 416 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 230 ح 557، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 241، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 7 ح 1.

(3) الكافي: 7/ 416 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 230 ح 556، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 241، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 7 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 148

..........

______________________________

و صحيحة هشام، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: تردّ اليمين على المدّعى «1».

و مرسلة يونس و مضمرته قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعى، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فإن لم يحلف و ردّ اليمين على المدّعى فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شي ء له «2».

و رواية أبي العبّاس، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا أقام الرجل البيّنة علىٰ حقّه، فليس عليه يمين، فإن لم يقم البيّنة، فردّ الذي ادّعي عليه اليمين، فإن أبى أن يحلف، فلا حقّ له «3».

و منها غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال، الدالّة على أنّ للمدّعي عليه إذا لم يرد الحلف ردّ اليمين إلى المدّعى، فلا شبهة في هذه الجهة أصلًا.

الثاني: لا يجوز للمدّعي الذي ردّ المدّعى عليه اليمين عليه ردّها ثانياً إلى المنكر، بل هو إمّا أن يحلف و إمّا أن لا يحلف، ففي الأوّل تثبت دعواه، و في الثاني تسقط؛ لعدم دلالة شي ء من الروايات عليه، مع

لزوم التسلسل في بعض الموارد، كما لا يخفى.

الثالث: يترتّب علىٰ سقوط دعوى المدّعى بمجرّد عدم الحلف و الحكم عليه أنّه لا يجوز له طرح هذه الدعوى و لو في مجلس آخر، أو عند حاكم آخر من دون

______________________________

(1) الكافي: 7/ 417 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 230 ح 560، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 241، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 7 ح 3.

(2) الكافي: 7/ 416 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 231 ح 562، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 241، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 7 ح 4، و ص 271 ب 15 ح 2، و تقدمت صدرها في ص 95.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 231 ح 563، الكافي: 7/ 417 ح 2، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 243، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 8 ح 2.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 149

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 149

..........

______________________________

فرق بين أن تكون له بيّنة عادلة أم لا؛ لارتفاع المخاصمة بعد حكم الحاكم بالإضافة إلى هذه الدعوى، فلا يجوز له طرحها ثانياً.

الرابع: قد عرفت أنّ ظاهر الروايات و إن كان ترتّب الأثر على حلف المنكر، أو عدم حلف المدّعى بعد الردّ عليه، إلّا أنّ الظاهر ثبوت الأثر بعد إنشاء الحكم من الحاكم لا قبله.

الخامس: لو ادّعى المدّعى بعد ردّ المنكر الحلف عليه، و قبل حكم الحاكم أنّ له بيّنة علىٰ مدّعاه، يسمع منه

الحاكم؛ لعدم صدور الحكم من قبله و عدم تحقّق الحلف من المنكر، فالأمر يدور بين حلف المدّعى و الحكم بنفعه، و عدم حلفه و سقوط دعواه، بل يمكن أن يقال: بتقديم بيّنته على حلفه خصوصاً مع ملاحظة قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «البيّنة على المدّعى و اليمين على من أنكر» «1». و كذا لو استمهل في الحلف لا تسقط دعواه بمجرّد الاستمهال، كما أنّه إذا استمهل المنكر في الحلف يجوز، إذا لا يكون منافياً لحقّ المدّعى، و في صورة استمهال المدّعى لا يكون هذا القيد أيضاً موجوداً، كما لا يخفى.

السادس: لكلٍّ من المدّعى عليه و المدّعي أن يرجع عن استحلاف الآخر أو ردّ الحلف قبل تحقّق الحلف، فللمدّعي عليه أن يرجع عن ردّه قبل حلف المدّعى، و للمدّعي أن يرجع عن استحلاف المدّعى عليه قبل تحقّق الحلف. أمّا علىٰ تقدير كون ذلك حقّا من الطرفين، فلعدم الدليل على اللزوم بعد الإعمال و قبل تحقّق الحلف. و أمّا على تقدير عدم كونه حقّا بل حكماً شرعيّاً؛ فلعدم الدليل علىٰ عدم الجواز أي جواز الرجوع بعد الردّ، نعم بعد تحقّق الحلف لا مجال للعدم، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تقدم في ص 129.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 150

[مسألة 7: لو نكل المنكر فلم يحلف و لم يردّ، فهل يحكم عليه بمجرّد النكول، أو يردّ الحاكم اليمين على المدّعى]

مسألة 7: لو نكل المنكر فلم يحلف و لم يردّ، فهل يحكم عليه بمجرّد النكول، أو يردّ الحاكم اليمين على المدّعى، فإن حلف ثبتت دعواه و إلّا سقطت؟ قولان، و الأشبه الثاني (1).

______________________________

(1) في المسألة قولان: ذهب إلى كلٍّ منهما جماعة من الفقهاء القدماء و المتأخّرين، و نسب القول الثاني إلى الأكثر «1»، بل ادّعي الإجماع عليه «2»، و استظهر القول الأوّل المحقّق

في الشرائع، و قال: و هو المرويّ «3»، لكنّ الماتن جعل الأشبه الثاني كصاحب ملحقات العروة «4».

و قبل الخوض في المسألة لا بدّ من التعرّض للروايات؛ لأنّه مع وجود الروايات فيها لا تصل النوبة إلى الأصول العمليّة مطلقاً، سواء كانت مخالفة لها أو موافقة؛ لعدم المجال لها معها، كما حقّق في علم الأُصول مثل: أصالة عدم مشروعيّة ردّ اليمين من الحاكم، و أصالة عدم ثبوت الحلف على المدّعى، و أصالة براءة ذمّة الحاكم من التكليف بالردّ، و أصالة براءة المدّعى من التكليف باليمين، كما أنّه لا بدّ من التّوجه إلى أنّه ليس و لو في رواية واحدة التصريح بردّ الحاكم اليمين إلى المدّعى في الجملة، و إلى أنّ قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «اليمين على من ادّعي عليه» لا إطلاق له أصلًا، بل الغرض بيان الوظيفة الأوّلية؛ و لذا لا دلالة له على عدم جواز ردّ المنكر اليمين إلى المدّعى،

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 209، المهذّب: 2/ 585، السرائر: 2/ 165 و 180، الوسيلة: 229، رياض المسائل: 9/ 109، و حكى عن الإسكافي في المختلف: 8/ 397.

(2) الخلاف: 6/ 290 292 مسألة: 38، غنية النزوع: 442 443.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 85.

(4) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 66.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 151

..........

______________________________

كما ذكرناه سابقاً.

و إلى أنّ هنا بعض الروايات الصحيحة التي أعرض عنها المشهور، مثل:

ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم الطويلة الواردة في كيفيّة حلف الأخرس الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام): كتب له اليمين و غسلها و أمره بشربه فامتنع فألزمه الدين «1».

و لا مجال للاستدلال بها لأجل تفريع الإلزام بالدين على الامتناع من شرب الماء المغسول

به اليمين، بعد عدم العمل من المشهور بهذه الكيفيّة في حلف الأخرس إلّا أن يقال: إنّ إعراض المشهور عن هذه الجهة من الرّواية لا يلزم الإعراض عن الجهة الأُخرى المرتبطة بالمقام، كما هو ظاهر المحقّق العراقي (قدّس سرّه) «2». و كيف كان فلا بدّ من ملاحظة سائر الروايات فنقول:

منها: صحيحة هشام المتقدّمة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «تردّ اليمين على المدّعى». و هي و إن لم تدلّ على أنّ رادّ اليمين هو المنكر فقط؛ لأنّ كلمة «تردّ» إنّما هي بصيغة البناء على المفعول، و مع تاء التأنيث المجازي، إلّا أنّ الظاهر أنّ الرواية إنّما هي بصدد بيان أنّ وظيفة المدّعى لا تكون إقامة البيّنة دائماً، بل قد تردّ اليمين التي هي وظيفة المنكر على المدّعى، فلا مجال للتمسّك بالإطلاق كما لا يخفى.

و منها: صحيحة عبيد بن زرارة المتقدّمة أيضاً عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يدّعى عليه الحقّ و لا بيّنة للمدّعي، قال: يستحلف أو يردّ اليمين على صاحب

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 319 ح 879، الفقيه: 3/ 65 ح 218، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 302، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 33 ح 1.

(2) كتاب القضاء للمحقّق العراقي: 85.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 152

..........

______________________________

الحقّ، فإن لم يفعل فلا حقّ له. و الظاهر أنّ المراد من الجملة الأخيرة: أنّه إذا لم يحلف المدّعى بعد ردّ المدّعى عليه اليمين عليه فلا حقّ للمدّعي، و لا دلالة لها على حكم المقام، نعم في بعض النسخ «فلا حقّ عليه» «1»، و لكن في الوسائل المطبوعة أخيراً المصحّحة ما ذكرنا.

و منها: ما رواه المشايخ الثلاثة عن عبد

الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: قلت للشيخ (عليه السّلام): خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلم تكن له بيّنة بما له، قال: فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، و إن ردّ اليمين على المدّعى فلم يحلف، فلا حقّ له و إن لم يحلف فعليه، و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات، فأُقيمت عليه البيّنة فعلى المدّعى اليمين باللّٰه الذي لا إلٰه إلّا هو، لقد مات فلان، و إنّ حقّه لعليه، فإن حلف، و إلّا فلا حقّ له؛ لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غيّر بيّنة قبل الموت، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له، لأنّ المدّعى عليه ليس بحيّ، و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين عليه، فمن ثمَّ لم يثبت الحقّ «2».

و موضع التمسّك بهذه الرواية فقرتان:

إحداهما: قوله (عليه السّلام): «و إن لم يحلف فعليه» لأنّه ظاهر في أنّه إذا لم يتحقّق الحلف من المنكر، و لم يرد اليمين على المدّعى، يثبت عليه الحقّ و يحكم الحاكم بضرره.

و يرد عليه عدم ثبوت هذه الفقرة في رواية الصدوق في الفقيه، فلا مجال

______________________________

(1) كذا في ملحقات العروة الوثقى: 3/ 67.

(2) الكافي: 7/ 415 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 229 ح 555، الفقيه: 3/ 38 ح 128، و عنهما وسائل الشيعة:

27/ 236، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 4 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 153

..........

______________________________

للتمسّك بها.

ثانيتهما: قوله (عليه السّلام) في الذيل: «و لو كان حيّاً لألزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه» لظهوره في أنّ المنكر مع

عدم حلفه، و مع عدم ردّ اليمين على المدّعى، يلزم بالحقّ بعد حكم الحاكم. و كلمة يردّ إنّما هي بصيغة المبني للفاعل و بصورة المذكر، فلا إطلاق لها يشمل غير المنكر.

و التحقيق في المقام أن يقال بعد ملاحظة عدم دلالة شي ء من الروايات على أنّ الحاكم يردّ اليمين إلى المدّعى، بخلاف ردّ المنكر الذي فيه روايات متعدّدة و متكثّرة كما عرفت، و بعد ملاحظة أنّ ردّ الحاكم يفتقر إلى أن يقوم الدليل عليه، و يحتاج إلى البيان خصوصاً بعد الالتفات إلى أنّه ربّما يترتّب علىٰ ردّه عدم حلف المدّعى، و به يثبت إنكار المدّعى عليه، و تسقط دعواه في الواقعة بالمرّة، و حينئذٍ يسأل عن الدليل على هذا السقوط، و مجرّد كون الحاكم وليّ الممتنع لا يكفي في هذه الجهة بعد عدم ثبوت حقّ على المدّعى عليه، خصوصاً بعد جواز الحكم عليه بمجرّد النكول، مع أنّه لا يعلم مقدار سعة هذا الأمر و ضيقه علىٰ فرض صحّة صدوره بترجيح القول الأوّل، الذي استظهره المحقّق في الشرائع و نسبه إلى الرّواية، و هو الحكم بمجرّد النكول و عدم الحلف، أو الردّ من المنكر، و قوله (عليه السّلام): «تردّ اليمين على المدّعى» ليس معناه لزوم ردّها إليه و لو من الحاكم، بل معناه عدم اختصاص اليمين بالمنكر، و جواز وقوعه من المدّعى في مقابل اليمين على من ادّعى عليه، و إن شئت قلت: إنّ الأمر فيه لا دلالة فيه على اللزوم، بل هو في مقام توهّم الحظر، فلا دلالة فيه إلّا على الإباحة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 154

..........

______________________________

كما أنّ قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و

الايمان» «1» لا اشعار فيه على جواز الردّ؛ لأنّه مضافاً إلى انّه مع ردّ الحاكم، ربّما لا يتحقّق الحلف من المدّعى، معناه تحقّق القضاء مع ميزانيّتهما وجوداً و عدماً كما لا يخفى، و إلّا فمع ردّ المنكر اليمين إلى المدّعى، و عدم حلفه، تسقط دعواه بحكم الحاكم كما تقدّم.

و دعوى أنّ مقتضى الأصل حلف المدّعى بعد ردّ الحاكم إليه؛ لعدم ثبوت حقّه بدونه نظراً إلى أنّه القدر المتيقّن، مدفوعة مضافاً إلى ما عرفت من دلالة بعض الروايات علىٰ خلافه أنّه يسأله عن الدليل على السقوط مع عدم حلفه، مع أنّ مقتضى الأصل عدم سقوط حقّه بعد كون دعواه قابلة للطرح و السّماع، كما هو المفروض. فالإنصاف قوّة القول الأوّل و رجحانه، فتدبّر.

______________________________

(1) تقدّم في ص 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 155

[مسألة 8: لو رجع المنكر الناكل عن نكوله]

مسألة 8: لو رجع المنكر الناكل عن نكوله، فإن كان بعد حكم الحاكم عليه، أو بعد حلف المدّعى المردود عليه الحلف لا يلتفت إليه، و يثبت الحقّ عليه في الفرض الأوّل، و لزم الحكم عليه في الثاني من غير فرق بين علمه بحكم النكول أو لا (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فرعان:

الأوّل: إذا رجع المنكر الناكل عن نكوله بعد حكم الحاكم عليه، و في هذه الصّورة يثبت الحقّ على المنكر الناكل، و لا أثر لرجوعه أصلًا؛ لأنّه بعد ارتفاع النزاع و فصل الخصومة بسبب حكم الحاكم الموضوع لهذه الجهة لا يبقى مجال لتجديد النزاع في هذه الواقعة، و لا الحكم ثانياً أصلًا، كما هو واضح لا يخفىٰ.

الثاني: ما إذا رجع المنكر المزبور بعد حلف المدّعى المردود عليه الحلف و قبل الحكم، سواء كان الحلف مردوداً عليه من المنكر

أو من الحاكم، بناءً على قول الماتن (قدّس سرّه) من أنّ الحاكم يردّ عليه اليمين إذا لم يحلف المنكر و لم يردّ على المدّعى. و في هذه الصورة يلزم على الحاكم الحكم على المنكر، و أنّ الرجوع لا أثر له أصلًا؛ لأنّا و إن ذكرنا أنّ الرجوع قبل الحلف لا مانع منه، إلّا أنّ الكلام هنا في الرجوع بعد الحلف، و الظاهر أنّه لا أثر له؛ لظهور بعض الروايات الواردة في ردّ المنكر اليمين إلى المدّعى في أنّه إذا حلف اليمين المردودة يترتّب عليها ثبوت الحقّ مطلقاً، أي يجب على الحاكم أن يحكم على طبقه من دون انتظار أمر آخر، مع أنّ الحكم بجواز الرجوع بعده ينجرّ إلى تعطيل القضاء و فصل الخصومة.

و لكن ذكر السيّد في الملحقات: أنّ الأقوى الالتفات إلىٰ رجوعه؛ لعدم ثبوت الحقّ عليه قبل حكم الحاكم، و إن تحقّق موجبه، و دعوى أنّه قد وجب على الحاكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 156

..........

______________________________

الحكم عليه بعد تحقّق الموجب فيستصحب، مدفوعة بأنّه موقوف علىٰ عدم رجوعه لا أقلّ من الشكّ، مع أنّ إطلاقات كون الحلف عليه شاملة لهذه الصورة، و القدر المسلّم من حكم النكول ما إذا كان باقياً عليه «1».

و ممّا ذكرنا ظهر جوابه؛ لأنّه لا تصل النوبة إلى الاستصحاب مع ظهور الرّواية في خلافه، فالظاهر هو عدم الالتفات إليه، كما في المتن.

ثمّ إنّه حكي عن الرياض التفصيل بين صورة العلم و صورة الجهل «2»، و الظّاهر أنّه لا وجه له بعد عدم كون الجهل عذراً في الأحكام الوضعيّة، كما في الإتلاف الموجب للضمان، فإنّه لا فرق فيه بين الصورتين، بل و بين صورة ثبوت

التكليف و عدمه كما في النائم، كما لا يخفى.

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 68 ذ مسألة 17.

(2) رياض المسائل: 13/ 112.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 157

[مسألة 9: لو استمهل المنكر في الحلف و الردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه]

مسألة 9: لو استمهل المنكر في الحلف و الردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه، جاز إمهاله بمقدار لا يضرّ بالمدّعي، و لا يوجب تعطيل الحقّ و التأخير الفاحش، نعم لو أجاز المدّعى جاز مطلقاً بمقدار إجازته (1).

______________________________

(1) لو استمهل المنكر في الحلف و الردّ ليلاحظ ما فيه صلاحه، ففيه صورتان:

الأُولىٰ: صورة إجازة المدّعى الذي يدّعى عليه الحقّ عيناً أو ديناً، و في هذه الصورة يجوز للمدّعي الإمهال مطلقاً، و يقتصر علىٰ مقدار إجازته لأنّه صاحب الحقّ احتمالًا، و لا يعدو عنه كما هو المفروض، فيجوز له ذلك مطلقاً.

الثانية: ما إذا أراد الحاكم الإمهال، و في هذه الصورة لا بدّ من الاقتصار في الإجازة علىٰ مقدار لا يضرّ بالمدّعي علىٰ تقدير كونه محقّاً، و لا يوجب تعطيل الحقّ و التأخير الفاحش، مع كون المقصود من الحكم فصل الخصومة و وصول الحقّ إلى صاحبه، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 158

[مسألة 10: لو قال المدّعى: لي بيّنة لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها]

مسألة 10: لو قال المدّعى: لي بيّنة لا يجوز للحاكم إلزامه بإحضارها، فله أن يحضرها، أو مطالبة اليمين، أو ترك الدعوىٰ، نعم يجوز له إرشاده بذلك أو بيان الحكم، من غير فرق في الموضعين بين علمه و جهله (1).

______________________________

(1) قد وقع الاختلاف بينهم بهذه الصورة، و هي أنّه هل يجوز للحاكم أن يقول للمدّعي الذي يقول: لي بيّنة: أحضرها؟

فعن محكيّ الرّياض نسبته إلى أكثر المتأخّرين «1»، بل في المسالك إلى أكثر أصحابنا «2»، و استحسنه المحقّق في الشرائع «3»، و عن المبسوط و المهذّب و السرائر أنّه لا يجوز «4»، و عن القواعد و المختلف و الدروس التفصيل بين علم الحاكم بمعرفة المدعي بكون المقام مقام بيّنة فلا يجوز،

و بين جهله بذلك فيجوز «5».

و الظاهر كما يستفاد من الجواهر «6» أنّ النزاع لفظيّ لا حقيقيّ؛ لأنّه إن كان المراد بهذه اللفظة و هو قول: أحضرها، الأمر بإحضار البيّنة و الإيجاب على المدّعى، فلا وجه له؛ لأنّه حقّ له إن شاء جاء و إلّا فلا. إذ قد يريد اليمين و قد يرفع اليد عن الدعوى مطلقاً. و إن كان المراد به هو الاذن و الإعلام لا الوجوب و الإلزام، و إن شئت قلت: إرشاد المدّعى الجاهل أو بيان الحكم، و أنّ المدعي الواجد للبيّنة إذا جاء بها تقبل، فلا وجه للحكم بعدم الجواز أصلًا، كما لا يخفى.

______________________________

(1) رياض المسائل: 13/ 90.

(2) النهاية: 339، المقنعة: 723، المراسم: 231، الكافي في الفقه: 446، الوسيلة: 212، غنية النزوع: 445، و حكاه عن الكامل للقاضي ابن البرّاج في المختلف: 8/ 375 مسألة 3، المسالك: 13/ 459.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 85.

(4) المبسوط: 8/ 159، المهذّب: 2/ 585، السرائر: 2/ 158.

(5) قواعد الأحكام: 3/ 440، مختلف الشيعة: 8/ 375 مسألة 3، الدروس الشرعيّة: 2/ 90.

(6) جواهر الكلام: 40/ 191.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 159

[مسألة 11: مع وجود البيّنة للمدّعي يجوز له عدم إقامتها]

مسألة 11: مع وجود البيّنة للمدّعي يجوز له عدم إقامتها و لو كانت حاضرة و إحلاف المنكر، فلا يتعيّن عليه إقامتها، و لو علم أنّها مقبولة عند الحاكم، فهو مخيّر بين إقامتها و إحلاف المنكر، و يستمرّ التخيير إلى يمين المنكر، فيسقط حينئذٍ حقّ إقامة البيّنة و لو لم يحكم الحاكم، و لو أقام البيّنة المعتبرة و قبل الحاكم فهل يسقط التخيير أو يجوز العدول إلى الحلف؟ وجهان أوجههما سقوطه (1).

______________________________

(1) قد عرفت أنّه لا يتعيّن على المدّعى إذا

كانت له بيّنة إقامتها، و لو علم بوجدانها للشرائط و كونها مقبولة عند الحاكم، و لا دليل على ترتّب الاستحلاف و الإحلاف على عدم وجود البيّنة رأساً، فهو مخيّر بين إقامة البيّنة و إحلاف المنكر. كما أنّه له إسقاط الدعوى رأساً قبل حكم الحاكم، بل الدليل على العدم مثل: صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله، ذهبت اليمين بحقّ المدّعى، فلا دعوى له قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم إلخ «1». فإنّ قوله (عليه السّلام): «إذا رضي ..» مطلق شامل لثبوت البيّنة، و إمكان إقامتها و عدمه، كما أنّ قول السائل مطلق شامل لما إذا كانت البيّنة العادلة من أوّل الأمر، غاية الأمر أنّه لم يقمها، أو لم تكن و تحقّقت بعد الحلف كما لا يخفىٰ.

نعم ربّما يتراءى من ظاهر بعض الروايات تعليق الاستحلاف علىٰ عدم وجود البيّنة رأساً، مثل قوله (عليه السّلام) في مرسلة يونس المضمرة المتقدّمة، الدالّة على أنّ

______________________________

(1) تقدمت في ص 138.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 160

..........

______________________________

استخراج الحقوق بأربعة وجوه، فإن لم يكن شاهد، فاليمين على المدّعى عليه «1». و قوله (عليه السّلام) في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري (عليه السّلام) عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) الحاكي لفعل الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله): و إن لم يكن له بيّنة، حلف المدّعى عليه باللّٰه «2» إلخ و بعض الروايات الأُخر، و الظاهر أنّ المراد هو عدم إقامة البيّنة، سواء كانت موجودة أم لا.

بقي الكلام في أمرين:

أحدهما: أنّ استمرار التخيير للمدّعي إنّما

هو إلى زمان يمين المنكر، فقبل الحلف يجوز له الرّجوع عن الاستحلاف، و أمّا بعد تحقّق الحلف من المنكر فلا يكون المدّعى باقياً على إقامة البيّنة، فلا يجوز له إقامتها بعده؛ لأنّ ظاهر مثل صحيحة ابن أبي يعفور المتقدّمة ذهاب اليمين بحق المدّعى و لو لم يحكم الحاكم، غاية الأمر انّا قيّدناه بصورة الحكم، و أمّا التقييد بما إذا لم يقم البيّنة بعده فلا دليل عليه، بل صريح الصحيحة عدم التأثير لإقامة البيّنة بعد الحلف أصلًا، و ظاهر إطلاقها و إن كان قبل الحكم.

ثانيهما: أنّه لو أقام المدّعى البيّنة و قبلها الحاكم، فهل يسقط التخيير أو يجوز للمدّعي العدول إلى الحلف مكان إقامة البيّنة؟ فيه وجهان؛ و الأوجه هو الوجه الثاني؛ لأنّ الأدلّة الدالّة علىٰ جواز الاستحلاف منصرفة عن هذه الصّورة، فلا يجوز الإحلاف مع إقامة البيّنة و قبول الحاكم، و إن نفى عنه البعد السيّد في الملحقات «3».

______________________________

(1) تقدمت في ص 148.

(2) تأتي بطولها في ص 166- 167.

(3) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 70 ذ مسألة 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 161

[مسألة 12: لو أحضر البيّنة]

مسألة 12: لو أحضر البيّنة فإن علم أو شهدت القرائن بأنّ المدّعى بعد حضورها لم يرد إقامتها فليس للحاكم أن يسألها، و إن علم أو شهدت الأحوال بإرادة إقامتها فله أن يسألها، و لو لم يعلم الحال و شكّ في ذلك فليس للحاكم سؤال الشهود، نعم له السؤال من المدّعى بأنّه أراد الإقامة أو لا (1).

______________________________

(1) لو أحضر المدّعى البيّنة، ففيه صور ثلاث بالإضافة إلى الحاكم:

الاولىٰ: أن يعلم الحاكم أو شهدت القرائن بأنّه لم يرد إقامتها لإثبات دعواه بعد حضورها، ففي هذه الصورة لا يجوز للحاكم

أن يسأل من البيّنة شيئاً؛ لأنّ المفروض عدم إرادة المدّعى إقامتها و إن كان قد أحضرها.

الثانية: أن يعلم الحاكم أو شهدت القرائن بأنّه أراد إقامتها، و في هذه الصورة يجوز للحاكم السؤال من البيّنة فيما يرتبط بدعواه و شهادتهما، كما لا يخفىٰ.

الثالثة: صورة الجهل بالحال و عدم علم الحاكم، و كذا عدم شهادة القرائن بأنّه أراد الإقامة أو لم يرد، و في هذه الصورة أيضاً لا يجوز للحاكم السؤال من البيّنة بعد عدم إحراز إرادة الإقامة، نعم مع الجهل بذلك، و أنّ المدّعى أراد الإقامة أو لم يرد يجوز له السؤال من المدّعى، و أنّه في مقام الإقامة، و ما لم يثبت للحاكم ذلك لا يجوز السؤال من الشهود.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 162

[مسألة 13: إذا شهدت البيّنة فإن عرفهما الحاكم بالفسق طرح شهادتهما]

مسألة 13: إذا شهدت البيّنة فإن عرفهما الحاكم بالفسق طرح شهادتهما، و كذا لو عرف بفقدهما بعض شرائط الشهادة، و لو عرفهما بالعدالة و جامعيّتهما الشرائط قبل شهادتهما، و إن جهل حالهما توقّف و استكشف من حالهما، و عمل بما يقتضيه (2).

______________________________

(2) إذا شهدت البيّنة التي أقامها المدّعى، ففيه أيضاً صور ثلاث:

الاولىٰ: أن يعرفهما الحاكم بالفسق، أو بفقد بعض شرائط الشهادة، ففي هذه الصورة يطرح شهادتهما.

الثانية: أن يعرفهما الحاكم بالعدالة و الجامعيّة لشرائط الشهادة، و في هذه الصورة يقبل شهادتهما و يحكم للمدّعي.

الثالثة: أن يكون حالهما من حيث العدالة أو الجامعيّة للشرائط مجهولًا للحاكم، و في هذه الصورة يتوقّف الحاكم عن القبول و الحكم، و يستكشف عن حالهما ليظهر و يعمل على طبق ما استكشف من القبول أو الردّ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 163

[مسألة 14: إذا عرفهما بالفسق أو عدم جامعيّتهما للشرائط طرحهما من غير انتظار التزكية]

مسألة 14: إذا عرفهما بالفسق أو عدم جامعيّتهما للشرائط طرحهما من غير انتظار التزكية، لكن لو ادّعى المدّعى خطأ الحاكم في اعتقاده تسمع منه، فإن أثبت دعواه، و إلّا فعلى الحاكم طرح شهادتهما. و كذا لو ثبت عدالتهما و جامعيتهما للشرائط، لم يحتج إلى التزكية و يعمل بعلمه، و لو ادّعى المنكر جرحهما أو جرح أحدهما تقبل، فإن أثبت دعواه أسقطهما و إلّا حكم، و يجوز للحاكم التعويل على الاستصحاب في العدالة و الفسق (1).

______________________________

(1) الغرض من هذه المسألة أنّه إذا اعتقد الحاكم فسق الشاهدين أو أحدهما، أو عدم الجامعيّة للشرائط المعتبرة في قبول الشهادة، يطرحهما من غير انتظار التزكية، لكن لو ادّعى المدّعى خطأ الحاكم في اعتقاده تسمع هذه الدعوى من المدّعى، بمعنى أنّ له إثبات دعواه و خطأ الحاكم، فإن أثبت دعواه

و خطأ الحاكم، و إلّا فعليه طرح شهادتهما و عدم الاعتناء بالبيّنة. و هكذا بالإضافة إلى المنكر لو ثبتت العدالة و الجامعيّة للشرائط بحسب اعتقاد الحاكم، لكن ادّعى المنكر جرحهما أو جرح أحدهما، فإنّه تقبل هذه الدعوى من المنكر، غاية الأمر يحتاج إلى الإثبات، فإن أثبت دعواه أسقطهما و إلّا يحكم الحاكم.

ينبغي التنبيه على أمرين:

أحدهما: أنّ إثبات دعوى المنكر خطأ الحاكم في الاعتقاد بالعدالة لا يتوقّف علىٰ ثبوت الفسق بنحو يوجب الحدّ مثلًا، فإذا ادّعى المنكر أنّ أحد الشاهدين زانٍ مثلًا، لا حاجة في مقام الإثبات إلى البيّنة المعتبرة في إثبات الزنا الموجب للحدّ، بل مجرّد شهادة عدلين بذلك يكفي في لزوم الإسقاط و عدم الحكم؛ لأنّه ليس المراد إلّا مجرّد عدم العدالة المعتبرة في الشهادة، لا ثبوت الزّنا الموجب للحدّ، فتدبّر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 164

[مسألة 15: إذا جهل الحاكم حالهما وجب عليه أن يبيّن للمدّعي أنّ له تزكيتهما بالشهود مع جهله به]

مسألة 15: إذا جهل الحاكم حالهما وجب عليه أن يبيّن للمدّعي أنّ له تزكيتهما بالشهود مع جهله به، فإن زكّاهما بالبيّنة المقبولة وجب أن يبيّن للمدّعى عليه أنّ له الجرح إن كان جاهلًا به، فإن اعترف بعدم الجارح حكم عليه، و إن أقام البيّنة المقبولة على الجرح سقطت بينة المدّعى (1).

______________________________

كي لا يختلط عليك الأمر.

ثانيهما: يجوز للحاكم التعويل على الاستصحاب في العدالة و الفسق، إذا كانت هناك حالة سابقة متيقّنة لفرض حجيّته، و إن لم يكن في البين حتى الاستصحاب؛ لعدم العلم بالحالة السابقة، فلا يجوز للحاكم ترتيب الأثر على البيّنة المشكوكة، كما لا يخفى.

(1) إذا كان الحاكم جاهلًا بحال البيّنة التي أقامها المدّعى فالواجب عليه أن يبيّن للمدّعي إذا كان جاهلًا أنّ له تزكية الشهود، فإن لم يزكّهما فبها،

و إن زكّاهما بالبيّنة المعتبرة المقبولة عنده بحيث قامت البيّنة علىٰ عدالة كلّ منهما، فالواجب على الحاكم أن يبيّن للمدّعى عليه الجاهل أنّ له الجرح فإن اعترف بعدم الجارح حكم على المدّعى عليه، و إن أقام البيّنة المقبولة على الجرح تساقطت البيّنتان؛ لتعارض الأمارتين أو تقدّم بيّنة الجارح على بيّنة المزكّي، كما يأتي البحث «1» فيه إن شاء اللّٰه تعالى، و بالآخرة تسقط بيّنة المدّعى عن الاعتبار و جواز الحكم باستنادها، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) في ص 181.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 165

[مسألة 16: في صورة جهل الحاكم و طلبه التزكية من المدّعى]

مسألة 16: في صورة جهل الحاكم و طلبه التزكية من المدّعى لو قال: «لا طريق لي» أو قال: «لا أفعل» أو «يعسر عليّ» و طلب من الحاكم الفحص، لا يجب عليه ذلك و إن كان له ذلك، بل هو راجح. و لو طلب الجرح في البيّنة المقبولة من المدّعى عليه و لم يفعل و قال: «لا طريق لي» أو «يعسر عليّ» لا يجب عليه الفحص، و يحكم علىٰ طبق البيّنة، و لو استمهله لإحضار الجارح فهل يجب الإمهال ثلاثة أيّام، أو بمقدار مدّة أمكنه فيها ذلك، أو لا يجب و له الحكم، أو وجب عليه الحكم فإن أتى بالجارح ينقضه؟ وجوه، لا يبعد وجوب الإمهال بالمقدار المتعارف، و لو ادّعى الإحضار في مدّة طويلة يحكم علىٰ طبق البيّنة (1).

______________________________

(1) فيما إذا طلب الحاكم الجاهل بحالهما من المدّعى التزكية، و قال المدّعى في الجواب: لا طريق لي أو قال: لا أفعل، أو قال: يعسر عليّ، و طلب من الحاكم الفحص عن العدالة و عدمها، ففي وجوب الفحص عليه وجهان، قد يقال بالوجوب نظراً إلى أحد أمرين:

الأوّل: كون

المقام من قبيل باب الوضوء، فكما أنّه يجب في ذلك المقام الفحص عن الماء، و لا يكتفى بمجرّد عدم وجدانه في المحلّ الذي يريد الوضوء، فكذلك المقام يجب على الحاكم الفحص عن عدالة البيّنة المأمور بالحكم على طبقها.

و يرد عليه بطلان المقايسة و التشبيه، فإنّ وجوب الوضوء وجوب مطلق، و اللّازم تهيئة مقدّماته من الماء و غيره، و لو لا الدليل على لزوم الفحص إلى مقدار معيّن لكان اللّازم الفحص مطلقاً إلى أن يتحقّق اليأس، و هذا بخلاف المقام الذي لا يلزم و لا يجب فيه الحكم بنفع المدعي إلّا على فرض إقامة بيّنة عادلة مقبولة عند الحاكم، و الفرض جهله بالعدالة.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 166

..........

______________________________

و قد عرفت أنّ الحاكم لا يجوز أن يقول للمدّعي الواجد للبيّنة: أحضرها، مريداً به الإلزام، كما أنّك عرفت أنّه لا يجوز أن يسأل عن البيّنة ما لم يُرد المدّعى إقامتها، و هذا و أشباهه دليل على عدم كون وجوب الحكم وجوباً مطلقاً كالوضوء في المثال.

الثاني: دلالة الرواية المنقولة عن التفسير المنسوب إلى الإمام الحسن بن عليّ العسكري (عليهما السّلام)، عن آبائه، عن عليّ (عليه السّلام) المفصّلة الدالّة على أنّ النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) إذا تخاصم إليه رجلان قال للمدّعي: أ لكَ حجّة؟ فإن أقام بيّنة يرضاها و يعرفها أنفذ الحكم على المدّعى عليه، و إن لم يكن له بيّنة حلف المدّعى عليه إلى أن قال: و إذا جاء بشهود لا يعرفهم بخير و لا شرّ، قال للشهود: أين قبائلكما؟ فيصفان إلى أن قال: ثمّ يأمر فيكتب أسامي المدّعى و المدّعى عليه و الشهود، و يصف ما شهدوا به ثمّ

يدفع ذلك إلى رجل من أصحابه الخيار، ثمّ مثل ذلك إلى رجل آخر من خيار أصحابه، ثمّ يقول: ليذهب كلّ واحد منكما من حيث لا يشعر الآخر إلى قبائلهما فيسأل عنهما فيذهبان و يسألان، فإن أتوا خيراً إلى أن قال: قضى حينئذٍ بشهادتهما على المدّعى عليه، فإن رجعا بخبر سيّئ لم يهتك ستر الشاهدين، و لكن يدعو الخصوم إلى الصّلح؛ لئلّا يفتضح الشهود، فإن كان الشهود من أخلاط الناس غرباء لا يعرفون و لا قبيلة لهما، فإن قال المدّعى عليه: ما عرفنا أي في الشهود إلّا خيراً غير أنّهما قد غلطا فيما شهدا عليّ، أنفذ شهادتهما، و إن جرحهما و طعن عليهما أصلح بين الخصم و خصمه، و أحلف المدّعى عليه، و قطع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 167

..........

______________________________

الخصومة بينهما «1».

هذا، و لكن صحّة التفسير المذكور و انتسابه إلى الإمام (عليه السّلام) غير معلومة، و إن نقل عنه في الوسائل و لم ينقل عن مثل فقه الرضا، لكن اعتماد الوسائل ليس بحجّة شرعيّة، نعم بعد ملاحظة قاعدة التسامح في أدلّة السنن لا مجال للارتياب في استحباب الفحص.

و لو لا الشكّ في انتساب الكتاب المزبور لما كان للحمل على الاستحباب وجه؛ لأنّ فعل النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) و إن كان أعمّ من الوجوب لاحتمال الاستحباب، إلّا أنّه لمّا كان الحاكي عنه هو المعصوم (عليه السّلام)، و كان الغرض من حكايته بيان الحكم بهذه الكيفيّة؛ لكان اللّازم هو الأخذ بظاهر كلامه الدالّ على اللزوم في مثل المقام، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا إشكال في عدم وجوب الفحص عن الجارح لو قال للمدّعى عليه و طلب منه الجرح بالإضافة

إلى البيّنة المقبولة عنده، و قال: لا طريق لي أو يعسر عليّ، بل يحكم الحاكم بنفع المدّعى.

نعم لو استمهله المدّعى عليه لإحضار الجارح، فتارةً يدّعي الإحضار في مدّة طويلة يتضرّر فيها المدّعى، و يتضيّع حقّه الذي يدّعيه، فلا إشكال في عدم جواز الإمهال المدّة المذكورة، بل يحكم علىٰ طبق البيّنة المقبولة بنفع المدّعى. و أُخرى يستمهل لإحضار الجارح مطلقاً، فربّما يقال كما عن المبسوط: بإمهاله ثلاثة أيّام «2»، كما أنّه يحتمل الإمهال مدّة

______________________________

(1) تفسير المنسوب إلى الإمام الحسن العسكري (عليه السّلام): 284، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 239، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 6 ح 1.

(2) المبسوط: 8/ 159.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 168

..........

______________________________

يمكنه فيها الإحضار.

و يحتمل ثالثاً عدم وجوب الإمهال أصلًا، فيجوز أو يجب عليه الحكم. غاية الأمر أنّه إن أتى بالجارح ينقض الحاكم الحكم، فيه وجوه و احتمالات، و لكن لا يبعد الاحتمال المتوسّط و وجوب الإمهال بالمقدار المتعارف؛ لعدم الدليل المعتبر علىٰ مقدار ثلاثة أيّام، و ربّما يكون جاهلًا بأن يقيم المدّعى البيّنة المقبولة، و يحتمل فيه الاستحلاف و طلب الحلف من المنكر، فأصل الإمهال رعاية لعدم تضييع الحقّ لازم لا ريب فيه، و أمّا الإمهال ثلاثة أيّام فلا دليل عليه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 169

[مسألة 17: لو أقام البيّنة علىٰ حقّه و لم يعرفهما الحاكم بالعدالة]

مسألة 17: لو أقام البيّنة علىٰ حقّه و لم يعرفهما الحاكم بالعدالة، فالتمس المدّعى أن يحبس المدّعى عليه حتّى يثبت عدالتهما، قيل: يجوز حبسه، و الأقوى عدم الجواز، بل لا يجوز مطالبة الكفيل منه و لا تأمين المدّعى به، أو الرهن في مقابل المدّعى به (1).

______________________________

(1) قد تعرّض الأصحاب لنظير

هذه المسألة، قال المحقّق في الشرائع: و لو ذكر المدّعى أنّ له بيّنة غائبة خيّره الحاكم بين الصّبر و بين إحلاف الغريم، و ليس له ملازمته و لا مطالبته بكفيل «1». قال في الجواهر: وفاقاً للمحكي عن أكثر المتأخرين بل عامّتهم «2»، و الإسكافي، و الشيخ في الخلاف و المبسوط، و الحلّي، و القاضي في أحد قوليه «3» إلى أن قال: خلافاً للمحكي عن الشيخين في المقنعة و النهاية، و القاضي في أحد قوليه، و ابني حمزة و زهرة نافياً للخلاف فيه ظاهراً «4»، «5».

و الدليل على قول الأوّل أنّه لا معنى للعقوبة على الحقّ قبل ثبوته، كما هو المفروض، على أنّ الكفيل يلزمه الحقّ إن لم يحضر المكفول، و هنا لا معنى له قبل إثباته، و لا معنى لكون حضور الدّعوىٰ و سماع البيّنة حقّا يكفل عليه.

و على القول الآخر قاعدة لا ضرر و لا ضرار، فإنّه قد يهرب المدّعى عليه،

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 85.

(2) كشف الرموز: 2/ 500، قواعد الأحكام: 2/ 442، إيضاح الفوائد: 4/ 335، اللمعة الدمشقيّة: 51، المقتصر: 377، مسالك الأفهام: 13/ 464، رياض المسائل: 13/ 92- 93.

(3) حكاه في المختلف: 8/ 376 عن الإسكافي، الخلاف: 6/ 237 مسألة 36، المبسوط: 8/ 159- 160، المهذّب: 2/ 586.

(4) المقنعة: 733، النهاية: 339، و حكاه عن الكامل للقاضي ابن البرّاج في المختلف: 8/ 376، الوسيلة:

212، غنية النزوع: 445.

(5) جواهر الكلام: 40/ 205.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 170

..........

______________________________

و لا يتمكّن المدّعى من تحصيل الحقّ، فيجب حينئذٍ مقدّمته للزوم مراعاة حقّ المسلم من الذهاب في نفس الأمر، و الإلزام بالكفيل أو الحبس و إن كان ضرراً إلّا أنّ

ذهاب الحقّ أيضاً ضرر، و على الحاكم مراعاة الأقلّ منهما ضرراً، و لعلّه التكفيل.

هذا، و يظهر عن محكيّ الرياض التفصيل في المسألة، بأنّه إن خيف هرب المنكر، و عدم التمكّن من استيفاء الحقّ بعد ثبوته من ماله فالقول الثاني لا يخلو من رجحان، و لو لم يتحقّق الخوف من ذلك أمكن ترجيح القول الأوّل «1»، و بهذا التفصيل صرّح الفاضل المقداد فيما حكي عنه «2».

أقول: أما قاعدة نفي الضرر و الضرار فمضافاً إلى الاختلاف فيها في كونها حكماً حكوميّاً أو شرعيّاً بالعنوان الأوّلي أو الثانوي، يرد على الاستدلال بها أنّه لا وجه لجريانها في المقام إذ الضرر لا يدفع بالضرر، مع أنّها لا تقتضي تعجيل الضرر على المسلم باحتمال ضرر الآخر، و عدم تمكّن المدّعى من تحصيل حقّه على فرض الهرب فرضاً لا يرتبط بالحاكم الذي لا تكون وظيفته بعد سماع الدعوى إلّا الحكم على طبق مثل البيّنة العادلة أو اليمين، و إلّا يجب على الحاكم ذلك قبل طرح الدعوىٰ؛ لئلّا يضيّع حقّه.

نعم بعد ثبوت الدعوى تجري مسألة الحبس، كما تقدّم من حبس المديون الواحد المتمكّن من أداء الدين الممتنع عنه «3». فالإنصاف ما أفاده الماتن (قدّس سرّه) من أنّه لا تجوز مطالبة الكفيل منه، و لا تأمين المدّعى به أو الرهن في مقابله.

______________________________

(1) رياض المسائل: 13/ 94.

(2) التنقيح الرائع: 4/ 252 253.

(3) في ص 124 125.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 171

[مسألة 18: لو تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة انتقض الحكم]

مسألة 18: لو تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة انتقض الحكم، و إن كان طارئاً بعد الحكم لم ينتقض، و كذا لو تبيّن فسقهما بعد الشهادة و قبل الحكم على الأشبه (1).

______________________________

(1) لا شبهة في

اعتبار العدالة في الشاهدين، و هل العدالة المعتبرة إنّما هي بنحو الشرط العلمي نحو العدالة في إمام الجماعة، أو الواقعي كما في الشاهدين في باب الطلاق؟ يظهر من صاحب الجواهر: أنّه لو لا اتّفاق كلمة الأصحاب ظاهراً، و أصالة الواقعيّة في الشرائط، و لو كانت مستفادة من قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «1» لأمكن أن يدّعى أنّ الشرط علميّ؛ لإطلاق ما دلّ على نفوذ الحكم و عدم جواز ردّه، إذا كان علىٰ نحو قضائهم (عليهم السّلام)، و علىٰ حسب الموازين التي نصبوها لذلك، و لا دليل على اشتراط أزيد من ذلك حتّى قوله تعالى المذكور؛ لأنّ المراد منه ذوي عدل عندكم، لا أقل من الشكّ، فيبقى ما دلّ على نفوذ الحكم بحاله، إلّا أن يقال بالفرق بين ما هنا و بين الجماعة، بأنّ المدار هناك على الصلاة خلف من تثق بعدالته، كما في النص، بخلاف المقام المعتبر كونه عدلًا «2».

و كيف كان فبناءً على اعتبار العدالة الواقعيّة يكون في المسألة صور ثلاث:

الاولىٰ: ما إذا تبيّن فسق الشاهدين أو أحدهما حال الشهادة، و في هذه الصورة لا شكّ في انتقاض الحكم بنفسه و صيرورته كالعدم؛ لأنّ الحكم كان مستنداً إلى شهادتهما، و المفروض تبيّن الفسق للحاكم الرافع للخصومة، فكأنّه لم يصدر منه.

______________________________

(1) سورة الطلاق: 65/ 2.

(2) جواهر الكلام: 40/ 113 114.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 172

..........

______________________________

حكم أصلًا الثانية: تبيّن ذلك بعد الحكم الصادر من الحاكم بمعنى عروض الفسق بعده، و في هذه الصورة لا مجال للانتقاض بوجه بعد إمكان زوال العدالة و عروض الفسق، و كون العدالة المعتبرة إنّما هي بالإضافة إلى الحكم الثابت قبله، و احتمال

عروض الفسق نظير الكفر بعد الإيمان، بل الحالات الخمسة الواقعيّة المحكيّة بقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً «1».

و بالجملة: لا شبهة في عدم الانتقاض في هذه الصورة بعد جامعيّة الحكم لجميع الشرائط، كما لا يخفى.

الثالثة: ما إذا تبيّن الفسق بعد الإقامة و قبل حكم الحاكم، و بعبارة اخرىٰ عرض الفسق في الزمان الفاصل بين الأمرين، و قد وقع الخلاف في الانتقاض و عدمه بمعنى جواز الحكم و عدمه، قال المحقّق (قدّس سرّه) في كتاب الشهادات من الشرائع: لو شهدا ثمّ فسقا قبل الحكم حكم بهما؛ لأنّ المعتبر بالعدالة عند الإقامة «2»، وفاقاً للمحكيّ عن الحلّي «3» و أحد قولي الشيخ «4» و الفاضل «5»، و خلافاً للمحكي عن الشيخ أيضاً في القول الآخر «6»

______________________________

(1) سورة النساء 4: 137.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 142.

(3) السرائر: 2/ 179،

(4) الخلاف: 6/ 320 مسألة 73، المبسوط: 8/ 244.

(5) قواعد الأحكام: 3/ 515، إرشاد الأذهان 2: 168.

(6) المبسوط: 8/ 233.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 173

..........

______________________________

و الفاضل في المختلف «1» و الشهيدين «2» و جماعة «3».

هذا، و يظهر الميل إليه من صاحب الجواهر «4»، و ما قيل في ترجيح هذا القول عبارة عن أنّه لم ينقل الخلاف من أحد في أنّه لو طرأ فسق شاهد الأصل قبل الحكم بشهادة الفرع لم يحكم؛ لأنّ الحكم مستند إلى شهادة الأصل، و لا فرق بين المقامين، بل ما نحن فيه أولىٰ، و صدق الحكم بشهادة الفاسق، و كونه كما لو رجع عن الشهادة قبل الحكم، و كما لو كان وارثاً، و مات المشهود له قبل الحكم، فإنّ المحكيّ عن المسالك

اتّفاق الجميع على عدم جواز الحكم حينئذٍ، و أنّ طروّ الفسق يضعف ظنّ العدالة السابقة؛ لبعد طروّه دفعة واحدة «5». و إن أجاب عمّا عدا الأوّل صاحب الجواهر بالنقض بجريان مثل ذلك في الجنون و نحوه «6».

هذا، مع أنّ صدق الحكم بشهادة الفاسق مع فرض كونهما عادلين حال إقامة الشهادة ممنوع، اللهمّ إلّا أن يستفاد من الأدلّة و النصوص المستفيضة الدالّة علىٰ ردّ شهادة الفاسق و لو بالإطلاق لزوم ردّ شهادته مطلقاً، و لو كان حال الإقامة عادلًا واقعاً، و الظاهر عدم ثبوت الإطلاق لها من هذه الجهة، بل مفادها ردّ شهادة الفاسق حال الإقامة، سواء كان حال الحكم باقياً على العدالة أم لا.

______________________________

(1) مختلف الشيعة: 8/ 546 مسألة 106، و كذا في تحرير الأحكام: 5/ 282.

(2) الدروس الشرعيّة: 2/ 133، مسالك الأفهام: 14/ 295،

(3) الجامع للشرائع: 546، شرائع الإسلام: 4/ 924، مفاتيح الشرائع: 3/ 296.

(4) جواهر الكلام: 41/ 218- 219.

(5) مسالك الأفهام: 14/ 281- 282، 295.

(6) جواهر الكلام: 41/ 206 207 و 218.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 174

..........

______________________________

و عليه فلا يكون فرق بين أن يكون زمان التبيّن قبل الحكم، فيجوز مع طروّ الفسق في هذا الزمان و لو بالكفر مثلًا، أو يكون زمان التبيّن بعد الحكم، فلا يتحقّق الانتقاض حينئذٍ، كما هو المفروض في المتن بلحاظ التعبير بعدم الانتقاض، الظاهر في أنّ زمان التبيّن إنّما هو بعد الحكم.

و كيف كان فالمسألة مع أنّها خلافيّة مشكلة جدّاً من مساعدة الاعتبار و تناسب الحكم و الموضوع، و لعلّ ظهور الأدلّة على أنّ الملاك و الاعتبار بالعدالة حال الإقامة و الأداء، و أنّ طروّ الفسق بعدها لا دخالة له في

ذلك أصلًا، و ممّا ذكره في الجواهر مؤيّداً بالأصل.

هذا بالإضافة إلى حقّ الناس، و أمّا بالنسبة إلى حقّ اللّٰه تعالى فقد ذكر المحقّق عقيب عبارته المتقدّمة: «و لو كان حقّا للّٰه تعالى كحدّ الزّناء لم يحكم؛ لأنّه مبنيّ على التخفيف، و لأنّه نوع شبهة، و في الحكم بحدّ القذف و القصاص تردّد أشبهه الحكم لتعلّق حقّ الآدمي به»، و يمكن الفرق بين حدّ القذف و القصاص بأنّ الأوّل مشمول لقوله (عليه السّلام): «ادرءوا الحدود بالشبهات» «1» بخلاف الثاني؛ لأنّه ليس بحدّ، كما أنّه في مثل السّرقة يتحقّق الفرق بين القطع الذي هو مرتبط باللّٰه تعالى، و بين ردّ المال المسروق إلى المسروق منه؛ لكون الثاني حقّا آدميّاً محضاً، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الفقيه: 4/ 53 ح 90، المقنع: 437، و عنهما وسائل الشيعة: 28/ 47، كتاب الحدود، أبواب مقدّمات الحدود ب 24 ح 4 و ص 130، أبواب حدّ الزنا ب 27 ح 11، و تأتي في ص 272.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 175

[مسألة 19: الظاهر كفاية الإطلاق في الجرح و التعديل]

مسألة 19: الظاهر كفاية الإطلاق في الجرح و التعديل، و لا يعتبر ذكر السبب فيهما مع العلم بالأسباب، و موافقة مذهبه لمذهب الحاكم، بل لا يبعد الكفاية إلّا مع العلم باختلاف مذهبهما، و يكفي فيهما كلّ لفظ دالّ على الشهادة بهما، و لا يشترط ضمّ مثل أنّه مقبول الشهادة أو مقبولها لي و عليّ و نحو ذلك في التعديل، و لا مقابلاته في الجرح (1).

______________________________

(1) المشهور هي كفاية الإطلاق في العدالة و لزوم التفسير في الجرح «1»، و عن ابن الجنيد «2» لزوم التفسير فيهما، و اختار الماتن (قدّس سرّه) كفاية الإطلاق في الجرح و

التعديل، و هو الذي يظهر من صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «3»، و استدلّ المشهور لعدم كفاية الإطلاق في الجرح بعدم العسر بذكره، و بأنّه ربّما لا يكون جرحاً عند الحاكم المشهود عنده بخلاف تفصيل العدالة المحتاج إلى ذكر جميع الكبائر و غيره ممّا يتعذّر أو يتعسّر إحصاؤه. و ربّما أشكل ذلك بأنّ الاختلاف في أسباب الفسق يقتضي الاختلاف في أسباب العدالة، فإنّ الاختلاف مثلًا في عدد الكبائر كما يوجب في بعضها ترتّب الفسق على فعله، يوجبه في بعض آخر عدم قدحه في العدالة بدون الإصرار عليه، فيزكّيه المزكّي مع علمه بفعل ما لا يقدح عنده فيها، و هو قادح عند الحاكم.

و كيف كان ففي المسألة صور ثلاث:

إحداها: ما لو علم باتّفاق المذهبين في تفسير العدالة، و الأسباب الموجبة لها

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 109، الخلاف: 6/ 220 مسألة 13، السرائر: 2/ 174، الوسيلة: 211، شرائع الإسلام: 4/ 77، تحرير الأحكام: 5/ 132، مسالك الأفهام: 13/ 406، مستند الشيعة: 18/ 213.

(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 441 مسألة 42.

(3) جواهر الكلام: 40/ 116.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 176

..........

______________________________

أو للفسق، و في هذه الصّورة لا وجه للزوم التفسير بوجه بالإضافة إلى العدالة و الجرح كما لا يخفى.

ثانيتها: ما لو لم يعلم الاتّفاق و الخلاف بين بيّنة المزكّي أو الجارح و بين مذهب الحاكم، و يظهر من المتن نفي البعد عن كفاية الإطلاق في هذه الصورة أيضاً، و وجهه على ما يظهر من الجواهر ما هو المعلوم من طريقة الشرع من حمل عبارة الشاهد على الواقع، و إن اختلف الاجتهاد في تشخيصه قال: و من هنا لا يجب سؤاله عن سبب

التملّك مع الشهادة به، و كذا التطهير و التنجيس و غيرها، و إن كانت هي أيضاً مختلفة في الاجتهاد، بل يحمل قول الشاهد على الواقع، كما يحمل فعله على الصحيح في نفس الأمر لا في حقّ الفاعل خاصّة، و ما العدالة و الفسق إلّا من هذا القبيل، اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ الاختلاف فيهما في معناهما، بخلاف الملك و التطهير و التنجيس و نحوها، فإنّه اختلاف في أسبابها، لكنّه كما ترى «1».

هذا، و يظهر من المحقّق العراقي (قدّس سرّه) في رسالته في القضاء التفصيل بين ما إذا كانت المخالفة المحتملة فيما يرتبط بالشبهات الحكميّة؛ للاختلاف في مدخليّة ترك المروة في حقيقة العدالة، و بين ما إذا كانت فيما يرتبط بالشبهات الموضوعيّة، ففي الأُولى يلزم الاستفسار دون الثانية، و هذا التفصيل يجري في جميع الموارد المشابهة كالملكيّة و الزوجيّة و أمثالهما. قال: و لكنّ الذي يسهّل الخطب في هذه الأُمور غير مسألة الجرح لكون حسن الظاهر أمارة دعوى بعض قيام السيرة على سماع الشهادة مطلقاً فيها، بلا احتياج

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 117.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 177

..........

______________________________

إلى الاستفسار عن سببها، فان تمّ ذلك فهو، و إلّا فللنظر فيه بإطلاقه مجال، إذ مقتضى القاعدة هو الذي بيّناه «1»، انتهى.

و أنت خبير بأنّه لو بني على محض القاعدة لكان الالتزام بعدم تحقّق العدالة و الصحّة لازماً مطلقاً؛ لاقتضاء الاستصحاب العدم.

أقول: هنا إشكال في أصل المسألة، و هو أنّه لم جعل الملاك في المسألة مذهب بيّنة المزكي أو الجارح و ملاحظته مع مذهب الحاكم، مع أنّه من الممكن اختلاف مذهب بيّنة المدّعى مع نظر الحاكم و مذهبه؟ فإنّه يمكن أن لا

ترى بيّنة المدّعى اجتهاداً أو تقليداً بعض الأسباب موجباً للجرح، بحيث لو كان عنده كذلك لكان يجتنب عنه بخلاف الحاكم؛ و في هذه الصورة إن قلنا بعدم ترتيب الحاكم الأثر على بيّنة المدّعى يلزم عدم الأخذ بها مع ثبوت العدالة لهما بحسب مذهبهما، و إن لم نقل بذلك بل بلزوم ترتيب الأثر عليها يلزم الحكم علىٰ طبق البيّنة غير العادلة بنظره.

ثالثتها: صورة العلم بالاختلاف، و في هذه الصورة لا يكفي الإطلاق لا بالإضافة إلى التعديل و لا بالنّسبة إلى الجرح، بل اللّازم التفسير ليلاحظ ثبوت العدالة بنظر الحاكم و عدمه، و وجهه واضح.

بقي في المسألة أُمور لا بدّ من التنبيه عليها:

الأوّل: أنّه يكفي في الشهادة بالعدالة أو الفسق كلّ لفظ دالّ عليها، و لا يجب أن يكون مشتملًا علىٰ عنوان الشهادة مثل قوله: أشهد، و إن أوهمته عبارة

______________________________

(1) كتاب القضاء للمحقّق العراقي: 61.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 178

..........

______________________________

العلّامة في القواعد «1»، لكنّ الظاهر أنّ مراده ما ذكرنا و لو في باب التزكية، لكنّ اللّازم أن يكون في مقام الشهادة و لو بدلالة قرائن الأحوال، فإنّ الشهادة و إن كانت من مقولة الإخبار لا الإنشاء، إلّا أنّها نوع خاصّ و مقام مخصوص، و لا ينطبق عنوان الشاهد إلّا علىٰ من كان في هذا المقام، و عليه فلا يكفي مجرّد الإخبار بالعدالة، بل يجب الشهادة عليها بخلاف التفسيق، فتدبّر.

الثاني: هل يجب ضمّ أنّه مقبول الشهادة إلى قوله عدل أم لا؟ قال في محكيّ القواعد: لا بدّ فيها أيضاً من ضمّ مقبول الشهادة إلى قوله عدل، إذ ربّ عدل لا تقبل شهادته؛ لغلبة الغفلة عليه «2»، و يرد عليه مضافاً

إلى أنّ الكلام في ثبوت وصف العدالة و عدمه لا في جهات اخرىٰ، و إلّا يلزم ذكر جميع الخصوصيّات المعتبرة في الشاهد أنّه لا دليل على هذه اللابدّية بعد تحقّق الشهادة بالعدالة، كما لا يخفى.

الثالث: عن المختصر الأحمدي «3» لا بدّ أن يقول: عدل مقبول الشهادة عليّ ولي «4»، و عن التحرير يجب على المزكّي أن يقول: أشهد أنّه عدل مقبول أو هو عدل لي و عليّ «5»، بمعنى الاكتفاء بأحدهما؛ لأنّه لا تتعلّق الصلتان بالعدل إلّا بتضمين معنى الشهادة، فيتّحد حينئذٍ مؤدّاهما و يكفي أحدهما، و نسبه في المسالك إلى أكثر المتأخّرين «6».

______________________________

(1) قواعد الأحكام: 3/ 431.

(2) قواعد الأحكام: 3/ 431.

(3) هو لابن الجنيد كما في مسالك الأفهام: 13/ 408.

(4) حكاه عن ابن الجنيد في مختلف الشيعة: 8/ 441 مسألة 42.

(5) تحرير الأحكام: 5/ 132.

(6) مسالك الأفهام: 13/ 408 409.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 179

..........

______________________________

و يرد على هذا القول: أنّه لا يعلم المراد من قوله: «لي و عليّ» فإن كان الغرض منه أن يبيّن أنّه ليس بولد بناءً على أنّ شهادة الولد على والده غير مقبولة، فيرد عليه ما أورده في الجواهر «1» ممّا يرجع إلى أنّه على تقدير تسليم عدم قبول الشهادة المذكورة، لا يدلّ قوله: «عدل لي و عليّ» على أنّه ليس بولد؛ لأنّ العدل عدل على أبيه و له، غاية الأمر عدم قبول شهادته عليه، و على تقدير أن يراد به نفي البنوّة فالمعتبر عدمها، لا التعرّض إلى نفيه لفظاً، مع أنّه يحصل بقوله: «عليّ» و لا حاجة إلى إضافة قوله: «لي»، و إن كان المراد تأكيد ثبوت العدالة و وصفها كما ربّما يتراءى

في النظر، فيرد عليه عدم الدليل على لزوم هذا التأكيد و وجوبه.

و كيف كان فالتحقيق ما أفاده في المتن.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 118.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 180

[مسألة 20: لو تعارضت بيّنة الجرح و التعديل]

مسألة 20: لو تعارضت بيّنة الجرح و التعديل بأن قالت إحداهما: «أنّه عادل»، و قالت الأُخرىٰ: «أنّه فاسق»، أو قالت إحداهما: «كان يوم كذا يشرب الخمر في مكان كذا»، و قالت الأُخرىٰ: «إنّه كان في يوم كذا في غير هذا المكان» سقطتا، فعلى المنكر اليمين، نعم لو كان له حالة سابقة من العدالة أو الفسق يؤخذ بها، فإن كانت عدالة حكم علىٰ طبق الشهادة، و إن كانت فسقاً تطرح، و على المنكر اليمين (1).

______________________________

(1) التعارض بين البيّنتين بيّنة الجرح و التعديل، قد يكون بنحو التخالف بحيث يمكن اجتماعهما؛ لعدم التضادّ المانع عن صدقهما.

و قد يكون بنحو التعارض الحقيقي المانع عن ذلك، فالأوّل مثل ما إذا قالت بيّنة التعديل: إنّه يكون ذا ملكة، و لا أعلم بصدور معصية كبيرة منه، و قالت بيّنة الجرح: إنّه صدر منه معصية كبيرة، و لم تتحقّق التوبة عنها، أو قالت بيّنة التعديل: إنّه قد صدر منه التوبة عن المعصية الكبيرة التي ارتكبها يوم فلان، و قالت بيّنة الجرح: قد صدرت منه المعصية في ذلك اليوم. و الثاني مثل المثالين المذكورين في المتن، و يجري في هذه الصورة احتمالات:

الأولى: سقوط كلتيهما كما هو الأصل المقرّر في محلّه في تعارض الأمارتين، غاية الأمر ثبوت الأخبار العلاجيّة مثل: مقبولة عمر بن حنظلة المعروفة و غيرها بالإضافة إلى الخبرين المتعارضين «1»، فيبقى غيرهما علىٰ وفق القاعدة الأصليّة من السقوط عند التعارض.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 106- 124، كتاب القضاء، أبواب

صفات القاضي ب 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 181

..........

______________________________

الثانية: الرجوع إلى القرعة التي هي لكلّ أمر مشكل أو مشتبه «1» خصوصاً مع كون الموردين حقوق الناس، و هي القدر المتيقّن من موارد القرعة.

الثالثة: ما حكي عن الشيخ في الخلاف «2» من أنّ الحاكم وقف عن الحكم، بناءً على أن يكون المراد هو الوقف عن الحكم رأساً، و أمّا بناءً على أن يكون المراد هو الوقف عن الحكم علىٰ طبق بيّنة التعديل، و إن كان لا ينافي الرجوع إلى اليمين بعد ذلك، كما هو لازم الاحتمال الأوّل و هو سقوط كلتا البيّنتين، فلا يكون هذا القول في مقابل الاحتمال الأوّل.

الرابعة: ترجيح بيّنة الجارح لاعتضادها بأصالة عدم حصول سبب الحكم، و الغالب في التعديل الاعتماد علىٰ عدم صدور معصية كبيرة منه.

و التحقيق يقتضي الاحتمال الأوّل؛ لأنّه بعد كون المفروض هو ثبوت التعارض الحقيقي، و بعد كون مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين مطلقاً هو السقوط، و بعد أنّ الحاكم إنّما يكون موضوعاً لرفع الخصومة، و لا معنى للتوقّف عن الحكم رأساً، بمعنى أنّه لم يمكن له فصل الخصومة. يظهر أنّ أقوى الاحتمالات هو الاحتمال الأوّل، فبعد السقوط يصير المدّعى بلا بيّنة موجبة لثبوت ادّعائه، فتصل النوبة إلى الاستحلاف و يمين المنكر، مثل ما إذا لم يكن هناك بيّنة أصلًا.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن هناك حالة سابقة من العدالة أو الفسق و إلّا فيؤخذ بها؛ لما عرفت «3» من أنّه يجوز للحاكم الاعتماد على الاستصحاب، فإن كانت الحالة السابقة هي العدالة يأخذ ببيّنة التعديل و يحكم علىٰ طبق الشهادة، و إن كانت

______________________________

(1) انظر السرائر: 2/ 170 و 173 و ج

3/ 417.

(2) الخلاف: 6/ 219 220 مسألة 12.

(3) في ص 129.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 182

..........

______________________________

الحالة السابقة هي الفسق تطرح الشهادة و يرجع إلى يمين المنكر، كما لا يخفى.

نعم لا ملزم أن تكون الحالة السابقة متيقّنة باليقين الوجداني، بل لو قامت البيّنة على أنّه كان في سابق الزمان عادلًا، بحيث كان المشهود به هو العلم بعدالته كذلك، أو ما هو بمنزلة له العلم من الاطمئنان الذي يعامل معه بين العقلاء معاملة العلم يجوز للحاكم أن يجري الاستصحاب، و إن لا تكون الحالة السابقة متيقّنة له بوجه، كما قد حقّق في محلّه «1» من كفاية هذا المقدار في جريان الاستصحاب، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) ألحق صورة الإطلاق في الجرح و التعديل بصورة عدم التعارض بين البيّنتين و إمكان الجمع بينهما؛ نظراً إلى انصراف التعديل بحكم الغلبة إلى حسن ظاهره مع عدم علمه بصدور الفسق منه، و انصراف الجرح إلى رؤية صدوره عنه «2».

و أنت خبير ببطلان دعوى الانصراف المذكور بعد كون الملاك فيه هو غلبة الاستعمال لا غلبة الوجود الخارجي، كما لا يخفى. و منه يظهر بطلان ما أفاده الشيخ في رسالة القضاء من كون التعارض بين البيّنتين في الصورة المذكورة من التعارض بين النصّ و الظاهر؛ لأجل الوجه المذكور، و أنّ النصّ و هي بيّنة الجارح مقدّم على الظاهر و هي بيّنة التعديل «3»؛ لبطلان الوجه المذكور.

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه: 14/ 395- 419.

(2) جواهر الكلام: 40/ 120 121.

(3) القضاء و الشهادات (تراث الشيخ الأعظم): 137 139.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 183

[مسألة 21: يعتبر في الشهادة بالعدالة العلم بها]

مسألة 21: يعتبر في الشهادة

بالعدالة العلم بها إمّا بالشياع أو بمعاشرة باطنة متقادمة، و لا يكفي في الشهادة حسن الظاهر و لو أفاد الظنّ، و لا الاعتماد على البيّنة أو الاستصحاب، و كذا في الشهادة بالجرح لا بدّ من العلم بفسقه، و لا يجوز الشهادة اعتماداً على البيّنة أو الاستصحاب، نعم يكفي الثبوت التعبّدي كالثبوت بالبيّنة أو الاستصحاب أو حسن الظاهر لترتيب الآثار، فيجوز للحاكم الحكم اعتماداً على شهادة من ثبتت عدالته بالاستصحاب، أو حسن الظاهر الكاشف تعبّداً أو البيّنة (1).

______________________________

(1) في الشهادة بالعدالة و مثلها يعتبر العلم أو الاطمئنان المتاخم للعلم. إمّا من ناحية الشياع المفيد لذلك، أو من ناحية معاشرة باطنيّة متقادمة، و في هذه الصورة تصحّ الشهادة بالعدالة و إن كانت أمراً غير محسوس؛ لأنّها الملكة النفسانيّة الباعثة على رعاية الوظائف الوجوبيّة و التحريميّة، مضافة إلى ما يكون محسوساً من الإتيان بالواجبات و ترك المحرّمات، لكنّها قريبة إلى الحسّ كالشجاعة و السخاوة و نحوهما، و لا يكفي للشهادة بالعدالة الاعتماد على البيّنة أو الاستصحاب أو حسن الظاهر، الذي جعله الشارع كاشفاً عن العدالة و أمارة عليها تعبّداً، على ما في الصحيحة الواردة في تعريف العدالة و بيان الأمارة عليها «1».

و كذا لا بدّ في الشهادة بالجرح من العلم بفسق المجروح كرؤية صدور معصية

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 24 ح 65، تهذيب الأحكام: 6/ 241 ح 596، الاستبصار: 3/ 12 ح 33، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 391 392، كتاب الشهادات ب 1 ح 1 و 2، و يراجع نفس وسائل الشيعة ص 396 ح 15 و 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 184

..........

______________________________

كبيرة منه، مع العلم بأنّها صدرت بعنوان المعصية، من دون

أن يكون هناك عذر كالاضطرار مثلًا، و لا يجوز للشاهد بالجرح الاعتماد أيضاً على البيّنة أو الاستصحاب. نعم يكفي للحاكم الاعتماد في ثبوت عدالة إحدى البيّنتين الاعتماد على الاستصحاب أو حسن الظاهر أو البيّنة لكفاية الثبوت التعبّدي؛ و لأجله كان له الاعتماد في ثبوت عدالة شاهد الأصل على الأُمور المذكورة لأجل ما ذكرنا، و منه يظهر أنّه لو شهد الشاهدان بحسن ظاهره، فالظاهر جواز الحكم بشهادته بعد ما عرفت من كون حسن الظاهر كاشفاً تعبّداً عن العدالة.

كما أنّ الشاهدين لو شهدا بعدالة بيّنة المدّعى في السابق يجوز للحاكم الاعتماد بعد إحراز الحالة السابقة و جريان الاستصحاب؛ لعدم لزوم كون الحالة السابقة محرزة باليقين الوجداني، كما قرّر في محلّه من الأُصول «1».

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه: 14/ 395- 419.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 185

[مسألة 22: لو شهد الشاهدان بحسن ظاهره]

مسألة 22: لو شهد الشاهدان بحسن ظاهره، فالظاهر جواز الحكم بشهادته بعد كون حسن الظاهر كاشفاً تعبّداً عن العدالة (1).

[مسألة 23: لا يجوز الشهادة بالجرح بمجرّد مشاهدة ارتكاب كبيرة]

مسألة 23: لا يجوز الشهادة بالجرح بمجرّد مشاهدة ارتكاب كبيرة ما لم يعلم أنّه علىٰ وجه المعصية و لا يكون له عذر، فلو احتمل أنّ ارتكابه لعذر لا يجوز جرحه، و لو حصل له ظنّ بذلك بقرائن مفيدة له (2).

______________________________

(1) ظهر الحكم في هاتين المسألتين ممّا ذكرنا في المسألة السابقة، و لا حاجة إلى الإعادة بوجه، فراجع.

(2) ظهر الحكم في هاتين المسألتين ممّا ذكرنا في المسألة السابقة، و لا حاجة إلى الإعادة بوجه، فراجع.

نعم ينبغي أن يعلم أنّ مطلق الإكراه على المعصية لا يجوِّز مطلق المعصية، فإذا أكره أحد بالزنا بذات البعل، هل يمكن أن يقال: بصيرورته جائزاً و لو كان الضرر المتوعّد به ضرراً ماليّاً يتضرّر المكرَه بالفتح بسببه، نظراً إلى قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله) في مثل حديث الرفع: «رفع ما اكرهوا عليه» «1»، بل لا بدّ من ملاحظة الضرر المتوعّد به مع المحرّم الذي أُكره عليه، و أنّه أيّهما يكون أهمّ من الأُخرىٰ عند الشارع، فإذا أُكره على شرب الخمر مثلًا و توعّد بالقتل، فحيث يكون القتل أهمّ من شرب الخمر يصير جائزاً بمجرّد الإكراه، و على هذا القياس. فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 7/ 293، كتاب الصلاة، أبواب قواطع الصلاة ب 37 ح 2، و ج 8/ 249، أبواب الخلل ب 30 ح 2، و ج 15/ 369- 370، كتاب الجهاد، أبواب جهاد النفس ب 56 ح 1- 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 186

[مسألة 24: لو رضي المدّعى عليه بشهادة الفاسقين أو عدل واحد]

مسألة 24: لو رضي المدّعى عليه بشهادة الفاسقين أو عدل واحد لا يجوز للحاكم الحكم، و لو حكم لا يترتّب عليه الأثر (1).

[مسألة 25: لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدين لم يحرز عدالتهما عنده]

مسألة 25: لا يجوز للحاكم أن يحكم بشهادة شاهدين لم يحرز عدالتهما عنده، و لو اعترف المدّعى عليه بعدالتهما، لكن أخطأهما في الشهادة (2).

______________________________

(1) فإنّه مخالف للحصر المستفاد من قول الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان على ما في رواية أو روايات صحيحة، و إن كان الحصر إضافيّاً كما تقدّم «1»، فإنّه يعتبر في البيّنة التعدّد و العدالة، و رضا المدّعى عليه لا يوجب تغيير الحكم، و المفروض في هذه المسائل إنكاره لادّعاء المدّعى.

(2) من الواضح أنّ الحكم و فصل الخصومة فعل الحاكم، و اللّازم أن تكون عدالة الشاهدين محرزة عنده، و بعبارة اخرى اللّازم أن يكون الشاهدان منطبقاً عليهما عنوان البيّنة، و لا يكون كذلك إلّا بإحراز عدالتهما. غاية الأمر أنّك عرفت أنّ الثبوت التعبّدي بالبيّنة أو الاستصحاب أو حسن الظاهر كافٍ في ذلك.

______________________________

(1) تقدّم في ص 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 187

[مسألة 26: لو تعارض الجارح و المعدّل سقطا]

مسألة 26: لو تعارض الجارح و المعدّل سقطا، و إن كان شهود أحدهما اثنين و الآخر أربعة، من غير فرق بين أن يشهد اثنان بالجرح و أربعة بالتعديل معاً أو اثنان بالتعديل، ثمّ بعد ذلك شهد اثنان آخران به، و من غير فرق بين زيادة شهود الجرح أو التعديل (1).

______________________________

(1) قد عرفت «1» أنّ مقتضى التحقيق التساقط عند تعارض الجارح و المعدّل، فليعلم أنّه لا فرق في ذلك بين زيادة شهود الجرح على التعديل أو العكس و بين عدم الزيادة؛ لعدم كون الأكثريّة مرجّحة في باب تعارض الأمارتين بوجه، كما أنّه لا فرق في باب الخبرين المتعارضين الموضوع للاخبار العلاجيّة من هذه الجهة. نعم إذا بلغ الأمر إلى

حدّ الشهرة الفتوائيّة يكون ذلك أوّل المرجّحات، كما قرّرناه في محلّه، كما أنّه لا ينبغي أن يتوهّم أنّه إذا شهد اثنان بالجرح و شهد اثنان آخران بالعدالة، ثمّ بعد مدّة مثلًا شهد اثنان بالعدالة يقع التساقط بين الأوّلين و يبقى المعدّل الأخير بلا معارض، فإنّه لا فرق في التعارض و حصول التساقط بين الصورتين أصلًا، فتدبّر جيّداً.

و منه يعلم أنّه لا فرق في التساقط بين تقدّم بيّنة الجارح أو العكس أو الشهادة معاً.

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه 16/ 532- 555.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 188

[مسألة 27: لا يشترط في قبول شهادة الشاهدين علم الحاكم باسمهما و نسبهما بعد إحراز مقبوليّة شهادتهما]

مسألة 27: لا يشترط في قبول شهادة الشاهدين علم الحاكم باسمهما و نسبهما بعد إحراز مقبوليّة شهادتهما، كما أنّه لو شهد جماعة يعلم الحاكم أنّ فيهم عدلين كفى في الحكم، و لا يعتبر تشخيصهما بعينهما (1).

______________________________

(1) وجه عدم الاشتراط بالإضافة إلى الاسم و النسب أنّ المعتبر هو إحراز مقبوليّة شهادتهما واقعاً أو تعبّداً لمثل البيّنة المعدّلة أو الشاهدة بحسن الظاهر أو الاستصحاب كما عرفت. و أمّا العلم بالاسم و النسب فلا دخالة له فيه بعد الإحراز المذكور، كما أنّه لا فائدة فيه بعد عدم الإحراز. و أمّا وجه الكفاية في صورة العلم الإجمالي فهو ثبوت الملاك مع العلم المذكور، و إن كان تشخيصهما بعينهما غير معلوم، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 189

[مسألة 28: لا يشترط في الحكم بالبيّنة ضمّ يمين المدّعى]
اشارة

مسألة 28: لا يشترط في الحكم بالبيّنة ضمّ يمين المدّعى، نعم يستثنىٰ منه الدعوى على الميّت، فيعتبر قيام البيّنة الشرعيّة مع اليمين الاستظهاري، فإن أقام البيّنة و لم يحلف سقط حقّه. و الأقوى عدم إلحاق الطفل و المجنون و الغائب و أشباههم ممّن له نحو شباهة بالميّت في عدم إمكان الدفاع لهم به، فتثبت الدعوى عليهم بالبيّنة من دون ضمّ يمين، و هل ضمّ اليمين بالبيّنة منحصر بالدين أو يشمل غيره كالعين و المنفعة و الحقّ؟ وجهان لا يخلو ثانيهما عن قرب، نعم لا إشكال في لحوق العين المضمونة على الميّت إذا تلفت مضمونة عليه (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة جهات من الكلام:

الجهة الاولىٰ: في أنّه لا يشترط في الحكم بالبيّنة ضمّ يمين المدّعى، فإنّ مقتضىٰ قوله (عليه السّلام): «البيّنة على المدّعى و اليمين على المدّعى عليه»، كما عرفت في جملة من الروايات المتقدّمة «1»

هو ثبوت البيّنة فقط على المدّعى و اليمين كذلك على المدّعى عليه، فكما أنّه لا تثبت البيّنة على المدّعى عليه، كذلك لا تثبت اليمين على المدّعى، و يدلّ على الحكم أيضاً الروايات الآتية الدالّة علىٰ خصوصيّة للدعوى على الميّت من هذه الجهة، و أنّ اعتبار ضمّ اليمين لأجل هذه الخصوصيّة، فإنّ ظاهر مقتضاها بل صريحه عدم جريان الحكم بالانضمام في الدعوى على الحيّ، و إن وقع الاحتمال في مثل الطفل و المجنون، و يدلّ عليه أيضاً صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الرجل يقيم البيّنة على حقّه، هل عليه أن يستحلف؟ قال: لا «2».

______________________________

(1) في ص 84- 85 و 136.

(2) التهذيب: 6/ 230 و 231 ح 558 و 559 و 564، الكافي: 7/ 417 ح 1، الوسائل: 27/ 243، أبواب كيفيّة الحكم ب 8 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 190

..........

______________________________

و رواية أبي العباس، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا أقام الرجل البيّنة على حقّه فليس عليه يمين، فإن لم يقم البيّنة، فردّ عليه الذي ادّعى عليه اليمين، فإن أبى أن يحلف فلا حقّ له «1».

نعم في حديث سلمة بن كهيل، عن عليّ (عليه السّلام) في آداب القضاء: و ردّ اليمين على المدّعى مع بيّنته، فإنّ ذلك أجلى للعمى و أثبت في القضاء «2». لكن قال في الوسائل بعد نقله أقول: هذا يمكن حمله على الاستحباب مع قبول المدّعى اليمين؛ لتصريح الحديث الأوّل يعني رواية محمد بن مسلم و غيره بنفي الوجوب، و يمكن حمله على الدعوى على الميّت لما مرّ، و يحتمل الحمل على التّقية؛ لأنّه قول جماعة من العامّة،

و يؤيّد الاستحباب أنّ أكثر ما اشتمل عليه الحديث المذكور مستحب فعلًا أو تركاً، مع ما يفهم من التعليل و أفعل التفضيل. انتهىٰ.

أقول: مع أنّ سلمة بن كهيل ضعيف كما صرّح به المحقّق في الشرائع في كتاب الديات «3»، فلا ينبغي الإشكال في عدم لزوم الانضمام مطلقاً.

نعم قد عرفت البحث سابقاً في أنّ الدعوى على الغائب هل تحتاج البيّنة إلى ضمّ اليمين أم لا؟ و أنّه قد جعل الماتن (قدّس سرّه) الاحتياط الوجوبي في ضمّ اليمين أيضاً، فراجع «4».

الجهة الثانية: في الدعوى على الميّت بحيث لا يكون في جانب المدّعى عليه غير

______________________________

(1) تقدّمت في ص 148.

(2) الكافي: 7/ 412 ح 1، الفقيه 3/ 8 ح 10، تهذيب الأحكام: 6/ 225 ح 541، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 211، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 1 ح 1 و ص 244، أبواب كيفيّة الحكم ب 8 ح 2.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 288.

(4) تقدّم في المسألة 5 من شروط سماع الدعوى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 191

..........

______________________________

الميّت أصلًا، و أفاد في المتن أنّه يعتبر مع قيام البيّنة اليمين الاستظهاري، و في الجواهر بلا خلاف أجده فيه بين من تعرّض له، كما اعترف به غير واحد، بل في الرّوضة هو موضع وفاق «1»، و في المسالك تارة نسبه إلى الشهرة من غير ظهور مخالف، و أُخرى إلى الاتفاق «2» إلى أن قال: نعم قد خلت عنه كثير من كتب القدماء «3».

أقول: عمدة الدليل علىٰ ذلك روايتان:

إحداهما: رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، التي رواها المشايخ الثلاثة و إن كان في طريقها محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، عن ياسين الضرير،

عنه عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت للشيخ (عليه السّلام) و في رواية الصدوق تفسير الشيخ بموسىٰ بن جعفر (عليهما السّلام) خبّرني عن الرجل يدّعي قبل الرجل الحقّ، فلم تكن له بيّنة بما له، قال: فيمين المدّعى عليه، فإن حلف فلا حقّ له، [و إن ردّ اليمين على المدّعى فلم يحلف فلا حقّ له «4»]، (و إن لم يحلف فعليه) «5».

و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات فأُقيمت عليه البيّنة، فعلى المدّعى اليمين باللّٰه الّذي لا إله إلّا هو لقد مات فلان، و أنّ حقّه لعليه، فإن حلف و إلّا فلا حقّ له، لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البيّنة، فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له؛ لأنّ المدّعى عليه ليس

______________________________

(1) الروضة البهيّة: 3/ 104.

(2) مسالك الأفهام: 13/ 460 462.

(3) جواهر الكلام: 40/ 194.

(4) من الفقيه.

(5) ليس في الفقيه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 192

..........

______________________________

بحيّ، و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه، فمن ثمّ لم يثبت الحقّ «1».

ثانيتهما: صحيحة محمد بن الحسن الصفار، التي رواها المشايخ الثلاثة أيضاً عن محمد بن يحيى، قال: كتب محمّد بن الحسن الصفّار إلى أبي محمد (عليه السّلام): هل تقبل شهادة الوصيّ للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السّلام): «إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعى يمين». و كتب: أ يجوز للوصيّ أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً (بحقّ له على الميّت أو على غيره، و هو القابض للوارث الصغير) «2» و ليس للكبير بقابض؟

فوقّع (عليه السّلام): «نعم، و ينبغي للوصيّ أن يشهد بالحقّ و لا يكتم الشهادة». و كتب أو تقبل شهادة الوصيّ على الميّت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السّلام): «نعم من بعد يمين» «3».

و قد ناقش في الأُولى المحقّق الأردبيلي في كتابه مجمع الفائدة و البرهان في شرح إرشاد الأذهان للعلّامة الحلّي، تارة بضعف السند من جهة اشتماله على محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني، و على ياسين الضرير المهمل في الكتب الرجالية، و أُخرى بعدم معلوميّة كون المراد من الشيخ هو موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، و ثالثة بعدم وضوح الدلالة «4»؛ لعدم وضوح كون المراد بالبيّنة هما الشاهدان العادلان، مضافاً إلى ظهورها في وجوب اليمين المغلظة بالكيفيّة المذكورة في الرواية، و لا قائل به،

______________________________

(1): تقدمت في ص 152.

(2) في الوسائل بدل ما بين القوسين هكذا: و هو القابض للصغير.

(3) الكافي: 7/ 394 ح 3، الفقيه: 3/ 43 ح 147، تهذيب الأحكام: 6/ 247 ح 626، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 371، كتاب الشهادات ب 28 ح 1.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 158- 160.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 193

..........

______________________________

فيحمل على الاستحباب. و عليه فلا دلالة على كون أصل اليمين واجبة، مع أنّه من الواضح أنّ المراد بالبيّنة في الرواية هي البيّنة التي قال النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) في الروايات الصحيحة: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «1»، لا شيئاً آخر. كما أنه قد صرّح في رواية الصدوق بأنّ المراد بالشيخ هو موسى بن جعفر (عليهما السّلام)، و التعبير عنه به كان لأجل شدّة التقيّة، كالعبد الصالح و نحوه.

و الظاهر عدم دلالة الرواية على وجوب

اليمين المغلظة؛ لأنّ توصيف اللّٰه تبارك و تعالى كان مرتبطاً بالإمام (عليه السّلام)، لا أنّه يعتبر أن تكون اليمين مشتملة عليه. و الرواية منجبرة بفتوى المشهور على طبقها بالشهرة المحقّقة التي لم ينقل الخلاف عن شخص خاصّ «2»، و لئن كانت المناقشة راجعة إلى قوله (عليه السّلام) في الذيل: «فإن ادّعى بلا بيّنة فلا حقّ له» لكان أولى؛ لأنّ مقصود ذيل الرواية بيان الاحتياج إلى ضمّ اليمين، لا لزوم البيّنة على المدّعى الذي لعلّه كان من الواضحات، و لا فرق في هذه الجهة بين أن يكون المدّعى عليه حيّاً أو ميّتاً إلّا من جهة إمكان الاستحلاف، و ما يترتّب عليه في الصّورة الأُولى، كما لا يخفى دون الصورة الثانية.

و في الثانية بأنّها مضافاً إلى كونها مكاتبة في صورة خاصّة و مخالفة للقاعدة معارضة لصحيحته الأُخرى، قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السّلام): رجل أوصى إلى ولده و فيهم كبار قد أدركوا و فيهم صغار، أ يجوز للكبار أن ينفذوا وصيّته و يقضوا دَينه لمن صحّ على الميّت بشهود عدول قبل أن يدركوا

______________________________

(1): تقدمت في ص 135.

(2) مسالك الأفهام: 13/ 461 462.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 194

..........

______________________________

الأوصياء الصغار؟ فوقّع (عليه السّلام): «نعم على الأكابر من الولد أن يقضوا دَين أبيهم و لا يحبسوه بذلك» «1»، «2».

أقول: لا بدّ من البحث في مفاد الصحيحة الأولى، فنقول:

هي مشتملة على فقرأت ثلاث:

الأولى: مشتملة على السؤال من أنّ شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل هل تكون مقبولة أم لا؟ و منشأ السؤال كون الشاهد وصيّاً للميّت و يجرّ بالشهادة نفعاً له غالباً مع حفظ شرط الشهادة و هي العدالة، و الجواب

مشتمل على أنّه إن شهد معه شاهد آخر عدل فعلى المدّعى اليمين. و الظاهر أنّ مرجع الضمير في «معه» هو الوصي، و أنّ المدّعى غيره كوارث الميت أو وصيّه الآخر مثلًا، و هذه الجملة مشتملة على حكم مخالف للقاعدة من جهة أنّ الدعوى للميت لا عليه لا تحتاج إلى ضمّ اليمين.

الثانية: مشتملة على السؤال عن أنّه هل يجوز للوصيّ أن يشهد بنفع وارث الميت المركب من الصغير و الكبير مع كونه قيّماً على الصغار آخذاً للمال عنهم؟ و محصّل الجواب أنّه لا مانع من ذلك مع كونه واقعيّاً بنظره يمكن الشهادة به، و هذه الجملة أيضاً مخالفة للقاعدة من جهة أنّ الشهادة تجرّ نفعاً إلى الوصي.

الثالثة: متعرّضة للمسألة التي هي مورد بحثنا، و يدلّ الجواب على اعتبار ضمّ اليمين إلى الشاهدين بنفع المدّعى على الميّت.

و الجواب عن المعارضة بالصحيحة الثانية:

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 9/ 185 ح 744، الفقيه: 4/ 155 ح 539، الكافي: 7/ 46 ح 2، و عنها وسائل الشيعة: 19/ 375، كتاب الوصايا ب 50 ح 1.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 160 162.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 195

..........

______________________________

أوّلًا: أنّه لا تكون في مقام البيان حتّى يتمسّك بالإطلاق.

و ثانياً: أنّه على فرض ثبوت الإطلاق قابل للتقييد، كما أنّه لا بدّ من الالتزام به بالإضافة إلى الأدلّة المطلقة الدالّة على اكتفاء البيّنة للمدّعي، فإنّ إطلاقها يقيّد بالمقام.

ثمّ إنّ هنا رواية أُخرى مؤيدة لأصل المطلب، و هي مكاتبة سليمان بن حفص المروزي، أنّه كتب إلى أبي الحسن (عليه السّلام) في رجل مات و له ورثة، فجاء رجل فادّعى عليه مالًا و أنّ عنده رهناً، فكتب (عليه السّلام): إن كان

له على الميّت مال و لا بيّنة له فليأخذ ماله بما في يده، و ليردّ الباقي على ورثته، و متى أقرّ بما عنده أخذ به و طولب بالبيّنة على دعواه و أوفى حقّه بعد اليمين. و متى لم يقم البيّنة و الورثة ينكرون فله عليهم يمين علم، يحلفون باللّٰه ما يعلمون أنّ له على ميّتهم حقّا «1».

فانقدح بملاحظة الروايات أنّه لا ينبغي الإشكال في أصل الحكم، و هو لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة في الدعوى على الميّت في الجملة، و لكنّه ينبغي أن يعلم أنّ محلّ الكلام ما إذا شهدت البيّنة على أصل اشتغال ذمّة الميت بدين مثلًا في زمان حياته. و أمّا إذا شهدت ببقاء الاشتغال إلى زمان الموت، و أنّه مات مديوناً للمدّعي فلا حاجة إلى ضمّ اليمين، كما يدلّ عليه التعليل في رواية عبد الرحمن المتقدّمة: «بأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا يعلم موضعها ..» فإنّ مفاده أنّه لو شهدت البيّنة بعدم الاشتغال، و بأنّه أوفاه دينه مع البيّنة أو بدونها كفىٰ ذلك.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 7/ 178 قطعة من ح 784، الفقيه: 3/ 198 قطعة من ح 901، و عنهما وسائل الشيعة: 18/ 406 كتاب الرهن ب 20 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 196

..........

______________________________

فالموجب للانضمام هو الشكّ في أنّه أوفاه أم لا مع عدم حجّة شرعيّة على أنّه أوفاه، فإذا شهدت البيّنة ببقاء الاشتغال إلى زمان الموت يقع التعارض بين البيّنتين: بيّنة الإثبات و بيّنة النفي، مع أن ظاهر الرواية عدم التعارض، و هو لا يكاد يمكن أن يتحقّق إلّا بالنحو الذي ذكرنا، كما لا يخفى.

و عليه يكون مفاد البيّنة أصل ثبوت

الحقّ و الاشتغال، و مفاد اليمين بقاؤه إلى حين الموت من دون تحقّق الوفاء، و مثله.

فالبيّنة التي أقيمت على الحقّ المطلوب من الميّت كما هو المفروض في عنوان المسألة في كلام الإمام (عليه السّلام) تغاير البيّنة المحتملة الواقعة في تعليل الحكم، فإنّ الأولى بيّنة على أصل الاشتغال، و الثانية بيّنة على الابقاء و الخروج عن الاشتغال، فافهم و اغتنم.

الجهة الثالثة: في أنّ الدعوى على الميّت التي يجب فيها ضمّ اليمين إلى البيّنة، هل يكون موردها خصوص الدين أو الأعم منه و من العين، بل و المنفعة و الحقّ كحقّ الرهانة و حق الخيار مثلًا؟ فيه وجهان بل قولان:

نفى في المتن خلوّ الثاني عن قرب.

أقول: رواية عبد الرّحمن المتقدّمة و إن كان موردها الدين بلحاظ كلمات «الحقّ» و «عليه» و «أوفاه» و أمثال ذلك، إلّا أنّ ذيل الصحيحة المتقدّمة أيضاً خال عن الاشتمال على الدين و ما يشابهه، و إن كان مورد صدرها الدّين، و لا يكون في كلام صاحب الوسائل الذي روى الرواية عن المشايخ الثلاثة إشعار بوجود الاختلاف بينهم في ذلك، و إن حكي عن بعض النسخ الاشتمال على لفظ الدين «1»

______________________________

(1) كذا في الفقيه: 3/ 142.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 197

..........

______________________________

كالصدر، لكنّه ليس بحجّة خصوصاً مع رعاية نهاية المراقبة في الطبع الأخير. و هذا الإطلاق يكفي في مقام الاستدلال؛ لعدم المنافاة بين الرّوايتين كما لا يخفى. و لا مجال لأن يقال: بأنّ اشتمال الصدر على هذه الكلمة قرينة على أنّ مورد الذيل أيضاً ذلك، خصوصاً مع احتمال كون المكاتبات الثلاث متعدّدة لا في نوبة واحدة.

ثمّ لو فرض عدم الإطلاق، فهل يلحق العين بالدين في هذه الخصوصيّة

أم لا؟ قال السيّد في الملحقات: إنّ لي في كون دعوى العين دعوى على الميّت إشكالًا؛ و ذلك لأنّ للمدّعي أن يوجّه الدعوى على من بيده العين و هو الوارث إذا كانت في يده، فيكون الدعوى على الحيّ و هو الوارث دون الميّت، و كون يده مترتّبة على يد الميّت لا يوجب كون الدعوى عليه، فهو نظير ما إذا غصب شخص عيناً و باعها من شخص آخر، فإنّ للمالك أن يدّعي على من بيده العين و هو المشتري، و لا يقال حينئذٍ: إنّ الدعوى على الغاصب لكون يد المشتري مترتّبة على يده، نعم يجوز له أن يوجّه الدعوى على الغاصب أيضاً ففي المقام أيضاً كذلك، فإن وجّه الدعوى على الميت احتاج إلى ضم اليمين، و أمّا إن وجّه على الوارث فلا. و كيف كان فالمسألة مشكلة، و الأحوط ضمّ اليمين لكن برضا المدّعى «1».

أقول: حاصل ما أفاده احتمال عدم كون الدعوى في العين دعوى على الميت؛ لاحتمال كونها متوجّهة إلى الحيّ، مع أنّ المفروض في المقام هو لحوق العين بالدين فيما إذا كانت الدعوى على الميت، فإمكان توجّهها إلى غير الميت غير المقام.

و التحقيق بملاحظة جميع ما ذكرنا، خصوصاً فيما يتعلّق بمحلّ النزاع و مورد البحث أن يقال: حيث إنّ بين الدين و العين فرقاً، و هو عدم ثبوت ذي اليد

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 80 81.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 198

..........

______________________________

بالإضافة إلى الدين و وجودها بالنسبة إلى العين، فإنّها بعد الحياة تكون في يد الوارث غالباً.

و قد قلنا: إنّ محلّ البحث في الدين من جهة لزوم انضمام اليمين إلى البيّنة إنّما هو فيما إذا شهدت البيّنة

على أصل الحقّ و الاشتغال. و أمّا إذا شهدت ببقائه إلى حين الموت فلا حاجة إلى ضمّ اليمين، انّه إذا شهدت البيّنة بعد الموت بأنّ العين الباقية التي هي في يد الوارث مثلًا ملك للمدّعي، و لم يخرج عن ملكه أصلًا، فلا إشكال في لزوم الأخذ بها، كما هو الحال بالإضافة إلى الدين على ما ذكرنا.

و أمّا إذا شهدت بأنّ الميت إنّما أخذها من المدّعى في حال الحياة أمانةً أو سرقةً فهنا أمور ثلاثة: شهادة البيّنة بكيفيّة اليد، و تحقّق اليد التي هي أمارة شرعية و عقلائية على الملكية و استصحاب بقاء الكيفية، و عدم تحقّق أمر جديد من البيع أو المصالحة أو الهبة أو نحوها ممّا يوجب حصول الملكيّة الشرعيّة للميّت مع احتمال التحقّق بحسب الواقع، و القدر المسلّم هو تقدّم البيّنة على اليد مع تعارضهما لا فيما هو المفروض.

و أمّا ما أفاده السيّد الطباطبائي من أنّ الاستصحاب في هذه الصّورة مقدّم على اليد الفعلية على الأقوىٰ؛ لكونه موضوعيّاً، فيكون حال العين في هذه الصورة حال الدين في الحاجة إلى اليمين؛ لدفع احتمال تجدّد اليد و النقل الجديد «1»، فمدفوع بعدم التقدّم لحجّية مثبتات الأمارة، مضافاً إلى لزوم عدم جواز التمسّك باليد في موارد كثيرة كما لا يخفى، و منه يظهر أنّه لا يجوز للقاضي القضاء بنفع المدّعى حينئذٍ، لا باستناد البيّنة، لأنّها قائمة على كيفيّة اليد، و لا باستناد الاستصحاب في مقابل يد المدّعى عليه كما لا يخفى.

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 80.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 199

..........

______________________________

ثمّ إنّه نفى الإشكال في المتن عن لحوق العين بالدين فيما إذا تلفت قبل موته مضمونة عليه على فرض

صدق المدّعى في دعواه. و الظاهر أنّ منشأه هو الانتقال إلى القيمة في هذه الحالة لفرض التلف، مع أنّه يرد عليه:

أوّلًا: ما حقّق في محلّه من أنّ ظاهر دليل ضمان اليد و هو قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي «1» هو كون ما على اليد نفس العين المأخوذة حتى بعد التلف؛ و لذا يكون أحد الأقوال في ذلك الباب، بل لعلّه يكون قولًا قويّاً هو ثبوت قيمة يوم الدفع و الأداء، لا يوم التلف و لا يوم الغصب و لا أعلى القيم، و التحقيق في موضعه.

و ثانياً: أنّ العين يمكن أن لا تكون قيميّة بل مثليّة، و في هذه الصورة لا يتحقّق الانتقال إلى القيمة بوجه.

و ثالثاً: أنّ حديث لحوق العين بالدين و عدم لحوقها به لا يكون له ارتباط بمسألة الانتقال إلى القيمة و عدمه؛ و لذا يكون الفرد الظاهر المفروض فيه صورة بقاء العين في يد الوارث مثلًا، فمع ثبوت الاختلاف في اللحوق و عدمه لا وجه لنفي الإشكال عن اللحوق في الصورة المفروضة. هذا ما إذا تلفت قبل موته.

و أمّا إذا تحقّق التلف بعد الموت في يد الوارث، فتارة يبحث فيه من جهة أنّ له الدعوى على الحيّ الوارث أو على الميت أيضاً، أو على كلّ واحدٍ منهما بنحو التخيير، كما يظهر من السيّد في الملحقات «2»، و أُخرى من جهة لزوم ضمّ اليمين

______________________________

(1) عوالي اللآلي: 1/ 224 ح 106، و عنهما مستدرك الوسائل: 17/ 88، كتاب الغصب ب 1 ح 20819، و قد ذكرنا مصادره في هامش القواعد الفقهيّة: 1/ 28 مفصّلا، من أرادها فليراجع هناك.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 81.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 200

..........

______________________________

إلى البيّنة أم لا، ففي الجواهر: أما إذا فرض تلفها بعد موته و كانت مضمونة عليه، فقد يقوى عدم اليمين عليه لقصور الخبرين عن تناول ذلك، بل ظاهرهما غيره، فيبقى هو حينئذٍ على حجّية البيّنة، و التعليل قد عرفت أنّه فيما قبل الموت و نحوها، فتدبّر جيّداً «1».

و أورد عليه السيّد بقوله قلت: قصور الخبرين عن الشمول ممنوع، فحاله حال التلف قبل الموت «2».

الجهة الرابعة: هل يلحق بالميّت الذي هو الموضوع للمسألة السابقة من هو مثله في عدم اللسان كالطفل و المجنون و الغائب و أشباهه؟ قولان: عن الأكثر «3» بل المشهور «4» الأوّل. و جماعة على الثاني «5»، بل هو المنسوب إلى أكثر متأخّري المتأخّرين «6». و فرض الدين على الطفل الذي لا يمكن له حالة سابقة إلّا الطفوليّة هو مثل ما إذا أتلف مال الغير بناءً على عدم اختصاص الأحكام الوضعيّة بالبالغين و شمولها بالإضافة إلى غيرهم.

و الدليل على اللحوق التعليل المذكور في رواية عبد الرحمن المتقدّمة، و إن كان موردها صورة الموت؛ لقوله (عليه السّلام): «و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات» و هو

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 200 201.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 81.

(3) مسالك الأفهام: 13/ 462، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 694.

(4) المبسوط: 8/ 129، إرشاد الأذهان: 145، قواعد الأحكام: 3/ 441، اللمعة الدمشقيّة: 52، غاية المرام في شرح شرائع الإسلام: 4: 233،.

(5) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 695، شرائع الإسلام 4: 85.

(6) مسالك الأفهام: 13/ 462 463، الروضة البهيّة: 3/ 104 105، رياض المسائل: 13/ 114، مستند الشيعة: 17/ 253، جواهر الكلام: 40/ 201.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 201

..........

______________________________

قوله: «لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ..»، نظراً إلى أنّه لا خصوصية لاحتمال الوفاء و الإبقاء، بل احتمال عدم ثبوت الدين و لو بالإبراء مثلًا، فالبيّنة كافية لإثبات أصل الاشتغال، و اليمين لازمة لإثبات البقاء، و عدم تخلّل السقوط بعد الاشتغال. و لا فرق بين الميّت و بين الأفراد المعدودين في عدم اللسان و عدم القدرة على الدّفاع.

و الدليل على عدم اللّحوق كما قيل: كون الحكم على خلاف القاعدة فلا بدّ من الاقتصار على القدر المعلوم، و أنت خبير بأنّ البيّنة إنّما تكون شاهدة على أصل الاشتغال، و اليمين متعلّقة ببقاء الحقّ إلى أن مات، و أنّه لو فرض كون البيّنة شاهدة على الاشتغال إلى حين الموت، لا يحتاج إلى اليمين في الميّت أيضاً، فلا يكون الحكم على خلاف القاعدة و كون المشابهة في عدم اللسان ممنوعاً؛ لأنّ الميت لا يكون له لسان مطلقاً، حيث إنّه لا أمد له يرتقب بخلاف الصغير الذي ينقلب كبيراً لا محالة نوعاً، و المجنون الذي يمكن ارتفاع جنونه و تبدّله إلى العاقل، و الغائب الذي تزول غيبته إلى الحضور كذلك، مع أنّ طرف الدعوى في الصبي و المجنون إنّما هو الولي. و قد وردت في الغائب روايات كثيرة مشتملة على أنّه يقضى عليه، و أنّه على حجّته إذا قدم. و قد مرّ البحث فيه سابقاً فراجع «1»، فالأقوى هو عدم اللّحوق كما في المتن، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) في ص 104- 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 202

[فروع]
اشارة

فروع

[الأوّل: لو كان المدّعى على الميّت وارث صاحب الحقّ]

الأوّل: لو كان المدّعى على الميّت وارث صاحب الحقّ، فالظاهر أنّ ثبوت الحقّ محتاج إلى ضمّ اليمين إلى البيّنة، و مع عدم الحلف يسقط الحقّ. و إن كان الوارث متعدّداً لا بدّ من حلف كلّ واحد منهم على مقدار حقّه، و لو حلف بعض و نكل بعض ثبت حقّ الحالف و سقط حق النّاكل (1).

______________________________

(1) المهم في هذا الفرع ملاحظة أنّ الخبرين المتقدّمين الواردين في أصل المسألة و هي الدعوى على الميّت، هل لهما إطلاق لفظي يشمل ما لو كان المدّعى على الميت وارث صاحب الحقّ أم لا، الظاهر نعم فإنّه لا إشعار في شي ء منهما بالاختصاص، فإنّ قوله (عليه السّلام) في رواية عبد الرحمن المتقدّمة: «و إن كان المطلوب بالحق قد مات، فأقيمت عليه البيّنة ..» لا يختصّ لفظاً بما إذا كان المدّعى صاحب الحقّ الأوّلي، و إن كان هو الفرد الظاهر منه، إلّا أنّه غير خفي أنّ التمسّك بالإطلاقات إنّما هو بالإضافة إلى الأفراد غير الواضحة، و ثبوت القدر المتيقّن في عدم جواز التمسك بالإطلاق على تقديره إنّما هو القدر المتيقّن في مقام التخاطب، لا مطلق القدر المتيقّن، و إلّا فكلّ مطلق له الأفراد الظاهرة الواضحة التي هي القدر المتيقّن منها، كما لا يخفى.

و كذا السؤال في صحيحة الصفّار المتقدّمة: «أو تقبل شهادة الوصي على الميّت» فإنّ إطلاقه يشمل المقام.

ثمّ لو فرض عدم ثبوت الإطلاق فالفهم العرفي يساعد على إلغاء الخصوصيّة، و أنّ الملاك في لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة عدم العلم بسقوط الدين، نظراً إلى أنّ البيّنة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 203

..........

______________________________

التي أُقيمت على الحقّ لا دلالة لها إلّا على أصل الاشتغال، و

هو لا ينافي السقوط بعده، فلا بدّ من ضم اليمين على بقائه إلى أن مات، لتفيد اليمين مع البيّنة الاشتغال و بقاءَه. و هذه الجهة موجودة في المقام خصوصاً بملاحظة التعليل المذكور فيها، و إن كان قد عرفت عدم الاختصاص بوفاء الدين، بل الغرض هو المسقط سواء كان وفاءً أو إبراءً أو مصالحة و نحوها «1»، و اليمين على عدم السقوط مشكلة بالإضافة إلى الوارث؛ لعدم كفاية اليمين على نفي العلم، إلّا أنّ ذلك لا يمنع عن إلغاء الخصوصيّة مع إقامة البيّنة و اليمين على أنّه مات و الحقّ عليه، و لم يتحقّق المسقط له مع العلم بذلك. و قد تحقّق ممّا ذكرنا أمران:

أحدهما: أنّ اليمين اللازم في هذا الفرع إنّما هي اليمين على الميت لا على نفي العلم؛ لدلالة الروايات على الأوّل.

ثانيهما: بطلان ما احتمله في الجواهر من الاعتماد في اليمين على مقتضى الاستصحاب «2»؛ لأنّه لو كان الاستصحاب كافياً لم يحتج إلى يمين أصلًا.

بقي الكلام في هذا الفرع فيما لو كان الوارث متعدّداً، و قد أفاد في المتن أنّه لا بدّ من حلف كلّ واحد منهم على مقدار حقّه، و أنّه لو حلف بعض و نكل بعض يثبت حقّ الحالف و يسقط حقّ الناكل، و عن الجواهر: عدم وجوب اليمين على كلّ واحد من الورثة، بل يكفي يمين واحد من أحدهم؛ لأنّ مقتضى إطلاق النصّ اعتبار يمين واحدة في تمامية حجّية البيّنة، التي قد عرفت ثبوت الموضوع بها لسائر الشركاء، و إن أقامها أحدهم «3».

______________________________

(1) في ص 173 174.

(2) جواهر الكلام: 40/ 197.

(3) جواهر الكلام: 40/ 197.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 204

[الثاني: لو شهدت البيّنة بإقراره قبل موته بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء عادةً]

الثاني: لو شهدت البيّنة

بإقراره قبل موته بمدّة لا يمكن فيها الاستيفاء عادةً، فهل يجب ضمّ اليمين أو لا؟ وجهان: أوجههما وجوبه. و كذا كلّ مورد يعلم أنّه على فرض ثبوت الدّين سابقاً لم يحصل الوفاء من الميت (1).

______________________________

و أنت خبير بأنّ كلّ واحد من الورّاث لصاحب الحقّ يكون في صورة الادعاء مدّعياً مستقلا على الميت، مشمولًا لإطلاق النصّ أو محكوماً بحكم إلغاء الخصوصية.

لكن دعواه إنّما هي بالإضافة إلى مقدار حقّه لا أزيد، ضرورة أنّها بالنسبة إلى الزائد لا يكون واجداً لشرائط سماع الدعوى مع عدم الوكالة و الولاية، و البيّنة التي أُقيمت إن كانت قائمة على مجموع الحقّ، فمعناه أنّ الباقين يمكن لهم أن يستفيدوا من هذه البيّنة بضميمة يمين كلّ واحد منهم، مضافاً إلى أنّه يمكن تحقّق الاستيفاء أو الإبراء بالإضافة إلى بعضهم، فلا يجدي مجرّد البيّنة بدون ضمّ اليمين، كما لا يخفى.

(1) في هذا الفرع قولان:

قول بعدم وجوب ضمّ اليمين إلى البيّنة كما عن جماعة «1»، و اختاره السيّد في الملحقات «2» و هو الأقوىٰ.

و قول بالوجوب كما اختاره في محكي المستند، و حكى أنّه قوّاه بعض الفضلاء من المعاصرين مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في إقرار المريض، و في الوصيّة بالدّين «3».

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 13/ 463، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 695.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 84.

(3) مستند الشيعة: 17/ 256.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 205

..........

______________________________

أقول: و لتحقيق الحال يقتضي تقديم مقال، و هو أنّه قد اشتهر، بل يكون من الأُمور المسلّمة أنّ العلّة المنصوصة قد تقتضي توسعة دائرة الحكم و ثبوته في جميع موارد العلّة، و قد تقتضي التضييق و اختصاص الحكم بمورد ثبوتها،

و قد تقتضي كليهما معاً، فقوله: لا تأكل الرمّان لأنّه حامض. كما أنّه يوجب عموم دائرة الحكم و شمولها لكلّ حامض و إن لم يكن رمّاناً، كذلك يقتضي تقييد دائرة الحكم و تخصيصها بخصوص الحامض من الرمان، و عدم شمولها للرمان غير الحامض بل الحلو. و قد سولك هذا المنهج في موارد متعدّدة متكثّرة، منها باب الاستصحاب في علم الأصول، حيث إنّ الدليل على جريانه في جميع موارد الشكّ و اليقين ما ورد من صحاح زرارة في باب الوضوء و طهارة اللباس و الشكّ في عدد ركعات الصلاة مشتملة على التعليل، بأنّه «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» «1»، فإنّه قد استفيد منها حكم كلّي في باب الاستصحاب.

و ينبغي أن يعلم أنّ العلل المنصوصة قد تكون كما هو الغالب أموراً واقعيّة تكوينية معلومة عند المخاطب، و قد تكون أموراً تعبّدية لا يعرفها المخاطب بوجه. فقوله: «لا تشرب الخمر لأنّها مسكرة» إنّما يكون من قبيل الأوّل، و ما ورد في الاستصحاب من قوله (عليه السّلام): «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبداً» من قبيل الثاني؛ لعدم كون الاستصحاب أمارة عقلائيّة و لا أصلًا كذلك.

و ممّا ذكرنا يظهر الفرق بين مقام التعليل و مقام الاستشهاد بالكتاب أو بقول

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 1/ 8 ح 8 و ص 421 ح 1335 و ج 2/ 186 ح 740، الاستبصار: 1/ 183 ح 641 و ص 373 ح 1416، الكافي: 3/ 351 ح 3، و عنها وسائل الشيعة: 1/ 245، كتاب الطهارة، أبواب نواقض الوضوء ب 1 ح 1. و ج 3/ 466، أبواب النجاسات ب 37 ح 1 و ص 477 ب 41 ح 1 و

ص 482 ب 44 ح 1. و ج 8/ 217، كتاب الصلاة، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ب 10 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 206

..........

______________________________

الرسول مثلًا، فإنّه لا بدّ في الثاني من أن يكون الكلام ظاهراً فيه عند العرف مع قطع النظر عن الاستشهاد، و لا يلزم في الأوّل ذلك على ما عرفت.

إذا عرفت ما ذكرنا فاعلم أنّ قوله (عليه السّلام) في مقام لزوم ضمّ اليمين إلى البيّنة في رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المتقدّمة «1»: لأنّا لا ندري لعلّه قد أوفاه ببيّنة لا نعلم موضعها، أو غير بيّنة قبل الموت هل يكون بمنزلة التعليل الموجب للتوسعة و التضييق، كما في قوله: لا تأكل الرمّان لأنّه حامض على ما مرّ، أو أنّه علّة و لا يكون الحكم دائراً مدارها؟ كما في المحكيّ عن مستند النراقي، نظراً إلى أنّ العلل الشرعيّة معرّفات لا ينتفي المعلول بانتفائها، فإنّه قد يكون وجود العلّة في بعض الأفراد علّة للحكم في الجميع، مع أنّ التعليل كما قيل «2» يمكن أن يكون من باب إبداء النكتة و التمثيل، فإنّ احتمال الإبراء أيضاً قائم، و كذا احتمال نسيان المقرّ للايفاء و تذكّره لو كان حيّاً حين الدعوى، و لذا قوّى بعض فضلائنا المعاصرين «3» الضمّ لإطلاق النصّ، و هو حسن، إلّا أنّ فيه: أنّ النصّ معارض بأخبار أُخر واردة في إقرار المريض، و في الوصيّة بالدين كصحيحة منصور، عن رجل أوصى لبعض ورثته أنّ له عليه ديناً؟ فقال: إن كان الميّت مرضيّاً فأعطه الذي أوصى له «4».

و صحيحة أبي ولّاد، عن رجل مريض أقرّ عند الموت لوارث بدين له عليه؟

______________________________

(1) تقدّمت في

ص 152.

(2) غنائم الأيّام: 687.

(3) غنائم الأيّام: 687.

(4) الكافي: 7/ 41 ح 2، تهذيب الأحكام: 9/ 159 ح 656، الاستبصار: 4/ 111 ح 426، الفقيه: 4/ 170 ح 594، و عنها وسائل الشيعة: 19/ 291، كتاب الوصايا ب 16 ح 1. و ج 23/ 183، كتاب الإقرار ب 1 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 207

..........

______________________________

قال: جائز «1».

و رواية السكوني: في رجل أقرّ عند موته لفلان و فلان لأحدهما عندي ألف درهم، ثمّ مات على تلك الحال، فقال: أيّهما أقام البيّنة فله المال، و إن لم يقم واحد منهما البيّنة فالمال بينهما نصفان «2».

و مكاتبة الصهباني: امرأة أوصت إلى رجل و أقرّت له بدين ثمانية آلاف درهم إلى أن قال: فكتب (عليه السّلام) بخطّه: إن كان الدين صحيحاً معروفاً مفهوماً، فيخرج الدين من رأس المال «3» إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال المذكورة في كتاب الإقرار و كتاب الوصايا من الوسائل فإنّ هذه الأخبار شاملة لصورة عدم حلف المقرّ له أيضاً، فيتعارض مع ما مرّ بالعموم من وجه، و إذ لا ترجيح فيرجع إلى القاعدة المتقدّمة المكتفية للمدّعي بالبيّنة، و هو الأصحّ «4»، انتهىٰ.

و يرد عليه:

أوّلًا: وضوح أنّ التعليل يقتضي التوسعة و التضييق، و لم يقم دليل على أنّ العلل الشرعيّة معرّفات، لا يكاد ينتفي المعلول بانتفائها، و إلّا لا يكون لذكر التعليل فائدة كما لا يخفى.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 42 ح 5، تهذيب الأحكام: 9/ 160 ح 660، الاستبصار: 4/ 112 ح 430، و عنها وسائل الشيعة: 19/ 323، كتاب الوصايا ب 16 ح 4

(2) الكافي: 7/ 58 ح 5، الفقيه: 4/ 174 ح 610،

تهذيب الأحكام: 9/ 162 ح 666، و عنها وسائل الشيعة: 19/ 323، كتاب الوصايا ب 25 ح 1. و ج 23/ 184، كتاب الإقرار ب 2 ح 1.

(3) تهذيب الأحكام: 9/ 161 ح 664، الاستبصار: 4/ 113 ح 433، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 294، كتاب الوصايا ب 16 ح 10.

(4) مستند الشيعة: 17/ 256- 257.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 208

..........

______________________________

و ثانياً: أنّ المذكور في رواية عبد الرحمن المتقدّمة هو التعليل بلحاظ الاشتمال على كلمة لام التعليل، و احتمال الإبراء و إن كان يقوم مقام احتمال الإيفاء، إلّا أنّ مرجع ذلك إلى التوسعة في دائرة العلّة بلحاظ المتفاهم العرفي، و أنّ العلّة لا تكون خصوص احتمال الإيفاء، بل الأعم منها و من الإبراء و كلّ مسقط للدين، و لا منافاة بين سعة دائرة العلّة و بين المعمّمية و المخصّصية، كما هو ظاهر.

و ثالثاً: أنّ ما أفاده من التعارض بين روايات المقام و بين الروايات الواردة في باب إقرار المريض أو وصيته غير صحيح. فإنّ مورد روايات المقام صورة وجود المدّعى، و مورد تلك الروايات صورة الإقرار أو الوصية من دون أن يكون هناك مدّع أصلًا. و محطّ النظر فيها هو أنّ المريض المشرف على الموت هل يصحّ منه الإقرار بدين عليه أو الوصية بذلك أم لا؟ و أين هذا من المقام.

و رابعاً: أنّه على فرض التعارض لم يعلم وجه كون التعارض بالعموم و الخصوص من وجه، فإنّ التعارض مع هذه النسبة إنّما هو فيما إذا كان بين العنوانين تعارض كذلك، مع قطع النظر عن الحكم المتعلّق بهما؛ كالتعارض بين عنواني العلماء و الفسّاق في قوله: أكرم العلماء و

لا تكرم الفسّاق؛ لاجتماع العنوانين في العالم الفاسق. و أمّا في مثل المقام فلو فرض التعارض البدوي، فإنّما يكون هو التعارض بالإطلاق و التقييد، و اللّازم تقييد إطلاقات تلك الروايات بسبب روايات المقام.

و التحقيق بمقتضى ما ذكرنا عدم لزوم ضمّ اليمين في مفروض هذا الفرع؛ لأنّه بعد شهادة البيّنة بالإقرار قبل الموت، و الفرض عدم كون الزمان الباقي إلى الموت ظرفاً للاستيفاء عادة، و اللّازم فرض العلم بعدم تحقق مثل الإبراء، فلا يكون التعليل المذكور في الرواية مقتضياً للزوم ضمّ اليمين هنا؛ للعلم عادة بعدم تحقّق الموجب لسقوط الدين من الإيفاء و مثله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 209

[الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت، فادّعى شخص عليه و أقام البيّنة، تكفي يمين واحدة]

الثالث: لو تعدّدت ورثة الميّت، فادّعى شخص عليه و أقام البيّنة، تكفي يمين واحدة، بخلاف تعدّد ورثة المدّعى كما مرّ (1).

[الرابع: اليمين للاستظهار لا بدّ و أن تكون عند الحاكم]

الرابع: اليمين للاستظهار لا بدّ و أن تكون عند الحاكم، فإذا قامت البيّنة عنده و أحلفه ثبت حقّه، و لا أثر لحلفه بنفسه أو عند الوارث (2).

______________________________

و ممّا ذكرنا يظهر عدم لزوم الضمّ في كلّ مورد يعلم بالبقاء على فرض الثبوت. نعم فيما إذا قامت البيّنة على بقاء الدين إلى حين الموت، يكون الخروج و عدم لزوم الضم لا للتعليل المذكور فيها، بل لما استفدنا منها من أنّ البيّنة التي أُقيمت على المطلوب بالحقّ هي البيّنة على أصل الاشتغال، كما عرفت «1».

(1) قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الملاك في تعدّد اليمين هو تعدّد ورثة المدّعى، لا تعدّد ورثة المدّعى عليه؛ لأنّ المطلوب بالحقّ هو الميت، و كلّ واحد من ورثة المدّعى يقوم مقامه مستقلا بالإضافة إلى مقدار حقّه، و يشمله قوله (عليه السّلام): و إن كان المطلوب بالحقّ قد مات «2»، فيلزم الحلف مضافاً إلى البيّنة. و قد عرفت «3» أنّ إقامة البيّنة على مجموع الدين من واحد من الورثة كاف، بخلاف اليمين فإنّه لا بدّ لكلّ واحد منهم ضمّها بمقدار حقّه. و أمّا تعدّد ورثة الميّت فلا دخل له في ذلك، إذ ليس البحث في يمين المدّعى عليه أصلًا، كما لا يخفىٰ.

(2) الظاهر لزوم كون اليمين للاستظهار عند الحاكم الذي تقام البيّنة عنده، فكما

______________________________

(1) في ص 195.

(2) تقدمت الرواية بتمامها في ص 152.

(3) في ص 202- 204.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 210

[الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط]

الخامس: اليمين للاستظهار غير قابلة للإسقاط، فلو أسقطها وارث الميّت لم تسقط، و لم يثبت حقّ المدّعى بالبيّنة بلا ضمّ الحلف (1).

______________________________

أنّه لا تجوز إقامة البيّنة عند غير الحاكم، كذلك لا يجوز الحلف بنفسه

أو عند الوارث أو عند حاكم آخر؛ لأنّه دخيل في حكم الحاكم و فصل خصومته كيمين المدّعى عليه في مواردها، و يؤيّده التعبير بالمعيّة و الانضمام إلى البيّنة في الروايات المتقدّمة «1»، و عدم التصريح بهذه الجهة فيها لعلّه لكونها في مقام بيان أصل الحاجة إلى اليمين تقييداً لقول الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على المدّعى و اليمين على المدّعى عليه «2»، مع أنّ مقتضى الأصل عدم التأثير عند غير الحاكم، فتدبّر جيّداً.

(1) لم يقم دليل على أنّ اليمين المنضمّة إلى البيّنة في أصل المسألة من الحقوق المرتبطة بوارث الميّت، و تكون قابلة للإسقاط، بل مقتضى الدليل توقّف ثبوت حقّ المدّعى على ضمّ اليمين مطلقاً، فكما أنّه لا يثبت حقّه بدون إقامة البيّنة، كذلك لا يثبت من دون ضمّ اليمين، سواء أسقط الوارث أم لا كما في الشاهد الواحد و اليمين، كما لا يخفى.

نعم إذا رضي المدّعى بإسقاط بعض حقّه و أخذ الباقي بدون الحلف، جاز مع موافقة الورثة، لكن هذا يرجع إلى المصالحة و لا يرتبط بالقضاء.

______________________________

(1) في ص 191- 192.

(2) الفقيه: 3/ 20 ح 52، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 234، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 3 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 211

[القول في الشاهد و اليمين]

اشارة

القول في الشاهد و اليمين

[مسألة 1: لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعى]

مسألة 1: لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعى، كما لا إشكال في عدم الحكم و القضاء بهما في حقوق اللّٰه تعالى، كثبوت الهلال و حدود اللّٰه، و هل يجوز القضاء بهما في حقوق الناس كلّها حتى مثل النسب و الولاية و الوكالة، أو يجوز في الأموال و ما يقصد به الأموال كالغصب و القرض و الوديعة، و كذا البيع و الصلح و الإجارة و نحوها؟ وجوه: أشبهها الاختصاص بالديون، و يجوز القضاء في الديون بشهادة امرأتين مع يمين المدّعى (1).

______________________________

(1) أقول: في هذه المسألة أمور:

الأمر الأوّل: أنّه لا إشكال في أصل جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعى، استناداً إلى المقطوع به من قضاء رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و قضاء عليّ (عليه السّلام) بعده على ما رواه العامّة و الخاصّة في كتبهم الروائيّة، مثل سنن البيهقي «1»

______________________________

(1) صحيح مسلم: 3/ 1078 ح 1712، سنن ابن ماجة 3/ 131- 132 ح 2368- 2371، سنن أبي داود: 4/.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 212

..........

______________________________

و الوسائل «1»، و وافقنا عليه أكثر العامّة خلافاً لأبي حنيفة و أتباعه «2»، و قد قال للصادق (عليه السّلام): كيف تقضون باليمين مع الشاهد الواحد؟ فقال الصادق (عليه السّلام): قضى به رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و قضى به عليّ (عليه السّلام) عندكم. فضحك أبو حنيفة، فقال له الصادق (عليه السّلام): أنتم تقضون بشهادة واحد شهادة مائة، فقال: ما نفعل، فقال: بلى تشهد مائة فترسلون واحداً يسأل عنهم، ثمّ تجيزون شهادتهم بقوله «3».

و في صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج

قال: دخل الحكم بن عتيبة و سلمة بن كهيل على أبي جعفر (عليه السّلام)، فسألاه عن شاهد و يمين، فقال: قضى به رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و قضى به عليّ (عليه السّلام) عندكم بالكوفة، فقالا: هذا خلاف القرآن، فقال: و أين وجدتموه خلاف القرآن؟ قالا: إنّ اللّٰه يقول وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «4» فقال لهما أبو جعفر (عليه السّلام): قول اللّٰه وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ هو أن لا تقبلوا شهادة واحد و يميناً، ثمّ قال: إنّ عليّاً (عليه السّلام) كان قاعداً في مسجد الكوفة، فمرّ به عبد اللّٰه بن قفل التميمي و معه درع طلحة، فقال له علي (عليه السّلام): هذه درع طلحة أخذت غلولًا «5» يوم البصرة، فقال له عبد اللّٰه بن قفل: أجل بيني و بينك قاضيك الذي رضيته للمسلمين، فجعل بينه و بينه شريحاً.

______________________________

24- 360825- 3612، سنن الترمذي: 3/ 627- 628 ح 1347- 1369، سنن الدار قطني: 4/ 135- 136 ح 4439- 4443 و ص 137 ح 4447 و 4448، السنن الكبرى للبيهقي: 15/ 202- 214 ح 21227- 21269.

(1) وسائل الشيعة: 27/ 264- 270، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14.

(2) الخلاف: 6/ 274- 279 مسألة 23.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 296 ح 826، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 268، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 13.

(4) سورة الطلاق: 65/ 2.

(5) الغلولة: السرقة قبل تقسيم الغنيمة، المؤلّف.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 213

..........

______________________________

فقال علي (عليه السّلام): هذه درع طلحة أُخذت غلولًا يوم البصرة، فقال له شريح: هات على ما تقول بيّنة، فأتاه بالحسن (عليه السّلام) فشهد أنّها درع طلحة أُخذت

غلولًا يوم البصرة، فقال شريح: هذا شاهد واحد و لا أقضي بشهادة شاهد حتى يكون معه آخر، فدعا قنبر فشهد أنّها درع طلحة أُخذت غلولًا يوم البصرة. فقال شريح: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك.

قال: فغضب عليّ (عليه السّلام) و قال: خذها فإنّ هذا قضى بجور ثلاث مرّات. قال: فتحوّل شريح و قال: لا أقضي بين اثنين حتّى تخبرني من أين قضيت بجور ثلاث مرّات؟ فقال له: ويلك أو ويحك إنّي لمّا أخبرتك أنّها درع طلحة أُخذت غلولًا يوم البصرة فقلت: هات على ما تقول بيّنة. و قد قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): حيث ما وجد غلول أُخذ بغير بيّنة، فقلت: رجل لم يسمع الحديث فهذه واحدة.

ثمّ أتيتك بالحسن (عليه السّلام) فشهد، فقلت: هذا واحد و لا أقضي بشهادة واحد حتّى يكون معه آخر، و قد قضى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) بشهادة واحد و يمين، فهذه ثنتان. ثمّ أتيتك بقنبر فشهد أنها درع طلحة أُخذت غلولًا يوم البصرة، فقلت: هذا مملوك و لا أقضي بشهادة مملوك، و ما بأس بشهادة المملوك إذا كان عدلًا. ثمّ قال: ويلك أو ويحك إنّ إمام المسلمين يؤمن من أمورهم على ما هو أعظم من هذا «1».

قال صاحب الجواهر (قدّس سرّه): و كان اقتصاره (عليه السّلام) على خطئه ثلاثاً في هذه القضية على فهم شريح القاضي، و إلّا فهو مخطئ من وجوه أُخر أيضاً قد أشار (عليه السّلام) إلى بعضها، و بذلك ظهر لك حال قاضيهم و حال الفقيهين لهم الحَكَم و سَلَمَة، و حال إمامهم

______________________________

(1) الكافي: 7/ 385 ح 5، الفقيه: 3/ 63 ح 313، التهذيب: 6/ 273 ح 747، الاستبصار:

3/ 34 ح 117، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 265، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 214

..........

______________________________

الأعظم أبي حنيفة و سوء أدبه «1».

و بالجملة قد ظهر لك في هذا الأمر أنّه لا شبهة في جواز القضاء بالشاهد و اليمين في الجملة.

الأمر الثاني: في أنّه هل يختصّ جواز القضاء بالشاهد و اليمين بالدين الذي يأتي معناه في المسألة الثانية إن شاء اللّٰه تعالى، و هو الحقّ الكلّي الماليّ المتعلّق بالذمّة مثليّا كان أو قيميّاً، كما عليه الماتن (قدّس سرّه) تبعاً للنهاية و الاستبصار «2» و الغنية «3» و المراسم «4» و الإصباح «5» و الكافي «6»، بل في الغنية الإجماع عليه، أو يعمّ مطلق الحقوق الماليّة أعمّ ممّا إذا كان بنفسه مالًا و ما إذا كان المقصود منه المال، كما عليه المشهور من الأصحاب «7»، أو يعمّ مطلق حقوق الناس أعمّ من أن يكون مالًا أو غيره حتى القصاص و الوصاية و النسب و الولاية، فلا يشمل فقط مثل الشهادة على الهلال، الذي لا وجه للحلف عليه من حيث أنّه كذلك من أحد، و كذا كلّ ما لم تشرع اليمين فيه مثل حقوق اللّٰه تعالى، التي هي أيضاً لا دعوى لأحد بالخصوص فيها، كما لعلّه يظهر من صاحب الجواهر (قدّس سرّه) خصوصاً بعد جعل الضابط أنّ كلّ ما تشرع فيه ردّ يمين الإنكار على المدّعى يشرع فيه الشاهد و اليمين؛

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 270.

(2) النهاية: 334، الاستبصار: 3/ 33 35.

(3) غنية النزوع: 439.

(4) المراسم: 234.

(5) إصباح الشيعة: 528.

(6) الكافي في الفقه: 438.

(7) مفتاح الكرامة: 10/ 137، رياض المسائل: 13/ 138 139، كشف

اللثام: 10/ 137.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 215

..........

______________________________

لأنّ الظاهر كون هذه اليمين يمين المنكر صارت للمدّعي الذي له شاهد «1».

هذا، و قد قال المحقّق في الشرائع في هذا المجال: و يثبت الحكم بذلك في الأموال: كالدين و القرض و الغصب، و في المعاوضات: كالبيع و الصرف و الصلح و الإجارة و القراض و الهبة و الوصية له، و الجناية الموجبة للدية: كالخطإ و عمد الخطأ و قتل الوالد ولده، و الحرّ العبد، و كسر العظام و الجائفة و المأمومة. و ضابطه ما كان مالًا أو المقصود منه المال، و في النكاح تردّد، أمّا الخلع و الطلاق و الرجعة و العتق و التدبير و الكتابة و النسب و الوكالة و الوصية إليه و عيوب النساء فلا، و في الوقف إشكال منشؤه النظر إلى من ينتقل إليه، و الأشبه القبول، لانتقاله إلى الموقوف عليهم «2»، انتهىٰ.

أقول: في هذا المجال طوائف ثلاث من الروايات:

الطائفة الأُولىٰ: ما تدلّ على القضاء بهما في مطلق حقوق الناس مثل:

صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: لو كان الأمر إلينا أجزنا شهادة الرجل الواحد، إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّٰه عزّ و جلّ أو رؤية الهلال فلا «3».

و هذه الرواية مضافاً إلى كونها صحيحة من حيث السند ظاهرة الدلالة على التعميم، و أنّه يجزي الشاهد و اليمين في جميع حقوق الناس لاقتضاء التعبير بالعموم و المقابلة ذلك و دونها في الظهور.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 274.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 92- 93.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 273 ح 746، الاستبصار: 3/ 33 ح 116، الفقيه: 3/

330 ح 104، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 268، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 12.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 216

..........

______________________________

و رواية اخرى لمحمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) يجيز في الدين شهادة رجل واحد و يمين صاحب الدين، و لم يجز في الهلال إلّا شاهدي عدل «1».

فإنّ مقتضى المقابلة كون الدين شاملًا لجميع حقوق الناس الماليّة و غيرها.

الطائفة الثانية: الروايات المطلقة الحاكية لفعل الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) و علي (عليه السّلام)، و الحاكي لفعلهما و إن كان هو الإمام (عليه السّلام) في مقام بيان الحكم الشرعي، و في هذه الصورة يجوز التمسّك بإطلاق كلام الحاكي، إلّا أنّه فيما إذا كانت شرائط التمسّك بالإطلاق و مقدّمات الحكمة التي يكون أتمّها كون المولى المتكلّم في مقام البيان لا الإهمال و الإجمال موجودة، و في هذه الروايات لا يكون كذلك؛ لأنّ الغرض العمدة كما يظهر من الروايات و من مخالفة أبي حنيفة و أتباعه إثبات جواز القضاء بالشاهد و اليمين في الجملة لا إطلاق هذا الأمر، و هذه الروايات مثل:

رواية منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) يقضي بشاهد واحد مع يمين صاحب الحقّ «2».

و رواية أبي مريم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: أجاز رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) شهادة شاهد مع يمين طالب الحقّ، إذا حلف أنّه الحقّ «3».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 386 ح 8، تهذيب الأحكام: 6/ 272 ح 740، الاستبصار: 3/ 32 ح 108، و عنها وسائل الشيعة:

27/

264، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 1.

(2) الكافي 7/ 385 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 272 ح 741، الاستبصار: 3/ 32 ح 108، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 264، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 2.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 273 ح 744، الاستبصار: 3/ 33 ح 115، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 267،، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 217

..........

______________________________

و رواية عباد بن صهيب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السّلام)، عن جابر بن عبد اللّٰه قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله)، فأمره أن يأخذ باليمين مع الشاهد «1».

و غير ذلك من الروايات الحاكية لفعله (صلّى اللّٰه عليه و آله) أو فعل عليّ (عليه السّلام).

الطائفة الثالثة: ما ورد في خصوص القضاء بهما في الأموال، و هي الرواية الوحيدة المرسلة عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: استشرت جبرئيل (عليه السّلام) في القضاء باليمين مع الشّاهد، فأشار عليّ بذلك في الأموال لا تعدو ذلك «2».

و قال صاحب الجواهر بعد نقله: و لكن ليس هو من طرقنا، و لا معروف النقل في كتب فروعنا، و إنّما رواه في المسالك «3»، بل لعلّ مضمونه لا يوافق أصول الشيعة، و يمكن أن يكون من محرفات العامة؛ لأنك قد سمعت ما نزل به جبرئيل عليه (صلّى اللّٰه عليه و آله) «4». انتهىٰ.

الطائفة الرابعة: ما ورد في درع طلحة من الصحيحة المفصّلة المتقدّمة، و مثل هذه الصحيحة لا يرتبط بهذا الأمر من المقام، لا لما حكي عن الشيخ في الاستبصار: من أنّ إنكار

أمير المؤمنين (عليه السّلام) إنّما هو على إطلاق قول شريح: لا أقضي بشهادة واحد «5»، و لا لما أفاده في الجواهر من ضرورة عدم كون خصوص المقام ممّا يكفي فيه الشاهد و اليمين من الوالي «6»، بل لأنّه قد حكى فيها عليّ (عليه السّلام) عن الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) من

______________________________

(1) أمالي الصدوق: 445 ح 594، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 269، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 16.

(2) تلخيص الحبير: 4/ 493 ح 2134.

(3) مسالك الأفهام: 13/ 510.

(4) جواهر الكلام: 40/ 275.

(5) الاستبصار: 3/ 35.

(6) جواهر الكلام: 40/ 273.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 218

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 218

..........

______________________________

أنّه «حيث ما وجد غلول أخذ بغير بيّنة»، كما لا يخفى.

و منه يظهر أنّ ما أفاده السيّد (قدّس سرّه) في الملحقات في آخر كلامه من أنّه: لا يبعد إلحاق دعوى العين بالدين في الثبوت بالشاهد و اليمين لا غير «1»، نظراً إلى رواية الدرع في غير محلّه، فتدبّر.

الطائفة الخامسة: الروايات الدالّة على الاختصاص بالدين، و هي روايات كثيرة، مثل رواية محمد بن مسلم المتقدّمة، و رواية حمّاد بن عثمان، التي نقلها صاحب الوسائل و جعلها روايتين متعدّدتين، و الظاهر أنّهما رواية واحدة، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: كان عليّ (عليه السّلام) يجيز في الدين شهادة رجل و يمين المدّعى «2».

و رواية أبي بصير قال: سألت أبا

عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يكون له عند الرجل الحقّ و له شاهد واحد؟ قال: فقال: كان رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) يقضي بشاهد واحد و يمين صاحب الحقّ، و ذلك في الدين «3».

و رواية القاسم بن سليمان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: قضى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) بشهادة رجل مع يمين الطالب في الدين وحده «4». و غير ذلك من الروايات الدالّة على ذلك.

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 91.

(2) الكافي: 7/ 385 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 273 ح 745، الاستبصار: 3/ 32 ح 110، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 265 و 268، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 3 و 11.

(3) الكافي: 7/ 385 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 272 ح 742، الاستبصار: 3/ 32 ح 109، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 265، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 5.

(4) تهذيب الأحكام: 6/ 273 ح 745، الاستبصار: 3/ 32 ح 110، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 268، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 14 ح 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 219

..........

______________________________

و قد ظهر ممّا ذكرنا أنّ اللازم في هذا الأمر ملاحظة طائفتين من الطوائف الخمس المتقدّمة:

الطائفة الظاهرة في جواز القضاء بشاهد و يمين في مطلق حقوق الناس.

و الطائفة الظاهرة في الاختصاص بالدّين.

فاعلم أنّ المحكي عن الشيخ (قدّس سرّه) في الاستبصار حمل إطلاق الأُولى على التقييد في الثانية «1». و ذكر صاحب الجواهر: أنّ حمل المطلق على المقيّد إنّما يصحّ بعد فرض التقييد، و عدم قوّة المطلق من حيث كونه مطلقاً، و هما معاً ممنوعان؛ لإمكان

عدم إرادة التقييد في النصوص السابقة، ضرورة أنّ القضاء بهما في الدّين أو جوازه لا يقتضي عدم القضاء و لا عدم جوازه بغيره، هذا بعد الإغضاء عن قصور السند و لا جابر له؛ لما عرفت من أنّ المشهور التعدية، بل قد سمعت دعوى الإجماع عليه من الشيخ و الحلّي «2»، «3».

أقول: فرض عدم التقييد لأنّ إثبات الشي ء لا ينفي ما عداه ينافي لسان جملة من الروايات الواردة في الدين الظاهرة في الاختصاص بلحاظ قوله (عليه السّلام): «و ذلك في الدين» أو أنّه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قضى في الدّين وحده، نعم قوّة المطلق بحالها، نظراً إلى المقابلة بينه و بين حقوق اللّٰه و الهلال، كما في صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة.

و هنا إشكال آخر و هو: أنّ مستند المشهور في جعل الضابط المال أو المقصود منه المال ما ذا؟ و من المستبعد جدّاً أن يكون مستندهم المرسلة المتقدّمة عن ابن عبّاس، و لا مجال لأن يقال هنا: بأنّ استناد المشهور يكون جابراً لضعفها بعد

______________________________

(1) الاستبصار: 3/ 33.

(2) الخلاف: 6/ 275 مسألة 23، السرائر: 2/ 140.

(3) جواهر الكلام: 40/ 273- 274.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 220

..........

______________________________

كون مفادها مغايراً لعقائدنا، و كونها غير مذكورة في كتب فروعنا، فهل لعنوان الدين المذكور في الروايات معنى وسيع يشمل جميع الحقوق الماليّة، بحيث كان مرجع فعلهم إلى شبه ما عمله في الاستبصار، من تقييد حقوق الناس في الصحيحة بالحقوق الماليّة، فيلزم حينئذٍ عدم التعرّض فيها لمثل حقّ القصاص و نحوه ممّا لا يكون مالًا، و لا ما يقصد به الأموال، و يؤيّد سعة معنى الدين جعله مقابلًا للهلال في روايته الأُخرى

عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المتقدّمة أيضاً، لكن إطلاق لفظ الدين على مثل حقّ القصاص مشكل.

و كيف كان، فالتحقيق أنّه لا محيص عن الفتوى على طبق الرواية الصحيحة، و الحكم بجريان الشاهد و اليمين في جميع حقوق الناس المالية و غيرها، و إن كان الاحتياط يقتضي الاقتصار على خصوص الأولى، فتدبّر جيّداً.

الأمر الثالث: في قيام شهادة امرأتين مقام رجل واحد في مسألة الشاهد و اليمين، كما عن الأكثر «1» خلافاً لابن إدريس، حيث منع عن ذلك على مبناه من عدم حجّية خبر الواحد «2»، و للعلّامة في موضع من محكي التحرير، حيث جزم بالعدم فيه «3»، و إن كان قد جزم في موضع آخر منه بالقبول «4».

و يدلّ على المشهور صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) أجاز

______________________________

(1) الوسيلة: 222، الجامع للشرائع: 542، مسالك الأفهام: 13/ 511 512، رياض المسائل: 13 141، جواهر الكلام: 40/ 275.

(2) السرائر: 2/ 116.

(3) تحرير الأحكام: 5/ 179، الرقم 6526.

(4) تحرير الأحكام: 5/ 268، الرقم 6664 ..

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 221

..........

______________________________

شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين، يحلف باللّٰه أنّ حقّه لحقّ «1».

و مرسلة منصور بن حازم قال: حدّثني الثقة، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: إذا شهد لصاحب الحقّ امرأتان و يمينه فهو جائز «2».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 386 ح 7، تهذيب الأحكام: 6/ 272 ح 739، الاستبصار: 3/ 32 ح 107، الفقيه: 3/ 33 ح 106، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 271، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 15 ح 3.

(2) الكافي: 7/ 386 ح 6، الفقيه 3/ 33 ح

105، تهذيب الأحكام: 6/ 272 ح 738، الاستبصار: 3/ 31 ح 106، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 271، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 15 ح 1 و 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 222

[مسألة 2: المراد بالدّين كلّ حقّ مالي في الذمّة]

مسألة 2: المراد بالدّين كلّ حقّ مالي في الذمّة بأيّ سبب كان، فيشمل ما استقرضه، و ثمن المبيع، و مال الإجارة، و دية الجنايات، و مهر الزوجة إذا تعلّق بالعهدة، و نفقتها، و الضمان بالإتلاف و التلف إلى غير ذلك، فإذا تعلّقت الدّعوى بها أو بأسبابها لأجل إثبات الدين و استتباعها ذلك فهي من الدين، و إن تعلّقت بذات الأسباب و كان الغرض نفسها لا تكون دعوى الدين (1).

______________________________

(1) الغرض من هذه المسألة تعميم دائرة الدين و الحكم بعدم اختصاصه بما استقرضه و مثله، بل يعمّ الموارد المذكورة في المتن. و هذا البحث إنّما يجري بناءً على اختصاص الحكم في المسألة الأُولى بخصوص الدين، و أمّا بناءً على الحكم بالتعميم في جميع الحقوق المربوطة بالناس أعمّ من المالية و غيرها فلا مجال لهذا البحث، كما أنّه بناءً على القول الآخر الذي عرفت أنّه المشهور يمكن أن يقال بعدم التفاوت، و يمكن أن يقال بالفرق بالإضافة إلى المعاوضة و مثلها من حيث هي، كما لا يخفىٰ.

و هو الظاهر من المسألة الأُولى حيث جعل القول بالاختصاص بالديون مغايراً للقول بجريانه في مطلق الأموال و ما يقصد به الأموال، الذي هو المشهور على ما عرفت، مع أنّه لو كان المراد ممّا يقصد به الأموال هو ما يقصد به الأموال نوعاً و غالباً لا يبقى فرق بين القولين؛ لأنّ جميع المعاوضات حينئذٍ داخل فيهما.

نعم لو كان المراد هو

القصد الشخصي يتحقّق الفرق، و لعلّ الأوّل هو الوجه لما يظهر من الجواهر من أنّ أحداً من الأصحاب لم يشر إلى أنّ أصل المسألة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 223

..........

______________________________

خلافيّة «1»، و القول بالتعميم إلى جميع الحقوق الماليّة و غيرها يظهر الميل إليه من المحكي عن المحقّق السبزواري في الكفاية، مع التعليق على عدم ثبوت الإجماع علىٰ خلافه «2».

و كيف كان فالتحقيق في المسألة ما عرفت.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 274.

(2) كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام» 2/ 709/ 710.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 224

[مسألة 3: الأحوط تقديم الشاهد و إثبات عدالته ثمّ اليمين]

مسألة 3: الأحوط تقديم الشاهد و إثبات عدالته ثمّ اليمين، فإن قدّم اليمين ثمّ أقام الشاهد فالأحوط عدم إثباته، و إن كان عدم اشتراط التقديم لا يخلو من قوّة (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: و يشترط شهادة الشاهد أوّلًا، و ثبوت عدالته ثمّ اليمين، فلو بدأ باليمين وقعت لاغية، و افتقر إلى إعادتها بعد الإقامة «1». و قال في الجواهر عقيب الجملة الأُولى: بلا خلاف أجده فيه، بل في كشف اللّثام نسبته إلى قطع الأصحاب «2».

هذا، و لكن جملة من متأخّري المتأخّرين كصاحب الكفاية و المفاتيح و المستند خالفوهم، حيث تردّدوا في المسألة أو قالوا بالعدم «3»، و عمدة ما استدلّ به على الاعتبار أصالة عدم ثبوت الحقّ بدون ذلك بعد الشكّ في إرادة غيره من الإطلاق، خصوصاً بعد الترتيب الذكري في أكثر الروايات.

و يرد عليه: أنّه مع ثبوت الإطلاق لا مجال للأصل كما في سائر الموارد، لكنّ الكلام في أصل ثبوت الإطلاق بعد كونها في مقام بيان أصل اعتبار الشاهد و اليمين في الجملة، و الترتيب

الذكري لا يعبأ به. و قد حكي عن المسالك التعليل بأنّ المدّعى وظيفته البيّنة لا اليمين بالأصالة، فإذا أقام شاهداً صارت البيّنة التي هي وظيفته ناقصة و يتمّمها اليمين بالنّص، بخلاف ما لو قدّم اليمين، فإنّه ابتدأ بما ليس له وظيفة «4».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 92.

(2) كشف اللثام: 10/ 139، جواهر الكلام: 40/ 270.

(3) كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 709، مفاتيح الشرائع: 3/ 264، مستند الشيعة: 17/ 275.

(4) مسالك الأفهام: 13/ 509- 510.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 225

..........

______________________________

و عن كشف اللثام أنّه استدل له بأنّ جانبه حينئذٍ يقوّى، و إنّما يحلف من يقوّى جانبه، كما أنّه يحلف إذا نكل المدّعى عليه؛ لأنّ النكول قوّى جانبه «1»، و ربّما احتمل ضعيفاً أن يكون الشاهد بشرط اليمين كيمين الاستظهار مع بيّنة المدّعى في الدعوى على الميّت.

و ضعف الكلّ ظاهر، و الإنصاف كما في الجواهر «2» أنّه لا دليل واضح على المسألة، فمقتضى الاحتياط الاستحبابي خروجاً عن مخالفة المشهور «3» هو الاعتبار المذكور كما أفاده الماتن (قدّس سرّه)، بل بملاحظة الأصل المذكور بعد عدم ثبوت الإطلاق الاحتياط الوجوبي في اعتبار التقديم، و قد عرفت في عبارة المحقّق التصريح بأنّه لو بدأ باليمين وقعت لاغية و افتقر إلى الإعادة بعد الإقامة أي إقامة الشاهد الواحد، فراجع.

______________________________

(1) كشف اللّثام: 10/ 139.

(2) جواهر الكلام: 40/ 270.

(3) السرائر: 2/ 141، المختصر النافع: 283، تحرير الأحكام: 5/ 174، الرقم 6519، قواعد الأحكام: 2/ 449، الدروس الشرعيّة: 2/ 98، اللمعة الدمشقيّة: 52، الروضة البهيّة: 3/ 102 ملحقات العروة الوثقى: 3/ 92 مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 226

[مسألة 4: إذا كان المال المدّعى به مشتركاً بين جماعة بسبب واحد كالإرث و نحوه]

مسألة 4: إذا كان المال المدّعى به مشتركاً بين جماعة بسبب واحد كالإرث و نحوه، فأقام بعضهم شاهداً على الدعوى و حلف، لا يثبت به إلّا حصّته. و ثبوت سائر الحصص موقوف على حلف صاحب الحقّ، فكلّ من حلف ثبت حقّه مع الشاهد الواحد (1).

______________________________

(1) لأنّ ظاهر الأدلّة افتقار ثبوت حقّ كلّ مدّع إلى ضمّ اليمين بعد إقامة الشاهد، و لا يثبت حق مدّع بدون الحلف، كما أنّه لا يتوقّف ثبوت حقّ البعض على حلف الجميع، كما ادّعى نفي وجدان الخلاف فيه في الطرفين «1».

ثمّ إنّه لو تصرّف المدّعى الحالف في خصوص حقّه المحكوم له بنحو الإشاعة من دون أن يكون هناك في الخارج شي ء و لا قبض و إقباض، كما لو نقل النصف المشاع المحكوم له إلى الغير بالعوض أو مجّاناً، فلا إشكال في عدم الشركة بلحاظ الشريك الأوّل المدّعى غير الحالف.

و أمّا إذا فرض القبض من المدّعى عليه، فإن كانت الدعوى عيناً شاركه فيها غيره؛ لإقراره بالشركة بسبب واحد كالإرث، فلا يجوز التصرّف فيه إلّا برضا الكلّ، و لا يلزم شي ء من الأمرين المتقدّمين توقّف ثبوت الحقّ على حلف الغير، أو ثبوت حقّه بدون حلفه، و إن كان يظهر من إطلاق مثل عبارة المحقّق في الشرائع عدم ثبوت الشركة هنا أيضاً، حيث قال: و لو حلف بعض أخذ و لم يكن للممتنع معه شركة «2»، إلّا أنّ الظاهر لزوم الحمل على غير العين.

و أمّا إذا كانت الدعوى ديناً ففيه احتمالان:

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 280.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 93.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 227

..........

______________________________

أحدهما: ما هو الحقّ و قد اختاره السيد في الملحقات «1»، و هو عدم

الشركة فيما قبضه من دون فرق بين صورة إجازة الشريك و عدمه؛ لأنّ الدافع دفعه إليه بعنوان حصّته، و القابض إنّما قبضه كذلك، و المناط في تعيين الدين قصد الدافع، و ربّما لا يجب عليه دفع حصّة الغير، أو لا يريد دفعها، أو يريد الدفع بعداً، كما في سائر موارد الاشتراك المحرز في الدين مثليّا كان أو قيمياً.

و دعوى عدم جواز أخذ الدين المشترك إلّا بإذن الجميع مدفوعة بالمنع بعد انحلال الدعوى إلى دعاوي، و انحلال الدين إلى ديون متعدّدة، بل عدم ثبوت الارتباط بين أجزاء الدين الواحد، كما إذا أراد تأدية البعض دون الجميع.

ثانيهما: ما في الجواهر من الاشتراك إذا أجاز الشريك القبض، و إذا لم يجز يبقى على ملك الدافع «2»، إذ ليس له تعيين حصّة الشركاء من الحقّ المشترك، بل الأمر بيدهم، و هو مستلزم للضرر على الحالف و غيره من أصحاب الحقّ في كثير من المقامات؛ لعدم إمكان أخذ حقّه بدون إذن الشريك.

هذه هي ما تقتضيه القاعدة في باب الشركة، و إلّا فهناك روايات لا بدّ من ملاحظتها، و التحقيق في كتاب الشركة إن شاء اللّٰه تعالى «3».

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 94.

(2) جواهر الكلام: 25/ 58 و ج 40/ 286.

(3) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الشركة: 133.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 228

[مسألة 5: ثبوت الحقّ بشاهد و يمين إنّما هو فيما لا يمكن إثباته بالبيّنة]

مسألة 5: ثبوت الحقّ بشاهد و يمين إنّما هو فيما لا يمكن إثباته بالبيّنة، و مع إمكانه بها لا يثبت بهما على الأحوط (1).

[مسألة 6: إذا شهد الشاهد و حلف المدّعى و حكم الحاكم بهما، ثمّ رجع الشاهد]

مسألة 6: إذا شهد الشاهد و حلف المدّعى و حكم الحاكم بهما، ثمّ رجع الشاهد ضمن نصف المال (1).

______________________________

(1) لأنّ القدر المتيقّن من أدلّة الاكتفاء بالشاهد و اليمين بعد عدم ثبوت الإطلاق لها صورة عدم إمكان إقامة البيّنة و لو لعسرها، و يؤيّده مرسلة يونس عمّن رواه قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإن لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعى، فان لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، فان لم يحلف و ردّ اليمين على المدّعى، فهي واجبة عليه أن يحلف و يأخذ حقّه، فإن أبى أن يحلف فلا شي ء له «1». فالأحوط اللزومي لو لم يكن الأقوى هو ما في المتن.

(2) لأنّ الظاهر أنّ مستند القاضي في الحكم بنفع المدّعى كان مركّباً من أمرين: هما الشاهد و اليمين، فاذا رجع الشاهد عن شهادته يكون ذلك كرجوع أحد الشاهدين فيما إذا أقام البيّنة، فكما أنّه هناك يكون ضامناً لنصف المال يكون في المقام أيضاً كذلك.

و دعوى أنّ اليمين بمنزلة الشرط و الشاهد بمنزلة المشروط، أو أنّ اليمين حيث تكون جزءاً أخيراً من العلّة يكون هو المؤثّر التامّ، فلا وجه لضمان الشاهد، مدفوعة بظهور الأدلّة في أنّ المستند مركّب من الشاهد و اليمين، مع أنّ استلزام الأمرين لغير ضمان النصف ممنوع.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 148.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 229

[القول في السكوت]

اشارة

القول في السكوت أو الجواب بقوله «لا أدري» أو «ليس لي» أو غير ذلك.

[مسألة 1: إن سكت المدّعى عليه بعد طلب الجواب عنه]

مسألة 1: إن سكت المدّعى عليه بعد طلب الجواب عنه، فإن كان لعذر كصمم أو خرس أو عدم فهم اللّغة أو لدهشة و وحشة، أزاله الحاكم بما يناسب ذلك، و إن كان السكوت لا لعذر، بل سكت تعنّتاً و لجاجاً أمره الحاكمُ بالجواب باللطف و الرفق، ثمّ بالغلظة و الشدّة، فإن أصرّ عليه فالأحوط أن يقول الحاكم له: أجب و إلّا جعلتك ناكلًا، و الأولى التكرار ثلاثاً، فإن أصرّ ردّ الحاكم اليمين على المدّعى، فإن حلف ثبت حقّه (1).

______________________________

(1) إذا سكت المدّعى عليه بعد طلب الجواب عنه، فإن كان لعذرٍ كصممٍ أو خرس أو عدم فهم اللغة و أمثاله، أزاله الحاكم بما يناسب ذلك، و إن كان السكوت لا لعذر، بل لجاجاً و تعنّتاً، ففيه أقوال مختلفة:

أحدها: ما هو المحكيّ عن المفيد «1» و الشيخ في كتابي النهاية «2» و الخلاف «3»

______________________________

(1) المقنعة: 725.

(2) النهاية: 342.

(3) الخلاف: 6/ 238 مسألة 37.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 230

..........

______________________________

و ابن حمزة «1»، بل هو المنسوب إلى كافّة المتأخّرين «2» من أنّه يحبس حتى يجيب.

ثانيها: أنّه يجبر على الجواب بالضرب و الإهانة، و لم يعرف قائله «3».

ثالثها: ما عن المبسوط «4» و السرائر «5» و بعض المتأخّرين «6»، و تبعهم الماتن (قدّس سرّه) احتياطاً من أنّ الحاكم يقول له ثلاثاً: إن أجبت و إلّا جعلتك ناكلًا، و رددت اليمين على المدّعى، فإن أصرّ ردّ اليمين على المدّعى، و عن المبسوط: أنّه الذي يقتضيه مذهبنا و عن السرائر: أنّه الصحيح من مذهبنا و أقوال أصحابنا، و عن القاضي: أنّه

ظاهر مذهبنا «7».

رابعها: ما عن بعضهم من التخيير بين الحبس و الردّ «8».

و استدلّ للقول الأوّل بأنّه مرويّ، لكن عن جماعة عدم العثور على هذه الرّواية «9»، و احتمل أن يكون المراد منها ما تقدّم من رواية «ليّ الواجد بالدّين يحلّ عرضه و عقوبته» «10»، مع أنّ الظاهر أنّ المراد بالواجد هو المديون المسلّم،

______________________________

(1) الوسيلة: 217.

(2) مختلف الشيعة: 8/ 380، إيضاح الفوائد: 4/ 332- 333، اللمعة الدمشقية: 51، مسالك الأفهام: 13/ 466، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 696.

(3) حكاه في كشف اللثام: 10/ 102.

(4) المبسوط: 8/ 160.

(5) السرائر: 2/ 163.

(6) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 170 171، و ليراجع قواعد الأحكام: 3/ 453.

(7) المبسوط و السرائر تقدّما آنفاً، المهذّب: 2/ 586.

(8) لم نجده عاجلا، نعم، نقله بعينه السيّد الخوانساري في جامع المدارك: 6/ 38.

(9) كالشيخ في الخلاف و الشهيد الثاني في المسالك و الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان و السبزواري في كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام».

(10) تقدّمت ص 123- 124.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 231

..........

______________________________

الواجد لأداء المتمكن منه لا المتمكّن من الجواب، مع أنّ إطلاق العقوبة لا ينحصر بالحبس.

و منه يظهر أنّ سائر ما تقدّم من الروايات الدالّة على أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يحبس في الدين «1» إنّما يكون مورده المديون الذي أحرز كونه مديوناً، لا من ادّعي عليه الدين و المديون المشكوك.

و ربّما يستدلّ على هذا القول بأنّ الجواب واجب على المدّعى عليه، و الضرب و الإهانة خلاف الأصل، و لا دليل على إجراء حكم النكول هنا فيتعيّن الحبس، و فيه ما لا يخفى، مع أنّ الحبس ربّما يوجب الضرر على المدّعى

كما هو الظاهر.

و استدلّ للقول الثاني بأدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على حسب مراتبهما، حتى تنتهي إلى الضرب و الإيذاء.

و فيه: أنّ الدليل لا يقتضي تعيّن الضرب و الإهانة، و يمكن أن يكون الحبس في بعض الموارد مؤثِّراً و لعلّه أهون.

و أمّا القول الثالث الذي قوّاه المرحوم السيّد في الملحقات، فقد استدلّ له بأنّ الإصرار على عدم الجواب نكول أو أولى منه؛ لأنّه امتناع عن أصل الجواب فضلًا عن اليمين بعده.

و أورد عليه بعدم ورود لفظ النكول في شي ء من الأخبار حتى يدور الحكم مداره، أو ما هو أولى منه «2».

و التحقيق أن يقال:

______________________________

(1) في ص 124.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 102 103.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 232

..........

______________________________

أوّلًا: أنّه لم يرد في شي ء من الأخبار الصحيحة المتقدّمة «1» بعضها الواردة في مورد البينة و اليمين، إلّا أنّ البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه، لا أنّ اليمين على من أنكر حتى يقال: بعدم دلالته على ثبوت اليمين في المقام؛ لأنّه لا يصدق عليه عنوان المنكر بعد إصراره على عدم الجواب رأساً، و من المحتمل أن لا يكون على فرض الجواب منكراً بل مقرّاً، أو قائلًا بمثل لا أدري.

و من الواضح أنّ عنوان المدّعى عليه يصدق على الساكت المصرّ، و إن كان مصرّاً على السكوت و عدم الجواب.

و ثانياً: أنّ رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المفصّلة المتقدّمة «2»، التي رواها المشايخ الثلاثة، ربّما يستفاد منها صدراً و ذيلًا ثبوت الحقّ بمجرّد عدم حلف المدّعى عليه، و عدم الحاجة إلى ردّ الحاكم أيضاً.

أمّا الصدر فقوله (عليه السّلام) بناءً على نقل غير الصدوق: «و

إن لم يحلف فعليه» يعني أنّه إن لم يتحقّق الحلف من المدّعى عليه فالحق يثبت عليه، و هو ظاهر في عدم الرد على المدّعى لا من المدعى عليه و لا من الحاكم مطلقاً.

أمّا الذيل فقوله (عليه السّلام): «و لو كان حيّاً لألزم باليمين، أو الحقّ، أو يردّ اليمين عليه» فإنّ ظاهره أنّ المدّعى عليه يكون الثابت عليه أحد أُمور ثلاثة: من اليمين، أو الحقّ، أو ردّ اليمين على المدّعى، فإذا لم يتحقّق الأوّل و الثالث يتعيّن الثاني، و ظاهره عدم الحاجة إلى ردّ الحاكم أيضاً.

و دعوى ابتناء ذلك على كون قوله: «يردّ» بصيغة المبني للفاعل، مع أنّه يحتمل

______________________________

(1) في ص 136.

(2) في ص 191- 192.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 233

..........

______________________________

أن يكون بصيغة المبني للمفعول، فيدل على ردّ الحاكم، مدفوعة بكونها خلاف الظاهر أوّلًا، مع أنّه على هذا التقدير لا بدّ و أن يكون بصورة التأنيث، كما في صحيحة هشام، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: «تردّ اليمين على المدّعى» «1».

و قد انقدح ممّا ذكرنا تعيّن هذا القول، و أنّ الاحتياط المذكور في المتن هو الاحتياط الاستحبابي، و إن كان ظاهر العبارة خلافه، كما أنّه ظهر بطلان سائر الأقوال حتى القول الرّابع الذي لا دليل عليه بالخصوص.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 148.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 234

[مسألة 2: لو سكت لعذرٍ من صمم أو خرس أو جهل باللسان توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفهمة أو المترجم]

مسألة 2: لو سكت لعذرٍ من صمم أو خرس أو جهل باللسان توصل إلى معرفة جوابه بالإشارة المفهمة أو المترجم، و لا بدّ من كونه اثنين عدلين، و لا يكفي العدل الواحد (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: و لو استغلقت إشارته بحيث يحتاج إلى

المترجم لم يكفِ الواحد، و افتقر في الشهادة بإشارته إلى مترجمين عدلين «1». و من كلامه ظهر وجه الاحتياج إلى العادلين، و أنّه من باب الشهادة التي يعتبر فيها التعدّد و العدالة، و لكن ذكر في الجواهر: أنّه قد يحتمل في أصل الترجمة للفظ أنّها من قرائن الظنّ بالمراد به، فلا تعتبر العدالة حينئذٍ فضلًا عن التعدّد، قال: فتأمّل و الأمر سهل «2».

و أنت خبير بأنّ أصالة الظهور التي يبتني عليها كشف المراد تكون حجّة مطلقاً و لو لم يفد الظنّ الشخصي، بل إذا كان الظنّ كذلك على خلافه، بل حجيتها مطلقة، غاية الأمر أنّه لا بدّ من تشخيص الظهور و لو بمعونة القرينة، فقوله: رأيت أسداً يرمي ظاهر في الرجل الشجاع و لو بسبب قرينة يرمي، لكن المقام يرتبط بالشهادة، و لا يرتبط بكبرى أصالة الظهور و لا بصغرها.

هذا، مع أنّه قد حقّق في محلّه «3» عدم الاكتفاء بخبر العادل الواحد في الموضوعات الخارجية، و إلّا يصير اعتبار البيّنة لغواً كما قد قرّر في محلّه «4»، و لعلّه لذا أمر بالتأمّل في ذيل كلامه، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 86.

(2) جواهر الكلام: 40/ 211.

(3) القواعد الفقهيّة للمؤلّف دام ظله: 1/ 494- 497.

(4) القواعد الفقهيّة للمؤلّف دام ظله: 1/ 494- 497.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 235

[مسألة 3: إذا ادّعى العذر و استمهل في التأخير]

مسألة 3: إذا ادّعى العذر و استمهل في التأخير، أمهله الحاكم بما يراه مصلحة (1).

[مسألة 4: لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري»]

مسألة 4: لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري» فإن صدّقه المدّعى فهل تسقط دعواه مع عدم البيّنة عليها، أو يكلّف المدّعى عليه بردّ الحلف على المدّعى، أو يردّ الحاكم الحلف على المدّعى، فإن حلف ثبت حقّه، و إن نكل سقط، أو توقّفت الدعوى و المدّعي على ادّعائه إلى أن يقيم البيّنة، أو أنكر دعوى (الدعوى ظ) المدّعى عليه؟ وجوه؛ أوجهها الأخير، و إن لم يصدّقه المدّعى في الفرض، و ادّعى أنّه عالم بأنّي ذو حقّ فله عليه الحلف، فإن حلف سقطت دعواه بأنّه عالم، و إن ردّ على المدّعى فحلف ثبت حقّه (2).

______________________________

(1) إذا استمهل المدّعى عليه المدّعى للعذر، جاز أن يمهله الحاكم بما يراه مصلحة؛ لعدم الدليل على لزوم فورية الجواب بعد دعوى المدّعى، فيمكن عروض النسيان للمدّعى عليه أو بعض الجهات الأُخر، فيتمنّى الزوال أو التحقيق من سائر الجهات. فاللازم في مثل ذلك جواز الإمهال بما يراه مصلحة موجبة لعدم التضرّر بالمدّعي على تقدير كونه صاحب الحقّ، و عدم فرار المدّعى عليه، و أمثال ذلك من الأمور.

(2) لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري» أو مثله ففيه صورتان:

الصورة الأُولىٰ: ما إذا صدّقه المدّعى في ادعائه عدم العلم، و قد احتمل فيه وجوهاً أربعة:

أحدها: سقوط دعوى المدّعى مع عدم إقامة البيّنة على دعواه، و لازمه توقّف الإثبات على إقامة البيّنة فقط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 236

..........

______________________________

ثانيها: تكليف الحاكم المدّعى عليه بردّ الحلف على المدّعى.

ثالثها: ردّ الحاكم بنفسه الحلف على المدّعى، فإن حلف ثبت حقّه و إن نكل سقط.

رابعها: توقّف الدعوى و

كون المدّعى على ادّعائه إلى أن يقيم البيّنة، أو يصير المدّعى عليه منكراً، فيجري عليه حكم سائر الموارد.

و قد اختار السيّد في الملحقات أنّه لا حقّ للمدّعي في هذه الصّورة؛ لأنّ المفروض تصديقه في عدم علمه، و معه ليس مكلّفاً بالأداء في مرحلة الظاهر لأنّ الأصل براءة ذمّته، و المدّعي أيضاً معترف بذلك، فلا يجوز له مطالبته. ثمّ دفع دعوى أنّه يصدق عليه المدّعى، و كلّ دعوى مسموعة يكون الفصل فيها بالبيّنة أو اليمين، و كونه مصدّقاً له في براءته بحسب التكليف الظاهري لا ينافي صدق المنازعة، و معه لا بدّ من فاصل، بمنع كون دعواه مسموعةً مع فرض عدم البيّنة، و عدم إمكان الحلف على الواقع لعدم العلم به، و لا على الظاهر لتصديقه له من هذه الجهة، و كذا دفع ما يمكن أن يقال: من أنّ مقتضى قوله (عليه السّلام) في ذيل رواية عبد الرحمن المتقدّمة في بحث الدعوى على الميّت «1»: «و لو كان حيّاً لأُلزم اليمين أو الحقّ أو يردّ اليمين» بأنّه مختصّ بصورة سماع الدعوى و صحّتها، و بأنّ الظاهر اختصاصه بالحيّ العالم «2».

و أنت خبير بأنّه إن كان المراد أنّ من شرائط سماع الدعوى التي تقدّم البحث فيها سابقاً «3» أن لا يجب المدّعى عليه بقوله: «لا أدري» في صورة عدم إقامة

______________________________

(1) في ص 191- 192.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 104.

(3) تقدّم في «القول في شروط سماع الدعوى».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 237

..........

______________________________

المدّعى البيّنة، فمضافاً إلى أنّه لم يتقدّم شرطية هذا الأمر في ضمن الشرائط المتعدّدة المتكثّرة؛ أنّه لا مجال لأن يقال: بأنّه في صورة إقامة المدّعى البيّنة تكون دعواه واجدة

لشرائط السماع، و في صورة العدم لا تكون كذلك، خصوصاً بعد ملاحظة أنّ البيّنة و الحلف متفرّعان على سماع الدعوى و متأخّران عنه، كما لا يخفىٰ.

و بعد ملاحظة أنّه لا يمكن أن يقال: بوصول الحاكم إلى صورة لا تكون قابلة للفصل، مع أنّه المعدّ لفصل الخصومة و رفع التنازع بين الناس، و دعوى اختصاص ذيل الرواية بصورة الحيّ العالم ممنوعة جدّاً، لإطلاقه في مقابل ما إذا كانت الدعوى على الميت. و قد عرفت «1» أنّ قوله: «يردّ اليمين» بصيغة المبني للفاعل، و كان مرجع الضمير المدّعى عليه الحيّ، و إلّا لكان اللازم أن يقول: و تردّ اليمين بصيغة المبني للمفعول، و على التقدير الثاني أيضاً دليل على لزوم ردّ اليمين إلى المدّعى، و إن كان لا دلالة له على لزوم ردّ المدّعى عليه، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّه قد استدل السيّد (قدّس سرّه) لعدم اعتبار دعوى المدّعى مع عدم إقامة البيّنة بالأخبار المتعدّدة الواردة في صورة تزويج الرجل المرأة، ثمّ ادعاء رجل آخر أنّها تكون زوجة له من دون أن يكون له بيّنة على ذلك، من أنّه لا يعبأ بقوله في هذه الصّورة «2».

و أنا أقول: هذه الأخبار و إن كانت متعدّدة و فيها الموثقة و الحسنة، لكن موردها صورة عدم الترافع و التخاصم المنجرّ إلى الرجوع إلى القاضي لفصل الخصومة، بخلاف المقام.

______________________________

(1) في ص 1232- 233.

(2) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 105.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 238

..........

______________________________

و يؤيّده التفصيل في بعضها بين ما إذا كان المخبر بذلك ثقة أم لا، مع أنّه لا يعتد بقول الثقة الواحد بل العدل الواحد في مقام القضاء أصلًا، فاستفادة حكم المقام من تلك الأخبار

غير تامة جدّاً، فافهم و تأمّل.

الصورة الثانية: ما إذا لم يصدّقه المدّعى في قوله: «لا أدري» و مثله، بل ادّعى بأنّه عالم بأنّه ذو حقّ و قوله مخالف للواقع، و في هذه الصّورة له عليه الحلف على عدم الدّراية، فإن حلف سقطت دعوى المدّعى بأنّه عالم، و لكن تبقى الدعوى على أصل الحقّ بحالها، كما سيصرّح به في المسألة الآتية.

و بعبارة أخرى يثبت بحلف المدّعى عليه عدم الدراية، و مرجعه إلى عدم اشتغال ذمّته بالحقّ ظاهراً، و أمّا عدم اشتغالها به واقعاً فلا مجال لثبوتها بهذا الحلف، بل يكون على فرضه على حاله، فيجوز له إقامة البيّنة عليه بعد ذلك، كما أنّه تجوز المقاصة من ماله على ما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى «1»، و إن ردّ الحلف على المدّعى فحلف على أنّه عالم بكونه ذا حقّ يثبت بذلك أصل الحقّ الواقعي؛ لأنّ ثبوت العلم بالحقّ لا يجتمع إلّا مع ثبوت الحقّ، و إلّا فيلزم أن يكون العلم جهلًا مركّباً، و المفروض أنّه قد حلف على ثبوت علمه بالحقّ، كما لا يخفى.

______________________________

(1) في ص 389- 393.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 239

[مسألة 5: حلف المدّعى عليه بأنه لا يدري يسقط دعوى الدّراية]

مسألة 5: حلف المدّعى عليه بأنه لا يدري يسقط دعوى الدّراية، فلا تسمع دعوى المدّعى و لا البيّنة منه عليها، و أمّا حقّه الواقعي فلا يسقط به، و لو أراد إقامة البيّنة عليه تقبل منه، بل له المقاصة بمقدار حقّه، نعم لو كانت الدعوى متعلّقة بعين في يده منتقلة إليه من ذي يد، و قلنا: يجوز له الحلف استناداً إلى اليد على الواقع، فحلف عليه سقطت الدعوى و ذهب الحلف بحقّه، و لا تسمع بيّنة منه، و

لا يجوز له المقاصّة (1).

______________________________

(1) قد عرفت في ذيل المسألة السّابقة أنّ حلف المدّعى عليه على قوله: «لا أدري» مع تكذيب المدّعى إيّاه في ذلك إنّما يوجب سقوط دعوى الدراية من المدّعى، فلا تسمع دعواه إيّاها بعد ذلك في هذه الواقعة، و لا البيّنة على هذه الدعوى، و أمّا حقّه الواقعي الثابت على عهدته واقعاً على تقديره فلا يسقط بهذا الحلف، بل يجوز له إقامة البيّنة على ذلك بعداً، كما أنّه تجوز له المقاصّة بمقدار دينه و حقّه.

نعم لو كانت الدعوى متعلّقة بعين في يد المدّعى عليه، فتارة تكون منتقلةً إليه من ذي يد آخر بالشراء أو الإرث أو الاتّهاب أو نحوها، و أُخرى لا يعلم الانتقال إليه كذلك، بل تكون في يده من غير العلم بكونه ملكاً له أو لغيره.

و في الفرض الأوّل: تارة يقال بجواز حلف ذي اليد على ما في يده استناداً إلى اليد على الواقع، كما يدلّ عليه صريحاً بعض ما ورد في مسألة اليد من خبر حفص ابن غياث، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يد رجل هل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): فلعلّه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 240

..........

______________________________

لغيره، فمن أين جاز ذلك أن تشتريه و يصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟

ثمّ قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق «1».

فيجوز في المقام أن يحلف المدّعى عليه على الملكية الواقعية استناداً إلى اليد، و يوجب سقوط دعوى المدّعى بالمرّة و ذهاب الحلف بحقّه على تقديره، فلا تسمع بيّنة منه بعد ذلك، و لا يجوز له المقاصّة، و إن كان معتقداً بثبوت الحقّ.

و أُخرى يقال بعدم جواز الحلف على ما في يده، فيرجع إلى مسألة الدين. و سيأتي التحقيق إن شاء اللّٰه تعالى «2».

و في الفرض الثاني: ربّما يقال كما عن مستند النراقي (قدّس سرّه): بأنّه يقرع بينه و بين المدّعى؛ لأنّه يشترط في دلالة اليد على الملكية عدم اعتراف ذيها بعدم علمه بأنّه له أولا «3»، و سيأتي التحقيق أيضاً إن شاء اللّٰه تعالى «4».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 387 ح 1، 3/ 31 ح 92، تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 695، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 2.

(2) في ص 402- 403.

(3) مستند الشيعة: 17/ 291، عوائد الأيام: 742.

(4) في ص 302.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 241

[مسألة 6: لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «ليس لي و هو لغيرك»]

مسألة 6: لو أجاب المدّعى عليه بقوله: «ليس لي و هو لغيرك» فإن أقرّ لحاضر و صدّقه الحاضر كان هو المدّعى عليه، فحينئذٍ له إقامة الدعوى على المقرّ له، فإن تمّت و صار ماله إليه فهو، و إلّا له الدّعوى على المقرّ بأنّه صار سبباً للغرامة، و له البدأة بالدعوى على المقرّ، فإن ثبت حقّه أخذ الغرامة منه، و له حينئذٍ الدعوى على المقرّ له لأخذ عين ماله، فإن ثبت دعواه عليه ردّ غرامة المقرّ، و إن أقرّ لغائب

يلحقه حكم الدعوى على الغائب.

و إن قال: «إنّه مجهول المالك و أمره إلى الحاكم» فإن قلنا: إنّ دعوى مدّعي الملكية تقبل إذ لا معارض له يردّ إليه، و إلّا فعليه البيّنة، و مع عدمها لا يبعد إرجاع الحاكم الحلف عليه. و إن قال: «إنّه ليس لك بل وقف» فإن ادّعى التولية ترتفع الخصومة بالنسبة إلى نفسه، و تتوجّه إليه لكونه مدّعى التولية، فإن توجّه الحلف اليه و قلنا بجواز حلف المتولّي فحلف سقطت الدّعوى، و إن نفى عن نفسه التولية فأمره إلى الحاكم، و كذا لو قال المدّعى عليه: «إنّه لصبي أو مجنون» و نفى الولاية عن نفسه (1).

______________________________

(1) قد تعرّض في هذه المسألة لأربعة أجوبة اخرىٰ متصوّرة بالنسبة إلى المدّعى عليه:

أحدها: ما إذا أجاب المدّعى عليه بقوله: «ليس لي و هو لغيرك» و أقرّ بالعين المدّعى بها لشخص ثالث، و فيه فرضان:

الفرض الأوّل: ما إذا أقرّ بها لشخص حاضر و صدّقه الحاضر في ذلك الإقرار و ملكيّة المدّعى بها. و في هذا الفرض يكون الحاضر المقرّ له هو المدّعى عليه. و الوجه فيه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 242

..........

______________________________

ليس مجرّد الإقرار له، خصوصاً بعد ما تقدّم «1» في الجواب بالإقرار من أنّ الإقرار لا يؤثّر إلّا في الجهة السلبية، و هي عدم كون المقرّ مالكاً، و أمّا ثبوت الملكيّة للمقرّ له فلا يتحقّق بمجرّد الإقرار، خصوصاً مع احتمال التباني بينهما.

فالوجه في صيرورته مدّعى عليه هو: تصديق المقرّ له للمقرّ في أنّه المالك دون المدّعى كما هو غير خفي. فحينئذٍ له إقامة الدعوى عليه أي على المقرّ له، فإن تمّت دعواه و صار ماله إليه، فلا يستحقّ شيئاً

آخر؛ لأنّه بعد وصول ماله إليه بعينه و خصوصيّته لا مجال لتوهّم استحقاق شي ء آخر كالغرامة و نحوها.

هذا و إن لم يصل ماله إليه لأجل عدم تمامية دعواه، فله الدعوى على المقرّ بأنّه صار سبباً للغرامة بإقراره مال المدّعى بادعائه للغير و اعترافه بأنّه المالك دون المدّعى.

و في المتن أنّه يجوز له البدأة بالدعوى على المقرّ فان ثبت حقّه أخذ الغرامة منه، و ظاهره الجواز مطلقاً و لو مع تمكّنه من المرافعة مع المقرّ له، و احتمال إمكان إثبات حقّه؛ مع أنّه يجري في هذه الصورة وجوه ثلاثة:

إحداها: الجواز، كما هو ظاهر المتن و هو الأقوى، نظراً إلى أنّه حال بينه و بين ماله، فله إثبات ذلك و تغريمه.

ثانيتها: عدم الجواز، لعدم معلومية أنّ المقرّ فوّت مال المدّعى.

ثالثتها: التفصيل بين الصورة المشقّة في المراجعة مع المقرّ له، أو ظنّ عدم إمكان إثبات حقّه عليه، أو ظنّه عدم إمكان المرافعة مع المقرّ له لو قدّم المرافعة معه، و بين غير هذه الصور، فيجوز في الأُولى دون الثانية، و لكن الأقوىٰ هو الأوّل كما

______________________________

(1) في ص 117.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 243

..........

______________________________

عرفت. فان ثبت حقّه أخذ الغرامة منه، و لكن لا ينتفي معه جواز الرجوع إلى المقرّ له إذا تعلّق غرض المدّعى بالخصوصيّة و عينه الشخصية، فإن ثبت دعواه عليه يأخذ ماله، و لا بدّ حينئذ من ردّ الغرامة إلى المقرّ؛ لعدم إمكان الجمع بين المبدل و البدل، كما قد حقّق ذلك في بدل الحيلولة في مكاسب الشيخ الأعظم (قدّس سرّه) «1» و غيره.

الفرض الثاني: ما إذا أقرّ به المدّعى عليه لشخص غائب، و قد حكم فيه في المتن

بأنّه يلحقه حكم الدّعوى على الغائب، فحينئذٍ له إقامة البيّنة على إثبات حقّه، فإن أقامها يدفع إليه ماله بلا كفيل أو معه على القولين، و الغائب على حجّته إذا قدم.

ثانيها: ما إذا أجاب المدّعى عليه بأنّ العين التي في يده و يدّعيها المدّعى ليست له، بل هي مجهول المالك و أمره إلى الحاكم، فإن قلنا: إنّ دعوى مدّعي الملكية في صورة عدم التّعارض مقبولة؛ لأنّها الدّعوى بلا معارض، فهي مقبولة و تردّ العين إليه فهي، و إلّا فعليه البيّنة، و مع عدمها يستحلف المدّعى عليه إن ادّعى العلم بعدم كون المدّعى مالكاً، و أنّ مالكه الواقعي الذي هو غير المدّعى مجهول. و في غير هذه الصورة نفى البعد في المتن عن إرجاع الحاكم الحلف عليه، و منشؤه أنّ أمر مجهول المالك بيد الحاكم.

ثالثها: ما إذا قال المدّعى عليه للمدّعي: إنّه ليس لك، بل وقف للعلماء مثلًا أو الفقراء، أو مشهد من المشاهد المشرّفة. فتارة لا يدّعي التولية على العين الموقوفة بقوله لنفسه، و أُخرى يدّعيها كذلك.

ففي الصورة الاولى مع عدم إقامة البيّنة كما هو المفروض يرجع أمر هذه العين إلى الحاكم؛ لإقرار ذي اليد بكونها موقوفة، و لا يدّعي التولية لنفسه،

______________________________

(1) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم) 3/ 257 270.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 244

..........

______________________________

فيكون أمرها راجعاً إلى الحاكم.

و في الصورة الثانية يكون المدّعى عليه مدّعياً للتولية، و الدعوى تتوجّه إليه من هذه الحيثية، لكن إذا توجّه الحلف إليه و قلنا بجواز حلف المتولّي، و حلف في هذه الصّورة، سقطت دعوى المدّعى على أصل الملكيّة؛ لأنّ ثبوت التولية يستلزم ثبوت الوقف، و معناه عدم كون المدّعى مالكاً له بالملك الشخصي.

رابعها:

ما إذا قال المدّعى عليه: إنّه لصبيّ أو مجنون. و في هذه الصورة إن ادّعى الولاية لنفسه فالحكم فيه حكم صورة ادعائه التولية في الصورة السّابقة، و إن نفى الولاية عن نفسه فالحكم فيه أيضاً حكم الصورة السابقة فيما إذا لم يدّع التولية بوجه.

و ينبغي أن يعلم أنّ ما تقدّم من شرائط سماع الدعوى المتعدّدة المتكثّرة إنّما يلاحظ بالإضافة إلى المدّعى، و أمّا بالنسبة إلى المدّعى عليه فلا يلزم وجود الشرائط المتقدّمة؛ و لذا تقبل المخاصمة و الترافع في أمثال المقام، و قد تقدّم أنّ من أقسام الجواب هو الجواب بالإقرار، مع أنّه في صورة الإقرار لا يتوجّه نفع الى المدّعى عليه، خصوصاً بعد حكمهم بأنّه إذا كان المقرّ به عيناً خارجية تؤخذ من يد المدّعى عليه المقرّ و تردّ إلى المدّعى المقرّ له، و إن ناقشنا في ذلك «1» بأنّ الإقرار لا يقتضي أكثر من تحقّق الجهة السلبية، و هي عدم كون المقرّ به مالًا للمقرّ، و أمّا ثبوت الملكية للمدّعي فيحتاج إلى أمر آخر زائد على الإقرار، مثل البيّنة و نحوها، فتدبّر.

______________________________

(1) في ص 117- 118.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 245

[مسألة 7: لو أجاب المدّعى عليه بأنّ المدّعى أبرأ ذمّتي]

مسألة 7: لو أجاب المدّعى عليه بأنّ المدّعى أبرأ ذمّتي، أو أخذ المدّعى به مني، أو وهبني أو باعني أو صالحني و نحو ذلك، انقلبت الدعوى و صار المدّعى عليه مدّعياً و المدّعي منكراً، و الكلام في هذه الدعوى على ما تقدّم (1).

______________________________

(1) هذا هو قسم من جواب المدّعى عليه، و هو يرجع إلى الإقرار بأنّه كان ملكاً له سابقاً، غاية الأمر تحقّق الإبراء أو الأخذ بالإضافة إلى الدين أو الهبة أو البيع أو الصلح

بالإضافة إلى العين، و من المعلوم أنّ هذه أمور حادثة يحتاج إثباتها إلى الادّعاء، و المدّعي في هذه الجهة يكون هو المدعى عليه، ففرق بين أن يقول المدّعى عليه في مقام جواب المدّعى بأنّ له ديناً عليه: بأنّ ذمّتي ليست مشغولة بك، أو أن يقول: بأنّك أبرأتني منه، ففي الأوّل يكون المدّعى، عليه الإثبات، و في الثاني يكون على المدّعى عليه الإثبات. و الفرض أنّ القاضي لا يكون عالماً بالحال بوجه.

و قد تقدّم «1» أنّ في بعض الروايات قال النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) بعد حصر القضاء بالبيّنات و الايمان: «و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً، فإنّما قطعت له به قطعة من النّار» «2»، و من هنا يعلم أنه إذا لم يتمكّن المدّعى عليه من إثبات الإبراء و نحوه يجوز له أن يقول: بأنّ ذمّتي لا تكون مشغولة لك و أمثال ذلك. و هذا كما أنّه إن أراد الرجل الاستمتاع من المرأة في وقت معيّن، فإن كان بصورة

______________________________

(1) في ص 117- 118.

(2) الكافي: 7/ 414 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 229 ح 552، معاني الأخبار: 279، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 232، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 2 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 246

..........

______________________________

الزنا فهو غير جائز بل معصية كبيرة، و إن كان بصورة العقد المؤجّل و النكاح المنقطع فهو جائز بل مستحبّ، و إن كان واقع الأمر واحداً كما لا يخفى، و كذا في المعاملات الصحيحة و الفاسدة فتدبّر.

ثمّ إنّه بعد صيرورة المدّعى عليه مدّعياً و بالعكس أنّ جواب المدّعى عليه و هو المدّعى في

الدعوى الاولىٰ: إمّا أن يكون إقراراً أو إنكاراً أو سكوتاً أو لا أدري، و الحكم في جميع هذه الأقسام ما تقدّم. لكنّ المحكي عن المستند الفرق في جواب لا أدري بين المقامين «1»؛ نظراً إلى موافقة قوله في هذا المقام مع الأصل فيعمل بمقتضاه، و لم يعلم وجه الفرق بعد كون قوله: «لا أدري» في ذلك المقام موافقاً مع الأصل أيضاً، كما لا يخفى.

______________________________

(1) مستند الشيعة: 17/ 285- 300.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 247

[القول في أحكام الحلف]

اشارة

القول في أحكام الحلف

[مسألة 1: لا يصحّ الحلف و لا يترتّب عليه أثر من إسقاط حقّ أو إثباته]

مسألة 1: لا يصحّ الحلف و لا يترتّب عليه أثر من إسقاط حقّ أو إثباته إلّا أن يكون باللّٰه تعالى أو بأسمائه الخاصّة به تعالى كالرحمن و القديم و الأوّل الذي ليس قبله شي ء، و كذا الأوصاف المشتركة المنصرفة إليه تعالى، كالرازق و الخالق، بل الأوصاف غير المنصرفة إذا ضمّ إليها ما يجعلها مختصّة به، و الأحوط عدم الاكتفاء بالأخير، و أحوط منه عدم الاكتفاء بغير الجلالة، و لا يصحّ بغيره تعالى كالأنبياء و الأوصياء و الكتب المنزلة و الأماكن المقدّسة، كالكعبة و غيرها (1).

______________________________

(1) البحث فعلًا إنّما هو في اليمين القاطعة للدعوى نفياً لها أو إثباتاً، كما أنّ البحث منحصر بالحكم الوضعي المترتّب عليه. و أمّا من جهة الحكم التكليفي المترتّب عليه جوازاً أو منعاً أو كراهة أو التفصيل، فالبحث فيه موكول إلى كتاب الأيمان، كما أنّ الإيجاب للكفارة أيضاً موكول إلى ذلك الكتاب.

فنقول: لا إشكال من جهة النفي و الإثبات في أمرين:

أحدهما: الاكتفاء في الحلف بالجلالة؛ لأنّه القدر المسلّم من الحلف باللّٰه الوارد في

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 248

..........

______________________________

بعض روايات الحلف، و قد عرفت «1» الرواية المشتملة على خطاب اللّٰه تعالى إلى بعض الأنبياء بقوله تعالى: «و أضفهم إلى اسمي» فإنّ الحلف بالجلالة مصداق كامل لذلك، كما أنّه قد فرّع عليه فيها فحلّفهم به.

ثانيهما: عدم صحّة الحلف بغير اللّٰه تعالى من الأنبياء و الأوصياء و الكتب المنزلة و الأماكن المقدّسة، كالكعبة و المشاهد المشرّفة و غيرها؛ لخروجه عن عنوان الحلف باللّٰه تعالى، و يمكن استفادة عدم الجواز من مثل:

صحيحة محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السّلام): قول اللّٰه عزّ

و جلّ وَ اللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ «2» وَ النَّجْمِ إِذٰا هَوىٰ «3» و ما أشبه ذلك. فقال: إنّ للّٰه عزّ و جلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به «4».

إنّما الإشكال بل الخلاف في غيرهما من الصور:

الاولىٰ: ما إذا حلف بأسمائه الخاصّة به كالأمثلة المذكورة في المتن، و الظاهر صحّته و شمول الحلف باللّٰه له، و إن كان بغير لفظ الجلالة.

الثانية: ما إذا حلف بالأوصاف المشتركة بينه و بين غيره، و لكن الانصراف العرفي يخصّها إليه تعالى كالرازق و الخالق، و الظاهر صحّته و شمول الحلف باللّٰه له؛ للانصراف المذكور على ما هو المفروض.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 414 415 ح 2 4، التهذيب: 6/ 328 ح 550 و 551، الوسائل: 27/ 229 230، أبواب كيفيّة الحكم ب 1 ح 1 3.

(2) سورة الليل 92: 1.

(3) سورة النجم 53: 1.

(4) الكافي: 7/ 449 ح 1، تهذيب الأحكام: 8/ 227 ح 1009، و عنهما وسائل الشيعة: 22/ 343، كتاب الإيلاء و الكفارات، أبواب الإيلاء ب 3 ح 1، و ج 23/ 259، كتاب الأيمان ب 30 ح 3، و ج 27/ 303، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 34 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 249

..........

______________________________

الثالثة: ما إذا حلف بالأوصاف المشتركة، لكن مع عدم الانصراف العرفي إليه تعالى، بل مع الضميمة الموجبة للاختصاص، كالعالم بكلّ شي ء و القادر على كلّ شي ء، و عنوان واجب الوجود، فإنّ الإضافة توجب الاختصاص به تعالى، و الظاهر أيضاً صحّته و شمول الحلف باللّٰه له؛ لأنّه بعد الانضمام بنحو التوصيف أو الإضافة أو مثلهما لا ينطبق إلّا عليه تعالى. و

ممّا ذكرنا بان أنّ المثال الأخير المذكور في المتن للصورة الأُولى، و هو «الأول الذي ليس قبله شي ء» من مصاديق هذه الصورة لا من أمثلة الصورة الاولى، ثمّ إنّ ممّا ذكرنا ظهر أنّ رعاية كمال الاحتياط تقتضي عدم الحلف بغير لفظ الجلالة كما في المتن.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 250

[مسألة 2: لا فرق في لزوم الحلف باللّٰه بين أن يكون الحالف و المستحلف مسلمين أو كافرين أو مختلفين]

مسألة 2: لا فرق في لزوم الحلف باللّٰه بين أن يكون الحالف و المستحلف مسلمين أو كافرين أو مختلفين، بل و لا بين كون الكافر ممّن يعتقد باللّٰه أو يجحده، و لا يجب في إحلاف المجوس ضمّ قوله: «خالق النور و الظلمة» إلى «اللّٰه»، و لو رأى الحاكم أنّ إحلاف الذمّي بما يقتضيه دينه أردع، هل يجوز الاكتفاء به كالاحلاف بالتوراة التي أنزلت على موسى (عليه السّلام)؟ قيل: نعم، و الأشبه عدم الصحّة، و لا بأس بضمّ ما ذكر إلى اسم اللّٰه إذا لم يكن أمراً باطلًا (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامات:

المقام الأوّل: في إحلاف اليهودي و النصراني و مثلهما ممّن يعتقد باللّٰه و بنبوّة غير نبيّنا محمّد (صلّى اللّٰه عليه و آله)، و قد وردت فيه طائفتان من الروايات:

الطائفة الأُولى: و هي أكثرها ما دلّ على عدم جواز حلفهما بغير اللّٰه امّا بنحو العموم و الإطلاق، كصحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة الدالّة على أنّه ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به، أو بنحو الخصوص لعنوانهما في موضوع الحكم، مثل:

رواية سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا يحلف اليهودي و لا النصراني و لا المجوسي بغير اللّٰه «1». الحديث.

و رواية جراح المدائني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا يحلف بغير

اللّٰه. و قال: اليهودي و النصراني و المجوسي لا تحلفوهم إلّا باللّٰه عزّ و جلّ «2».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 451 ح 4، تهذيب الأحكام: 8/ 278 ح 1013، الاستبصار: 4/ 39 ح 131، و عنها وسائل الشيعة: 23/ 266، كتاب الأيمان ب 32 ح 1.

(2) الكافي: 7/ 451 ح 5، تهذيب الأحكام: 8/ 278 ح 1014، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 266، كتاب الأيمان ب 32 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 251

..........

______________________________

و رواية سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته هل يصلح لأحد أن يحلّف أحداً من اليهود و النصارى بآلهتهم؟ قال: لا يصلح لأحد أن يحلف أحداً إلّا باللّٰه عزّ و جلّ «1».

و رواية الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن أهل الملل يستحلفون؟ فقال: لا تحلفوهم إلّا باللّٰه عزّ و جلّ «2».

الطائفة الثانية: ما يدلّ على جواز حلفهما بغير اللّٰه، مثل:

رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) استحلف يهوديّاً بالتوراة التي أنزلت على موسى (عليه السّلام) «3».

و رواية محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن الأحكام؟ فقال: في كلّ دين ما يستحلفون به «4».

و رواية محمد بن قيس قال: سمعت أبا جعفر (عليه السّلام) يقول: قضى عليّ (عليه السّلام) فيمن استحلف أهل الكتاب بيمين صبر أن يستحلف بكتابه و ملّته «5». و غير ذلك من الروايات المتقدّمة.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 451 ح 2، تهذيب الأحكام: 8/ 279 ح 1015، الاستبصار: 4/ 39 ح 133، و عنها وسائل الشيعة: 23/ 267، كتاب الأيمان ب 32 ح 5.

(2) الكافي: 7/ 450 ح 1، و عنه وسائل

الشيعة: 23/ 266، كتاب الأيمان ب 32 ح 3.

(3) الكافي: 7/ 451 ح 3، تهذيب الأحكام: 8/ 279 ح 1019، الاستبصار: 4/ 40 ح 135، و عنها وسائل الشيعة: 23/ 266، كتاب الأيمان ب 32 ح 4.

(4) تهذيب الأحكام: 8/ 279 ح 1017، الاستبصار: 4/ 40 ح 136، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 267، كتاب الأيمان ب 32 ح 7.

(5) تهذيب الأحكام: 8/ 279 ح 1017، الاستبصار: 4/ 40 ح 137، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 267، كتاب الأيمان ب 32 ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 252

..........

______________________________

و الإنصاف أنّ الجمع بين الطائفتين بنحو يخرجهما عن موضوع التعارض غير ممكن، مثل ما حكاه في الوسائل عن الشيخ بعد نقل رواية السّكوني: من أنّه حمله الشيخ على أنّه مخصوص بالإمام إذا رأى ذلك أردع لهم. قال: و إنّما لا يجوز لنا؛ لأنّا لا نعرف ذلك، و إذا عرفنا جاز أيضاً لنا. انتهىٰ.

ثمّ قال: و حمله بعض أصحابنا على من يرى الحلف بذلك، و لا يعتقد الحنث في الحلف باللّٰه، و مثل غيرهما من وجوه الجمع.

فالظاهر ثبوت التعارض و الرجوع إلى الشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجحات، على ما استفدناه «1» من مقبولة ابن حنظلة المعروفة «2»، و لعلّه لأجل ذلك جعل الأشبه في المتن عدم الاكتفاء بغير اللّٰه، و إن كان ضمّه إلى اللّٰه لا يضرّ ما لم يكن أمراً باطلًا كالأُبوّة لعيسىٰ (عليه السّلام).

المقام الثاني: في حلف المجوس، و قد عرفت عطفه على اليهود و النصارى في بعض الروايات المتقدّمة في أنّه لا بدّ من تحليفه باللّٰه، و لا يلزم ضمّ مثل قوله: «خالق النور و الظلمة»، لاحتمال

كون العقيدة على طبق الوثنيين من المجوس القائلين بثبوت خالق للنور و خالق آخر للظلمة، خلافاً لمثل الشيخ في المبسوط، حيث إنّ المحكيّ عنه أنّه قال: إن كان مجوسيّاً حلف و اللّٰه الذي خلقني و رزقني؛ لئلّا يتناول باللّٰه وحده النور، فإنّه يعتقد النور إلٰهاً، فإذا قال: خلقني و رزقني زال الإبهام «3».

و يرد عليه مع أنّه مخالف لمقتضى إطلاق الروايات التي تقدّم بعضها، يكون لفظ

______________________________

(1) أي في سيرى كامل در اصول فقه: 16/ 532- 555.

(2) الكافي: 1/ 67- 68 ذ 10، تهذيب الأحكام: 6/ 302- 303 ذ ح 845، الفقيه 3/ 5 ح 2، الاحتجاج: 2/ 261- 263 ذ الرقم 232، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1.

(3) المبسوط: 8/ 205.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 253

..........

______________________________

الجلالة عندهم علماً لخالق النور و الظلمة، و لا يطلق على غيره، و إن كان لفظ الإلٰه أعمّ.

المقام الثالث: في حلف من لا يعتقد باللّٰه بل يجحده و ينكره، و قد صرّح في المتن بأنّه لا بدّ من تحليفه أيضاً باللّٰه، و يشكل فيما إذا كان الجحد لا باللسان فقط بل بالقلب أيضاً؛ نظراً إلى أنّه لا يرى وجوداً للمقسوم به فضلًا عن عظمته و علوّ شأنه، فأيّ أثر يترتّب على حلفه و الحال هذه. و حكي عن الشيخ في المبسوط أنّ ثمرة يمينه زيادة الإثم و استيجاب العقوبة «1»، مع أنّه لا يكون له أيّ ارتباط بباب القضاء و فصل الخصومة الموضوع لاسترداد صاحب الحقّ حقّه، و عدم جواز الأخذ من غير من عليه الحقّ، و إن كان ربّما لا يتحقق هذا

الغرض كما عرفت «2» في الرّواية النبويّة: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان إلخ».

و كيف كان فهذه العلّة لا تلائم باب القضاء بوجه، و يحتمل قويّاً سقوط الحلف في هذه الصورة، و ردّ الحاكم الحلف إلى المدّعى لو كان معتقداً باللّٰه، كما لا يخفى، و لا ينافيه قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه» «3» بعد الانصراف إلى المعتقد بالحلف، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 205.

(2) في ص 135 و 245.

(3) تقدم في ص 84- 85.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 254

[مسألة 3: لا يترتّب أثر على الحلف بغير اللّٰه تعالى]

مسألة 3: لا يترتّب أثر على الحلف بغير اللّٰه تعالى و إن رضي الخصمان الحلف بغيره، كما أنّه لا أثر لضمّ غير اسم اللّٰه تعالى إليه، فإذا حلف باللّٰه كفى، ضمّ إليه سائر الصفات أولا، كما يكفي الواحد من الأسماء الخاصّة، ضُمّ إليه شي ء آخر أو لا (1).

______________________________

(1) قد ظهر حكم هذه المسألة من المسألتين السابقتين، و أنّه لا بدّ في مقام القضاء و فصل الخصومة من ترتيب الأثر على الحلف باللّٰه تعالى أو بما ذكر فيهما، و لا حاجة إلى ضمّ سائر الصفات إليه، و الغرض هنا بيان أنّ رضا الخصمين بالحلف بغيره تعالى لا يوجب ترتيب الأثر على الحلف بغيره؛ لأنّ الموضوع في الأدلّة هو الحلف باللّٰه، كما أنّ رضا المنكر بإقامة المدّعى شاهداً واحداً و عادلًا فارداً لا يكفي في الحكم و مقام فصل الخصومة، و إن كان ربّما يوجب ارتفاع موضوع التنازع رأساً، كما لا يخفى.

و في الجواهر بعد الحكم بعدم الجواز مع التراضي: و إن أدرجاه في عقد شرعي كالصلح و نحوه على

معنى صلح المدّعى عن حلف المنكر مثلًا بالقَسَم بغير اللّٰه بإسقاط الدعوى «1». و مراده تحقّق فصل الخصومة بذلك كما ذكرنا.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 227.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 255

[مسألة 4: لا إشكال في عدم ترتّب أثر على الحلف بغير اللّٰه تعالى]

مسألة 4: لا إشكال في عدم ترتّب أثر على الحلف بغير اللّٰه تعالى، فهل الحلف بغيره محرّم تكليفاً في إثبات أمر أو إبطاله مثلًا كما هو المتعارف بين الناس؟ الأقوى عدم الحرمة، نعم هو مكروه سيّما إذا صار ذلك سبباً لترك الحلف باللّٰه تعالى، و أمّا مثل قوله: سألتك بالقرآن أو بالنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) أن تفعل كذا فلا إشكال في عدم حرمته (1).

______________________________

(1) الغرض من هذه المسألة بيان الحكم التكليفي للحلف بغيره تعالى، و لو لم يكن في حال التخاصم و التنازع الذي يجري فيه فصل الخصومة، كما إذا كان في مقام إثبات أمر أو إبطاله مثلًا كما هو المتعارف بين الناس من الحرمة و عدمها، و فيه وجهان بل قولان:

القول بالحرمة التي يترتّب على مخالفتها الإثم، كما أسنده النراقي في محكي المستند إلى الأشهر بين الطائفة، قال: بل قيل: إنّه مقتضى الإجماعات المنقولة «1». و صرّح به جماعة منهم المحقّق الأردبيلي «2» و صاحب المفاتيح «3» و شارحه «4» و بعض مشايخنا المعاصرين «5»، «6».

و القول بعدم الحرمة الذي اختاره صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «7»، و تبعه مثل الماتن.

______________________________

(1) الغنية: 391، التنقيح الرائع: 3/ 503، نهاية المرام: 2/ 326، كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 480.

(2) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 175 178.

(3) مفاتيح الشرائع: 2/ 39- 38 مفتاح 481، و ج 3/ 264 مفتاح 1165.

(4) لم نعثر عليه عاجلا.

(5) رياض المسائل: 11/

449- 450، و ج 13/ 118- 120.

(6) مستند الشيعة: 17/ 472.

(7) جواهر الكلام: 40/ 228.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 256

..........

______________________________

و قال المحقّق في الشرائع بعد الحكم بأنّه لا يُستحلف أحد يعني في مقام القضاء إلّا باللّٰه و لو كان كافراً، و حكاية القول بأنّه لا يقتصر في المجوس على لفظ الجلالة بل يضمّ إلى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل الاحتمال: و لا يجوز الإحلاف بغير أسماء اللّٰه سبحانه، كالكتب المنزلة و الرسل المعظمة و الأماكن المشرّفة «1»، و استظهر صاحب الجواهر من هذه العبارة ترتّب الإثم بذلك زائداً على عدم انقطاع الدعوى «2».

و استظهر صاحب المسالك أنّ المراد بعدم الجواز هنا بالنظر إلى الاعتداد به في إثبات الحقّ «3»، أي في مقام الدعوى، و هو الظاهر من العبارة خصوصاً من التعبير بالإحلاف لا بالحلف، كما لا يخفى.

و كيف كان ففي المسألة طائفتان من الأخبار:

إحداهما: الطائفة الظاهرة في المنع، مثل: صحيحة محمد بن مسلم المتقدّمة الدالّة على أنّ للّٰه عزّ و جلّ أن يقسم من خلقه بما شاء، و ليس لخلقه أن يقسموا إلّا به «4» و صحيحة الحلبي، عن الصادق (عليه السّلام): لا أرى أن يحلف الرجل إلّا بالهّٰ ، الحديث «5».

و مقتضى إطلاقهما عدم جواز الحلف و لو في غير صورة التخاصم و المدّعي

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 87.

(2) جواهر الكلام: 40/ 227.

(3) مسالك الأفهام: 13/ 473.

(4) تقدّمت في ص 250.

(5) الكافي: 7/ 449 ح 2، تهذيب الأحكام: 8/ 278 ح 1010، و عنهما وسائل الشيعة: 22/ 343، كتاب الإيلاء باب 3 ح 2. و ج 23/ 260، كتاب الأيمان ب 30 ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 257

..........

______________________________

و المنكر، بل في رواية نبويّة: مَن حلف بغير اللّٰه فقد أشرك «1»، و في رواية عامّية عنه (صلّى اللّٰه عليه و آله): فقد كفر أو أشرك «2»، و في ذيل رواية الحلبي: لو حلف الرجل بهذا و أشباهه لترك الحلف باللّٰه.

الطائفة الثانية: الأخبار الدالّة على الجواز. و ذكر في الجواهر أنّه يخطر في بالي وجود القسم في النصوص بغير اللّٰه تعالى شأنه «3».

أقول: بل يوجد فيها ما يظهر منه أنّ الإمام (عليه السّلام) قد حلف بغيره تعالى، مثل قرابته لرسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) فضلًا عن القسم بغيره عنده (عليه السّلام)، و يؤيّد هذه الطائفة ما اعتمد عليه صاحب الجواهر (قدّس سرّه) من سيرة المتشرّعة المستمرّة في جميع الأعصار و الأمصار بين الخواص و العوام على الحلف بغير اللّٰه، مضافاً إلى قوله تعالى في سورة المائدة جَهْدَ أَيْمٰانِهِمْ «4» حيث إنّه يشعر بوجود أيمان بغيره تعالى «5»، و لو أغمض عن السيرة يكون مقتضى الجمع هو حمل الطائفة الأولى على الكراهة كما في سائر المقامات، و يدلّ على هذا الجمع التعليل المتقدّم في رواية الحلبي، بأنّه يوجب ترك الحلف باللّٰه تعالى، و كذا التعبير في النبويّين، بأنّه شرك أو كفر، مع ملاحظة عدم ثبوت الشرك أو الكفر الحقيقي بعد ملاحظة أنّ القسم بغير اللّٰه لا يستلزم جعل الغير في

______________________________

(1) المسند لابن حنبل: 2/ 274 ح 4904 و ص 391 ح 5597 و ص 476 ذ ح 6080، مشكل الآثار: 1/ 245 ح 844 و 845، المستدرك على الصحيحين: 1/ 65 ح 45، عوالي اللآلي: 3/ 444 ح 8، و عنه مستدرك الوسائل: 16/

65، كتاب الأيمان ب 24 ح 3.

(2) المسند لابن حنبل: 2/ 475 ح 6079 المستدرك على الصحيحين: 4/ 331 ح 7814، شرح السنّة 10/ 7، السنن الكبرى للبيهقي: 14/ 452 كتاب الأيمان باب أسماء اللّٰه عزّ و جلّ ثناؤه ح 20394.

(3) جواهر الكلام: 40/ 228، و ليراجع وسائل الشيعة: 23/ 261، كتاب الأيمان ب 30 ح 6 و 7.

(4) سورة المائدة 5: 53.

(5) جواهر الكلام: 40/ 228.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 258

..........

______________________________

عرض اللّٰه، الذي ليس كمثله شي ء، فإنّ القسم بالرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) مثلًا كيف يكون كذلك، فلا بدّ من الحمل على الكراهة.

بقي الكلام في هذه المسألة في أمرين:

أحدهما: لو كان الحلف بغير اللّٰه بمثل العتاق و الطلاق و البراءة، فالمحكي عن الشهيدين في الدروس و الروضة أنّه حرام قطعاً «1»، و في محكي التحرير الذي هو قبل الشهيدين: لا يجوز الإحلاف بشي ء من ذلك؛ لأنّه بدعة، و كذا لا يجوز الحلف بالقرآن، و لا بالبراءة من اللّٰه تعالى، و لا من رسوله (صلّى اللّٰه عليه و آله)، و لا من أحد من الأئمّة (عليهم السّلام) و لا من الكتب المنزلة، و لا يجوز الحلف بالكفر و لا بالعتق و لا بالطلاق «2». و الوجه فيه إن كان هو البدعة فالمحرم عنوانها، و لا يكاد يسري الحكم من متعلّقه إلى مصاديقه، أو ما هو متحد مع المتعلق في الخارج، كما هو المحقّق في محلّه، و إن كان شيئاً آخر فهو غير معلوم، كما لا يخفى.

ثانيهما: أنّه ذكر في المتن إنّ مثل قوله: سألتك بالقرآن أو بالنبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) و أمثالهما لا إشكال في

عدم حرمته، و الوجه فيه كما أفاده السيد (قدّس سرّه) في الملحقات: أنّه لا يكون حلفاً بل استشفاع و توسيط «3»، و من الواضح أنّه لا يكون حراماً فضلًا عن أن يكون شركاً، كما توهّمته الفرقة الضالّة المنحرفة الجاهلة الوهابية، حيث ينسبون الشرك الخفي إلى الشيعة الاثني عشريّة، مع أنّ تجليلهم لأئمّتهم (عليهم السّلام) إنّما هو لكونهم عباد اللّٰه المخلصين

______________________________

(1) الدروس الشرعيّة: 2/ 96، الروضة البهيّة: 3/ 94.

(2) تحرير الأحكام: 5/ 164.

(3) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 201 ذ مسألة 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 259

..........

______________________________

الصالحين، و هم محبوبون للرّب لأجل ذلك، كما تصرّح بذلك ذيل الزيارة الجامعة الكبيرة المشتملة على قوله: «اللهمّ إنّي لو وجدت شفعاء أقرب إليك من محمّد و أهل بيته الأخيار الأئمّة الأبرار لجعلتهم شفعائي» «1»، و غير ذلك من الموارد، فكيف يجوّز الوهّابي الجاهل أن ينسب إلى الشيعة ما هم بُرآء منه، بل يعارضوه أشدّ المعارضة.

و لعمري إنّ التعصّب الموجب للانحراف صار مانعاً عن الوصول إلى حقيقة هذا المذهب، أو أنّ الجهالة تمنع عن ذلك، أو أن السياسة الخبيثة صارت سبباً لعدم اتّضاح الحقّ، كما أنّها صارت سبباً لحدوث مذهب الوهابية البعيد عن أصل الإسلام بمراحل جدّاً، و هذا أقرب إلى الصواب كما لا يخفى.

______________________________

(1) عيون أخبار الرضا (عليه السّلام): 2/ 277 قطعة من ح 1، و عنه بحار الأنوار: 102/ 133 قطعة من ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 260

[مسألة 5: حلف الأخرس بالإشارة المفهمة]

مسألة 5: حلف الأخرس بالإشارة المفهمة، و لا بأس بأن تكتب اليمين في لوح و يغسل و يؤمر بشربه بعد إعلامه، فإن شرب كان حالفاً،

و إلّا ألزم بالحقّ، و لعلّ بعد الاعلام كان ذلك نحو إشارة، و الأحوط الجمع بينهما (1).

______________________________

(1) وقع الإشكال في حلف الأخرس من جهة أنّ المشهور «1» كما في سائر الموارد قيام إشارته مقام اللفظ، مثل التكبير و التلبية و غيرهما، و من جهة ورود رواية صحيحة في هذا المقام، و هي رواية محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الأخرس، كيف يحلف إذا ادعي عليه دين و أنكره، و لم يكن للمدّعي بيّنة؟ فقال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) اتي بأخرس فادّعى عليه دين، و لم يكن للمدّعي بيّنة. فقال أمير المؤمنين (عليه السّلام): الحمد للّٰه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأُمّة جميع ما تحتاج إليه، ثمّ قال: ائتوني بمصحف، فأُتي به، فقال للأخرس: ما هذا؟ فرفع رأسه إلى السّماء و أشار أنّه كتاب اللّٰه عزّ و جلّ، ثمّ قال: ائتوني بوليّه، فأُتي بأخٍ له فأقعده إلى جنبه.

ثمّ قال: يا قنبر عليّ بدواة و صحيفة، فأتاه بهما، ثمّ قال لأخي الأخرس: قل لأخيك هذا بينك و بينه أنّه عليّ، فتقدّم إليه بذلك، ثمّ كتب أمير المؤمنين (عليه السّلام): و اللّٰه الذي لا إله إلّا هو عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، الطالب الغالب، الضارّ النافع، المهلك المدرك، الذي يعلم السّر و العلانية، إنّ فلان بن فلان المدّعى ليس له قبل فلان بن فلان، أعني الأخرس حقّ و لا طلبة بوجه من الوجوه، و لا بسبب

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 13/ 480، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 701،: 13/ 123، مستند الشيعة: 17/ 480.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 261

..........

______________________________

من الأسباب، ثمّ

غسله و أمر الأخرس أن يشربه، فامتنع، فألزمه الدّين «1».

هذا، و لم يناقش أحد في سند الرواية في نفسها، و أمّا دلالتها، فالمحكي عن التحرير أنّها قضية في واقعة «2»؛ أي لا يجوز التعدي عن نفس تلك الواقعة و تسرية الحكم إلى الموارد المشابهة.

و يرد عليه مضافاً إلى ما ذكرناه مراراً من أنّ الحاكي هو الإمام (عليه السّلام)، و كان الغرض من الحكاية بيان الحكم، خصوصاً مع وقوعها جواباً عن سؤال محمد بن مسلم عن الحكم و كيفية حلف الأخرس، و مع قوله (عليه السّلام): «حتى بيّنت للأمّة جميع ما تحتاج إليه»، و احتمال كون الاكتفاء بذلك من جهة أنّه من طرق الإشارة المفهمة، و المقصود كفاية مطلق الإشارة، مدفوع بظهور الرواية في خصوصية ما فعله (عليه السّلام)، نعم قد تقدّم «3» البحث عن ذيل الرواية الظاهر في أنّ مجرّد امتناع المنكر عن الحلف أو ما يقوم مقامه يكفي في ثبوت حقّ المدّعى، و الإلزام بالدين المدّعى به، من دون أن يردّ الحلف على المدّعى.

و كيف كان فلا ينبغي الارتياب في أنّ الشهرة على خلاف الرواية؛ و لذا ذكر المحقّق في الشرائع بعد أن جعل حلف الأخرس بالإشارة قولًا: بأنّ حلفه وضع يده على اسم اللّٰه في المصحف، أو يكتب اسمه سبحانه و توضع يده عليه، و قولًا: بما تفيده الرواية المذكورة «4».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 319 ح 879، الفقيه: 3/ 65 ح 218، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 302، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 33 ح 1.

(2) تحرير الأحكام: 2/ 191.

(3) في ص 151.

(4) شرائع الإسلام: 4/ 877.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 262

..........

______________________________

و ذكر صاحب الجواهر

في الشرح: أنّي لم أعرف القولين لأحد من أصحابنا، و إن نسب الأوّل إلى نهاية الشيخ «1»، و الثاني إلى ابن حمزة في الوسيلة «2»، لكن لا دلالة لشي ء من العبارتين على ما هو المنسوب إليهما «3»، و عليه يتحقّق فوق الشهرة على خلاف الرواية، و مخالفة المشهور قادحة في الحجّية و الاعتبار، و إن بلغت الرواية أعلى مراتب الصحّة، لكن مقتضى الاحتياط الاستحبابي الجمع بين الإشارة المفهمة و بين مفاد الرواية، و عدم الاقتصار على خصوص أحدهما.

______________________________

(1) النهاية: 347 348.

(2) الوسيلة: 228.

(3) جواهر الكلام: 40/ 238- 239.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 263

[مسألة 6: لا يشترط في الحلف العربيّة]

مسألة 6: لا يشترط في الحلف العربيّة، بل يكفي بأيّ لغة إذا كان باسم اللّٰه أو صفاته المختصّة به (1).

[مسألة 7: لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر على اسم اللّٰه]

مسألة 7: لا إشكال في تحقّق الحلف إن اقتصر على اسم اللّٰه كقوله: «و اللّٰه ليس لفلان عليّ كذا»، و لا يجب التغليظ بالقول مثل أن يقول: «و اللّٰه الغالب القاهر المهلك» و لا بالزّمان كيوم الجمعة و العيد، و لا بالمكان كالأمكنة المشرّفة، و لا بالأفعال كالقيام مستقبل القبلة آخذاً المصحف الشريف بيده، و المعروف أنّ التغليظ مستحب للحاكم، و له وجه (2).

______________________________

(1) الدليل على ما في المتن عدم الدليل على اعتبار العربية، بل يكفي بأيّ لغة كان و لو من غير العربيّة، بل يمكن أن يقال بعدم الاكتفاء بالعربية إذا لم يعرف معناها، خصوصاً إذا لم يعرف و لو إجمالًا، بل الأقوى عدم الاكتفاء حينئذ.

(2) الغرض من المسألة أمران:

أحدهما: أنّه لا يجب التغليظ في نفسه على الحالف، بل يجوز له الاقتصار على اسم اللّٰه تعالى، كقول الحالف المنكر: و اللّٰه ليس لفلان عليّ كذا، أو الحالف المدّعى: و اللّٰه لي عليه كذا، فالتغليظ بالقول أو الفعل أو الزمان أو المكان لا يكون واجباً عليه؛ لأنّ وظيفته في صورة إرادة الحلف ليس إلّا الحلف باللّٰه تعالى، كما مرّ في المسألة الأُولى المتقدّمة ثانيهما: أنّ استحباب التغليظ للحاكم له وجه؛ و وجهه مضافاً إلى الشهرة «1».

______________________________

(1) مسالك الافهام: 13/ 478.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 264

..........

______________________________

بل عدم الخلاف فيه «1» بل الإجماع عليه «2»، بل قطع الأصحاب كما في محكي كشف اللثام من النسبة إلى قطع الأصحاب «3» ثبوته في الرواية الصحيحة المتقدّمة «4» الواردة في الأخرس، و في

يمين الاستظهار الواردة في الروايتان المتقدّمتان في الدعوى على الميّت «5»، و خبر الحسين بن علوان المروي في قرب الإسناد، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام): أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان يستحلف اليهود و النصارى في بِيعهم و كنائسهم، و المجوس في بيوت نيرانهم، و يقول: شدّدوا عليهم احتياطاً للمسلمين «6».

______________________________

(1) رياض المسائل: 13/ 121.

(2) الخلاف: 6/ 285- 287 مسألة 31 و 32.

(3) كشف اللثام: 10/ 113- 114.

(4) في ص 260- 261.

(5) تقدّمتا في ص 191- 192.

(6) قرب الإسناد: 86 ح 284، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 298، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 29 ح 2 و بحار الأنوار: 104/ 287 ح 19.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 265

[مسألة 8: لا يجب على الحالف قبول التغليظ]

مسألة 8: لا يجب على الحالف قبول التغليظ، و لا يجوز إجباره عليه، و لو امتنع عنه لم يكن ناكلًا، بل لا يبعد أن يكون الأرجح له ترك التغليظ، و إن استحب للحاكم التغليظ احتياطاً على أموال الناس، و يستحبّ التغليظ في جميع الحقوق إلّا الأموال، فإنّه لا يغلظ فيها بما دون نصاب القطع (1).

______________________________

(1) الغرض من هذه المسألة أيضاً أمران:

أحدهما: أنّه لا يجب على الحالف قبول التغليظ، و لا يجوز إجباره عليه، و لو امتنع عنه لم يكن ناكلًا، بل في المتن نفى البعد عن أن يكون الأرجح له ترك التغليظ.

أمّا عدم وجوب القبول و عدم جواز الإجبار فلعدم الدليل على ذلك؛ لأنّ غاية ما عليه إذا أراد الحلف هو الحلف باللّٰه بالنحو الذي ذكرنا لا الزائد عليه، و منه يعلم أنّه في صورة الامتناع عن قبول التغليظ، لا يصير ناكلًا مترتّباً عليه أحكام النكول و آثاره المتقدّمة.

و

أمّا نفي البعد عن أن يكون الأرجح له ترك التغليظ، فلعلّ وجهه ما يستفاد من كلام السيّد في الملحقات من استلزام كون أصل الحلف مرجوحاً لمرجوحية التغليظ فيه على فرض إقدامه عليه «1»، و لكنّه أورد عليه بمنع الاستلزام و الاقتضاء.

و فيه إشكال آخر، و هو: أنّه كيف يجتمع مرجوحية التغليظ بالإضافة إلى الحالف، مع استحباب التغليظ بالنظر إلى الحاكم؟ كما يأتي في الأمر الثاني إن شاء اللّٰه تعالى، و إن كان يمكن الجمع بأنّ استحباب التغليظ بالنظر المذكور لعلّه لأجل

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 203 ذ مسألة 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 266

..........

______________________________

أنّه أقرب إلى انصراف الحالف عن الحلف لو كان كاذباً، و له موارد مشابهة في الفقه؛ كاستحباب أن يكون المضيف يسعى في الضيافة و يصرف غاية إمكاناته، و يستحب للضيف أن لا يصير موجباً لزحمة المضيف و مشقّته.

ثانيهما: أنّه يستحبّ للحاكم التغليظ احتياطاً على أموال الناس، و هذا و إن لم يرد فيه رواية مطلقة إلّا أنّه يستفاد ممّا تقدّم في المسألة المتقدّمة، و كذا من مرسلة محمد بن مسلم و زرارة عنهما (عليهما السّلام) جميعاً قالا: لا يحلف أحد عند قبر النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) على أقلّ ممّا يجب فيه القطع «1».

و الاستدلال بها مبنيّ على أن يقرأ: لا يحلّف بالتشديد بمعنى الإحلاف، و يكون المراد منه التغليظ في الحلف، و على إلغاء الخصوصية من قبر النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) و كلّ منها محلّ إشكال و مناقشة، و لكن قد عرفت التّسالم على استحباب التغليظ بالإضافة إلى الحاكم، إلّا في أقلّ ممّا يجب فيه القطع، و يساعده الاعتبار كما

لا يخفى.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 310 ح 855، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 298، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 29 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 267

[مسألة 9: لا يجوز التوكيل في الحلف و لا النيابة فيه]

مسألة 9: لا يجوز التوكيل في الحلف و لا النيابة فيه، فلو وكّل غيره و حلف عنه بوكالته أو نيابته لم يترتّب عليه أثر، و لا يفصل به خصومة (1).

[مسألة 10: لا بدّ و أن يكون الحلف في مجلس القضاء]

مسألة 10: لا بدّ و أن يكون الحلف في مجلس القضاء، و ليس للحاكم الاستنابة فيه إلّا لعذر كمرض أو حيض، و المجلس في المسجد، أو كون المرأة مخدّرة حضورُها في المجلس نقص عليها أو غير ذلك، فيجوز الاستنابة، بل الظاهر عدم جواز الاستنابة في مجلس القضاء و بحضور الحاكم، فما يترتّب عليه الأثر في غير مورد العذر أن يكون الحلف بأمر الحاكم و استحلافه (2).

______________________________

(1) الدليل على عدم جواز التوكيل في الحلف الذي معناه طلب نيابة الغير عنه، أو النيابة الشاملة للنيابة و لو بدون استنابة هو ما حقّقناه في محلّه من بحث الحج النيابي «1»: أنّ النيابة على خلاف القاعدة، لا يكاد يصار إليها مع عدم قيام الدليل عليها، و قد قام الدليل في الحج، و العبادات الاستيجارية، و قضاء الولي عن الميت و أمثال ذلك، و أمّا في مثل المقام فلم يقم دليل عليها؛ لأنّ اليمين وظيفة المدّعى عليه، فلا يترتّب على الحلف النيابي أثر، و لا يتحقّق به فصل الخصومة أصلًا.

(2) قد تعرّض في هذه المسألة لأمرين:

أحدهما: أنّه لا بد و أن يكون الحلف في مجلس القضاء و بحضور الحاكم، و لا تجوز الاستنابة في هذا الحال للحاكم؛ لأنّ الاستحلاف و الإحلاف وظيفته. و قد عرفت أنّ النيابة مطلقا على خلاف القاعدة، و لا يكاد يصار إليها مع عدم قيام

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ: 2/ 13 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات،

ص: 268

..........

______________________________

الدليل عليها، فكما أنّ أصل فصل الخصومة الذي هو وظيفة الحاكم، لا يجوز له الاستنابة فيه كذلك الاستحلاف و الإحلاف.

و قد مرّ «1» أنّ تصدّي القضاء في زماننا هذا في المملكة الإسلامية الإيرانية التي يكون الحاكم عليها هو الإسلام، و النظام المتّبع فيها هو النظام الإسلامي الشيعي ليس لأجل الإذن من المجتهد و ثبوت النصب العام من قبله، بل لأجل عدم اعتبار الاجتهاد في مثل هذه القضاة، الذين يراعون قوانين القضاء على نحو واحد و برويّة واحدة، فراجع.

ثانيهما: أنّه لا يجوز للحاكم الاستنابة في الحلف إلّا لعذر، كمرض أو حيض و المجلس في المسجد، أو كانت المرأة مخدّرة يكون حضورها في المجلس نقصاً عليها، أو غير ذلك من الأعذار. و الدليل على عدم جواز الاستنابة في غير صورة العذر مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الاستحلاف وظيفته، و ظاهره المباشرة، و يؤيّده قوله تعالى خطاباً إلى نبيّ من الأنبياء (عليهم السّلام)، الذي يشتكي إليه في أمر القضاء: «و أضفهم إلى اسمي» «2»، الظاهر في تحقق الإضافة من النّبي الشك في عدم ترتّب الأثر على الحلف الكذائي، هذا بالإضافة إلى غير مورد العذر، و أمّا بالنسبة إليه فلأنّ فصل الخصومة لا يكاد يتحقق بدون الاستنابة، من دون فرق بين أن يكون العذر شرعياً أو عرفياً.

و ذكر السيّد في الملحقات: أنّه لا دليل لهم على شي ء من الأمرين إلّا دعوى أنّ

______________________________

(1) في ص 50- 52.

(2) تقدم في ص 138.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 269

..........

______________________________

الأصل عدم ترتّب آثار الحلف عليه، و هو مقطوع بالإطلاقات، أو دعوى أنّ المتبادر إلى الفهم من الاستحلاف ذلك و هي ممنوعة، أو دعوى

أنّ الظاهر ممّا في الأخبار «و أضفهم إلى اسمي» المباشرة، و هي أيضاً ممنوعة «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّه لا يجوز التمسّك بالإطلاقات بعد عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، ما عرفت من كون النيابة مطلقاً على خلاف القاعدة، لا يكاد يصار إليها مع عدم قيام الدليل عليها، فاللّازم نهوض الدليل و مع عدمه الحكم بعدم الجواز كما لا يخفىٰ. كما أنّ أصالة عدم ترتّب الأثر على الحلف عند غير الحاكم مع عدم العذر جارية بلا إشكال.

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 203.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 270

[مسألة 11: يجب أن يكون الحلف على البتّ]

مسألة 11: يجب أن يكون الحلف على البتّ، سواء كان في فعل نفسه أو فعل غيره، و سواء كان في نفي أو إثبات، فمع علمه بالواقعة يجوز الحلف، و مع عدم علمه لا يجوز إلّا على عدم العلم (1).

______________________________

(1) ذكروا أنّه يجب أن يكون الحلف على البتّ، سواء كان في فعل نفسه مطلقاً أو في فعل غيره إثباتاً، و أمّا بالإضافة إلى فعل الغير نفياً فلا يلزم أن يكون الحلف على البتّ، و الوجه فيه ظاهراً عدم اطلاع الإنسان على نفي فعل الغير نوعاً بخلاف إثباته، الذي يكفي في العلم به مجرّد الاطلاع على حصول الطبيعة منه في الخارج، و لكن أفاد في المتن أنّه مع العلم بالواقعة يجوز الحلف بل يجب بتّاً و إن كان في نفي فعل الغير، و مع عدم علمه بها لا يجوز إلّا على عدم العلم.

نعم لو كان المدّعى يدّعي علم المنكر مثلًا بالواقعة و المنكر ينكر العلم، يجوز له الحلف على عدم العلم، و لكن الحلف حينئذٍ إنّما يكون على البتّ، فإنّ

حلفه على عدم العلم مع عدم علمه يكون بتّياً. و قد تقدّم في بعض المسائل السابقة أنّ المدّعى عليه قد يكون جوابه بلا أدري و لا أعلم، و في هذه الصورة قد يكون المدّعى مصدّقاً له في دعوى عدم العلم و قد يكون مكذّباً له، و مرّ الحكم في الصورتين فراجع «1».

______________________________

(1) مرّ في ص 235- 238.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 271

[مسألة 12: لا يجوز الحلف على مال الغير أو حقّه إثباتاً أو إسقاطاً إذا كان أجنبيّا عن الدعوى]

مسألة 12: لا يجوز الحلف على مال الغير أو حقّه إثباتاً أو إسقاطاً إذا كان أجنبيّا عن الدعوى، كما لو حلف زيد على براءة عمرو، و في مثل الوليّ الإجباري أو القيّم على الصغير أو المتولّي للوقف تردّد. و الأشبه عدم الجواز (1).

______________________________

(1) لا إشكال في أنّ الحلف على مال الغير أو حقّه إثباتاً أو إسقاطاً إذا كان الحالف أجنبيّا عن الدعوى غير جائز، أي لا يترتّب عليه الأثر؛ لأنّ اليمين وظيفة المنكر و المدّعى عليه، و المفروض كونه أجنبيّا عن الدعوى، و أنّه في حلفه لا يكون حتى وكيلًا عن الغير أو نائباً عنه، فالحلف الاستقلالي لا أثر له أصلًا، و أصل هذا المطلب ممّا لا يحتاج إلى إقامة دليل عليه، بل هو من الوضوح بمكان.

إنّما الكلام و الإشكال في الموارد المستثناة، مثل ما ذكر في المتن، كالوليّ و القيم و متولّي الوقف، فقد تردّد فيه في المتن ثمّ جعل الأشبه عدم الجواز، و لكن ذكر السيّد (قدّس سرّه) في الملحقات: أنّ طرف الدعوى إذا كان هو الوليّ أو المتولّي يصدق عليه أنّه منكر، فيكون عليه الحلف. و ظهور الروايات في اعتبار كون الحلف على مال نفسه ممنوع، ثمّ حكى عن النراقي في المستند أنّه

استدلّ على المنع مضافاً إلى دعوى الإجماع و الأصل و ظهور الروايات بأنّ الحلف إنّما يكون فيما إذا نكل من الحلف أو أقرّ بالحق يثبت، و لا يتحقّق شي ء منهما في حقّ الغير «1». و أورد عليه بمنع الاختصاص بذلك «2»، و يؤيّده أنّ الوليّ و القيم و المتولي لا يكون أجنبيّا محضاً، و إن لم يكن له فائدة و ضرر في ثبوت الدعوى و سقوطها، ففرق بينهم و بين الأجنبي المحض الذي لا يترتّب أثر على حلفه، كما لا يخفى، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) مستند الشيعة: 17/ 490- 491، ملحقات العروة الوثقى: 3/ 204 مسألة 14.

(2) مستند الشيعة: 17/ 490- 491، ملحقات العروة الوثقى: 3/ 204 مسألة 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 272

[مسألة 13: تثبت اليمين في الدعاوي الماليّة و غيرها]

مسألة 13: تثبت اليمين في الدعاوي الماليّة و غيرها، كالنكاح و الطلاق و القتل، و لا تثبت في الحدود، فإنّها لا تثبت إلّا بالإقرار أو البيّنة بالشرائط المقرّرة في محلّها، و لا فرق في عدم ثبوت الحلف بين أن يكون المورد من حقّ اللّٰه محضاً كالزنا، أو مشتركاً بينه و بين حق الناس كالقذف، فإذا ادّعى عليه أنّه قذفه بالزنا فأنكر لم يتوجّه عليه يمين، و لو حلف المدّعى لم يثبت حدّ القذف، نعم لو كانت الدعوى مركبةً من حقّ اللّٰه و حقّ الناس كالسرقة، فبالنسبة إلى حقّ الناس تثبت اليمين، دون القطع الذي هو حقّ اللّٰه تعالى (1).

______________________________

(1) لا إشكال في جريان اليمين في الدعاوي المالية و سائر حقوق الناس، كالنكاح و الطلاق و الرجعة و القتل و غيرها، و في عدم جريانها في الحدود فإنّها لا تثبت إلّا بالإقرار و البيّنة بالشرائط المقرّرة في

محلّها. و قد ورد في روايات كثيرة ما يرجع إلى أنّه لا يمين في حدّ «1». ففي مرسلة الصدوق المعتبرة: ادرءوا الحدود بالشبهات، و لا شفاعة، و لا كفالة، و لا يمين في حدّ «2».

هذا، مضافاً إلى أنّ من شرائط سماع الدعوى أن تكون مرتبطة بالمدّعي، و له فيها نفع يتوجه إليه كما مرّ سابقاً «3»، و الحدود إنّما هي من حقوق اللّٰه المحضة، و ليس

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 28/ 46، كتاب الحدود و التعزيرات ب 24، و ج 29/ 136، كتاب القصاص، أبواب القصاص في النفس ب 70 ح 1 و ص 186، أبواب قصاص الطرف ب 24 ح 2.

(2) الفقيه: 4/ 53 ح 90، و عنه وسائل الشيعة: 28/ 46، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدّمات الحدود ب 24 ح 4، و تقدم صدرها في ص 174.

(3) في ص 88- 89.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 273

..........

______________________________

لها أيّ ارتباط بالمدّعي، و لا يكون المدّعى مأذوناً من قبل صاحب الحقّ، بل هو الذي حكم بدرء الحدود بالشبهات كما عرفت في المرسلة، و يؤيّده خصوصية البيّنة في مثل الزنا و اللواط، و مرجع البيّنة فيها إلى موتها من دون ارتباط بالمدّعي، بل و لو لم يكن هناك مدّع أصلًا.

و في رواية عامية عن النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله)، أنّه قد قال لمن حمل رجلًا على الإقرار عنده بالزنا: لو كنت سترته بثوبك كان خيراً لك «1».

و الظاهر أنّه لا خلاف في ذلك «2»، بل ادّعى بعضهم الإجماع عليه «3» إذا كان من حقّ اللّٰه المحض. بقي في المقام أمران آخران:

أحدهما: ما إذا كان مشتركاً بين حقّ اللّٰه و

حقّ الناس كالقذف، فالأكثر كما في المتن تغليب حقّ اللّٰه فلا تثبت فيه اليمين، و عن المبسوط «4» و الدروس «5» تغليب حقّ الناس فتجري فيه اليمين.

و فرّع عليه في المتن ما إذا كان المدّعى يدّعي أنّه قذفه بالزنا و أنكر، و أنّه لا يتوجّه عليه يمين، و لو حلف المدّعى لم يثبت حدّ القذف.

______________________________

(1) المسند لابن حنبل: 8/ 206- 208 ح 21949- 21954، السنن الكبرى للبيهقي: 12/ 452، كتاب الحدود، باب المعترف بالزنا يرجع عن إقراره ح 17474 و ج 13/ 154، كتاب الأشربة باب ما جاء في الستر على أهل الحدود ح 18097.

(2) كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 707.

(3) مفتاح الكرامة: 10/ 107.

(4) المبسوط: 8/ 215 216.

(5) الدروس الشرعيّة: 2/ 93.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 274

..........

______________________________

و لكن هنا فرع آخر لعلّه أنسب و أقرب إلى كلامهما، و كلام المحقّق في الشرائع حكاية عن المبسوط، و هو ما إذا قال له: يا زاني، ثمّ لما أُريد قيام حدّ القذف عليه ادّعى الزّنا على المقذوف، و لكن لا بيّنة له على ذلك، فيجوز على قولهما أن يحلف المقذوف على عدم الزنا؛ ليثبت الحدّ على القاذف، و إذا لم يحلف المقذوف بل ردّ اليمين على القاذف فحلف، لم يثبت حدّ الزنا في حقّه.

هذا، و لكن الأقوى ما عليه الأكثر؛ لأنّه مضافاً إلى أنّ المستفاد من مذاق الشرع في باب الحدود تغليب حقّ اللّٰه، كما يستفاد من مثل قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «ادرءوا الحدود بالشبهات» إلخ يكون مقتضى قوله (عليه السّلام): «لا يمين في حدّ» «1» الوارد في روايات كثيرة الشمول للمقام، و عدم الاختصاص بحدّ

اللّٰه المحض، فالأقوى ما في المتن تبعاً للأكثر.

ثانيهما: ما إذا كان مركّباً من حقّ اللّٰه و حقّ الناس، كالسّرقة التي يجتمع فيها الحدّ الذي هو القطع مع شرائط مخصوصة، و غرامة المال عيناً أو مثلًا أو قيمة التي هي حقّ الناس. فبالنسبة إلى الأوّل لا يجزي فيه اليمين بخلاف الثاني، و لا مانع من التبعيض كما لا يخفى.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 91.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 275

[مسألة 14: يستحب للقاضي وعظ الحالف قبله، و ترغيبه في ترك اليمين إجلالًا للّٰه تعالى و لو كان صادقاً]

مسألة 14: يستحب للقاضي وعظ الحالف قبله، و ترغيبه في ترك اليمين إجلالًا للّٰه تعالى و لو كان صادقاً، و أخافه من عذاب اللّٰه تعالى إن حلف كاذباً، و قد روي أنّه: «من حلف باللّٰه كاذباً كفر»، و في بعض الروايات: «من حلف على يمين و هو يعلم أنّه كاذب فقد بارز اللّٰه»، و «أنّ اليمين الكاذبة تدع الدّيار بلاقع من أهلها» (1).

______________________________

(1) الأصل في ذلك قوله تعالى وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ «1» و قد وقع الاستشهاد به لترك اليمين و إن كان صادقاً، ففي رواية أبي أيّوب الخزّاز قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: لا تحلفوا باللّٰه صادقين و لا كاذبين، فإنّه عزّ و جلّ يقول وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ «2»، و النّهي محمول على الكراهة في الحلف الصادق، و منشؤه إجلال اللّٰه تبارك و تعالى، و عدم جعله وسيلة للحطام الدنيوي و المتاع القليل الذي هو متاع الدنيا.

و في رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): من أجلّ اللّٰه أن يحلف به أعطاه اللّٰه خيراً ممّا ذهب منه «3».

و في روايةٍ عن أبي

جعفر (عليه السّلام): إنّ علي بن الحسين (عليهما السّلام) لمّا طلق بعض أزواجه و قد أعطاها المهر قبلًا، و استعدت إلى أمير المدينة. فقال له الأمير: يا عليّ إمّا أن تحلف

______________________________

(1) سورة البقرة: 2/ 224.

(2) الكافي: 7/ 434 ح 1، تهذيب الأحكام: 8/ 282 ح 1033، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 198، كتاب الأيمان ب 1 ح 5.

(3) الكافي: 7/ 434 ح 2، الفقيه: 3/ 233 ح 1096، تهذيب الأحكام: 8/ 282 ح 1034، و عنها وسائل الشيعة:

23/ 198، كتاب الأيمان ب 1 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 276

..........

______________________________

و إمّا أن تعطيها. فقال لي: يا بنيّ قم فأعطها أربعمائة دينار. فقلت له: يا أبت جعلت فداك أ لست محقّاً؟! قال: بلى يا بنيّ و لكنّي أجللت اللّٰه أن أحلف به يمين صبر «1».

و أمّا الحلف كاذباً فقد ورد في بعض الروايات أنّه كفر، ففي رواية أبي سلام المتعبّد، أنّه سمع أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول لسدير: يا سدير من حلف باللّٰه كاذباً كفر، و من حلف باللّٰه صادقاً أثم، إنّ اللّٰه عزّ و جلّ يقول وَ لٰا تَجْعَلُوا اللّٰهَ عُرْضَةً لِأَيْمٰانِكُمْ «2».

و في بعض الروايات أنّه قد بارز اللّٰه، ففي رواية يعقوب الأحمر قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): من حلف على يمين و هو يعلم أنّه كاذب فقد بارز اللّٰه «3».

و في بعض الروايات أنّ اليمين الكاذبة تذر الديار بلاقع من أهلها «4»، ففي رواية أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إنّ في كتاب علي (عليه السّلام): إنّ اليمين الكاذبة و قطيعة الرحم تذران الديار بلاقع من أهلها، و تثقل

«5» الرحم، يعني انقطاع النسل «6».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 435 ح 1، تهذيب الأحكام: 8/ 283 ح 1036، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 200، كتاب الأيمان ب 2 ح 1.

(2) الكافي: 7/ 434 ح 4، الفقيه: 3/ 234 ح 1108، تهذيب الأحكام: 8/ 282 ح 1035، و عنها وسائل الشيعة:

23/ 199، كتاب الأيمان ب 1 ح 6.

(3) الكافي: 7/ 435 ح 1، عقاب الأعمال: 269 ح 1، المحاسن: 1/ 211 ح 378، و عنها وسائل الشيعة: 23/ 203، كتاب الأيمان ب 4 ح 4.

(4) الكافي: 7/ 435 ح 3، عقاب الأعمال: 269 ح 3، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 204، كتاب الأيمان ب 4 ح 6.

(5) في الكافي: تنغل بدل «تثقل»، و نغل الجرح: فسد (القاموس المحيط).

(6) الكافي: 7/ 436 ح 9، عقاب الأعمال: 270 ح 8، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 202، كتاب الأيمان ب 4 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 277

..........

______________________________

و المراد من البلاقع التي هي جمع بلقع هو الخلوّ من الأهل، كأرض قفر لا شي ء فيها. و وجّهه بعضُ محشّي الوسائل بأنّ عمران البلاد بتعاون الناس في حوائجهم و ضرورياتهم و تعاضدهم في معايشهم، و هذا غير ممكن بين أُناس خونة لا يعتمد أحد منهم على الآخر، و الحلف الكاذب يمنع الاعتماد و التعاون، و في ذلك هلاك العمران «1».

و يحتمل أن يكون أثراً وضعيّاً للحلف الكاذب، كما رأيناه بالوجدان من محو بعض الرساتيق لعلّة تحوّل الأرض بحيث لا يكون منها أثر أصلًا. و يجري الوجهان من مقتضى القاعدة و من الفعل الإلهي الخارج عن العادة فيما بيّنه اللّٰه تعالى بعد الأمر بانكاح الأيامى و

الصالحين من العباد و الإماء بقوله إِنْ يَكُونُوا فُقَرٰاءَ يُغْنِهِمُ اللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الهُٰو وٰاسِعٌ عَلِيمٌ «2»، و الوجهان ظاهران، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة مع تعليقات تحقيقيّة لسماحة الحجّة الحاجّ الشيخ أبي الحسن الشعراني: 16/ 144.

(2) سورة النور 24: 32.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 279

[القول في أحكام اليد]

اشارة

القول في أحكام اليد

[مسألة 1: كلّ ما كان تحت استيلاء شخص و في يده بنحو من الأنحاء فهو محكوم بملكيته و أنّه له]

مسألة 1: كلّ ما كان تحت استيلاء شخص و في يده بنحو من الأنحاء فهو محكوم بملكيته و أنّه له، سواء كان من الأعيان أو المنافع أو الحقوق أو غيرها، فلو كان في يده مزرعة موقوفة و يدّعي أنّه المتولّي يحكم بكونه كذلك، و لا يشترط في دلالة اليد على الملكية و نحوها التصرّفات الموقوفة على الملك فلو كان شي ء في يده يحكم بأنّه ملكه، و لو لم يتصرّف فيه فعلًا و لا دعوى ذي اليد الملكية، و لو كان في يده شي ء فمات و لم يعلم أنّه له و لم يسمع منه دعوى الملكية يحكم بأنّه له و هو لوارثه، نعم يشترط عدم اعترافه بعدمها، بل الظاهر الحكم بملكية ما في يده و لو لم يعلم أنّه له، فإن اعترف بأنّي لا أعلم أنّ ما في يدي لي أم لا، يحكم بكونه له بالنسبة إلى نفسه و غيره (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في أمور:

الأمر الأوّل: في المراد من اليد التي هي عبارة عن الجارحة المخصوصة في مقابل الرجل، و المراد منها معناه الكنائي، و هو الاستيلاء الواقعي و السلطة الخارجيّة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 280

..........

______________________________

المختلف بحسب الأشياء و الأشخاص، فالاستيلاء على الخاتم إنّما هو بكونه في إصبعه أو في يده أو في جيبه أو في صندوقه، و على الثوب بنحو آخر، و على الدار بنحو ثالث، و على الدكان و الأراضي بنحو رابع، و على المملكة بنحو خامس و هكذا، ففي الحقيقة أنّ نفس الاستيلاء و إن كان أمراً اعتباريّاً، لأنّ الواقع في الخارج إنّما هو التصرّف الفعلي، إلّا أنّ

مبدأه و منشأه يكون من الواقعيات غير الاعتبارية، كالفوقية حيث أنّها و إن كانت أمراً اعتبارياً؛ لأنّ الواقع في الخارج إنّما هو السقف مثلًا، إلّا أنّ الفوقية لا تتصوّر بدون مثل السقف الذي هو أمر تكويني.

و دعوى أنّ اليد بهذا المعنى تارةً تكون مسببة عن الملكية، كما في موارد البيع و الصلح و نحوهما، و أُخرى تكون سبباً لحصولها، كما في باب الحيازة.

مدفوعة بأنّه إن كان المقصود أنّ اليد عبارة أخرى عن الملكية التي هي أمر اعتباري، فيردّه أنّ المراد باليد ليس هي الملكية، و إن كان المراد انحصار دائرة اليد بموارد ثبوت الملكية فمن الواضح خلافه؛ لأنّه ربّما يتحقّق غصباً.

فالحقّ انّه لا مجال للمناقشة في أنّ المراد باليد نفس الاستيلاء الخارجي بالنحو الذي ذكرنا، ففي الحقيقة يكون المراد به و بالاستيلاء المتحقّق في باب الغصب واحداً، غاية الأمر أنّ الغصب هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً، و هنا تكون اليد الموضوعة في قاعدة اليد، و أمارتها هو الاستيلاء على أمر يكون مشكوك الملكية و مثلها، فانّ اعتبار الإمارة إنّما هو بالإضافة إلى موارد الشك، كما لا يخفى.

الأمر الثاني: في مدرك هذه القاعدة و مستندها و هو ثلاثة أمور:

الأوّل: بناء العقلاء من جميع الملل و الأُمم من غير فرق بين المتدينين منهم و غيرهم على اعتبار اليد، و كونها أمارة عندهم لملكية صاحبها، و لا ارتياب في ثبوت هذا البناء و تحقّق هذه السيرة، و الظاهر أنّ الوجه في ثبوت الأمارية عندهم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 281

..........

______________________________

ليس استحالة أن يكون للعقلاء تعبّد في أمورهم حتى تمنع الاستحالة؛ لاحتمال أن يكون ذلك عندهم بنحو الأصل، لأجل تحقّق اختلال

النظام و عدم انتظام السوق بدونه؛ و لذا ذكر المحقّق الخراساني في الكفاية: أنّه يحتمل أن تكون أصالة الحقيقة مجعولة تعبّداً لا من باب أصالة الظهور، التي هي أمارة على المراد عند العقلاء «1»، بل الوجه في اعتبار اليد كونه أمارة عندهم على الملكية، و مرجع الأمارية إلى عدم ترتيب الأثر على احتمال الخلاف؛ لكونه ملغى عندهم و لا يعتنون به، كما أنّ مرجع الأصل إلى ترتيب آثار الملكية مع ثبوت احتمال الخلاف، و عدم كونه ملغى لديهم.

هذا، و لو فرض افتقار حجية السيرة العقلائية في الشريعة إلى إمضاء الشارع و تأييده، و لم نقل بكفاية عدم ثبوت الردع نقول: إنّ الروايات المتكثّرة الآتية إن شاء اللّٰه تعالى كافية في مقام الإمضاء، و إن كانت بنفسها دليلًا مستقلا لدلالتها على اعتبار اليد، و إن لم تثبت السيرة العقلائيّة على وفقه بل ثبتت على خلافه، كما لا يخفى.

الثاني: الإجماع المحقّق و الاتّفاق المسلّم على اعتبار اليد قولًا و فعلًا «2»، و هذا الإجماع و إن كان ممّا لا مناقشة فيه إلّا أنّه لا يصلح أن يكون حجّة برأسه، و دليلًا مستقلا في مقابل سائر الأدلّة؛ لأنّه يحتمل قويّاً استناد المجمعين إلى سائر الوجوه، خصوصاً الروايات، فلا أصالة للإجماع بوجه، كما لا يخفى.

الثالث: الروايات الكثيرة الدالّة على اعتبار اليد، و هي على ثلاث طوائف:

الطائفة الأُولىٰ: ما هي ظاهرة في الاعتبار بنحو الأمارية، مثل:

______________________________

(1) كفاية الأُصول: 323- 324.

(2) رياض المسائل: 13/ 186، عوائد الأيام: 737 عائدة 69.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 282

..........

______________________________

موثقة يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في امرأة تموت قبل الرجل، أو رجل قبل المرأة، قال:

ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له «1».

و المناقشة في سندها بعد كونها موثّقة غير واردة، كما أنّ دلالتها على اعتبار الاستيلاء و اليد و كونها طريقاً إلى ثبوت الملك واضحة، فإنّ الحكم باختصاص متاع النّساء بهنّ إنّما هو لأجل كون ذلك أمارة على يدها، فهو أمارة على الأمارة، كما أنّ اشتراكهما فيما كان مشتركاً بينهما إنّما هو لأجل كشف ذلك عن ثبوت اليد لهما، و أصرح من الجميع قوله (عليه السّلام) في الذيل: «و من استولى على شي ء منه فهو له»، حيث إنّه يدلّ بأعلى ظهور على أنّ الاستيلاء دليل على الملكية، و ليس المراد أنّ الاستيلاء موجب لتحقّق الملكية كما أنّ الحيازة مثلًا موجبة لتحقّق الملكيّة حتى يورد عليه بتحقّق الاستيلاء في باب الغصب، بل ليس حقيقته إلّا الاستيلاء على مال الغير عدواناً، و ربّما لا يتحقّق التصرّف من الغاصب أصلًا، كما أنّه ربّما يكون التصرّف المحرّم غصباً، و لذا ذكر سيّدنا المحقّق الأستاد البروجردي قدّس سرّه الشريف في مجلس درسه مكرّراً: أنّ اتّحاد الصلاة مع الأمر المحرّم في مثال اجتماع الأمر و النهي إنّما هو اتحاد الصلاة مع التصرّف المحرم، و إلّا فالصلاة لا تتحد مع عنوان الغصب و حقيقته بوجه، و على هذا يكون الغاصب المتصرّف مرتكباً لمحرّمين، بخلاف الغاصب فقط أو المتصرّف كذلك.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 9/ 302 ح 1079، و عنه وسائل الشيعة: 26/ 216، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 283

..........

______________________________

و في الرواية إشكالان آخران:

أحدهما:

عدم تعرّض الرّواية لما كان متاع الرجال فقط، كالميزان على ما في بعض الروايات الأُخر التي ستجي ء إن شاء اللّٰه تعالى.

و يدفعه أنّه يمكن أن يكون ذلك لأجل كون التعرّض للقسمين الآخرين كافياً و مغنياً خصوصاً بعد بيان الملاك و الضابطة في الذيل بقوله: «و من استولى على شي ء» إلخ.

ثانيهما: ما أفاده بعض الأعاظم قدّس سرّه الشريف: من أنّ غاية مفادها ترتيب آثار الملكية لما تحت يد شخص من دون تعرّض إلى أنّ اليد طريق إلى الملكية أم لا، فقوله (عليه السّلام): «من استولى على شي ء منه فهو له» لا يدلّ إلّا على ترتيب آثار الملكية على ما استولى عليه، و هذا المعنى أعمّ من الأماريّة و الأصليّة، و يجتمع مع كلّ واحد منهما، فلا يمكن إثبات خصوص أحدهما بها، حتى إنّ جواز الحلف و الشهادة اللذين أخذ العلم في موضوعهما على نحو الطريقيّة مستنداً إليها لا ينافي أصليّتها، لأنّ الأصول التنزيلية أيضاً مثل الأمارات تقوم مقام العلم الذي أخذ في الموضوع على نحو الطريقية، فمن هذه الجهة أيضاً لا فرق بينهما «1».

و أجبنا عن هذه المناقشة في كتابنا في القواعد الفقهية المشتمل على عشرين قاعدة؛ بما يرجع إلى أنّ تشخيص المراد من الروايات موكول إلى العرف، فإنّه الحاكم في هذا الباب، و من الواضح أنّه لو كان شي ء عند العقلاء يعامل معه معاملة الطريقية، فإذا ورد في كلام الشارع ترتيب الأثر عليه، فلا محالة يفهم من ذلك الكلام أنّ الشارع اعتبره على النحو الذي يعتبره العقلاء، فحينئذٍ كان الاستيلاء

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة للسيّد البجنوردي: 1/ 140 و 141.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 284

..........

______________________________

على شي ء موضوعاً عند العقلاء

للحكم بالملكية، و ترتيب آثارها عليه بنحو الأمارية و الطريقية، فإذا وقع في كلام الشارع الملقى إلى العرف لا يجري فيه احتمال كون الحكم بترتيب آثار الملكية عند الشارع بنحو الأصلية، و يؤيّده جواز الحلف و الشهادة مستنداً إلى اليد، فإنّ الاكتفاء فيه بالأصول التنزيليّة على حسب اصطلاحه محل كلام و اختلاف، كما بيّن في محلّه، مع أنّه لم يختلف أحد في جواز الحلف و الشهادة في المقام، و هذا يكشف عن عدم كونه من تلك الأصول، بل من الأمارات «1»، فتدبّر جيّداً.

و منها: رواية عبد الرحمن بن الحجاج، التي رواها الكليني بطريقين و الشيخ بأسانيد متعدّدة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألني هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له: بلغني أنّه قضى في متاع الرجل و المرأة إذا مات أحدهما، فادّعاه ورثة الحيّ و ورثة الميّت، أو طلّقها فادعاه الرجل و ادعته المرأة بأربع قضايا. فقال: و ما ذاك؟ قلت: أمّا أوّلهنّ: فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، و متاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، و ما كان للرجال و النساء بينهما نصفان، ثمّ بلغني أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً، فالذي بأيديهما جميعاً [يدّعيان جميعاً «2»] بينهما نصفان.

ثمّ قال: الرجل صاحب البيت و المرأة الداخلة عليه و هي المدّعية؛ فالمتاع كلّه للرجل إلّا متاع النساء، الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة، ثمّ قضى بقضاء بعد ذلك

______________________________

(1) القواعد الفقهية: 1/ 385.

(2) من وسائل الشيعة، و في تهذيب الأحكام ج 9؛ ممّا يدّعيان جميعاً، و في الاستبصار: ممّا يتركان.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 285

..........

______________________________

لو لا أنّي شهدته لم أروه عنه «1»، ماتت امرأة منّا و لها زوج، و تركت متاعاً فرفعته إليه، فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان، فإنّه من متاع الرجل فهو لك.

فقال (عليه السّلام) لي: فعلى أيّ شي ء هو اليوم؟ فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي أن جعل البيت للرّجل، ثمّ سألته (عليه السّلام) عن ذلك، فقلت: ما تقول أنت فيه؟ قال: القول الذي أخبرتني: أنّك شهدته و إن كان قد رجع عنه. فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟ فقلت: شاهدين.

فقال: لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذٍ بمكّة لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به، و هذا المدّعى فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة «2».

لا مجال للإشكال في الرواية من جهة السند، كما أنّ متنها يؤيّد كونها من الإمام (عليه السّلام)، كما أنّ دلالتها ظاهرة واضحة لدلالتها على اختصاص متاع البيت بالمرأة، و أنّ الرجل هو المدّعى إن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة، معلّلًا بوضوح «أنّ الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به» فمفادها أنّ المرأة مستولية على متاع البيت؛ و الاستيلاء كاشف عن كونها مالكة، فيجب على الزوج إقامة البيّنة، و المرأة مع عدمها لا يجب عليها إلّا اليمين، فدلالة الرواية واضحة.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم -

ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 285

______________________________

(1) في الكافي: لم أردّه عليه.

(2) الكافي: 7/ 130 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 297- 298 ح 829- 831 و ج 9/ 301 ح 1078، الاستبصار: 3/ 44 46 ح 149 151، و عنها وسائل الشيعة: 26/ 214، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 286

..........

______________________________

و من هذه الطائفة رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: سألته عن الدار يوجد فيها الورق؟ فقال: إن كانت معمورة فيها أهلها فهي لهم، و إن كانت خربة قد جلا عنها أهلها، فالذي وجد المال أحقّ به «1».

و رواية جميل بن صالح قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): رجل وَجد في منزله ديناراً. قال: يدخل منزله غيره؟ قلت: نعم كثير. قال: هذا لقطة. قلت: فرجل وجد في صندوقه ديناراً. قال: يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئاً؟ قلت: لا. قال: فهو له «2».

و رواية دعائم الإسلام عن أمير المؤمنين (عليه السّلام)، أنّه سئل عن الورق توجد في الدار؟ فقال: إن كانت عامرة فهي لأهلها، و إن كانت خراباً فسبيلها سبيل اللقطة «3».

الطائفة الثانية: من الروايات ما يدلّ على حجّية اليد و اعتبارها من غير دلالة على كونها أمارة، مثل:

رواية محمد بن الحسين قال: كتبت إلى أبي محمّد (عليه السّلام): رجل كانت له رحى على نهر قرية و القرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر، و يعطل هذه الرحى، إله ذلك؟ فوقّع (عليه السّلام): يتّقي

اللّٰه، و يعمل في ذلك بالمعروف،

______________________________

(1) الكافي: 5/ 138 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 390 ح 1169، و عنهما وسائل الشيعة: 25/ 447، كتاب اللقطة ب 5 ح 1.

(2) الكافي: 5/ 137 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 390 ح 1168، الفقيه: 3/ 187 ح 841، و عنها وسائل الشيعة:

25/ 446، كتاب اللقطة ب 3 ح 1.

(3) دعائم الإسلام: 2/ 497 ح 1774، و عنه مستدرك الوسائل: 17/ 128، كتاب اللقطة ب 4 ح 20955.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 287

..........

______________________________

و لا يضرّ أخاه المؤمن «1».

و ربّما يقال: بعدم دلالة هذه الرواية على اعتبار اليد بوجه، و لا ينبغي أن تعدّ الرواية في رديف الأدلّة على اعتبار اليد، مع أنّه من الواضح أنّ السؤال ليس بلحاظ كون الرجل الأوّل مالكاً للرحى، بل بلحاظ كونه مستولياً عليها في مدّة من الزمان، مع احتمال عدم الملكية، كما في سائر موارد ثبوت اليد، فثبوتها له إنّما هو باعتبار اليد ضرورة أنّه لم يكن مجال للسؤال مع الملكية الثابتة من غير طريق اليد.

و رواية العيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن مملوك ادّعى انّه حرّ، و لم يأتِ بيّنة على ذلك، أشتريه؟ قال: نعم «2».

و مثلها رواية حمزة بن حمران، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أدخل السوق و أريد اشتري جارية، فتقول: إنّي حرّة. فقال: اشترها إلّا أن يكون لها بيّنة «3».

و ما رواه علي بن إبراهيم في تفسيره، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عثمان بن عيسى و حمّاد بن عثمان جميعاً، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث فدك إنّ أمير المؤمنين (عليه

السّلام) قال لأبي بكر: أ تحكم فينا بخلاف حكم اللّٰه في المسلمين؟ قال: لا. قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا فيه مَن تسأل البيّنة؟ قال:

______________________________

(1) الكافي: 5/ 239 ح 5، تهذيب الأحكام: 7/ 146 ح 647، الفقيه: 3/ 150 ح 659، و عنها وسائل الشيعة:

25/ 431، كتاب إحياء الموات ب 15 ح 1.

(2) تهذيب الأحكام: 7/ 74 ح 317، الفقيه: 3/ 140 ح 614، و عنهما وسائل الشيعة: 18/ 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان ب 50 ح 1 و ج 23/ 55، كتاب العتق ب 29 ح 4.

(3) تهذيب الأحكام: 7/ 74 ح 318، الفقيه: 3/ 140 ح 613، الكافي: 5/ 211 ح 13، و عنها وسائل الشيعة:

18/ 250، كتاب التجارة، أبواب بيع الحيوان ب 5 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 288

..........

______________________________

إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين. قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة على ما في يدي؟ و قد ملكته في حياة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و بعده، و لم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ، كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم إلى أن قال: و قد قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر. و رواه الطبرسي في الاحتجاج مرسلًا، و الصدوق في العلل عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) «1». و يمكن أن يقال بإشعار هذه الرواية، بل دلالتها على أماريّة اليد و كاشفيتها؛ نظراً إلى قوله (عليه السّلام): «فإن كان في

يد المسلمين شي ء يملكونه؟»، فإنّ توصيفهم بكونهم مالكين ليس إلّا من جهة اليد الكاشفة عن الملكية، لا أنّه كان هناك طريق آخر عليها. نعم قوله (عليه السّلام) بعده: «و قد ملكته في حياة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و بعده» ربّما ينافي ذلك، فتدبّر.

الطائفة الثالثة: الروايات الدالّة على اعتبار اليد أيضاً، لكن ربّما تتوهّم دلالتها على كون اليد أصلًا، مثل:

رواية حفص بن غياث، التي رواها المشايخ الثلاثة عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد أنّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): أ فيحلّ الشراء منه؟ فقال: نعم.

______________________________

(1) تفسير القمّي: 2/ 155- 157، الاحتجاج: 1/ 237- 238، علل الشرائع: 190- 191 ح 1، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 293، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 25 ح 3، و قد تقدّم ذيله في ص 129.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 289

..........

______________________________

فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق «1».

و هذه الرواية و إن كانت ضعيفة من حيث السند بقاسم بن يحيى إلّا أنّها مجمع على العمل بها، و وجه توهّم دلالتها على كون اليد أصلًا لا أمارة قوله (عليه السّلام) في الذيل: «لو

لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق» لأنّه يستفاد منه أنّ جعل اليد حجّة و اعتبارها إنّما هو لأجل اختلال سوق المسلمين بدونه، لا لأجل كونها أمارة و كاشفة.

و لكن يرد عليه مضافاً إلى أنّ قوله (عليه السّلام): «فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك»؟ ظاهر في أنّ صيرورته ملكاً له إنّما هو لأجل كونه تحت استيلاء البائع، و يده الكاشفة عن ملكه ثمّ انتقاله إليه بالبيع، و لو لم تكن اليد أمارة على ثبوتها لما جاز الحلف على الملكية المترتّبة على الشراء بعد عدم ثبوتها للبائع أنّ التعليل في الذيل لا يدلّ على الأصلية؛ لاحتمال أن يكون ذلك حكمة لعدم ردع الشارع عن اعتبارها لا لأصل اعتبارها.

و بعبارة اخرىٰ حيث إنّ الأمارات العقلائية المعتبرة عند العقلاء يحتاج اعتبارها إلى عدم ردع الشارع عنها، و إلّا فلا أثر لها بنظر الشارع كقول الثقة الواحد في الموضوعات الخارجية حسب المختار من عدم حجّيته فيها و من المعلوم أنّ الردع و عدمه لا يكون إلّا لأجل وجود المصلحة و عدمها؛ ضرورة أنّه لا يكون

______________________________

(1) الكافي: 7/ 387 ح 1، الفقيه: 3/ 31 ح 92، تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 695، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 292، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 25 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 290

..........

______________________________

جزافيّاً و من غير جهة، فلا بدّ أن يكون عدم ردع الشارع مسبّباً عن أمر، و قد بيّن في الرواية ذلك الأمر و هو: اختلال سوق المسلمين بدونه.

و رواية مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول: كلّ شي ء هو لك حلال حتى

تعلم أنّه حرام بعينه فتدعه من قبل نفسك، و ذلك مثل الثوب يكون عليك قد اشتريته و هو سرقة، أو المملوك عندك و لعلّه حرّ قد باع نفسه، أو خدع فبيع قهراً، أو امرأة تحتك و هي أُختك أو رضيعتك، و الأشياء كلّها على هذا حتى يستبين لك غير ذلك، أو تقوم به البيّنة «1».

و هذه الرواية التي وصفها الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) في رسائله بكونها موثّقة «2» هي العمدة في التوهّم المذكور، و وجه استفادة اعتبار اليد عند الشارع بعنوان الأصل لا الأمارة قوله (عليه السّلام): «كلّ شي ء لك حلال ..» فإنّه ظاهر في أنّ الحكم بالحلّية مترتّب على الشي ء الذي شك في حلّيته و حرمته، كما يدلّ عليه الغاية؛ و لذا استدلّ به لأصالة الحلية في مورد الشك فيها و في الحرمة، فموضوع الحكم الشي ء المشكوك بوصف كونه مشكوكاً، و من المعلوم أنّ هذا شأن الأحكام الظاهرية و الأصول العملية؛ لأنّها قواعد مجعولة للشاك بما هو شاك يحتمل كلا الطرفين.

و أمّا الأمارة فمرجع اعتبارها إلى إلغاء احتمال الخلاف و جعله كالعدم، و حينئذٍ نقول: إنّه بعد بيان هذه القاعدة الكلّية المعبّر عنها بأصالة الحلية قد بيّن في الرواية بعض مصاديقها كالثوب المشتري الذي يحتمل أن يكون سرقة، و العبد المبتاع

______________________________

(1) الكافي: 5/ 313 ح 40، تهذيب الأحكام: 7/ 226 ح 989، و عنهما وسائل الشيعة: 17/ 89، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 4 ح 4.

(2) فرائد الأُصول: (تراث الشيخ الأعظم) 2/ 351 و 389- 390.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 291

..........

______________________________

الذي يحتمل أن يكون خُدع فبيع، و من الواضح أنّ انطباق تلك القاعدة

على هذا القبيل من الأمثلة لا يكاد يتم إلّا مع اعتبار اليد بعنوان الأصل لا الأمارة، كما لا يخفى.

و يرد عليه أنّه لا بدّ أن تحمل الأمثلة المذكورة في الرواية على أنّها إنّما أتى بها بعنوان التنظير و التمثيل، لا بعنوان بيان بعض المصاديق، و إلّا فلو كانت تلك الأمثلة من مصاديق أصالة الحلية التي يدلّ عليها الصدر كما عرفت؛ لأمكن المناقشة في الكلّ بعدم كون شي ء منها مجرى أصالة الحلية، لوجود أصل حاكم عليها موافق أو مخالف، كاستصحاب عدم تحقّق الملكية بالنسبة إلى الثوب و المملوك في المثالين المتقدّمين، لأصالة الفساد في المعاملة في الشبهة الموضوعية، و استصحاب عدم تحقّق الرضاع في الزوجة، التي يحتمل أن تكون محرماً لأجل الرضاع و استصحاب عدم تحقق الأختية بناءً على مبنى المحقّق الخراساني من جريان استصحاب عدم القرشية «1»، و عدم تحقّق الزوجية، بناءً على ما هو الحقّ من عدم جريان الاستصحاب المزبور، و هكذا.

و بالجملة لا محيص عن الالتزام بعدم كون المورد من موارد التطبيق، بل في مقام التنظير و التمثيل، و إن كان الالتزام بذلك في نفسه مشكلًا.

ثمّ إنّ في الرواية دلالة على أمر آخر و إن كان غير مربوط بالمقام و هي الدلالة على ثبوت اصطلاح خاصّ للشارع في عنوان البيّنة، لعطفها على الاستبانة الدالّ على المغايرة، فتدبّر جيّداً.

و قد تحصّل من جميع الطوائف من الروايات الواردة في اليد: أنّه لا بدّ من الأخذ

______________________________

(1) كفاية الأصول: 216.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 292

..........

______________________________

بمقتضى الطائفة الأُولى الظاهرة في الاعتبار و الحجية بنحو الكاشفية و الأمارية، لأنّه لا معارض لتلك الطائفة؛ لعدم كون الطائفة الثانية دالّة على الأمارية و

الأصلية فلا تنافي الطائفة الأُولى، و عدم دلالة الطائفة الثالثة على الأصلية كما عرفت، فاللازم الأخذ بالطائفة الأُولى المتعرّضة لجهتين: الحجية و كونها أمارة، كما هو الأمر كذلك عند العقلاء على ما تقدّم.

و يؤيّد أمارية اليد أنّها لو كانت أصلًا شرعياً معتبراً لم يكن وجه لتقدّمها على الاستصحاب المخالف الجاري في أكثر مواردها؛ لأنّ كليهما حينئذٍ من الأُصول التنزيلية، كما عرفت من المحقّق البجنوردي (قدّس سرّه) «1»، و لو كانت أمارة معتبرة، لا مجال للمناقشة في تقدّمها على الاستصحاب؛ لأنّ الأمارة حاكمة على الأصل الموافق أو المخالف، كما قرّر في محلّه «2».

الأمر الثالث: في مقدار حجّية القاعدة و موارد جريانها، فإنّه قد وقع الاختلاف في جملة من الموارد، و هي كثيرة:

منها: المنافع، فإنّه قد وقع الإشكال في جريان قاعدة اليد فيها، و لكنّ الظاهر هو الجريان؛ لإطلاق قوله (عليه السّلام) في موثقة يونس المتقدّمة: «مَن استولى على شي ء منه فهو له» فإنّ الضمير في منه و إن كان يرجع إلى المتاع المردّد بين الزوج و الزوجة، إلّا أنّ المستفاد منه أنّ الموجب للحكم بالملكية هو الاستيلاء الكاشف عنها، فالضابطة الكلية تجري بالإضافة إلى جميع الأشياء.

______________________________

(1) في ص 283.

(2) سيرى كامل در اصول فقه: 15/ 540- 571.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 293

..........

______________________________

و من الواضح أنّ المنافع من جملة الأشياء، فإذا استولى على سكونة دار يكشف ذلك عن كونه مالكاً لمنفعة الدار، امّا مع ملك العين أو بدونه.

هذا، مضافاً إلى ظاهر الرواية المتقدّمة الواردة في الرحى، الذي كانت لرجل على نهر قرية و القرية لرجل، فأراد صاحب القرية أن يسوق إلى قريته الماء في غير هذا النهر المستلزم ذلك لتعطيل

الرحى؛ لتقوّمها بماء هذا النهر، حيث إنّه حكم (عليه السّلام) بوجوب اتقاء اللّٰه و العمل بالمعروف و عدم إضرار أخيه المؤمن، فالمنافع إنّما تكون كالأعيان من هذه الجهة.

هذا، و قد صرّح المحقّق النراقي (قدّس سرّه) في العوائد بعدم الشمول للمنافع، بل مقتضى ذيل كلامه عدم تحقّق اليد و الاستيلاء موضوعاً بالنسبة إلى المنافع، فإنّه بعد الاستدلال لعدم الشمول بالأصل، و عدم ثبوت الإجماع في غير الأعيان، و اختصاص الأخبار بها على اختلافها من حيث ظهورها في خصوص الأعيان أو إجمالها، أو عدم دلالتها على ما هو المطلوب من الأمارية، و بعد دعوى اختصاص صدق اليد حقيقة بالأعيان؛ لأنّها المتبادر عرفاً من لفظ اليد و الاستيلاء، قال: بل هنا كلام آخر و هو: أنّ اليد و الاستيلاء إنّما هو في الأشياء الموجودة في الخارج القارّة. و أمّا الأُمور التدريجية الوجود غير القارة كالمنافع، فلو سلّم صدق اليد و الاستيلاء عليها فإنّما هو فيما تحقّق و مضى، لا في المنافع المستقبلة التي هي المراد هنا «1».

و أجبنا عنه في «القواعد الفقهية» بما يرجع تارةً إلى النقض بأصل الملكية؛ فإنّه

______________________________

(1) عوائد الأيّام: 745، الموضع السادس.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 294

..........

______________________________

لو لم تكن المنفعة التي وجودها تدريجي قابلة لأن يتعلّق بها الاستيلاء، و تقع مورداً للسلطة و اليد باعتبار كون وجودها غير قارٍ، لم تكن قابلة لأن تقع مملوكة أيضاً؛ لعدم الفرق بين الملكية و الاستيلاء من هذه الجهة أصلًا، مع أنّ تعلّق الملك بها مضافاً إلى بداهته لا يلتزم القائل باستحالته كما هو ظاهر. و نزيد هنا أنّ لازم ذلك عدم إمكان تحقّق غصب المنافع الخالي عن غصب الأعيان؛ لما

عرفت «1» من أنّ حقيقة الغصب هو الاستيلاء على مال الغير عدواناً، مع أنّ تعلّق الغصب بخصوص المنافع ممكن.

و أُخرى إلى الحلّ، و هو: أنّ المراد بالاستيلاء المساوق لليد ليس هو الاستيلاء الحقيقي حتى يمنع تعلّقه بالأمر غير الموجود، بل الاستيلاء الاعتباري الذي يعتبره العقلاء في موارده و يستتبعه الاختصاص، و هذا لا مانع من أن يتعلّق بالأمر الذي لا يكون موجوداً بالفعل، كما أنّ الملكية المتعلّقة به أمر اعتباري، و نسبة معتبرة عند العقلاء بين المالك و المملوك، فالظاهر إمكان تحقّق الاستيلاء و اليد بالإضافة إلى المنافع، كما في الملكيّة ..

و أمّا ما قيل: من أنّ المراد باليد هي السيطرة و الاستيلاء الخارجي، سواء كان هناك معتبر في العالم أم لا؛ إذ اليد بالمعنى المذكور من الأُمور التكوينية الخارجية، و ليست من الأُمور الاعتبارية، و لذلك تتحقّق اليد من الغاصب، مع أنّه لا اعتبار لا من طرف الشارع و لا من طرف العقلاء، و القول بأنّه باعتبار نفسه شطط من الكلام يدفعه أنّ الاعتبار المفقود في الغاصب هو اعتبار الملكية لا اعتبار كونه في يده و هو مستول عليه.

______________________________

(1) في ص 280 و 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 295

..........

______________________________

كيف و قد حكم الشارع بضمانه بقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتى تؤدّي» «1» فإنّه مع عدم اعتبار كونه مأخوذاً لليد و هي أخذته لا معنى للحكم بضمانه، و الإنصاف كما عرفت في الأمر الأوّل أنّها ليست من الأُمور التكوينية المتحقّقة مع قطع النظر عن الاعتبار، بل أمر متحقّق به، كما تقدّم نظير الفوقية و التحتية.

نعم يبقى الإشكال في أنّ الاستيلاء المتعلّق بالمنافع هل

هو استيلاء مستقلّ في قبال الاستيلاء المتعلّق بالأعيان، بحيث يكون لمالك العين و المنفعة استيلاءان يكشف كلّ منهما في عرض واحد عن ملكيّة المستولي بالنسبة إلى المستولي عليه، الذي هو العين في أحدهما و المنفعة في الآخر، أو أنّ يد صاحب المنافع عليها تبعية في طول الاستيلاء المتعلق بالأعيان، أو أنّه لا يكون هنا إلّا استيلاء واحد متعلق بالأعيان، غاية الأمر أنّه يكشف عن ملكية العين و المنفعة جميعاً، أو أنّه لا يكشف إلّا عن ملكية العين، غاية الأمر أنّ ملكية العين تكشف عن ملكية المنافع، فهي مكشوفة لا بأصل الاستيلاء المتعلّق بالعين، بل بالملكية المتعلّقة بالعين المنكشفة بسبب الاستيلاء المتعلّق بها؟ وجوه و احتمالات متصوّرة بحسب التصور الابتدائي و النظر البدوي.

و لكنّ الظاهر هو الاحتمال الثاني؛ لابتناء الأخيرين على عدم تعلّق الاستيلاء بالمنافع، و قد عرفت وقوعه فضلًا عن إمكانه، و أمّا الاحتمال الأوّل فهو أيضاً خلاف ما هو المعتبر عند العقلاء، فإنّهم لا يعتبرون الاستيلاء بالنسبة إلى المنافع إلّا تبعاً للاستيلاء المتعلق بالأعيان «2».

______________________________

(1) تقدّم في ص 199.

(2) القواعد الفقهيّة: 1/ 387- 389.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 296

..........

______________________________

هذا، و يمكن دعوى استقلال الاستيلاءين فيما إذا كان للعين مالك و للمنفعة مالك آخر، كالعين المستأجرة، فإذا كانت العين الكذائية تحت استيلاء زيد مثلًا و منفعتها تحت يد عمرو، كذلك يكون هناك استيلاءان، و يكشف كلّ استيلاء عن ملكية صاحبه، بخلاف ما إذا كان هناك مالك واحد، فإنّه ليس هناك إلّا استيلاء واحد و الآخر تبع.

هذا، و قد فصل المحقّق البجنوردي في كتابه القواعد الفقهية المشتمل على سبعة مجلّدات في المنافع بما يرجع إلى أنّه تارة يكون المدّعى

هو المالك باعتراف ذي اليد، بأن يقول مثلًا: يا زيد المدّعى هذه الدار التي في يدي ملكك، و لكنّها في إجارتي إلى سنة مثلًا، و أُخرى يكون المدّعى أجنبيّا أي ليس بمالك، مثل أن يدّعي شخص آخر و يقول: في إجارتي لا إجارتك، ففي الثاني تكون اليد حجّة في مقابل الأجنبي دون الأوّل أي في مقابل المالك، نظراً إلى أنّ المدّعى لو كان هو المالك فحيث إنّ ذا اليد معترف بأنّ يده أمانية و من قبل المالك ففي الحقيقة يده يد المالك، فلا مجال للمخاصمة مع المالك؛ لأنّه أسقطها عن الاعتبار بالنسبة إليه باعترافه أنّ يده أمانية، و أمّا بالإضافة إلى الأجنبي فلا، من جهة أنّ اليد موجودة على الفرض، و لم يصدر من ذي اليد اعتراف يضرّ بأماريتها بالنسبة إلى الأجنبي.

نعم تبقى المطالبة بدليل على اعتبار هذه اليد التبعية، ثمّ اختار أنّه لو كان المدرك هو الأخبار أو الإجماع فإثبات الاعتبار مشكل في الأوّل و معلوم العدم في الثاني،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 297

..........

______________________________

و لو كان المدرك هو بناء العقلاء يتعيّن التفصيل المذكور «1».

أقول: الظاهر كما سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى أنّ يد المستأجر إنّما هي يد المؤجر، كما أنّه قد مرّ «2» أنّ اليد على المنافع و الاستيلاء عليها إنّما هي بتبع اليد على العين و في طولها، لكنّ المراد بالأوّل هو ما إذا كانت اليد ملحوظة بالنسبة إلى أصل ملكية العين، بمعنى أنّ يد المستأجر كاشفة عن ملكية المؤجر للعين المستأجرة، كما أنّ يد المؤجر كاشفة عنها، و أمّا بالنسبة إلى المنفعة التي هي ملك للمستأجر بسبب الإجارة، فلا مجال لتوهّم كون يده يده كما

هو ظاهر، كما أنّ المراد بالثاني ما إذا كانت العين تحت يد المالك، فإنّه حينئذٍ يكون الاستيلاء على المنافع بتبع الاستيلاء على العين و في طولها.

و أمّا إذا كانت العين تحت يد المستأجر فلا تكون هذه التبعية بل تصير مثل أصل الملكيّة، فإنّ تبعيّة ملكية المنافع لملكيّة العين إنّما هي في مورد مالك العين، و أمّا بالنسبة إلى المستأجر فالملكيّة متحقّقة من دون أن يكون هناك تبعية أصلًا، و على ما ذكرنا لا يبقى مجال للتفصيل المذكور، فإنّ اليد كاشفة عن ملكية المنافع سواء كانت المخاصمة مع المالك أو الأجنبي.

و أمّا الإشكال في شمول الأخبار لليد على المنافع فقد عرفت الجواب عنه، و أنّ بعض الروايات واردة في خصوص المنفعة، فلا فرق بين أن يكون المدرك الأخبار أو بناء العقلاء. نعم قد عرفت «3» المناقشة في أصل اعتبار الإجماع في القاعدة، بأنّه

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة للبجنوردي: 1/ 150- 152.

(2) تقدّم في ص 292- 293.

(3) في ص 281.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 298

..........

______________________________

لا أصالة له و لا يكشف عن موافقة المعصوم (عليه السّلام).

و من جملة موارد الخلاف ما أفاده الماتن (قدّس سرّه) بقوله: بل الظاهر الحكم بملكية ما في يده و لو لم يعلم أنّه له إلخ.

و الوجه في الاستظهار المزبور إطلاق قوله (عليه السّلام) في موثقة يونس المتقدّمة: «و من استولى على شي ء منه فهو له»، و لكنّه ربما يناقش «1» في الاستدلال بها بأنّ الظاهر من هذه الرواية أنّه (عليه السّلام) حكم في مقام مخاصمة الزوج مع الزوجة، بأنّ كلّ واحد منهما إذا كان مستولياً على شي ء من متاع البيت فهو له، فلا إطلاق لها يشمل صورة

عدم التنازع و عدم وجود مدّع في البين.

و يدفع هذه المناقشة مضافاً إلى أنّ المفروض في الرواية موت أحد الزوجين، فلا معنى للمخاصمة بينهما أنّه على تقدير التصحيح بأنّ المراد ورثة الميت لأحد الزوجين الحيّ، لم يفرض في الرواية التخاصم و التنازع بوجه، بل قد عرفت «2» أنّ ذيل الرواية يدل على قاعدة كلية و ضابطة عامة، سواء كان مشتملًا على كلمة «منه» أم لا، و هي تشمل صاحب اليد أيضاً إذا لم يكن عالماً بالخلاف، كما لا يخفى.

نعم ربما يستدلّ على الخلاف بصحيحة جميل بن صالح المتقدّمة «3»؛ لأنّه (عليه السّلام) حكم فيها بالإضافة إلى ما وجده الرجل في داره من الدينار مع دخول الغير فيها بأنّه لقطة، و مرجعه إلى عدم الاختصاص بالرجل صاحب البيت و الدّار، و أيضاً علّل (عليه السّلام) كون ما وجده في الصندوق المختصّ له بما يفيد العلم بأنّه ليس لغيره؛ لعدم

______________________________

(1) المناقش هو السيّد البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 152.

(2) في ص 283.

(3) في ص 285 286.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 299

..........

______________________________

إدخال أحد يده فيه غيره، و بموثقة إسحاق بن عمّار قال: سألت أبا إبراهيم (عليه السّلام) عن رجل نزل في بعض بيوت مكّة، فوجد فيها نحواً من سبعين درهماً مدفونة، فلم تزل معه و لم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال: يسأل عنها أهل المنزل لعلّهم يعرفونها. قلت: فإن لم يعرفوها؟ قال: يتصدّق بها «1».

نظراً إلى أنّه لا شك في أنّ الدراهم كانت في تصرّف أهل المنزل و تحت أيديهم، و لو كانت يدهم حجّة لكان اللّازم مع عدم المعرفة الردّ إليهم لا التصدّق بالدراهم، كما هو الظاهر.

أقول:

أمّا الصحيحة فالظاهر عدم دلالتها على مرام المستدلّ؛ لأنّ الظاهر أنّ سؤال الإمام (عليه السّلام) عن أنّه هل يدخل منزله غيره أم لا كان لأجل افتراق الصورتين في الحكم، ضرورة أنّه لا مجال للاستفصال مع الاشتراك، و حينئذٍ يستفاد أنّ دخول الغير منزل الرجل له دخل في الحكم بكون الدينار الذي وجده الرجل لقطة و لو لم يكن كذلك لم يكن كذلك، بل هو لصاحب المنزل المستولي عليه، و من الظاهر أنّ الحكم باللقطة في الصورة الأولى إنّما هو لأجل أنّه مع دخول الغير، خصوصاً إذا كان الداخل كثيراً لا يكون للرجل استيلاء على المنزل، خصوصاً مع كون المتعارف في الدراهم و الدنانير أنّ لهما موضعاً مخصوصاً بعيداً عن أيدي الداخلين و أنظارهم، و هذا النحو من المنازل كثير كالدفاتر و المكاتب للمراجع مثلًا، كما أنّ التفصيل فيما لو وجد في صندوقه ديناراً بين ما يدخل أحد غيره يده فيه و بين غيره، ليس لأجل أنّه مع عدم إدخال الغير يده فيه يحصل له العلم بكونه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 391 ح 1171، و عنه وسائل الشيعة: 25/ 448، كتاب اللقطة ب 5 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 300

..........

______________________________

ملكاً له، ضرورة أنّه قد يحصل له الشك و إلّا لم يكن مجال للسؤال، بل لأجل أنّه مع انحصار التصرّف في الصندوق به نفسه يكون هو المستولي فقط، و أما مع إدخال الغير يده فيه الذي يكون كناية عن استيلاء الغير أيضاً لا يكون الاستيلاء له فقط.

و أمّا الموثقة فالظاهر أيضاً عدم تمامية الاستدلال بها؛ لأنّ بيوت مكّة في الموسم تكون أكثرها منزلًا للحجّاج كما في هذه الأزمنة، مع

شدّة و كثرة عددها، فكيف بالأزمنة السابقة؟ و من المعلوم أنّ في تلك الأيّام لا يبقى لصاحب المنزل استيلاء على ما في منزله خصوصاً بالنسبة إلى الدراهم التي وجدها الرجل مدفونةً، فإنّ الظاهر أنّه ليس المراد بالدفن إلّا كونها مستورة تحت رماد و نحوه، ممّا هو من آثار من دخل في المنزل قبل هذا الرجل ممّن هو مثله، لأنّ الرجل المسافر لا يكون من شأنه الإقدام على حفر منزل غيره.

و بالجملة: فالحكم بالتصدّق مع عدم معرفة أهل تلك البيوت ليس لأجل عدم اعتبار يد المستولي بالنسبة إلى نفسه، بل لأجل عدم تحقّق الاستيلاء في مثله، فتدبّر.

بقي في أصل المسألة أمور ينبغي التعرّض لها:

أحدها: عدم اختصاص اعتبار اليد و حجّيته بالإضافة إلى الأعيان و المنافع، بل يشمل الحقوق أيضاً، من دون فرق بين ما تعلّق منها بالأعيان المتموّلة، كحقّ الرهانة و حقّ التولية المذكور في المتن و نحوهما من الحقوق، و بين ما تعلّق منها بالأعيان غير المتمولة شرعاً، كحقّ الاختصاص المتعلّق بالخمر أو العذرة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 301

..........

______________________________

أو الميتة، و قد عرفت في المنافع «1» أنّه لا فرق بين ما كان في مقابل ذي اليد مالك العين أو الأجنبي.

و دعوى أنّ أدلّة اعتبار اليد لا تشمل الحقوق و إن كانت شاملة للمنافع؛ لأنّ الحقوق أمور اعتبارية صرفة معتبرة عند العقلاء و الشارع، أو خصوص الشارع، بخلاف المنافع فإنّها ليست اعتبارية، بل موجودة بتبع وجود العين، غاية الأمر أنّ وجود المنافع تدريجي بخلاف وجود العين.

مدفوعة بأنّ مقتضى إطلاق أكثر أدلّة الاعتبار الشمول للحقوق، و قوله (عليه السّلام) في موثّقة يونس المتقدّمة: «و من استولى على شي ء منه

فهو له» «2» لا يدلّ على الاختصاص بالعين أو المنفعة؛ لعدم ثبوت الملكية التي يدلّ عليها اللام في غيرهما، و ذلك مضافاً إلى ثبوت الملكية بالإضافة إلى الانتفاع في مثل العارية أيضاً، أنّ الظاهر كون اللام للاختصاص الذي هو أعمّ من الملكية؛ و ذلك لأنّ تخصيص متاع المرأة بالمرأة مع أنّه يمكن أن يكون عندها عارية لا ملكاً للمنفعة أو العين قرينة على المراد من اللام، بل يمكن أن يقال بورود الرواية الواردة في الرحى المتقدّمة «3» في الحقوق دون المنافع، لا أقل من أن يكون ترك الاستفصال في الجواب دليلًا على العموم، فتدبّر.

ثانيها: لا يشترط في دلالة اليد على الملكية و نحوها اقتران الاستيلاء و اجتماعها مع التصرّف المتوقّف على الملك مثلًا، فإنّك قد عرفت «4» أنّ حقيقة الغصب هو

______________________________

(1) في ص 296- 297.

(2) تقدمت في ص 282.

(3) في ص 286- 287.

(4) في ص 280- 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 302

..........

______________________________

الاستيلاء على مال الغير عدواناً سواء كان مقروناً مع التصرف أم لا، و أنّ المتّحد مع الصلاة في باب اجتماع الأمر و النهي هو التصرّف في الدّار المحرّم، و لو لم يكن التصرّف مع الغصب و هنا قد عرفت «1» أنّ المستفاد من الأدلّة أنّ المعتبر و الحجّة هو الاستيلاء الذي هو أمر اعتباري و لو بالإضافة إلى الغاصب بالنسبة إلى العين المغصوبة، فإنّ الاستيلاء متحقّق و الملكية غير معتبرة بوجه، فمجرّد الاستيلاء في المقام دليل على الملكية و نحوها.

ثالثها: لا يعتبر في دلالة اليد على الملكية دعوى المالك إيّاها، بل قد عرفت أنّ اليد معتبرة بالإضافة إلى المالك، إذا كان شاكّاً في الملكية، كالمال الذي

يجده في الدار الاختصاصية.

نعم يعتبر عدم العلم بعدم الملكية؛ لأنّ غاية الأمر أنّ اليد أمارة و لا مجال للأمارة مع العلم بخلافها، كما أنّه لا مجال لها مع العلم بوفاقها. و في باب قاعدة اليد مباحث اخرى مفصّلة ذكرناها في القواعد الفقهية فراجع «2» و إن كان الماتن (قدّس سرّه) سيتعرض لبعضها.

______________________________

(1) في ص 294 295.

(2) القواعد الفقهيّة: 1/ 374- 432.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 303

[مسألة 2: لو كان شي ء تحت يد وكيله أو أمينه أو مستأجرة فهو محكوم بملكيته]

مسألة 2: لو كان شي ء تحت يد وكيله أو أمينه أو مستأجرة فهو محكوم بملكيته، فيدهم يده، و أما لو كان شي ء بيد غاصب معترف بغصبيته من زيد، فهل هو محكوم بكونه تحت يد زيد أم لا؟ فلو ادّعى أحد ملكيته و أكذب الغاصب في اعترافه يحكم بأنّه لمن يعترف الغاصب أنّه له، أم يحكم بعدم يده عليه، فتكون الدعوى من الموارد التي لا يد لأحدهما عليه؟ فيه إشكال و تأمّل، و إن لا يخلو الأوّل من قوّة، نعم الظاهر فيما إذا لم يعترف بالغصبية، أو لم تكن يده غصباً، و اعترف بأنّه لزيد يصير بحكم ثبوت يده عليه (1).

______________________________

(1) قد مرّ «1» أنّه لو وقع التنازع و التخاصم بين المستولي على الدار الذي يدّعي كونه مستأجراً للدار، و بين المؤجر المالك للعين المنكر للاستيجار يكون القول قول المستأجر، لاستيلائه على المنفعة، و هي أمارة على ملكيته لها، و إن كان الطرف مالك العين، و منها يكون المفروض تنازع من يراه مالكاً مع شخص ثالث في أصل ملكية العين مع ثبوت الاستيجار منه و الاستيلاء للمستأجر. فهنا أشخاص ثلاثة: أحدها المستولي على الدار المستأجر من قبل أحدهما. ثانيها من يراه المستولي مالكاً

للعين و يدّعي الاستيجار منه. و الثالث الأجنبي الذي لا يكون بمستولٍ و لا من استأجرها المستولي منه، ففي هذه الصورة و مثلها تكون يد المستأجر يد الأجير، و حاكية عن ملكيته للعين في قبال الثالث الأجنبي؛ لأنّ يد المستأجر يد الموجر.

و يمكن أن يكون المراد صورة عدم التنازع أصلًا، و كان المراد أنّ يد الوكيل المحرز يد الموكِّل، و كذا الأمين و المستأجر المحرزين، و إن كان تفريع صورة التنازع

______________________________

(1) في ص 295 297.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 304

..........

______________________________

على ما إذا كانت اليد غصبية و كان الغاصب معترفاً بالغصبية من شخص خاصّ، يؤيّد أنّ المراد من فرض المسألة ما يشمل صورة التنازع أيضا كما لا يخفى، كما أنّ قوله في الذيل: «نعم الظاهر فيما لم يعترف بالغصبية» قرينة على العدم.

هذا، و يمكن المناقشة في ذلك بأنّ يد المستأجر إنّما تكون حجّة بالإضافة إلى نفسه؛ لفرض استيلائه على العين المستأجرة، فهي أمارة على ملكيّته و كاشفة عنها، و أمّا مع الاعتراف بأنّه استأجرها من زيد مثلًا، فغاية الدليل على اعتبار إقراره هي قاعدة: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» و قد عرفت غير مرّة «1» أنّ هذه القاعدة إنّما تفيد في خصوص الجهة السلبية، و هي عدم كون المال للمقرّ، و أمّا بالإضافة إلى الجهة الإيجابيّة، و هو كون زيد مثلًا مالكاً فلا تجدي القاعدة.

هذا بالإضافة إلى غير الغاصب، و أمّا بالنسبة إلى الغاصب، فإذا اعترف بأنّ العين المغصوبة إنّما كانت مغصوبة من زيد و هو المالك، فإذا ادّعى عمرو مثلًا ملكيّته لها، و أكذب الغاصب في اعترافه بكونها مغصوبةً من الأوّل، فهل يصير هذا الاعتراف بمنزلة كونها

في يد المغصوب منه الذي اعترف به، أو أنّ المورد من الموارد التي لا تكون يد لأحد من المتداعيين عليه، فقد استشكل الماتن (قدّس سرّه) و تأمّل في المسألة، و إن نفى بعده خلوّ الأوّل عن القوّة.

أقول: مقتضى ما وقع التسالم عليه من أنّ إقرار ذي اليد يقبل بالإضافة إلى أحد المتداعيين قبول إقرار الغاصب، و مجرّد كونه غاصباً لا يقتضي نفي استيلائه، لما عرفت من أنّ الاعتبار المفقود في الغاصب هو اعتبار الملكية لا اعتبار الاستيلاء و كونه ذا اليد، و إن وقع الإشكال في وجه هذا التسالم، و أنّ العلّة فيه هل هي قاعدة

______________________________

(1) في ص 117- 144.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 305

..........

______________________________

الإقرار أو قاعدة من ملك شيئاً ملك الإقرار به، أو ما أفاده المحقّق العراقي قدّس سرّه الشريف فيما حكي عنه من أنّ اليد أمارة على الملكية بالإضافة إلى ذي اليد بالدلالة المطابقية، و على نفي كونه للغير بالدلالة الالتزامية «1»؟ و هاتان الأمارتان تسقطان عن الحجّية بسبب الإقرار للغير، و أمّا بالإضافة إلى ما عداهما فأماريّتها باقية على حالها، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي ملكيته عن ذي اليد و عن غيره ما عدا المقرّ له.

و معلوم أنّ المال لا يبقى بلا مالك، و قد ناقشنا في «القواعد الفقهية» في جميع الوجوه الثلاثة «2»، إلّا أن يكون هناك إجماع على الأمر الذي وقع التسالم عليه، و معلوم أنّ الإجماع لو كان فإنّما هو في غير الغاصب الذي يعترف بغصبيّته؛ لأنّ القدر المتيقّن من الإجماع غيره، و الإجماع من الأدلّة اللبيّة التي لا إطلاق لها، و كذا لو فرض كون الوجه في التسالم المزبور هو

بناء العقلاء على الأخذ بإقرار ذي اليد إذا أقرّ أنّ ما في يده لشخص خاصّ، فإنّ هذا البناء على فرض ثبوته و جريانه في الشريعة لا إطلاق له يشمل إقرار الغاصب، كما لا يخفى، و إن استحسنه المحقّق البجنوردي (قدّس سرّه) «3».

فانقدح من جميع ما ذكرنا الخلل فيما أفاده في المتن، فتدبّر جيّداً، و أنّ الظاهر كون المورد من الموارد التي لا يكون لأحد المتداعيين يد عليه، و سيجي ء حكمه في المسألة الرابعة إن شاء اللّٰه تعالى.

______________________________

(1) حكاه عن المحقّق العراقي (قدّس سرّه) السيّد البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 164.

(2) القواعد الفقهيّة: 412- 414.

(3) القواعد الفقهيّة للبجنوردي: 1/ 165- 166.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 306

[مسألة 3: لو كان شي ء تحت يد اثنين فيد كلّ منهما على نصفه، فهو محكوم بمملوكيّته لهما]

مسألة 3: لو كان شي ء تحت يد اثنين فيد كلّ منهما على نصفه، فهو محكوم بمملوكيّته لهما. و قيل: يمكن أن تكون يد كلّ منهما على تمامه، بل يمكن أن يكون شي ء واحد لمالكين على نحو الاستقلال، و هو ضعيف (1).

______________________________

(1) لو اشترك أزيد من واحد في الاستيلاء على عين، فهل يكون استيلاء كلّ واحد على المجموع، أو على النصف المشاع أو الموارد مختلفة بنظر العرف؟ و على التقديرين الأوّلين، فهل تكون يد كلّ منهما مستقلّة تامّة أو لا تكون إلّا ناقصة؟ وجوه و احتمالات بحسب بادئ النظر و في التصوّر الابتدائي.

ذكر السيّد في ملحقات العروة ما هذا لفظه: إنّه لا مانع من اجتماع اليدين المستقلّتين على مال واحد، بل الأقوى جواز اجتماع المالكين المستقلّين لمال واحد، كما إذا كان ملكاً للنوع كالزكاة و الخمس و الوقف على العلماء و الفقراء على نحو بيان المصرف، فإنّ كلّ فرد من النوع مالك لذلك المال،

بل لا مانع من اجتماع المالكين الشخصين أيضاً، كما إذا وقف على زيد و عمرو، أو أوصى لهما على نحو بيان المصرف، فإنّه يجوز صرفه على كلّ واحد منهما.

فدعوى عدم معقولية اجتماع المالكين على مال واحد لا وجه له، مع أنّه لا إشكال عندهم في جواز كون حقّ واحد لكلّ من الشخصين مستقلا، كخيار الفسخ و كولاية الأب و الجدّ على مال الصغير. و من المعلوم عدم الفرق بين الحقّ و الملك، فكما أنّ لكلّ من الأب و الجدّ حقّ التصرّف في مال المولّى عليه، و أيّهما سبق لا يبقى مجال لتصرّف الآخر، و كذا لكلّ من الشخصين حقّ الفسخ، و أيّهما سبق بالفسخ لا يبقى محلّ لفسخ الآخر، فكذا في المالكين الكذائيين.

و دعوى أنّ مقتضى الملكية المستقلّة أن يكون للمالك منع الغير، و إذا لم يكن له منع الغير فلا يكون مستقلا، مدفوعة فإنّ هذا أيضاً نحو من الملكية المستقلّة،

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 307

..........

______________________________

و نظيره الوجوب الكفائي و التخييري في كونهما نحواً من الوجوب مع كونه جائز الترك «1». انتهىٰ.

أقول: أمّا كون الاستيلاء على عين استيلاءً على المجموع أو على النصف المشاع، فمع التوجّه إلى اعتبار الاستيلاء الذي عرفت «2» أنّه ليس المراد به الأمر الخارجي و السيطرة التكوينية، بل هو أمر اعتباري موجود حتى بالإضافة إلى الغاصب بالإضافة إلى اثنين تكون اليد الثابتة لكلّ واحد منهما مثلًا يداً على النصف المشاع، و إن كان بلحاظ السيطرة الخارجيّة ربما تكون يداً على المجموع، كما إذا وقع تقسيم البيت بلحاظ الأزمنة فقط، ففي كلّ زمان لا يكون المستولي إلّا واحداً، و الاستيلاء إنّما هو بالإضافة إلى المجموع،

و لكن مع الالتفات إلى ما ذكر لا يكون الاستيلاء الاعتباري إلّا بالإضافة إلى النصف المشاع، و لو في مثل المثال المزبور.

و أمّا ما أفاده السيّد (قدّس سرّه) من جواز اجتماع المالكين المستقلّين لمال واحد، فإن أُريد بالجواز هو الإمكان العقلي فالبحث لا يكون فيه، ضرورة أنّ التضادّ و أشباهه إنّما يلاحظ بالإضافة إلى الأُمور التكوينية، كالسواد و البياض؛ و لذا ذكرنا في الأُصول في بحث اجتماع الأمر و النهي «3» أنّ عمدة مقدّمات امتناع الاجتماع هو تضادّ الأحكام الخمسة التكليفيّة، كما ذكره المحقّق الخراساني (قدّس سرّه) في الكفاية «4»، مع أنّ التضاد بين الأحكام ممنوع؛ لعدم كون الأحكام الخمسة من الأُمور التكوينية

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 123 مسألة 4.

(2) في ص 279- 280.

(3) سيرى كامل در اصول فقه: 7/ 74 و ما بعدها 1.

(4) كفاية الأُصول: 193 مقدّمة 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 308

..........

______________________________

الخارجية، و لذا يمكن في الموالي العرفية أن يقع شي ء مورداً لأمر بعض الموالي و مورداً لنهي الآخر، و لا يتصوّر ذلك في مثل السواد و البياض، و إن أُريد الإمكان العرفي و العقلائي فالظاهر أنّه ممنوع.

توضيحه: أنّ الملكية المستقلّة عند العقلاء عبارة عن النسبة الخاصّة الحاصلة بين المالك و المملوك، و هذا الاعتبار مستتبع للاختصاص الذي هو لازم أعم للملكية، ضرورة أنّه قد يوجد بدونها، و لكنّه لا يمكن تحقّقها بدونه. و من الواضح أنّ الاختصاص مغاير للاشتراك تغاير الضدّين اللذين لا ثالث لهما، و حينئذٍ نقول: إنّ فرض جواز اجتماع المالكين المستقلّين على مال واحد مرجعه إلى فرض وجود الشي ء و عدمه في زمان واحد، و هو ممّا لا يمكن ضرورة.

و

أمّا الموارد التي استشهد بها على حصول اجتماع المالكين المستقلين على مال واحد، فالظاهر عدم كون شي ء منها من هذا الباب.

و توضيحه: انّ ما كان ملكاً للنوع لا يكون مالكه متعدّداً؛ لأنّ المالك هو النوع و هو غير متعدّد، و الأفراد بما أنّها أفراد متعدّدة و لها خصوصيات متكثّرة لا يكون مالكه أصلًا، و وجود الطبيعي و إن كان وجود أفراده، إلّا أنّ الفرد هو الطبيعي مع انضمام الخصوصيات الفردية؛ و لذا يكون زيد و عمرو إنسانين لا إنساناً واحداً، و عليه فملكية النوع لا تستلزم ملكية الفرد.

و دعوى أنّه لا يعقل كون غير ذوي العقول مالكاً معتبرة له النسبة التي هي الملك، مدفوعة بمنع عدم التعقّل، بل هو واقع جدّاً، ضرورة أنّه في مورد الوقف على المساجد لا يكون المالك للعين الموقوفة إلّا المسجد، و كذلك في الوقف على الضرائح المقدّسة و المشاهد المشرّفة.

و عليه ففرق في المقام بين ما إذا ملك السيّد الدار مثلًا بالبيع و نحوه و بين ملكه

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 309

..........

______________________________

لسهم السادة، فإنّه في الأوّل يكون المالك له هو الشخص الذي هو النوع بانضمام الخصوصيّة الفرديّة، و في الثاني يكون المالك هو النوع مع قطع النظر عن الخصوصيات الفردية، و هكذا في الزكاة و في مثل الوقف على العلماء أو الفقراء مثلًا.

و الفرق بين الحقّ و الملك هو الاعتبار العقلائي، و الشاهد عليه أنّه لو قامت بيّنة على ملكية زيد للمال بتمامه، و بيّنة اخرى على ملكية عمرو له كذلك، لا تكون البيّنتان إلّا متعارضتين متكاذبتين، بخلاف ما إذا قامت بيّنة على ثبوت حقّ الفسخ للبائع، و بيّنة اخرى على ثبوت

حقّ الفسخ للمشتري، فإنّه لا مانع من الجمع بين البيّنتان و ثبوت الحقّين للبائع و المشتري معاً.

و أمّا ثبوت الولاية على الصغير للأب و الجدّ له، فمرجعه إلى ثبوت حقّ التصرّف في ماله أو في نفسه، بمثل التزويج لكلّ منهما، و إذا سبق أحدهما بالتصرّف لا يبقى مجال للآخر؛ لعدم الموضوع، فلا يرتبط بما نحن فيه.

و أمّا في مثل الوقف على زيد و عمرو بنحو بيان المصرف، فإمّا أن يكون الموقوف عليه هو عنوان أحد الشخصين، كالنوع على ما ذكرنا، و إمّا أن يكون بنحو الاشتراك و الملكيّة غير المستقلّة، و لا مجال للجمع بين المالكين المستقلّين عرفاً.

فتلخّص أنّ اليدين على مال واحد أمارتان على ملكية كلّ منهما للنصف المشاع.

و بعد ذلك يقع الكلام في حقيقة الكسر المشاع و إمكان الإشاعة و بيان حقيقتها.

فنقول:

أوّلًا: أنّ الجهل بحقيقة الإشاعة على تقديره لا يمنع من الالتزام بوجودها بعد شيوعها بين العرف و العقلاء، ضرورة أنّ المالكيّة الاشتراكيّة المعتبرة عند العقلاء

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 310

..........

______________________________

فوق حدّ الإحصاء، و المسألة غير مبتنية على المسألة الاختلافية بين الفلاسفة و المتكلّمين من بطلان الجزء الذي لا يتجزّأ و عدم بطلانه، ضرورة أنّ المتكلّم القائل بعدم بطلان الجزء غير القابل للتجزّي، لا يأبى من الاشتراك في الملك بداهة.

و ثانياً: أنّ الظاهر أنّ الإشاعة أمر اعتباري عقلائي تتصف بها العين الخارجيّة في الخارج، و إن كان وعاء الاعتبار الذهن.

توضيح ذلك: أنّ الكسر المشاع لا يعقل أن يكون أمراً عينيّاً خارجيّاً، ضرورة أنّ الموجود في العين يستحيل أن يكون مبهماً لا معيّناً؛ لأنّ الوجود مساوق للتعيّن الذي هو نقيض الإبهام، و تردّد الشبح الجائي من

بعيد بين زيد و عمرو مثلًا لا يستلزم الإبهام فيه بحسب الواقع؛ لأنّه معيّن بحسبه، غاية الأمر أنّه مجهول لنا، فالواقع المعيّن مردّد بين كونه زيداً أو عمراً. فالكسر المشاع لا يعقل أن يكون أمراً خارجيّاً، كما انّه يستحيل أن يكون منتزعاً منه؛ لأنّ العين التي لا تشوبها شائبة الإبهام لا يعقل أن تكون منشأً لانتزاع اللّامُعيّن، الخالي عن جميع شئون التعيّن.

فلا بدّ من أن يقال: إنّ الكسر المشاع هو أمر اعتباري يعتبره العقلاء في وعاء الاعتبار الذي هو الذهن، و إن كان ظرف الاتصاف به هو الخارج، فالموجود الخارجي متّصف في الخارج بأنّه له نصفان مثلًا، و هذا نظير ما قاله الحكماء: من أنّ اتصاف الماهيّة بالإمكان في الخارج و إن كان العروض في الذهن، و إلّا يلزم التسلل و نحوه، بل الأمر في جميع الأُمور الاعتبارية التي لها مساس بالخارج يكون كذلك، كالمالكية و المملوكية و الزوجية و نحوها، و قد فصّلنا القول في حقيقة الإشاعة في كتابنا القواعد الفقهية «1»، من أراد التحقيق أزيد ممّا ذكر فليراجعها.

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة: 1/ 424- 425.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 311

[مسألة 4: لو تنازعا في عين مثلًا]

مسألة 4: لو تنازعا في عين مثلًا، فإن كانت تحت يد أحدهما فالقول قوله بيمينه، و على غير ذي اليد البيّنة، و إن كانت تحت يدهما فكلّ بالنسبة إلى النصف مدّع و منكر، حيث إنّ يد كلّ منهما على النصف، فإن ادّعى كلّ منهما تمامها يطالب بالبيّنة بالنسبة إلى نصفها، و القول قوله بيمينه بالنسبة إلى النصف، و إن كانت بيد ثالث فإن صدّق أحدهما المعيّن يصير بمنزلة ذي اليد، فيكون منكراً و الآخر مدّعياً، و لو صدّقهما

و رجع تصديقه بأنّ تمام العين لكلّ منهما يلغى تصديقه، و يكون المورد ممّا لا يد لهما، و إن رجع إلى أنّها لهما بمعنى اشتراكهما فيها يكون بمنزلة ما تكون في يدهما، و إن صدّق أحدهما لا بعينه لا تبعد القرعة، فمن خرجت له حلف، و إن كذَّبهما و قال: هي لي تبقى في يده و لكلّ منهما عليه اليمين، و لو لم تكن في يدهما و لا يد غيرهما و لم تكن بيّنة فالأقرب الاقتراع بينهما (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة التي يكون المفروض فيها تنازع اثنين في عين مثلًا تُتصوّر فروض:

الفرض الأوّل: ما إذا كانت العين تحت يد أحدهما فقط، و الحكم فيه أنّه إذا كانت لغير ذي اليد البيّنة يحكم بها له، و إلّا فالقول قول ذي اليد بيمينه، و يدلّ عليه مضافاً إلى أنّ المورد من موارد المدّعى و المنكر بأيّ معنى أُريد من العنوانين، سواء وقع التفسير بمن لو ترك ترك، أو من يكون قوله مخالفاً للأصل الشامل للأمارة، أو كان المرجع في معناهما هو العرف كما اخترناه سابقاً «1»، فإنّ المدّعى في جميع التفاسير هو غير ذي اليد و المنكر هو ذو اليد خصوص ما حكاه

______________________________

(1) في ص 85.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 312

..........

______________________________

في الوسائل من تفسير علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن عثمان بن عيسى و حمّاد بن عثمان جميعاً، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث فدك: إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) قال لأبي بكر: أ تحكم فينا بخلاف حكم اللّٰه في المسلمين؟ قال: لا، قال: فإن كان في يد المسلمين شي ء يملكونه ادّعيت أنا

فيه مَن تسأل البيّنة؟ قال: إيّاك كنت أسأل البيّنة على ما تدّعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شي ء فادّعى فيه المسلمون، تسألني البيّنة علىٰ ما في يدي؟ و قد ملكته في حياة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) و بعده، و لم تسأل المؤمنين البيّنة على ما ادّعوا عليّ، كما سألتني البيّنة على ما ادّعيت عليهم إلى أن قال: و قد قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر «1».

و المراد بقوله (عليه السّلام): «شي ء يملكونه» هو الملكية ادّعاءً، و إلّا فمع العلم بذلك لا مجال للدعوى عليه، كما لا يخفى.

و هذه الرواية المعتبرة هي الرواية الوحيدة ظاهراً، الحاكية لقول رسول اللّٰه: «من أنكر» بدل من ادّعي عليه، على ما في إحدى نسختي التفسير المزبور، كما أنّ التمسّك بقول الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) يدلّ على أنّ المورد من موارد المدّعى و المنكر، و أنّ على الأوّل البيّنة و على الثاني اليمين. و كيف كان فالحكم في هذا الفرض واضح لا ريب فيه.

الفرض الثاني: ما لو كانت العين المتنازع فيها تحت يد كلّ منهما، و الظاهر وقوع الكلام فيه في مرحلتين:

المرحلة الأُولى: الحكم بالتنصيف بينهما و عدمه.

______________________________

(1) تقدّم في ص 287- 288.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 313

..........

______________________________

و المرحلة الثانية: الافتقار إلى الحلف بالإضافة إلى كلّ منهما و عدمه.

قال المحقّق في الشرائع: لو تنازعا عيناً في يدهما و لا بيّنة، قضي بها بينهما نصفين، و قيل: يحلف كلّ منهما لصاحبه «1».

و في الجواهر «2» نفى وجدان الخلاف، بل ثبوت الإجماع بقسميه بالإضافة إلى المرحلة الأُولى، مضافاً

إلى المرسل العامي النبويّ: أنّ رجلين تنازعا دابّة ليس لأحدهما بيّنة فجعلها النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله) بينهما نصفين «3». و حكى في الجواهر القول الذي حكاه المحقّق عن الأكثر بل المشهور على ما اعترف به في غاية المرام «4»، بل ذكر أنّ في المسالك و الكفاية لم ينقل الأكثر فيه خلافاً «5». نعم استظهر نفسه عدم ثبوت الحلف عن المحقّق و محكي الخلاف و الغنية و الكافي و الإصباح «6»، «7».

و كيف كان، فالظاهر أنّه لا مجال للإشكال في أنّ الحكم بالنسبة إلى المرحلة الاولى هو التنصيف بعد ادعاء كلّ منهما ملكية تمام العين، و كونها في يد كلّ منهما من دون تفاوت، و عدم ثبوت البيّنة لأحدهما، فإنّه مع ملاحظة هذه الأُمور لا ترجيح لأحدهما على الآخر بوجه، و المفروض عدم ادّعاء ثالث بالإضافة إليها، فلا مجال إلّا للتنصيف، و يؤيّده النبويّ المزبور المنجبر بالشهرة بل فوقها، كما عرفت في

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 110.

(2) جواهر الكلام: 40/ 402.

(3) السنن الكبرى للبيهقي: 15/ 398 ح 21819 باختلاف.

(4) غاية المرام: 4/ 257.

(5) مسالك الأفهام: 14/ 78، كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 725.

(6) الخلاف: 6/ 329، غنية النزوع: 444، الكافي في الفقه: 440، إصباح الشيعة: 531.

(7) جواهر الكلام: 40/ 403.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 314

..........

______________________________

كلام الجواهر.

و أمّا بالإضافة إلى المرحلة الثانية، فالظاهر ابتناء المسألة على كون المورد في هذا الفرض من موارد المدّعى و المنكر حتى يشمله قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه» «1»، أو من مصاديق التداعي حتى لا تحتاج إلى الحلف، و يبتنى

ذلك على ما تقدّم في المسألة الثالثة المتقدّمة: من أنّ ثبوت يد اثنين على شي ء واحد مرجعه إلى ثبوت يد كلّ منهما على النصف المشاع، أو إلى ثبوت يد كلّ منهما على التمام، و قد اخترنا الأمر الأوّل تبعاً للماتن (قدّس سرّه)، فعليه يكون المورد من موارد المدّعى و المنكر؛ لثبوت يد كلّ منهما على النصف المشاع، فبالإضافة إلى النصف يكون ذا اليد، و بالإضافة إلى النصف الآخر يكون مدّعياً؛ لخروجه عن تحت يده بنظر العقلاء على ما عرفت، و على الاحتمال الآخر الذي ضعّفناه و إن اختاره السيد في ملحقات العروة، بل أجاز اجتماع مالكين مستقلّين بالنسبة إلى شي ء واحد، كما تقدّم البحث عنه «2» يكون المورد من موارد التّداعي؛ لأنّ المال في يدهما بأجمعه، و لا تكون هناك بيّنة، فيكون بينهما نصفين من دون حاجة إلى الحلف.

ثمّ إنّ السيّد المزبور أفاد في الملحقات أنّ التحقيق: التفصيل بين ما إذا كانت يد كلّ منهما على النصف و بين ما إذا كانت على الكلّ مستقلا، إذ قد عرفت يعني في كلامه اختلاف الموارد في ذلك. ففي الصورة الأُولى تجري قاعدة المدّعى و المنكر، إذ يصدق على كلّ منهما أنّه

______________________________

(1) تقدّم في ص 84- 85.

(2) في المسألة الثالثة هنا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 315

..........

______________________________

مدع في النصف و منكر في النصف الآخر، و لا ينفع كون كلّ جزء يفرض يد كلّ منهما عليه؛ لأنّها ليست يداً مستقلّة. و في الصورة الثانية التنصيف؛ لما ذكر من كونه من التداعي لا المدّعى و المنكر «1». انتهى موضع الحاجة.

و مراده بالتنصيف هو التنصيف من دون حلف؛ لما عرفت من أنّ أصل التنصيف

ممّا لا ريب فيه و لا خلاف، و لم يعلم الفرق بين الصورتين بعد كون المفروض في مورد البحث هو ثبوت اليد على التمام بالإضافة إلى كليهما، و لا يقدح في ذلك ثبوت التقسيم بلحاظ الزمان، بأن تكون العين بأجمعها في برهة من الزمان كشهر مثلًا بيد واحد و في برهة أخرى بيد آخر؛ لأنّ المفروض ثبوتها بيدهما جميعاً، و قد عرفت أنّ العقلاء يحكمون بالثبوت على النصف المشاع. نعم لو تحقّق التقسيم الواقعي كما إذا بدّلت الدار نصفين خارجيين يصير كلّ نصف شيئاً مستقلا يجري عليه حكمه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه من العجيب ما أفاده صاحب الجواهر (قدّس سرّه): من عدم تعقّل كون اليد على النصف المشاع، إلّا بكونها على العين أجمع في كلّ منهما، و حينئذٍ فلا مدّعي و لا مدّعى عليه منهما، ضرورة تساويهما في ذلك «2»، فإنّه إن أُريد أنّ استلزام كون اليد على النصف المشاع كون اليد على العين أجمع موجب لتحقّق التداعي و عدم ثبوت المدّعى و المدّعى عليه، فمن الواضح منعه، ضرورة أنّه لا فرق في اتصاف ذي اليد بكونه كذلك بين كون ما تحت يده هو النصف المشاع أو غيره، فبعد تحقّق كون اليد على النصف المشاع يتحقق المدّعى

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 125.

(2) جواهر الكلام: 40/ 403.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 316

..........

______________________________

و المدّعى عليه لا التّداعي، و إن أُريد منع ثبوت اليد على النصف المشاع، فقد عرفت بطلانه في ذيل المسألة الثالثة، فراجع.

الفرض الثالث: ما لو كانت العين المتنازع فيها تحت يد ثالث، و فيه صور مذكورة في المتن:

الصورة الأولىٰ: ما إذا صدّق ذو اليد أحدهما المعيّن و

أقرّ بكونها له. و قد ذكرنا في كتابنا في القواعد الفقهية في هذا المجال ما ملخّصه: أنّه قد وقع التسالم بين الفقهاء على قبول إقرار ذي اليد لأحد المتنازعين فيما بيده بحيث يجعله المنكر كنفس ذي اليد، و يجعل الطرف الآخر مدّعياً و عليه إقامة البيّنة، و إنّما الإشكال في وجهه، و اختلفت الآراء في ذلك على أقوال:

أحدها: أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة: «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز»، نظراً إلى أنّ مقتضاها نفوذ الإقرار على النفس و بضرره، و حيث إنّ ذا اليد في المقام يقرّ لشخص آخر و يعترف أنّه له، فهذا إقرار على النفس و اللّازم الأخذ به و الحكم بنفوذه و مضيّه «1».

و أوردنا عليه هناك بأنّ قاعدة الإقرار يكون مقتضاها الاقتصار على النفوذ، و المضيّ في خصوص المقدار الذي بضرره و الجهة التي تكون عليه. و أمّا الإقرار بنفع الغير فلا يستفاد من القاعدة المذكورة جوازه و نفوذه، و الإقرار المذكور له جهتان: جهة سلبية و هي عدم كونه له، و جهة إيجابية و هي كونه لأحد المتداعيين بالخصوص، و المستفاد من دليل القاعدة هو النفوذ بالإضافة إلى الجهة الأُولى

______________________________

(1) حكى هذا القول المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 163.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 317

..........

______________________________

دون الجهة الثانية، و هذا من دون فرق بين أن يكون الظرف متعلّقاً بالإقرار، و بين أن يكون متعلّقاً بجائز، كما لا يخفى.

ثانيها: أنّ الوجه في ذلك هي قاعدة: «من ملك شيئاً ملك الإقرار به» نظراً إلى أنّ ذا اليد مالك لأن يملك غيره ببيع أو صلح أو هبة أو غيرها، فيملك الإقرار بأنّه له «1».

و أوردنا عليه

هناك بأنّ الذي يملكه هو تمليك الغير المقرّ له فيملك الإقرار به، و المفروض في المقام أنّه لم يقرّ به، بل أقرّ بكون المقرّ له مالكاً و أنّه له، و المقرّ لا يكون مالكاً لهذه الجهة حتى يملك الإقرار به، ففي هذا الوجه خلط.

ثالثها: ما حكي عن المحقّق العراقي من أنّ اليد أمارة على ملكية ذي اليد بالدلالة المطابقية، و على نفي كونه للغير بالدلالة الالتزامية، و هاتان الأمارتان تسقطان بسبب الإقرار للغير، و أمّا بالنسبة إلى ما عداهما فأماريّتها باقية على حالها، فالنتيجة قيام الحجّة على نفي الملكية عن ذي اليد و عن غيره ما عدا المقرّ له، و معلوم أنّ المال لا يبقى بلا مالك.

و بعبارة اخرى: أنّ هذا المال إمّا للمقرّ له أو لغيره يقيناً، فإذا ثبت بواسطة إقرار ذي اليد أنّه ليس لغير المقرّ له فلا بدّ و أن يكون له، فيكون هو المنكر و طرفه المدّعى؛ بناءً على ما هو التحقيق من أنّ المدّعى من يكون قوله مخالفاً للحجّة الفعلية، و المنكر من يكون قوله موافقاً للحجّة الفعلية «2».

و أوردنا عليه هناك مضافاً إلى ما عرفت «3» من أنّ تشخيص عنواني المدّعى

______________________________

(1) حكى هذا القول أيضا المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 164 عن بعض.

(2) الحاكي هو المحقّق البجنوردي في القواعد الفقهيّة: 1/ 164- 165 عن استاذه المحقّق العراقي قدس سرهما.

(3) أي في ص 402 من القواعد الفقهيّة، كما تقدم في هذا الكتاب في ص 85.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 318

..........

______________________________

و المنكر إنّما هو موكول بنظر العرف، كسائر العناوين المأخوذة موضوعاً للأحكام أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ بناء العقلاء على اعتبار

الإقرار هل يختصّ بما إذا لم يكن في مقابل المدّعى مدّعٍ آخر، أو يعمّ صورة وجود مدّع آخر أيضاً؟ فعلى الأوّل لا يبقى مجال لما أفاده، و على الثاني يكون المقرّ له كنفس المقرّ و يقوم مقامه.

هذا، و لا يبعد ترجيح الاحتمال الثاني «1»، فتدبّر.

و كيف كان، فيمكن أن يقال باعتبار التسالم المذكور و إن لم يعرف وجهه، و عليه فمن صدّقه ذو اليد من المتنازعين يكون بمنزلة ذي اليد منكراً و الآخر مدّعياً، كما في المتن.

الصورة الثانية: ما لو صدّق ذو اليد كلا المتنازعين، و قال: بأنّه لهما، و قد فرض لها في المتن فرضين:

أحدهما: ما إذا رجع تصديقه إلى أنّ تمام العين لكلٍّ منهما، و قد أفاد في هذا الفرض أنّه يلغى تصديقه، و يكون المورد ممّا لا يد لأحدهما، و الوجه في اللغوية ما عرفت «2» من عدم إمكان اجتماع مالكين بالإضافة إلى شي ء واحد، خلافاً لما عرفت «3» من السيّد (قدّس سرّه) في الملحقات، فإنّه بعد استحالة الاجتماع المزبور و عدم ترجيح لأحدهما على الآخر، يصير التصديق المزبور لغواً لا يترتّب عليه أثر؛ لعدم ثبوت اليد بالنسبة إلى أحدهما و لا ما هو بمنزلة اليد، فاللّازم الحكم بكون المورد ممّا لا يد لأحدهما عليه.

ثانيهما: ما إذا رجع تصديقه إلى أنّها لهما بمعنى اشتراكهما فيها، و في هذا الفرض

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة: 1/ 412- 414.

(2) في ص 306 و ما بعدها.

(3) في ص 306 و ما بعدها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 319

..........

______________________________

يكون بمنزلة ما تكون في يدهما؛ بناءً على ما عرفت من التسالم المذكور فيما لو أقرّ ذو اليد بكون ما في يده ملكاً لغيره

المدّعى.

الصورة الثالثة: ما لو صدّق أحدهما لا بعينه، و نفى في المتن البعد عن الرجوع إلى القرعة، و أنّ من خرجت له القرعة حلف.

أقول: أمّا الرجوع إلى القرعة؛ فلأنّها لكلّ أمر مشكل بالإضافة إلى حقوق الناس، كما حقّقناه في بحث القرعة «1»، و هنا لا طريق لتشخيص الأحد المقرّ له غير القرعة. و أمّا لزوم الحلف بالإضافة إلى من خرجت له القرعة؛ فلأنّ من خرجت له القرعة يصير مقرّاً له متعيّناً، و قد عرفت أنّ المقرّ له في هذه الصورة يصير منكراً حسب تسالم الأصحاب، و المنكر عليه اليمين. و في الحقيقة القرعة طريق للوصول إلى تشخيص المنكر لا المالك الواقعي، فاللّازم الحلف على من خرجت له القرعة.

الصورة الرابعة: ما لو كذّب من تكون العين بيده كلا المتنازعين و قال: هي لي، و في هذه الصورة يكون ذو اليد بنفسه منكراً و كلا المتنازعين مدّعيين، و لكلّ منهما عليه الحلف بمقتضى قاعدة المدّعى و المنكر التي عرفتها «2».

الفرض الرابع: ما لو لم تكن العين المتنازع فيها في يد المتنازعين و لا في يد غيرهما، كما إذا كانت العين في بَرّ مثلًا، و لم تكن هناك بيّنة لأحدهما و لا لغيرهما. استقرب في المتن الاقتراع بينهما أي من دون لزوم الحلف، و الوجه في الاقتراع ما عرفت من أنّه لا طريق لتشخيص المالك غير القرعة، و لا يكون في دليلها إشعار.

______________________________

(1) القواعد الفقهيّة: 1/ 435- 458.

(2) في ص 311- 312.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 320

..........

______________________________

إلى الحلف أصلًا نعم، ربّما يقال بأنّ الرجوع إلى القرعة إنّما هو فيما إذا امتنعا جميعاً عن الحلف، و إلّا فاللّازم أوّلًا هو الحلف خصوصاً

مع ملاحظة موثقة سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: في كتاب عليّ (عليه السّلام): إنّ نبيّاً من الأنبياء شكا إلى ربّه فقال: يا ربّ كيف أقضي فيما لم أر و لم أشهد؟ قال: فأوحى اللّٰه إليه: احكم بينهم بكتابي و أضفهم إلى اسمي، فحلّفهم به. و قال: هذا لمن لم تقم له بيّنة «1».

و لكن الظاهر عدم كون الرواية ناظرة إلى عدم إمكان تحقّق القضاء بغير البيّنة و اليمين، خصوصاً مع احتمال كون الاقتراع مذكوراً في كتابه تعالى في ذلك الزّمان، فتأمّل.

و أمّا احتمال التنصيف نظراً إلى ما ورد في درهم الودعي «2»، فردّ عليه أنّه لا دليل على إلغاء الخصوصيّة عن مورد الوديعة، فالأقرب كما في المتن هو الاقتراع.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 415 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 228 ح 550، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 229، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 1 ح 1.

(2) تقدم في ص 103.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 321

[مسألة 5: إذا ادّعى شخص عيناً في يد آخر، و أقام بيّنة و انتزعها منه بحكم الحاكم]

مسألة 5: إذا ادّعى شخص عيناً في يد آخر، و أقام بيّنة و انتزعها منه بحكم الحاكم، ثمّ أقام المدّعى عليه بيّنة على أنّها له، فإن ادّعى أنّها فعلًا له و أقام البيّنة عليه تنتزع العين و تردّ إلى المدّعى الثاني، و إن ادّعى أنّها له حين الدعوى و أقام البيّنة على ذلك، فهل ينتقض الحكم و تردّ العين إليه أو لا؟ قولان، و لا يبعد عدم النقض (1).

______________________________

(1) أمّا انتزاع العين من زيد و الردّ إلى المدّعى الثاني و هو عمرو؛ فلأجل أنّ الدعوى الثانية دعوى آخر، و لا تعارض بين البيّنتين في هذه الصورة بعد ادّعاء المدّعى

الثاني ثبوت الملكية له بالفعل؛ لإمكان انتقالها إليه بعد ما لم تكن ملكاً له، كما هو غير خفيّ.

و أمّا الاختلاف في الفرض الثاني؛ فلتعارض البيّنتين و عدم إمكان اجتماعهما، و اللّازم تقديم إحداهما على الأُخرى، فعن الشيخ الطوسي (قدّس سرّه): أنّه ينقض الحكم الأوّل «1»؛ نظراً إلى أنّ المدّعى الثاني تعارض بيّنته مع بيّنة اخرى، و حيث إنّه تكون بيّنته بيّنة الداخل، تكون متقدّمة على بيّنة الخارج و هي بيّنة زيد؛ لأنّ المفروض أنّ المال كان في يد عمرو.

و عن المحقّق في الشرائع «2» بعد النقل عن الشيخ الانتقاض، بناءً على القضاء لصاحب اليد، أنّ الأولى أنّه لا ينقض أي الحكم الأوّل، و تبقى العين في يد زيد الذي انتزعها من يد عمرو بحكم الحاكم، و الوجه في عدم النقض إمّا تقديم بيّنة الخارج

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 301- 302.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 116.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 322

..........

______________________________

و إمّا ما أفاده صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «1» من أنّ بناء الحكم على الدّوام للأصل المؤيّد بالحكمة و ظاهر الأدلّة، و إمّا أنّه لو سمعت بيّنته يلزم إمكان الحيلة بعدم إقامة البيّنة إلى ما بعد الحكم حتى يصير خارجاً، و تقدّم بيّنته بناءً على تقديم بيّنة الخارج، و إمّا أنّ بيّنة عمرو بيّنة الداخل؛ لأنّه يدّعي أنّ الانتزاع منه كان ظلماً فكانت العين بعد في يده، فتقديم بيّنته إنّما هي لأجل كونها بيّنة الداخل.

و في محكيّ المسالك «2» بناء المسألة على تقديم الداخل أو الخارج، و أنّ المدار في الدخول و الخروج على حال الملك أو حال التعارض، و اختار نفسه النقض بناءً منه على تقديم بيّنة الخارج، و أنّ

المدار على حال التعارض و كون عمرو خارجاً حاله؛ لأنّ المفروض أنّ العين في يد زيد.

و استقرب السيّد في الملحقات بناء المسألة على تقديم بيّنة الداخل أو الخارج، و أنّ المدار في الدخول و الخروج حال الملك لا حال المعارضة، قال: و هي و إن كانت حادثة متأخّرة عن بيّنة المدّعى إلّا أنّها متعلّقة بالسابق، و في السابق كان المدّعى خارجاً؛ لكون العين في يد المدّعى عليه «3».

و التحقيق: أن يقال: إنّه لا مجال للإشكال في حجّية بيّنة زيد في الدعوى الأُولى، التي يكون هو مدّعياً فيها؛ لأنّ البيّنة على المدّعى و اليمين على من أنكر، فإنّ المستفاد منه تقديم بيّنة المدّعى على يمين المنكر فضلًا عمّا إذا لم يحلف أصلًا، و بسبب حكم الحاكم فصلت الخصومة و ارتفع النزاع، و لا تكون حجّية بيّنة المدّعى مشروطة بما إذا لم يأت المدّعى عليه بيّنة و لو في الأزمنة اللاحقة، و إلّا لا يجوز

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 480.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 119- 121.

(3) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 128 مسألة 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 323

..........

______________________________

للحاكم الحكم؛ لعدم إحراز الشرط، نعم فيما إذا أقام المدّعى عليه بيّنة في مقابل المدّعى في نفس الدعوى الاولى، وقع الكلام في تقديم بيّنة الداخل أو الخارج، و مقتضى ما ذكرنا هو تقديم بيّنة المدّعى، و سيجي ء «1» هذا البحث.

لكن المقام لا يكون من مصاديق ذلك البحث، و مع تمامية الحكم و انتزاع الحاكم العين من المدّعى عليه إلى المدّعى لا يبقى مجال للعود إلى الدعوى الاولى، و لا يكون المقام مثل ما إذا ادّعى المدّعى عليه بعد الحكم عليه فسق الشهود، أو مثل

حجّة الغائب بعد الحكم عليه حيث إنّه على حجّته كما تقدّم «2»، ضرورة أنّه ادّعى في الصورة الأُولى بطلان الحكم نظراً إلى ادّعائه فسق الشهود، و في الصورة الثانية و هي الحكم على الغائب كان الحكم متزلزلًا من أوّل الأمر لعدم حضور الغائب.

و أمّا في المقام فالحكم الأوّل تامّ لا إشكال فيه أصلًا، و قد عرفت أنّ حجّية بيّنة زيد لا تكون مشروطة بعدم وجود البيّنة على خلافها و لو للتالي، فالأقوى ما أفاده في المتن من نفي البعد عن عدم النقض.

______________________________

(1) في ص 338- 361.

(2) في ص 104- 105.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 324

[مسألة 6: لو تنازع الزوجان في متاع البيت]

مسألة 6: لو تنازع الزوجان في متاع البيت سواء حال زوجيّتهما أو بعدها ففيه أقوال؛ أرجحها أنّ ما يكون من المتاع للرّجال فهو للرّجل كالسيف و السّلاح و ألبسة الرجال، و ما يكون للنساء فللمرأة كألبسة النساء و مكينة الخياطة التي تستعملها النساء و نحو ذلك، و ما يكون للرجال و النساء فهو بينهما. فإن ادّعى الرجل ما يكون للنّساء كانت المرأة مدّعى عليها، و عليها الحلف لو لم يكن للرجل بيّنة. و إن ادّعت المرأة ما للرجال فهي مدّعية، عليها البيّنة و على الرجل الحلف، و ما بينهما فمع عدم البيّنة و حلفهما يقسّم بينهما. هذا إذا لم يتبيّن كون الأمتعة تحت يد أحدهما، و إلّا فلو فرض أنّ المتاع الخاصّ بالنساء كان في صندوق الرجل و تحت يده أو العكس يحكم بملكية ذي اليد، و على غيره البيّنة، و لا يعتبر في ما للرجال أو ما للنساء العلم بأنّ كلّاً منهما استعمل ماله أو انتفع به، و لا إحراز أن يكون

لكلٍّ منهما يد مختصّة بالنسبة إلى مختصّات الطائفتين. و هل يجري الحكم بالنسبة إلى شريكين في دار أحدهما من أهل العلم و الفقه، و الثاني من أهل التجارة و الكسب، فيحكم بأنّ ما للعلماء للعالم و ما للتجار للتاجر، فيستكشف المدّعى من المدّعى عليه؟ وجهان، لا يبعد الإلحاق (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة مقامان:

المقام الأوّل: في تنازع الزوجين في متاع البيت من دون فرق بين بقاء الزوجية حال المنازعة أو عدمها و ارتفاعها حالها، فنقول: إنّ في المسألة أقوالًا مختلفة:

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 325

..........

______________________________

الأوّل: ما جعله في المتن أرجحها، و لعلّه المشهور «1»، بل عن بعض الكتب الإجماع عليه «2»، و حكاه في الشرائع عن خلاف الشيخ «3»، و قال صاحب الجواهر (قدّس سرّه): و قد سبقه إلى ذلك الإسكافي «4»، و لحقه ابنا حمزة «5» و إدريس «6» و جمع كثير «7» «8»، غاية الأمر التخصيص في كلام بعضهم بحال الطّلاق «9»، و يدلّ عليه روايات متعدّدة:

منها: صحيحة رفاعة النخّاس، عن الصادق (عليه السّلام) قال: إذا طلّق الرجل امرأته و في بيتها متاع، فلها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء قسّم بينهما، قال: و إذا طلّق الرجل المرأة فادّعت أنّ المتاع لها، و ادّعى الرجل أنّ المتاع له، كان له ما للرجال و لها ما يكون للنساء، و ما يكون للرجال و النساء قسّم بينهما «10».

و الرواية و إن كانت واردة في مورد الطلاق، إلّا أنّ المقصود منه مطلق المفارقة

______________________________

(1) غاية المراد: 4/ 82.

(2) كالشيخ في الخلاف و ابن إدريس في السرائر.

(3) الخلاف: 1/ 352- 354 مسألة 27.

(4) حكى عنه الشهيد الأول في

غاية المراد: 4/ 82، و ابن فهد الحلّي في المقتصر: 382- 383، و الشهيد الثاني في المسالك: 14/ 136.

(5) الوسيلة: 227.

(6) السرائر: 2/ 192 194.

(7) شرائع الإسلام: 4/ 119، المختصر النافع: 411، تحرير الأحكام: 2/ 207- 208، الرقم 6568، إصباح الشيعة: 535، الدروس: 2/ 110 111، رياض المسائل: 13/ 195.

(8) جواهر الكلام: 40/ 494.

(9) المهذّب: 579.

(10) تهذيب الأحكام: 6/ 294 ح 818، الاستبصار: 3/ 46 ح 153، الفقيه: 3/ 65 ح 215، و عنها وسائل الشيعة:

26/ 216، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 326

..........

______________________________

و لو بالموت، بل الظاهر عدم اختصاص الحكم بصورة المفارقة، بل المراد ذلك و إن كانت الزوجية باقية بعد، كما أنّ عدم التعرّض في صدر الرواية لحكم ما يكون من متاع الرجال فقط لا يقدح بعد ظهور الرواية في ذلك، خصوصاً بعد التعرّض في الذيل له، كما هو واضح.

و منها: موثقة يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في امرأة تموت قبل الرجل أو رجل قبل المرأة، قال: ما كان من متاع النساء فهو للمرأة، و ما كان من متاع الرجال و النساء فهو بينهما، و من استولى على شي ء منه فهو له «1».

و عدم التعرّض أيضاً لحكم ما يكون من متاع الرجال فقط لا يقدح بعد وضوح استفادة حكمه من الرواية، خصوصاً بملاحظة قوله (عليه السّلام) في الذيل: «و من استولى علىٰ شي ء منه فهو له» الذي هو بمنزلة التعليل للحكم المذكور فيها، و مرجعه إلى أنّ ذا اليد في الأمتعة المختصّة من الرجل أو المرأة واضح، فيختصّ به، و في الأمتعة المشتركة

هو لكلاهما.

هذا، و يحتمل قويّاً أن يكون الضمير في قوله (عليه السّلام): «منه» في التعليل راجعاً إلى متاع الرجال و النساء، لا أن يكون المراد إفادة ضابطة كلّية بالإضافة إلى مطلق الاستيلاء، و المراد منه حينئذٍ أنّ ما يكون تحت استيلاء خاصّ منهما فهو للمتولّي، فيرجع إلى الاستدراك الذي أفاده في المتن من أنّه إذا كان المتاع في مثل الصندوق الخاصّ بأحدهما يكون صاحب الصندوق ذا اليد، و إن لم يكن المتاع من مختصّاته.

و منها: مضمرة زرعة، عن سماعة قال: سألته عن رجل يموت ما له من متاع

______________________________

(1) تقدمت في ص 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 327

..........

______________________________

البيت؟ قال: السيف و السلاح و الرحل و ثياب جلده «1».

قال في الجواهر: و قصور الدلالة عن إفادة تمام المدّعى صريحاً كما ذكره جماعة غير ضائر بعد اعترافهم بالظهور «2».

الثاني: ما أفتى به الشيخ أيضاً في المحكي عن استبصاره «3»، و هو أنّ متاع البيت للمرأة؛ نظراً إلى أنّها تأتي بالمتاع من أهلها، و يدلّ عليه رواية عبد الرحمن بن الحجاج المرويّة بعدّة طرق فيها الصحيح و الموثق، و هي أنّه قال: سألني أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) هل يقضي ابن أبي ليلى بالقضاء ثمّ يرجع عنه؟ فقلت له: بلغني أنّه قضى في متاع الرجل و المرأة إذا مات أحدهما فادّعاه ورثة الحيّ و ورثة الميّت، أو طلّقها فادّعاه الرجل و ادّعته المرأة بأربع قضايا، فقال: و ما ذاك؟ قلت: أمّا أوّلهنّ: فقضى فيه بقول إبراهيم النخعي، كان يجعل متاع المرأة الذي لا يصلح للرجل للمرأة، و متاع الرجل الذي لا يكون للمرأة للرجل، و ما كان للرجال و النساء بينهما

نصفان، ثمّ بلغني أنّه قال: إنّهما مدّعيان جميعاً، فالذي بأيديهما جميعاً [يدّعيان جميعاً «4»] بينهما نصفان.

ثمّ قال: الرجل صاحب البيت و المرأة الداخلة عليه و هي المدّعية، فالمتاع كلّه للرجل إلّا متاع النساء الذي لا يكون للرجال فهو للمرأة، ثمّ قضى بقضاء بعد

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 298 ح 832، و عنه وسائل الشيعة: 26/ 215، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 2.

(2) جواهر الكلام: 40/ 495.

(3). الاستبصار: 3/ 44- 47، و الحاكي هو الشهيد في المسالك: 14/ 137 و غيره.

(4) من الوسائل، و في تهذيب الأحكام ج 9: ممّا يدّعيان جميعاً، و في الاستبصار: ممّا يتركان.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 328

..........

______________________________

ذلك لو لا أنّي شهدته لم أروه عنه «1»: ماتت امرأة منّا و لها زوج و تركت متاعاً، فرفعته إليه، فقال: اكتبوا المتاع، فلمّا قرأه قال للزوج: هذا يكون للرجال و المرأة فقد جعلناه للمرأة إلّا الميزان، فإنّه من متاع الرجل فهو لك، فقال (عليه السّلام) لي: فعلى أيّ شي ء هو اليوم؟ فقلت: رجع إلى أن قال بقول إبراهيم النخعي: أن جعل البيت للرجل.

ثمّ سألته (عليه السّلام) عن ذلك فقلت: ما تقول أنت فيه؟ فقال: القول الذي أخبرتني: أنّك شهدته و إن كان قد رجع عنه، فقلت: يكون المتاع للمرأة؟ فقال: أ رأيت إن أقامت بيّنة إلى كم كانت تحتاج؟ فقلت: شاهدين، فقال: لو سألت من بين لابتيها يعني الجبلين و نحن يومئذٍ بمكّة لأخبروك أنّ الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت زوجها، فهي التي جاءت به و هذا المدّعى، فإن زعم أنّه أحدث فيه شيئاً فليأت عليه البيّنة

«2».

ثمّ الظاهر عدم تعدّد رواية عبد الرحمن بن الحجاج، و إن كانت الطرق متعدّدة و العبارات مختلفة، خلافاً لما يظهر من صاحب الجواهر (قدّس سرّه) من التعدّد «3»، كما لا يخفىٰ، و خلافاً لما صرّح به السيّد في الملحقات من أنّ له صحاحاً ثلاثة، و أنّ استثناء الميزان إنّما وقع في بعضها، و المراد منه مطلق مختصّات الرجل خصوصاً مع ملاحظة التعليل «4»، كما لا يخفى.

و قد وقع في رواية الصدوق التي رواها في الوسائل في هذا الباب قوله:

______________________________

(1) في الكافي: لم أردّه عليه.

(2) تقدّمت في ص 284- 285.

(3) جواهر الكلام: 40/ 495- 496.

(4) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 141- 142.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 329

..........

______________________________

و قد روي أنّ المرأة أحقّ بالمتاع؛ لأنّ من بين لابتيها يعلم أنّ المرأة تنقل من بيتها المتاع «1». و الظاهر أنّ مراده هي هذه الرواية، و لكن الصدوق حملها على متاع النساء و ما يصلح للرجال و النساء.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ هذه الرواية لا تنطبق على المدّعى مع الاشتمال على الميزان، الذي أُريد به مختصّات الرجال مطلقاً، فتدبّر جيّداً.

الثالث: ما أفتى به الشيخ في محكي المبسوط «2»، و تبعه العلّامة في محكي القواعد «3» و ولده في شرحها «4»، من أنّه إن لم تكن هناك بيّنة فيدُ كلّ واحد منهما على نصفه، و يحلف كلّ واحد منهما لصاحبه كغير المتاع ممّا يتداعى فيه اثنان مثلًا و كان في أيديهما، سواء كان ممّا يختصّ بالرجال كالعمائم و الطيالسة و الدّرع و السّلاح، أو يختصّ بالنساء كالحليّ و المقانع، أو ما يصلح لهما كالفرش و الأواني، و سواء كان الدار لهما أو لأحدهما أو

لغيرهما، و سواء كانت الزوجيّة باقية أو زائلة، و سواء كانت يدهما عليه من حيث المشاهدة كعمامة أو خلخال، أو من حيث الحكم و هو الكون في بيت يسكنانه، و سواء جرت العادة بجهاز مثلها بقدره أم لا،

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 65 ح 216 و فيه: تنقل إلى بيت زوجها، و عنه وسائل الشيعة: 26/ 216، كتاب الفرائض و المواريث، أبواب ميراث الأزواج ب 8 ح 5.

(2) المبسوط: 8/ 310.

(3) قواعد الأحكام: 3/ 470.

(4) إيضاح الفوائد: 4/ 380- 381.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 330

..........

______________________________

كلّ ذلك للعمومات الدالّة على أنّ البيّنة لمن ادّعى و اليمين لمن ادّعي عليه «1»، من دون فرق في ذلك بين ما إذا كان المتنازعان الزوجين أو الوارثين أو أحدهما مع الآخر، و في الحقيقة لا تكون خصوصية للمقام، بل يجري حكم غيره ممّا إذا وقع التنازع بالإضافة إلى ما في أيديهما معاً.

و الظاهر أنّه لا مجال لهذا القول المبتني على القاعدة العامّة، و هي: ثبوت البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه؛ لوجود روايات خاصّة في المسألة، و إن كانت متعارضة و لا بدّ من علاجها، كما سيجي ء إن شاء اللّٰه تعالى.

الرابع: ما جعله الشهيد في المسالك قولًا رابعاً و اختاره «2» ناسباً له إلى المختلف و إلى الشهيد في الشرح «3» و جماعة من المتأخّرين «4»، قال «5»: و المعتمد أن نقول: إنّه إن كان هناك قضاء عرفيّ يرجع إليه و حكم به بعد اليمين، و إلّا كان الحكم فيه كما في غيره من الدّعاوي. لنا: إنّ عادة الشرع في باب الدعاوي بعد الاعتبار و النظر راجعة إلى ما ذكرناه، و

لهذا حكم بقول المنكر مع اليمين بناءً على الأصل، و بأنّ المتشبّث أولى من الخارج؛ لقضاء العادة بملكية ما في يد الإنسان غالباً، فحكم بإيجاب البيّنة على من يدّعي خلاف الظاهر و الرجوع إلى من يدّعي الظاهر، و أمّا مع انتفاء العرف؛ فلتصادم الدعويين مع عدم الترجيح لأحدهما فتساويا

______________________________

(1) تقدّمت في ص 136 و غيرها.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 138.

(3) غاية المراد: 4/ 84.

(4) كابن فهد في المهذّب البارع: 4/ 491 و الصيمري في غاية المرام: 4/ 268.

(5) أي العلّامة في مختلف الشيعة: 8/ 409.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 331

..........

______________________________

فيها. انتهى موضع الحاجة.

و الظاهر أيضاً أنّه لا مجال لهذا القول مع وجود روايات صحيحة في المسألة و إن كانت في بادئ النظر متعارضة، و يجي ء إن شاء اللّٰه تعالى علاجها.

و التحقيق أن يقال: إنّه لا محيص عن الالتزام بما عليه المشهور من جعل المتاع المختصّ بأحدهما له، و جعل المتاع المشترك بينهما لهما بنحو المناصفة مع الحلف أو بدونه كما إذا نكلا جميعاً؛ و ذلك لوجود روايات صحيحة في المسألة و إن كانت متعارضة؛ لدلالة صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج على أنّ المتاع المشترك للمرأة؛ لأنّ الجهاز و المتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى زوجها، و هذا المعنى فوق البيّنة التي قوامها بشاهدين عادلين، و إن كان ربّما يستفاد من بعض طرق نقلها المشتمل على استثناء الميزان معلّلًا بأنّه من متاع الرجال عدم اختصاص الحكم بالميزان، بل يجري في سائر مختصّات الرجال كالعمامة و السيف، كما أنّه ربّما يمكن أن يقال: بأنّ في مختصّات النساء يكون الحكم غير ما هو المذكور في الرواية، لإشعار التعليل بذلك و

دلالة روايات متعدّدة فيها الصحيحة و الموثقة على ما عرفت، على أنّ المتاع المشترك بينهما نصفان، و قد حقّقنا في محلّه «1» أنّ أوّل المرجّحات على ما يستفاد من مقبولة ابن حنظلة المعروفة هي الشهرة في الفتوى، فلا بدّ من الأخذ بهذه الروايات الأخيرة؛ لموافقتها لفتوى المشهور.

نعم فيما إذا كانت هناك يدٌ اختصاصية زائدة على اليد المشتركة البيتيّة يكون المتاع لصاحب اليد؛ نظراً إلى تقدّمها على تلك اليد، مضافاً إلى دلالة قوله (عليه السّلام): «و من

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه: 16/ 532- 555، و تقدّم في ص 252 هنا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 332

..........

______________________________

استولى على شي ء منه فهو له» «1» بناءً على الاحتمال الذي قوّيناه «2» في معنى هذه الجملة من أنّ الضمير يرجع إلى المتاع المشترك. و المراد أنّ من استولى من الزوجين على المتاع المشترك باستيلاء خاصّ زائد على اليد البيتيّة المشتركة فهو له.

ثمّ إنّه لا يبعد أن يقال: بأنّه و إن لم يقع التعرّض في الروايات للزوم الحلف بالإضافة إلى من يقدّم قوله من الزوجين، أو إليهما في صورة التساوي و الحكم بثبوت التنصيف، إلّا أنّ الظاهر عدم كونها متعرّضة لهذه الجهة، بل الظاهر التعرّض للمدّعي و المنكر الذي من البيّن افتقار المدّعى إلى البيّنة و المنكر إلى اليمين، نعم في صورة التساوي و نكولهما جميعاً عن الحلف لا محيص عن الحكم بالتنصيف، كما لا يخفى.

و يحتمل أن يكون المتن ناظراً إلى ذلك، حيث يقول: فمع عدم البيّنة و حلفهما يقسّم بينهما، بأن يكون الحلف عطفاً على البيتيّة المعدومة لا للعدم.

ثمّ إنّ ما أفاده تبعاً للمشهور من اختصاص كلٍّ من الزوجين بما يختصّ

به كالعمامة و الطيالسة للرجال، و المقانع و الحلي للنساء، لا يتوقّف على أن يكون لكلّ منهما يد مختصة زائدة على اليد البيتيّة المشتركة، و لا اليد الاستعمالية الانتفاعية زائدة على ما ذكر، بل يكفي في ذلك اليد المشتركة لدلالة الروايات عليه، فمجرّد ذلك مع الاختصاص في نفسه يكفي في ذلك، كما أفاده في المتن.

المقام الثاني: في جريان حكم الزوجين في غيرهما من الشخصين الشريكين في

______________________________

(1) تقدّم في ص 282.

(2) في ص 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 333

..........

______________________________

دارٍ مثلًا، كما مَثّل به الماتن (قدّس سرّه)، أو الطالبين الشريكين في حجرة مثلًا و غيرهما من الموارد الكثيرة، و قد نفى البعد في المتن عن الإلحاق بعد أن ذكر أنّ فيه وجهين. و الوجهان هما عبارة عن عدم الإلحاق؛ لأنّ الروايات واردة في مورد الزوجين، و لا دليل على إلحاق غيرهما بهما، و الإلحاق إنّما هو لدلالتها على اعتبار اليد المشتركة المقتضية للتساوي، و اليد الاختصاصية الموجبة للاختصاص، من دون أن يكون هناك إشعار بالاختصاص بالزوجين، و هذا من دون فرق بين أن يكون لغير الزوجين قرابة كالأخ أو الأب، أو لا يكون كذلك كما في مثال الطّالبين الذي ذكرناه، فإنّه إذا وقع التنازع بينهما في أمتعة الحجرة المشتركة من الثياب و غيرها، و كان أحدهما سيّداً مثلًا و الآخر غير سيّد، تكون العمامة السوداء للسيّد و العمامة البيضاء لغير السيّد، و اللباس الذي يصلح لأحدهما فقط للصالح و هكذا، و الظاهر أنّ المتفاهم العرفي من الروايات ذلك، إذ لا يرى للزوجين خصوصية من هذه الجهة، فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 334

[مسألة 7: لو تعارضت اليد الحالية مع اليد السابقة أو الملكية السابقة تُقدّم اليد الحاليّة]

مسألة 7: لو تعارضت اليد الحالية مع اليد السابقة أو الملكية السابقة تُقدّم اليد الحاليّة. فلو كان شي ء في يد زيد فعلًا، و كان هذا الشي ء تحت يد عمرو سابقاً، أو كان ملكاً له يحكم بأنّه لزيد، و على عمرو إقامة البيّنة، و مع عدمها فله الحلف على زيد، نعم لو أقرّ زيد بأنّ ما في يده كان لعمرو و انتقل إليه بناقل، انقلبت الدعوى و صار زيد مدّعياً، و القول قول عمرو بيمينه، و كذا لو أقرّ بأنّه كان لعمرو أو في يده و سكت عن الانتقال إليه، فإنّ لازم ذلك دعوى الانتقال، و في مثله يشكل جعله منكراً لأجل يده، و أمّا لو قامت البيّنة على أنّه كان لعمرو سابقاً أو علم الحاكم بذلك فاليد محكّمة، و يكون ذو اليد منكراً و القول قوله، نعم لو قامت البيّنة بأنّ يد زيد على هذا الشي ء كان غصباً من عمرو أو عارية أو أمانة و نحوها، فالظاهر سقوط يده، و القول قول ذي البيّنة (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فروض:

الفرض الأوّل: ما لو كان الشي ء بالفعل تحت يد زيد مثلًا، و كان هذا الشي ء سابقاً تحت يد عمرو أو ملكاً له من دون أن يكون هناك شي ء زائد على ذلك، و في هذا الفرض تقدّم اليد الفعليّة التي هي أمارة على الملكية الفعلية؛ لأنّه لا منافاة بينها و بين اليد السابقة التي هي أمارة على الملكية السابقة و كذا بين الملكية السابقة، فالعلّة في التقدّم هي عدم المنافاة و إمكان الجمع بين الأمارتين، و كذا بين الأمارة اللاحقة و الملكيّة السابقة، و عليه فالمنكر هو ذو اليد الفعلية، و يتوجّه عليه اليمين مع عدم البيّنة

للآخر، هذا ما عليه الأكثر «1».

______________________________

(1) الخلاف: 6/ 342 مسألة 15، مستند الشيعة: 17/ 431، ملحقات العروة: 3/ 145 مسألة 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 335

..........

______________________________

و عن المحقّق في الشرائع اختيار تقدّم اليد أو الملكية السابقتين «1» و عن الإرشاد الميل إليه «2»، و عن التحرير احتمال التساوي «3»، و عن الدروس الاقتصار على نقل القولين «4».

و ما يمكن أن يقال: من أنّه إذا ثبتت الملكية السابق للسابق و لو بسبب اليد، فلا بدّ لذي اليد الحالية من إثبات الانتقال إليه و الأصل عدمه، مدفوع بأنّ اليد الفعلية أمارة على الملكية الفعلية، و الأمارة لا يعارضها الأصل بوجه، مع أنّ العلم حاصل بأنّ أكثر ما في أيدي الناس يكون مسبوقاً بيد الغير أو ملكيته، و لا مدخلية للعلم التفصيلي بصاحب اليد السّابقة، بل يحرز ذلك مع العلم الإجمالي أيضاً كما لا يخفى، فالأقوى ما عليه المتن تبعاً للأكثر، و خلافاً للمحقّق و من عرفت.

الفرض الثاني: هو الفرض الأوّل بضميمة إقرار صاحب اليد الفعلية بأنّ ما في يده كان لعمرو، و انتقل إليه بناقل شرعي اختياري أو قهري كالإرث مثلًا، و في هذه الصورة تنقلب الدعوى، و يصير زيد مدّعياً و عمرو منكراً، و يكون القول قول عمرو مع عدم ثبوت البيّنة لزيد.

و الوجه فيه أنّ مرجع النزاع إلى ثبوت الناقل و عدمه، بعد الاتّفاق على ثبوت اليد السابقة أو الملكية السابقة، و عليه فذو اليد يكون مدّعياً للنقل الشرعي، و غيره يكون منكراً يقدّم قوله مع عدم إقامة البيّنة. و عن الكفاية أنّه قال: و في

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 112- 113.

(2) إرشاد الأذهان: 2/ 150.

(3) تحرير الاحكام:

5/ 188، الرقم 6544.

(4) الدروس الشرعيّة: 2/ 101 102.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 336

..........

______________________________

كلامهم القطع بأنّ صاحب اليد لو أقرّ أمس بأنّ الملك له أي للمدّعي، أو شهدت البيّنة بإقراره له أمس، أو أقرّ بأنّ هذا له أمس قضي به له، قال: و في إطلاق الحكم بذلك إشكال «1».

و من الواضح أنّ هذا الفرض أولى لادّعائه صريحاً الانتقال الذي يكون مقتضى الأصل عدمه، فمدعي الانتقال هو المدّعى و عليه إقامة البيّنة على الانتقال، و مع عدمها يكون القول قول الآخر مع يمينه.

الفرض الثالث: هو الفرض الثاني مع مجرّد الإقرار بأنّه كان في يد عمرو أو ملكاً له سابقا مع السكوت عن الانتقال إليه، و في المتن مساواة حكمه مع الفرض الثاني أوّلًا؛ نظراً إلى أنّ لازم الإقرار الكذائي دعوى الانتقال؛ لعدم انفكاكه عنه، و الإشكال في جعله منكراً لأجل يده مع حكمه بالانقلاب في الفرض الثاني بصورة الجزم، و لعلّ الوجه فيه عدم الادّعاء صريحاً الانتقال الذي هو خلاف الأصل و يوجب مدّعيه مدّعياً، بل ادّعى الملكيّة الفعليّة غير المنافية للإقرار باليد السابقة أو الملكيّة كذلك.

و من الواضح شمول عبارة الكفاية المتقدّمة لهذا الفرض، و إن استشكل في إطلاقه. و كيف كان فجعله منكراً لأجل اليد الفعلية الكاشفة عن الملكية الفعلية مع وجود الإقرار بسابقه مشكل، كما في المتن، من جهة وجود الدلالة الالتزامية، و من جهة أنّ المناط مصبّ الدعوى.

الفرض الرابع: ما لو قامت البيّنة على أنّه كان لعمرو سابقاً أو علم الحاكم بذلك، و قد أفاد في المتن أنّ ذا اليد يده محكّمة، و يكون القول قوله لعدم المنافاة؛ لأنّ

______________________________

(1) كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية

الأحكام»: 2/ 734.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 337

..........

______________________________

هذا الفرض شبيه الفرض الأوّل، بل المفروض في كلام المحقّق إقامة البيّنة على أنّه كان في يد زيد سابقاً «1».

و من الواضح أنّه لا فرق بين الأمرين، كما أنّه لا فرق بين صورة قيام البيّنة و بين صورة علم الحاكم بذلك، كما لا يخفىٰ. و ليعلم أنّ هذا الفرض لا يكون فرضاً مستقلا في مقابل الفرض الأول، بل هو جزء منه، فإنّ الملكية السابقة المفروضة في الفرض الأوّل لا بدّ و أن تكون محرزة، و الإحراز قد يكون بقيام البيّنة، و قد تكون بسبب علم الحاكم بناءً على جواز قضائه بعلمه كما قدّمناه سابقاً «2»، فهذا الفرض بعض منه، لا أنّه مغاير له كما يفيد ظاهر العبارة.

الفرض الخامس: قيام البيّنة على أنّ يد زيد غصبية أو عارية أو أمانة أو نحوها من الأيادي غير الملكية، و لا ينبغي الإشكال في تقدّم البيّنة على اليد؛ لأنّهما و إن كانتا أمارتين إلّا أنّ البيّنة مقدّمة على اليد، كما يظهر من قول النبيّ (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من أنكر «3». مضافاً إلى أنّ حجّية اليد منحصرة بما إذا لم تكن في مقابلها بيّنة، و إلّا لا يجوز الأخذ من السارق و الغاصب في صورة عدم العلم، بل قيام البيّنة كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 112- 113.

(2) في ص 65.

(3) تقدم في ص 129 و 288.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 338

[مسألة 8: لو تعارضت البيّنات في شي ء]

مسألة 8: لو تعارضت البيّنات في شي ء، فإن كان في يد أحد الطّرفين، فمقتضى القاعدة تقديم بيّنة الخارج

و رفض بيّنة الداخل، و إن كانت أكثر أو أعدل و أرجح، و إن كان في يدهما فيحكم بالتنصيف بمقتضى بيّنة الخارج و عدم اعتبار الداخل، و إن كان في يد ثالث أو لا يد لأحد عليه، فالظاهر سقوط البيّنتين و الرجوع إلى الحلف أو إلى التنصيف أو القرعة، لكنّ المسألة بشقوقها في غاية الإشكال من حيث الأخبار و الأقوال، و ترجيح أحد الأقوال مشكل، و إن لا يبعد في الصّورة الأولى ما ذكرناه (1).

______________________________

(1) هذه المسألة من عويصات المسائل الفقهية و غوامضها، و قد اضطربت فيها الأقوال و اختلفت الروايات، بل قال السيّد (قدّس سرّه) في الملحقات: قد يختلف فتوى واحد منهم، فيفتي في مقام و يفتي بخلافه في مقام آخر، و ربّما يدّعي الإجماع في مورد و يدّعي على خلافه الإجماع في مورد آخر، و قد يحكم بضعف خبر و يعمل به في مورد آخر، و قد يحملون الخبر على محمل بلا شاهد و يفتون به، و يفرّقون بين الصور بقيود لا تستفاد من الأخبار من ذكر الشاهد السبب و عدمه، أو كون الشي ء ممّا يتكرّر كالبيع و الشراء و الصياغة و نحوها، أو ممّا لا يتكرّر كالنتاج و النساجة و الخياطة و نحوها، و ليس الغرض الإزراء عليهم، بل بيان الحال مقدّمة لتوضيح الحقّ من الأقوال، فإنّ المسألة في غاية الإشكال و ليست محرّرة «1»، و اللازم الدقّة و إمعان النظر فيها إن شاء اللّٰه تعالى.

فنقول: قد فرض في المتن لها صوراً ثلاثة؛ لأنّ الشي ء مورد التنازع تارةً يكون في يد أحد الطرفين، و أُخرى يكون في يدهما، و ثالثة يكون في يد ثالث، أو لا يد

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/

148 مسألة 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 339

..........

______________________________

لأحد عليه. و قبل الخوض في المقصود لا بدّ من تقديم أمرين:

أحدهما: أنّ معنى تعارض البيّنتين ثبوت التضادّ بين مفادهما بحيث لم يمكن الجمع و التوفيق بينهما. قال المحقّق (قدّس سرّه) في الشرائع: يتحقّق التعارض في الشهادة مع تحقّق التضادّ، مثل أن يشهد شاهدان بحقّ لزيد، و يشهد آخران أنّ ذلك الحقّ بعينه لعمرو، أو يشهدان بأنّه باع ثوباً مخصوصاً لعمرو غدوة، و يشهد آخران ببيعه بعينه لخالد في ذلك الوقت، و مهما أمكن التوفيق بين الشهادتين وفّق «1».

ثانيهما: أنّ مقتضى القاعدة فيما إذا كان المال في يد أحدهما و أقاما البيّنة، هو تقديم بيّنة الخارج و هو غير ذي اليد؛ لأنّ مقتضى قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه أو على من أنكر «2» أنّه في الدرجة الأُولى تلاحظ بيّنة المدّعى الذي هو الخارج، و تقدّم على طرفه من دون فرق بين ما إذا كانت له بيّنة و ما إذا لم تكن له، و قد حكي عن الرياض ادّعاء الإجماع عليه، حيث قال: إنّ وظيفة ذي اليد اليمين دون البيّنة، فوجودها في حقّه كعدمها بلا شبهة، و لذا لو أقامها بدلًا عن يمينه لم تقبل منه إجماعاً إن لم يقمها المدّعى «3»، و إن أورد عليه السيّد (قدّس سرّه) في الملحقات مضافاً إلى منع الإجماع، و عموم ما دلّ على حجية البيّنة، و إلى عموم مثل قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «4» بخصوص أخبار المقام، فإنّ في جملة منها تقديم بيّنة ذي اليد، كخبر

إسحاق و خبر

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 110.

(2) تقدم في ص 85، 129 و 288.

(3) رياض المسائل: 13/ 207.

(4) تقدم في ص 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 340

..........

______________________________

غياث و خبر جابر «1»، و هو مقتضى إطلاق جملة أُخرى منها، و أيضاً خصوص خبر حفص بن غياث حيث قال: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم «2».

و خصوص صحيحة حمّاد الحاكية لأمر عيسى بن موسى في المسعى إذ رأى أبا الحسن موسى (عليه السّلام) مقبلًا من المروة على بغلة، فأمر ابن هياج رجلًا من همدان منقطعاً إليه أن يتعلّق بلجامه و يدّعي البلغة، فأتاه فتعلّق باللّجام و ادّعى البغلة، فثنى أبو الحسن (عليه السّلام) رجله و نزل عنها و قال لغلمانه: خذوا سرجها و ادفعوها إليه. فقال: و السرج أيضاً لي. فقال: كذبت عندنا البيّنة بأنّه سرج محمد بن علي (عليه السّلام)؛ و أمّا البغلة فإنّا اشتريناها منذ قريب و أنت أعلم و ما قلت «3»، إلى آخر ما أفاده «4».

و إن كان يمكن الجواب عن جميع إيراداته؛ بأنّ منع دعوى الإجماع مع تعبير صاحب الرياض أنّ وجود البيّنة كعدمها بلا شبهة غير تامّ، و عموم ما دلّ على حجّية البيّنة قابل للتخصيص، و قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان» لا يراد منه إلّا الحصر الإضافي في مقابل القضاء بالعلم الواقعي الثابت للرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله)، و لا دلالة له على أنّ اعتبار البيّنة بالإضافة إلى من و اليمين بالنسبة إلى من، و إلّا لكان مفاده حجّية يمين المدّعى ابتداءً، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تأتي

أخبارهم في ص 343- 344.

(2) الكافي: 7/ 387 ح 1، الفقيه: 3/ 31 ح 92، تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 695، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 291، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 25 ح 2.

(3) الكافي: 8/ 86 ح 48، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 291، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 24 ح 1.

(4) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 153.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 341

..........

______________________________

و أمّا أخبار المقام خصوصاً أو إطلاقاً فسيأتي البحث فيها.

و أمّا خبر حفص بن غياث، فمفاده جواز الشهادة بتملّك ذي اليد؛ نظراً إلى أنّ اليد كما عرفت أمارة عقلائية و شرعية على الملكية، و السائل إنّما يسأل عن جواز الشهادة بالملك، التي يترتّب عليها آثار كثيرة: مثل صحّة الابتياع من ذي اليد و أمثاله، و لا إشعار في الرواية بفرض وجود المعارضة و أنّه معها تتقدّم بيّنة ذي اليد، و بعبارة اخرى محطّ نظر السائل أنّه يجوز المغايرة في الشهادة تحمّلًا أداءً أم لا يجوز أصلًا، كما لا يخفى.

و أمّا صحيحة حمّاد الحاكية لما عرفت من قصّة موسى بن جعفر (عليهما السّلام) فالظاهر أنّ قول الإمام (عليه السّلام) إنّما هو في مقابل خصمه الذي لم يكن يعتقد بإمامته، و إلّا لا يتنازع مع الإمام المعصوم الصادق في كلّ ما يقول، مع أنّه لم يكن هناك قاض و لا حاكم، و من الممكن عدم اقتناعه باليمين التي هي وظيفته؛ فلذا تمسّك الإمام (عليه السّلام) بوجود البيّنة بالنسبة إلى السرج، و أنّه لا يكون لمن يدّعيه، بخلاف أصل البغلة التي كان اشتراها عن قريب و لم يكن له بيّنة عليه، و إلّا فبالإضافة إلى كلّ

منهما كان ذا اليد.

و بالجملة: فمقتضى قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه» بلحاظ أنّ التفصيل قاطع للشركة تعيّن البيّنة على المدّعى، و تعيّن اليمين على من ادّعي عليه، لا أنّ الوظيفة اللزومية الابتدائية كذلك، و ثبوت اليمين على المدّعى في بعض الموارد بضميمة البيّنة أو بدونها كما في اليمين المردودة أو اليمين الاستظهارية لا دلالة له على كون مفاد قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله) غير ما ذكرنا.

فالإنصاف تمامية ما أفاده صاحب الرياض.

و يؤيّده خبر منصور قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): رجل في يده شاة فجاء رجل

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 342

..........

______________________________

فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده، لم يهب و لم يبع، و جاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده، لم يبع و لم يهب، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): حقّها للمدّعي، و لا أقبل من الذي في يده بيّنة؛ لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة من المدّعى، فإن كانت له بيّنة، و إلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّٰه عزّ و جلّ «1».

و المرسل عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) أنّه قضى في البيّنتين تختلفان في الشي ء الواحد يدّعيه الرجلان، أنّه يقرع بينهما فيه إذا عدلت بيّنة كلّ واحد منهما و ليس في أيديهما، فأمّا إن كان في أيديهما فهو فيما بينهما نصفان، و إن كان في يد أحدهما، فإنّما البيّنة فيه على المدّعى و اليمين على المدّعى عليه «2».

ثمّ لو فرض سماع بيّنة المدّعى عليه، و جواز وقوعها بدلًا عن الحلف و اليمين،

فإنّما هو مع عدم وجود البيّنة للمدّعي، و إلّا فهي مقدّمة على بيّنة المدّعى عليه كتقدّمها على يمينه، و هذا هو الذي يعبّر عنه بتقدّم بيّنة الخارج على الدّاخل. هذا مع قطع النظر عن الأخبار الواردة في تعارض البيّنات التي سيجي ء نقل كثير منها و الجمع بينها إن شاء اللّٰه تعالى.

كما أنّه قد تقدّم أنّ ثبوت اليد لكلّ منهما مرجعه إلى ثبوتها على النصف، فكلّ بالإضافة إلى النصف ذو اليد، و بالإضافة إلى النصف الآخر يكون خارجاً و غير ذي اليد. و قد «3» عرفت حكم هذه الصورة، و كذا حكم ما إذا كان في يد ثالث،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام:: 6/ 240 ح 594، الاستبصار: 3/ 43 ح 143، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 255، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 14.

(2) دعائم الإسلام: 2/ 522 ح 1863، و عنه مستدرك الوسائل: 17/ 372. أبواب كيفيّة الحكم ب 10 ح 1.

(3) في ص 312- 320.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 343

..........

______________________________

أو ما إذا لم يكن لأحدهما يد عليه و لا لثالث فيما مضى مع عدم البيّنة، فاللازم في المقام ملاحظة أنّ الأخبار الواردة هل تدلّ على خلاف القاعدة أم لا؟ فنقول: هي كثيرة:

منها: صحيحة أبي بصير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يأتي القوم فيدّعي داراً في أيديهم و يقيم البيّنة، و يقيم الّذي في يده الدار البيّنة أنّه ورثها عن أبيه، و لا يدري كيف كان أمرها؟ قال: أكثرهم بيّنة يستحلف و تدفع إليه. و ذكر أنّ عليّاً (عليه السّلام) أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البيّنة لهؤلاء أنّهم أنتجوها على مذودهم «1» و

لم يبيعوا و لم يهبوا، (و قامت البيّنة لهؤلاء بمثل ذلك) «2»، فقضى (عليه السّلام) بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم.

قال: فسألته حينئذٍ فقلت: أ رأيت إن كان الّذي ادّعى الدّار قال: إنّ أبا هذا الذي هو فيها أخذها بغير ثمن، و لم يقم الذي هو فيها بيّنة، إلّا أنّه ورثها عن أبيه؟ قال: إذا كان الأمر هكذا فهي للذي ادّعاها، و أقام البيّنة عليها «3».

و رواية إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دابّة في أيديهما، و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما علي (عليه السّلام)، فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف، فقيل له: فلو لم تكن في يد واحد منهما و أقاما البيّنة؟ فقال: أحلفهما فأيّهما حلف و نكل الآخر جعلتها للحالف، فإن حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين. قيل: فإن كانت في يد

______________________________

(1) المِذود: معتلف الدابّة، القاموس المحيط «ذود».

(2) في الكافي بدل ما بين القوسين هكذا: و أقام هؤلاء البيّنة أنّهم أنتجوها على مذودهم لم يبيعوا و لم يهبوا.

(3) الكافي: 7/ 418 ح 1، تهذيب الأحكام:: 6/ 234 ح 575 و ج 7/ 235 ح 1024، الاستبصار: 3/ 40 ح 135، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 249، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 344

..........

______________________________

أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده «1».

و رواية غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) اختصم إليه رجلان في دابّة، و كلاهما أقام البيّنة

أنّه أنتجها، فقضى بها للذي في يده، و قال: لو لم تكن في يده جعلتها بينهما نصفين «2».

و الظاهر عدم كونها رواية أُخرى، و إن جعلها في الوسائل كذلك؛ لعدم كون الاختصام إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في قصّة الدابّة متعدّداً، و رواية جابر: أنّ رجلين اختصما إلى رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) في دابّة أو بعير، فأقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّه أنتجها، فقضى بها رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) لمن هي في يده «3»، و كذا رواية تميم بن طرفة: أنّ رجلين عرفا (ادّعيا) بعيراً، فأقام كلّ واحد منهما بيّنة، فجعله أمير المؤمنين (عليه السّلام) بينهما «4»، فإنّ الظاهر أنّه أيضاً متعرّض لنفس تلك القصّة، و لا تكون قصّة جديدة.

و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كان عليّ (عليه السّلام) إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء و عددهم، أقرع بينهم على أيّهما تصير اليمين، و كان

______________________________

(1) الكافي: 7/ 419 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 233 ح 570، الاستبصار: 3/ 38 ح 130، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 250، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 419 ح 6، تهذيب الأحكام:: 6/ 234 ح 573 و ج 7/ 76 ح 324، الاستبصار: 3/ 39 ح 133، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 250، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 3.

(3) عوالي اللآلي: 3/ 526 ح 31، و عنه مستدرك الوسائل: 17/ 373، أبواب كيفيّة الحكم ب 10 ح 5، و رواه الدارقطني في سننه: 4/ 134 ح 4431، و البيهقي في السنن الكبرى: 15/ 402 ح

21829 و 21830، و ابن حجر في تلخيص الحبير: 4/ 499 ح 2141.

(4) الكافي: 7/ 419 ح 5، الفقيه: 3/ 23 ح 61، تهذيب الأحكام: 6/ 234 ح 574، الاستبصار: 3/ 39 ح 134، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 251، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 345

..........

______________________________

يقول: «اللهمّ ربّ السماوات السبع»، أيّهم كان له الحقّ فأدّاه إليه، ثمّ يجعل الحقّ للذي يصير عليه اليمين إذا حلف «1».

و رواية داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في شاهدين شهدا على أمر واحد، و جاء آخران فشهدا على غير الذي شهدا عليه و اختلفوا، قال: يقرع بينهم، فأيّهم قرع عليه اليمين و هو أولى بالقضاء «2».

و رواية زرارة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قلت له: رجل شهد له رجلان بأنّ له عند رجل خمسين درهماً، و جاء آخران فشهدا بأنّ له عنده مائة درهم، كلّهم شهدوا في موقف، قال: أقرع بينهم ثمّ استحلف الذين أصابهم القرع باللّٰه أنّهم يحلفون بالحق «3».

و مرسلة داود بن أبي يزيد العطّار، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل كانت له امرأة، فجاء رجل بشهود أنّ هذه المرأة امرأة فلان، و جاء آخران فشهدا انّها امرأة فلان، فاعتدل الشهود و عدلوا، فقال: يقرع بينهم، فمن خرج سهمه فهو المحقّ و هو أولى بها «4».

و رواية حمران بن أعين، قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن جارية لم تدرك بنت سبع

______________________________

(1) الكافي: 7/ 419 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 233 ح 571، الاستبصار: 3/ 39 ح 131، الفقيه: 3/ 53 ح

181، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 251، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 5.

(2) الكافي: 7/ 419 ح 4، الفقيه: 3/ 52 ح 178، تهذيب الأحكام: 6/ 233 ح 572، الاستبصار: 3/ 39 ح 132، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 251، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 6.

(3) الكافي: 7/ 420 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 235 ح 578، الاستبصار: 3/ 41 ح 138، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 252، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 7.

(4) الكافي: 7/ 420 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 235 ح 579، الاستبصار: 3/ 41 ح 139، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 252، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 8.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 346

..........

______________________________

سنين مع رجل و امرأة، ادّعى الرجل أنّها مملوكة له و ادّعت المرأة أنّها ابنتها، فقال: قد قضى في هذا عليّ (عليه السّلام)، قلت: و ما قضى في هذا؟ قال: كان يقول: الناس كلّهم أحرار إلّا من أقرّ على نفسه بالرّق و هو مدرك، و من أقام بيّنة على من ادّعى من عبد أو أمة فإنّه يدفع إليه و يكون له رقّا. قلت: فما ترى أنت؟ قال: أرى أن أسأل الذي ادّعى أنّها مملوكة له بيّنة على ما ادّعى، فإن أحضر شهوداً يشهدون أنّها مملوكة لا يعلمونه باع و لا وهب، دفعت الجارية إليه حتى تقيم المرأة من يشهد لها أنّ الجارية ابنتها حرّة مثلها، فلتدفع إليها و تخرج من يد الرجل.

قلت: فإن لم يقم الرجل شهوداً أنّها مملوكة له؟ قال: تخرج من يده، فإن أقامت المرأة البيّنة على أنّها ابنتها دفعت

إليها، فإن لم يقم الرجل البيّنة على ما ادّعى، و لم تقم المرأة البيّنة على ما ادّعت خلّي سبيل الجارية تذهب حيث شاءت «1».

و رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رجلين ادّعيا بغلة، فأقام أحدهما شاهدين و الآخر خمسة، فقضى لصاحب الشهود الخمسة خمسة أسهم، و لصاحب الشاهدين سهمين «2».

و رواية الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجلين شهدا على أمر، و جاء آخران فشهدا على غير ذلك فاختلفوا، قال: يقرع بينهم فأيّهم قرع فعليه اليمين و هو أولى بالحقّ «3».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 420 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 235 ح 580، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 252، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 9.

(2) الكافي: 7/ 433 ح 23، تهذيب الأحكام: 6/ 237 ح 583، الاستبصار: 3/ 42 ح 142، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 253، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 10.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 235 ح 577، الاستبصار: 3/ 40 ح 137، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 254، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 11.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 347

..........

______________________________

و رواية سماعة قال: إنّ رجلين اختصما إلى علي (عليه السّلام) في دابّة، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت على مذوده، و أقام كلّ واحد منهما بيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين، فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: «اللهمّ ربّ السماوات السبع، و ربّ الأرضين السبع، و ربّ العرش العظيم، عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة و هو أولى بها، فأسألك

أن يقرع و يخرج سهمه»، فخرج سهم أحدهما فقضى له بها «1».

و رواية عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سمعته يقول في رجل ادّعى على امرأة أنّه تزوّجها بوليّ و شهود و أنكرت المرأة ذلك، فأقامت أخت هذه المرأة على رجل آخر «2» (هذا الرجل ظ) البيّنة أنّه تزوّجها بوليّ و شهود و لم يوقّتا وقتاً: أنّ البيّنة بيّنة الزوج و لا تقبل بيّنة المرأة؛ لأنّ الزوج قد استحقّ بضع هذه المرأة و تريد أُختها فساد النكاح، فلا تصدّق و لا تقبل بيّنتها إلّا بوقت قبل وقت أو دخول بها «3».

و رواية منصور المشار إليها في كلام السيّد (قدّس سرّه)، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): رجل في يده شاة، فجاء رجل فادّعاها، فأقام البيّنة العدول أنّها ولدت عنده و لم يهب و لم يبع، و جاء الذي في يده بالبيّنة مثلهم عدول أنّها ولدت عنده لم يبع و لم يهب، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): حقّها للمدّعي، و لا أقبل من الذي في يده بيّنة؛

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 234 ح 576، الاستبصار: 3/ 40 ح 136، الفقيه: 3/ 52 ح 177، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 254، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 12.

(2) في تهذيب الأحكام: هذا الرجل، و في الاستبصار: على الآخر بدل «رجل آخر».

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 236 ح 581، الاستبصار: 3/ 41 ح 140، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 254، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 13.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 348

..........

______________________________

لأنّ اللّٰه عزّ و جلّ إنّما أمر أن تطلب البيّنة

من المدّعى، فإن كانت له بيّنة و إلّا فيمين الذي هو في يده، هكذا أمر اللّٰه عزّ و جلّ «1».

و رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: إنّ رجلين اختصما في دابّة إلى عليّ (عليه السّلام)، فزعم كلّ واحد منهما أنّها نتجت عنده على مذوده، و أقام كلّ واحد منهما البيّنة سواء في العدد، فأقرع بينهما سهمين فعلّم السهمين كلّ واحد منهما بعلامة، ثمّ قال: «اللهمّ ربّ السماوات السبع و ربّ الأرضين السبع و ربّ العرش العظيم، عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، أيّهما كان صاحب الدابّة و هو أولى بها، فأسألك أن تقرع و يخرج اسمه»، فخرج اسم أحدهما فقضى له بها، و كان أيضاً إذا اختصم إليه الخصمان في جارية، فزعم أحدهما أنّه اشتراها و زعم الآخر أنّه أنتجها، فكانا إذا أقاما البيّنة جميعاً قضى بها للذي أنتجت عنده «2».

هذه هي أكثر الروايات الواردة في المقام بضميمة أخبار القرعة الواردة في كلّ أمر مشكل أو مشتبه، و قد حقّقنا في محلّه أنّ مورد أخبار القرعة الأُمور المالية و حقوق الناس، لا مطلق الأمر المشتبه و لو كان حكماً من الأحكام الإلهية مثلًا «3».

ثمّ إنّ صاحب الوسائل (قدّس سرّه) حكى عن الشيخ بعد نقل الروايات المتقدمة أنّه قال: الذي اعتمده في الجمع بين هذه الأخبار هو أنّ البيّنتين إذا تقابلتا فلا تخلو أن تكون مع إحداهما يد متصرّفة أو لم تكن، فإن لم تكن يد متصرّفة و كانتا خارجتين فينبغي أن يحكم لأعدلهما شهوداً و يبطل الآخر، فإن تساويا في العدالة حلف

______________________________

(1) تقدّمت في ص 341- 342.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 236 ح 582، الاستبصار: 3/ 41 ح

141، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 255، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ح 15.

(3) القواعد الفقهيّة: 1/ 435 449.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 349

..........

______________________________

أكثرهما شهوداً و هو الذي تضمنه خبر أبي بصير.

و ما رواه السكوني من القسمة على عدد الشهود، فإنّما هو على وجه المصالحة و الوساطة بينهما دون مرّ الحكم، و إن تساوى عدد الشهود أقرع بينهم، فمن خرج اسمه حلف بأنّ الحقّ حقّه، و إن كان مع إحدى البيّنتين يد متصرّفة، فإن كانت البيّنة إنّما تشهد له بالملك فقط دون سببه انتزع من يده و أُعطى اليد الخارجة، و إن كانت بيّنته بسبب الملك إمّا بشرائه و إمّا نتاج الدابّة إن كانت دابّة أو غير ذلك، و كانت البيّنة الأُخرى مثلها، كانت البينة التي مع اليد المتصرّفة أولى.

فأمّا خبر إسحاق بن عمّار أنّ من حلف كان الحقّ له، و إن حلفا كان الحقّ بينهما نصفين، فمحمول على أنّه إذا اصطلحا على ذلك، لأنّا بيّنا الترجيح بكثرة الشهود أو القرعة، و يمكن أن يكون الإمام مخيّراً بين الإحلاف و القرعة، و هذه الطريقة تأتي على جميع الاخبار من غير اطراح شي ء منها و تسلم بأجمعها، و أنت إذا فكّرت فيها رأيتها على ما ذكرت لك إن شاء اللّٰه تعالى «1».

إذا عرفت ذلك فالكلام يقع في صور:

الصورة الأُولى: ما إذا كان الشي ء في يد أحدهما فقط، و أقام كلّ منهما البيّنة على ملكيته. و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة تقدّم بيّنة الخارج «2»، و هو المدّعى غير ذي اليد. و لكن الروايات الواردة في هذا المجال مختلفة، فيستفاد من بعضها ذلك، كخبر منصور و المرسل عن

عليّ (عليه السّلام) «3» كما عرفت، و من البعض الآخر خلاف ذلك مثل

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 237- 238 ذ ح 583، الاستبصار: 3/ 42- 43 ذ ح 142، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 256، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 12 ذ ح 15.

(2) في ص 339.

(3) تقدّما في ص 341- 342.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 350

..........

______________________________

رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة المشتمل ذيلها على قوله (عليه السّلام): «قيل: فإن كانت في يد أحدهما و أقاما جميعاً البيّنة؟ قال: أقضي بها للحالف الذي هي في يده»، فإنّ ظاهرها سقوط البيّنتين بالتعارض و الرجوع إلى حلف المنكر الذي هي في يده. و مثل رواية غياث بن إبراهيم المتقدّمة أيضاً الدالّة على أنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) قضى بها للذي في يده، و بعض الأخبار الأُخر. و لكنّك عرفت أنّه لا تعدّد في الروايات الواردة في قصّة الاختصام إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام)، لعدم تعدّد تلك القصّة بل الظاهر وحدتها.

و كيف كان، فالمشهور شهرة عظيمة كما في الجواهر: تقديم الخارج إذا شهدتا لهما بالملك المطلق مع التساوي في العدد و العدالة و عدمه «1»، بل عن الغنية «2» و السرائر «3» و ظاهر المبسوط «4» الإجماع عليه، و هذا المقدار يكفي في جبر سند الخبرين و إن كانا في نفسهما ضعيفان و ترجيحهما على الروايات المعارضة؛ لأنّ الشهرة من حيث الفتوى هي أوّل المرجّحات في الأخبار المتعارضة على ما استفدناه من مقبولة عمر بن حنظلة «5»، كما حقّقناه في محلّه من الأصول «6»، و لعلّه لما ذكرنا نفى البعد في المتن عمّا أفاده في هذه الصورة من تقديم بيّنة الخارج،

و إن كان في مقابل المشهور أقوال مختلفة أنهاها النراقي في المستند مع القول المشهور إلى

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 416،

(2) غنية النزوع: 443- 444، و قال في رياض المسائل: 13/ 405: وفاقا لجمهور أصحابنا- إلى أن قال:- و نسبه في الخلاف: [3/ 130 مسألة 217] إلينا.

(3) السرائر: 2/ 168- 169.

(4) المبسوط: 8/ 258.

(5) تقدّمت في ص 180.

(6) سيرى كامل در اصول فقه: 16/ 532- 555.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 351

..........

______________________________

تسعة أو أزيد «1» من تقديم بيّنة الداخل مطلقاً كما عن الشيخ في كتاب الدعاوي من الخلاف «2».

و عن جماعة ترجيح الخارج إلّا مع انفراد بيّنة الداخل بذكر السبب «3»، و عن المهذب نسبة خلافه إلى الندرة «4».

و ذهب بعضهم إلى تقديم بيّنة الداخل مطلقا إلّا مع انفراد الخارج بذكر السبب «5».

و عن بعضهم تقديم الأكثر شهوداً مع تساويهما في العدالة مع اليمين «6».

و عن ابن حمزة الفرق بين السبب المتكرّر كالشراء و الاتهاب و الصّباغة، و غير المتكرّر كالنتاج و النساجة «7».

و عن جماعة تقديم بيّنة الخارج مطلقاً من غير رجوع إلى المرجحات، و من غير فرق بين ذكر السبب في البيّنتين أو في إحداهما أو عدم ذكره «8»، و عن الغنية

______________________________

(1) مستند الشيعة: 2/ 587 589.

(2) الخلاف: 6/ 329 332 مسألة 2.

(3) كالشيخ في النهاية: 344 و التهذيبين و المبسوط: 8/ 294 295 و ابن البرّاج في المهذّب: 2/ 578، و العلّامة في مختلف الشيعة: 8/ 393 و المحقّق في شرائع الإسلام: 4/ 111 و الشهيد الأوّل في غاية المراد: 73- 74، و الشهيد الثاني في الروضة البهيّة: 3/ 108 109.

(4) المهذّب البارع: 4/ 499،

و نسبه إليه في المسالك: 14/ 86.

(5) المؤتلف من المختلف 2/ 63، مسألة 2، قواعد الاحكام: 3/ 487، مسالك الافهام: 14/ 84- 85.

(6) المقنعة: 730- 731، المقنع: 399- 400، الفقيه: 3/ 39 ذ ح 130.

(7) الوسيلة: 219.

(8) الخلاف: 3/ 130 مسألة 217، المقنع: 399- 400، و الفقيه: 3/ 39 نقلا عن رسالة أبيه، المراسم العلويّة: 236، إصباح الشيعة: 531، السرائر: 2/ 168- 169.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 352

..........

______________________________

الإجماع عليه «1»، و هذا لا ينافي ما ذكرناه من الانجبار فتدبّر.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 352

فإنّ ظاهر الجواهر و المستند أنّ المشهور هو تقديم الخارج إذا شهدتا بالملك المطلق مع التساوي في العدد و العدالة و عدمه، و الظاهر أنّ المشهور هو التقديم مطلقا من دون فرق بين ما إذا شهدتا بالملك المطلق و عدمه، و يؤيّده دعوى الغنية الإجماع على كلاهما. فالظاهر أنّ المشهور هو الأمر الأخير و هو التقديم مطلقاً، و عليه فلا يبقى ارتياب في الانجبار، كما لا يخفى.

و خلاصة الكلام في هذه الصورة أنّه مع اقتضاء القاعدة ما ذكرنا من تقديم بيّنة الخارج، لا بدّ في رفع اليد عن مقتضى القاعدة من نهوض دليل قويّ عليه، و مع عدمه فضلًا عن وجود بعض ما يطابق القاعدة الموافق للمشهور لا وجه لرفع اليد عنه، كما لا يخفى.

الصورة الثانية: ما إذا كانت العين في يدهما معاً. مقتضى القاعدة فيها التنصيف بلحاظ الأمرين

اللذين ذكرناهما سابقاً، و هما أنّ ثبوت يد اثنين على تمام مال واحد مرجعه إلى ثبوت يد كلّ منهما على النصف المشاع، فيكون كلّ منهما داخلًا و خارجاً معاً، و أيضاً مقتضى تقديم بيّنة الخارج أو بيّنة الداخل، فبيّنة كلّ واحد منهما مسموعة بالإضافة إلى النصف الخارج، و غير مسموعة بالنسبة إلى النصف الداخل، فلا محالة يحكم بينهما بالتنصيف على طبق القاعدة، كما أفاده في المتن، و في الشرائع الحكم بها بينهما نصفين «2»، و أضاف إليه في الجواهر قوله: من دون إقراع و لا ملاحظة ترجيح بأعدليّة أو أكثرية، بلا خلاف أجده بين من تأخّر عن

______________________________

(1) غنية النزوع: 443، و هذا هو الوجه الأوّل الذي ادّعى صاحب الجواهر الشهرة فيه.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 111.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 353

..........

______________________________

القديمين الحسن و أبي علي، بل صرّح غير واحد منهم بعدم الالتفات إلى المرجّحات الآتية في غير هذه الصورة «1». «2» و قد استدل المحقّق لما أفاده من التنصيف بما يرجع إلى ما ذكرنا من لزوم تقديم بيّنة الخارج على بيّنة الداخل بعد كون يد كلّ واحد منهما على النصف، لكن في المسالك احتمال أحد أمرين آخرين في سبب التنصيف، حيث إنّه قال في محكيّه: لا إشكال في الحكم بها بينهما نصفين، لكن اختلف في سببه، فقيل: لتساقط البيّنتين بسبب التساوي، و بقي الحكم كما لو لم تكن بيّنة. و قيل: لأنّ مع كلٍّ منهما مرجّحاً باليد على نصفها فقدّمت بيّنته على ما في يده، و أضاف إليه قوله:

و تظهر الفائدة حينئذٍ في اليمين على من قضي له، فعلى الأوّل أي سقوط البيّنتين بسبب التعارض يلزم كلّاً منهما

اليمين لصاحبه. و على الآخرين القول بثبوت الترجيح باليد و القول بتقديم بيّنة الخارج لا يمين لترجيح كلٍّ من البيّنتين باليد على أحدهما فتعمل بالراجح؛ و لأن البيّنة ناهضة بإثبات الحقّ على الثاني فلا يمين معها «3».

و لكن حكي عن التحرير، أنّه مع التصريح بكون السبب تقديم بيّنة الخارج، قال: و هل يحلف كلّ واحد على النصف المحكوم له به، أو يكون له من غير يمين.

الأقوى عندي الأوّل مع احتمال الثاني «4».

و الظاهر أنّه مع ملاحظة القاعدة لا مجال لأقوائية الحلف؛ لأنّه مع تقديم بيّنة

______________________________

(1) رياض المسائل: 13/ 216.

(2) جواهر الكلام: 40/ 410.

(3) مسالك الأفهام: 14/ 81.

(4) تحرير الأحكام: 5/ 185.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 354

..........

______________________________

الخارج التي هي بيّنة المدّعى لا حاجة إلى ضمّ الحلف، بعد كون البيّنة للمدّعي في الدرجة الأُولى، و اليمين على من ادّعي عليه في الدرجة الثانية، كما عرفت «1».

و أمّا مع ملاحظة الروايات، ففي رواية إسحاق بن عمّار المتقدّمة «2»: أنّ رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في دابّة في أيديهما، و أقام كلّ واحد منهما البيّنة أنّها نتجت عنده، فأحلفهما عليّ (عليه السّلام)، فحلف أحدهما و أبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف إلخ. و الظاهر خصوصاً بملاحظة الذيل أنّه مع حلفهما عقيب الإحلاف يتحقق التنصيف بينهما، كما لا يخفى. كما أنّ الظاهر بملاحظة ذيلها المشتمل على حلف ذي اليد، فيما إذا كانت الدابّة في يد أحدهما، فأقاما جميعاً البيّنة سقوط البيّنتين بالتعارض و الرجوع إلى حلف ذي اليد؛ لعدم خصوصية للتعارض و التساقط لهذه الصورة، بل يمكن دعوى الأولويّة، كما لا يخفى و هو أحد الأمور الثلاثة المتقدمة في

سبب التنصيف، و قد عرفت «3» عدم تعدّد الروايات الواردة في الاختصام إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام)، و الإحلاف إنّما هو مذكور في هذا الخبر الذي يكون سنده غير تامّ، كما في الجواهر، حيث قال: و في سنده ما فيه «4»، لكن بعض الأعلام (قدّس سرّه) عبّر عن الرواية بالمعتبرة «5»، التي يراد بها الموثقة.

و منشأ الإشكال في سند الرواية وجود الحسن بن موسى الخشاب فيها.

______________________________

(1) في ص 135 138.

(2) في ص 343 344.

(3) في ص 343 344.

(4) جواهر الكلام: 40/ 412.

(5) مباني تكملة المنهاج: 1/ 49.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 355

..........

______________________________

و المحكي عن النجاشي في حقّه أنّه من وجوه أصحابنا، مشهور «1»، و يمكن أن يستفاد من هذا التعبير الوثاقة بل ما فوقها و إن لم يصرّح بالوثاقة؛ و لذا عدّ من الذين وصل المدح فيهم و لم يصرّح بوثاقتهم، و هل يجوز الاستناد في الحكم المخالف للقاعدة إلى مثل هذه الرواية؟ الظاهر العدم.

و عليه فلا محيص إلّا الأخذ بمقتضى القاعدة و هو عدم لزوم الحلف. ثمّ إنّ المخالف لأصل التنصيف في المسألة هما القديمان على ما عرفت في كلام صاحب الجواهر، فإنّ ظاهر ابن أبي عقيل هو اعتبار القرعة، التي هي لكلِّ أمر مشكل في خصوص ما نحن فيه؛ لأنّ التنصيف تكذيب للبيّنتين، و ظاهر ابن الجنيد أنّه مع تساوي البيّنتين تعرض اليمين على المدّعيين، فإن حلف أحدهما استحقّ الجميع، و إن حلفا جميعاً كانت بينهما نصفين، و مع اختلافهما يقرع، فمن أخرجته القرعة حلف و أخذ العين «2».

و يردّهما مضافاً إلى أنّه لا إشكال و لا شبهة هنا بعد اقتضاء القاعدة ما عرفت من تقديم

بيّنة الخارج بالنسبة إلى كلاهما الموجب للتنصيف، و ليس مبتنياً على سقوط البيّنتين بالتعارض حتى يقال: إنّ المتعارضين و إن لم يكونا حجّتين في خصوص مدلولهما المطابقي، إلّا أنّهما حجّتان بالإضافة إلى نفي الثالث، الذي هو مدلولهما الالتزامي: و هو التنصيف في المقام. و مضافاً إلى الروايات الواردة في الودعي «3» الدالّة على التنصيف ففي مرسلة ابن المغيرة في رجلين كان معهما درهمان

______________________________

(1) رجال النجاشي: 42 رقم 85.

(2) مختلف الشيعة: 8/ 387- 388.

(3) تقدّمت في ص 103.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 356

..........

______________________________

إلخ يقسّم الدرهم الثاني بينهما نصفين «1». و في رواية السكوني في رجل استودع رجلًا دينارين، فاستودعه آخر ديناراً، لصاحب الدينارين دينار، و يقتسمان الدينار الباقي بينهما نصفين «2». أمّا بإلغاء الخصوصية، و إمّا بالإطلاق الشامل لصورة إقامة البيّنة و غير صورة إقامة البيّنة قيام الشهرة العظيمة «3» على التنصيف الجابرة لسند الرواية الدالّة عليه، كما لا يخفىٰ. فالقاعدة و النصّ و الشهرة متطابقات، فتدبّر.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بعد أن حكى عن الرياض أنّه نسب التنصيف إلى الأشهر، بل عامّة من تأخّر إلّا نادراً. حكى عنه أنّه قال: خلافاً للمهذّب، و به قال جماعة من الفقهاء، فخصّوا ذلك بما إذا تساويا في الأُمور المتقدّمة كلّها و مراده بالأُمور المتقدّمة تساوي البيّنتين عدداً و عدالةً إطلاقاً و تقييداً و اختلافهما في ذلك و حكموا مع الاختلاف فيها لأرجحها، و اختلفوا في بيان المرجّح لها، فعن المفيد اعتبار الأعدليّة خاصّة هنا، و إن اعتبر الأكثريّة في غيرها «4»، و عن الإسكافي اعتبار الأكثرية خاصّة «5»، و في المهذّب اعتبارهما مرتّباً بينهما الأعدليّة

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/

208 ح 481 و ص 292 ح 809، الفقيه: 3/ 22 ح 59، و عنها وسائل الشيعة: 18/ 450، كتاب الصلح ب 9 ح 1.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 208 ح 483 و ج 7/ 181 ح 797، الفقيه: 3/ 23 ح 63، المقنع: 398، و عنها وسائل الشيعة: 18/ 452، كتاب الصلح ب 12 ح 1.

(3) لم أجد عاجلًا ادّعاء الشهرة العظيمة من أحد، نعم ادّعى جماعة الأشهر؛ كصاحب المسالك: 14/ 81 و الرياض: 13/ 216. و مستند الشيعة: 17/ 399، و ملحقات العروة: 3/ 155.

و قال السبزواري في كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 726: أنه المعروف بينهم.

(4) المقنعة: 730.

(5) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 388.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 357

..........

______________________________

فالأكثرية «1»، و عن ابن حمزة اعتباره التقييد أيضاً مردّداً بين الثلاثة غير مرتّب بينها «2»، و عن الديلمي اعتبار المرجّح مطلقاً غير مبيّن له أصلًا «3»، «4».

ثمّ ذكر صاحب الجواهر: و لم أعرف نقل هذه الأقوال على الوجه المزبور فيما نحن فيه لغيره، ثمّ حكى ما عثر عليه في المقنعة، و ما عثر عليه في النهاية، و ما ذكره ابن حمزة، ثمّ قال: و على كلّ حال لا أعرف دليلًا يعتدّ به على شي ء منها على وجه يصلح لمعارضة ما عرفت «5».

أقول: التحقيق في المسألة ما ذكرنا من تطابق القاعدة و النصّ و الشهرة على التنصيف، و أنّه لا دليل يعتدّ به على الإحلاف.

الصورة الثالثة: ما إذا لم تكن العين المتنازع فيها في يد أحد أصلًا، أو كانت في يد ثالث، و المراد ما إذا لم يدّع الثالث لنفسه و لم يقرّ لأحدهما بالخصوص،

و في هذا الفرض قال المحقّق في الشرائع: و لو كانت في يد ثالث قضي بأرجح البيّنتين عدالةً، فإن تساويا قضي لأكثرهما شهوداً، و مع التساوي عدداً و عدالةً يقرع بينهما، فمن خرج اسمه أُحلف و قضي له، و لو امتنع أحلف الآخر و قضي له، و إن نكلا قضي به بينهما بالسويّة «6».

و في محكي الرياض نسبته إلى الأشهر بل عامّة متأخّري أصحابنا «7»، بل في

______________________________

(1) المهذب البارع: 4/ 494

(2) الوسيلة: 218.

(3) المراسم: 234.

(4) رياض المسائل: 9/ 413.

(5) جواهر الكلام: 40/ 414- 415.

(6) شرائع الإسلام: 4/ 111.

(7) إرشاد الأذهان: 2/ 150، المقتصر: 384، الروضة البهيّة: 3/ 106، رياض المسائل: 13/ 220.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 358

..........

______________________________

المسالك و غيرها نسبته إلى الشهرة «1» بل عن محكيّ الغنية الإجماع عليه «2»، لكنّ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بعد نقل أقوال متعدّدة متكثّرة قال: و على كلّ حال فلا ريب في عدم الوثوق بالإجماع المزبور بعد ما عرفت «3».

و كيف كان فالكلام يقع في مقامين:

المقام الأوّل: فيما تقتضيه القاعدة مع قطع النظر عن الروايات الواردة، فنقول:

مقتضى القاعدة في هذه الصورة تساقط البيّنتين من دون فرق بين فرض تساويهما عدداً و عدالةً، أو اختلافهما في هذه الجهة؛ لما عرفت «4» من أنّ البيّنة تكون حجّة من باب الأمارية و الطريقية، و أنّ تعارض البيّنتين موجب لسقوطهما مطلقا من دون فرق بين فرض وجود المرجّح و عدمه بعد عمومية دليل حجّية البيّنة، و عدم قيام دليل خاصّ على اختصاص إحدى البيّنتين بالحجّية، كما في صورة وجود اليد لخصوص أحدهما على ما عرفت «5» من أنّ مقتضى قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله):

«البيّنة على من ادّعى و اليمين على من ادّعي عليه» تقدّم بيّنة المدّعى على غيرها.

و مع حصول التساقط بسبب التعارض مطلقا تصل النوبة إلى أدلّة القرعة الدالّة على أنّها لكلّ أمر مشكل أو مشتبه «6»، بعد ثبوت الإشكال و الاشتباه هنا بلحاظ عدم الدليل على تقدّم إحداهما على الأُخرى، بخلاف الصورتين الأوليين، حيث

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 87، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 730، مستند الشيعة: 17/ 404، رياض المسائل: 13/ 224، و قد نسب هذا القول صاحب الرياض و غيره إلى جماعة كثيرة من المتقدّمين.

(2) غنية النزوع: 443- 444.

(3) جواهر الكلام: 40/ 425.

(4) في ص 338- 340 و 349.

(5) في ص 338- 340 و 349.

(6) تقدّمت في ص 345- 348 و انظر القواعد الفقهيّة للمؤلّف دام: 1/ 435- 449.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 359

..........

______________________________

إنّه قام الدليل فيهما على تقدم بيّنة المدّعى كما عرفت، و اللّازم بعد أصابه القرعة إلى واحد منهما جعله صاحب المال من دون افتقار إلى يمين، كما هو الحال في سائر موارد القرعة، كما لا يخفىٰ.

المقام الثاني: في الرّوايات «1» التي يمكن أن يستفاد منها حكم هذه الصورة، و هي مختلفة، فمن بعضها يستفاد الترجيح بالأكثريّة عدداً مثل صحيحة أبي بصير المتقدّمة الدالّة على قول الصادق (عليه السّلام): «أكثرهم بيّنة يستحلف و تدفع إليه». و الحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السّلام) من أنّه «قضى بها لأكثرهم بيّنة و استحلفهم».

و رواية عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المشتملة على قوله: «كان عليّ (عليه السّلام) إذا أتاه رجلان بشهود عدلهم سواء و عددهم أقرع بينهم» إلخ.

فإنّ تعليق الإقراع على التساوي

في العدالة و العدد في كلام الإمام (عليه السّلام) يشعر بأرجحيّة العدد و العدالة، بخلاف ما إذا كان التساوي مفروضاً في غير كلام الإمام (عليه السّلام)، لكنّه لا يتجاوز عن حدّ الإشعار و لا يبلغ مرتبة الدلالة، كما لا يخفىٰ، خصوصاً مع التعبير به كان الدالّ على الاستمرار.

و مرسلة داود بن يزيد العطار المتقدّمة أيضاً، المشتملة على قوله (عليه السّلام): «فاعتدل الشهود و عدلوا» بناءً على أن يكون المراد بالاعتدال هو التساوي في العدد، و على أن يكون المراد بقوله: «عدلوا» هو التساوي في مرتبة العدالة.

و رواية سماعة المتقدّمة أيضاً المشتملة على توصيف البيّنة بأنّها سواء في العدد

______________________________

(1) تقدّمت في ص 343- 347.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 360

..........

______________________________

و الكميّة. و من بعضها الترجيح بالأعدلية كبعض الروايات المتقدّمة، لكنه لا يكون فيها ما فيه الدلالة على ذلك، بل غايته الإشعار كما عرفت.

و هنا مشكلات اخرى، و هي أنّه ما الدليل على تقدّم الترجيح بالأعدلية على الأكثريّة، مع أنّ مقتضى إطلاق ما دلّ على الترجيح بالأكثرية الشمول لما إذا كانت هناك أعدلية؟ و ما الوجه في أنّه بعد التساوي يجب الرجوع إلى القرعة، مع أنّ رواية إسحاق بن عمار المتقدّمة «1» دالّة على لزوم الإحلاف فيما إذا لم يكن المال في يد أحدهما، و أنّه مع حلفهما يجعل المال نصفين «1»، و قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة الرجوع إلى القرعة مطلقا؟ و ما الوجه في أنّه بعد أصابه القرعة و عدم الحلف في اعتبار حلف الآخر، مع أنّه لم يصب إليه القرعة إلّا أن يستند إلى الأولوية؟ و هكذا إشكالات أُخرى مثل أنّ القرعة هل هي لاستخراج صاحب الحقّ

كما يدلّ عليه بعض النصوص المشتمل على دعاء أمير المؤمنين (عليه السّلام)، أو لاستخراج من يصير عليه اليمين كما في خبر عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه المتقدّم؟

و الإنصاف أنّ المسألة خصوصاً بهذا الشق في غاية الإشكال و الصعوبة؛ لاضطراب الأقوال و اختلاف الروايات، مضافاً إلى ما في الجواهر من أنّه لا ريب في أنّ الترجيح للأعدلية؛ لإجماع ابن زهرة يعني في الغنية «2» المعتضد بالشهرة المحقّقة بين الأصحاب، و وجود ذلك في رسالة عليّ بن بابويه «3»، التي قيل فيها: كانوا إذا أعوزتهم النصوص رجعوا إليها، و في النهاية «4» التي هي متون الأخبار

______________________________

(1) في ص 343- 344.

(2) غنية النزوع: 443- 444.

(3) حكى عنه الصدوق في المقنع: 399- 400 و الفقيه: 3/ 39 ب 27، و العلّامة في مختلف الشيعة 8/ 386.

(4) النهاية: 343.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 361

..........

______________________________

و غير ذلك «1».

أقول: و كان سيدنا العلّامة الأستاذ البروجردي (قدّس سرّه) يقول في شأن النهاية و الكتب الفقهية المؤلَّفة قبل مبسوط الشيخ (قدّس سرّه): إنّه كان البناء على ذكر متون الروايات بعين الألفاظ الصادرة عنهم (عليهم السّلام)، و صار ذلك سبباً للطعن على فقهاء الشيعة و فقههم بعدم اطّلاعهم على التفريع و إخراج الفروع من الأُصول الصادرة؛ و لذا أقدم الشيخ على تأليف المبسوط و بيان الفروع و أحكامها، كما أفاده في مقدّمة المبسوط.

و كيف كان، فالمسألة بهذا النحو المذكور في الشرائع ممّا لا يمكن إقامة الدليل عليها ممّا بأيدينا من النصوص و الروايات، و لا يمكن الاحتياط فيها، فاللّازم ردّ علمها إلى أهلها كما لا يخفى. و هناك بحوث أُخر فيما يرتبط بالتأمّل و الدقّة في

الروايات لعلّها تظهر للمتأمّل، فتأمّل.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 428.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 363

[خاتمة فيها فصلان]

اشارة

خاتمة فيها فصلان:

[الفصل الأوّل: في كتاب قاض إلى قاض]
اشارة

الأوّل: في كتاب قاض إلى قاض

[مسألة 1: لا ينفذ الحكم و لا تفصل الخصومة إلّا بالإنشاء لفظاً]

مسألة 1: لا ينفذ الحكم و لا تفصل الخصومة إلّا بالإنشاء لفظاً، و لا عبرة بالإنشاء كتباً، فلو كتب قاض إلى قاض آخر بالحكم و أراد الإنشاء بالكتابة لا يجوز للثاني إنفاذه، و إن علم بأنّ الكتابة له و علم بقصده (1).

______________________________

(1) قد مرّ في بعض المسائل السابقة أنّ الحكم و فصل الخصومة إنّما هو من مقولة الإنشاء دون الإخبار، فقول الحاكم: قضيت أو حكمت أو نحوهما، إذا كان في مقام الإنشاء دون الإخبار عن الحكم الماضي و فصل الخصومة في السابق يترتّب عليه فصل الخصومة و رفع التنازع، كما في العقود و الإيقاعات، فقول: بعت إنّما يكون إيجاباً للبيع إذا كان في مقام الإنشاء لا الإخبار عن البيع في الزمان السّابق. و المقصود في هذه المسألة أنّ الإنشاء الفاصل للخصومة لا بدّ و أن يكون بسبب اللفظ، و أنّه لا عبرة بالإنشاء كتباً، و المراد ليس عدم الاكتفاء بالكتابة لأجل إجمالها و احتمالها غير الفصل، بل لو كان المقصود هو الفصل و علم الحاكم الثاني بذلك و أنّ مقصوده الحكم على طبقه و فصل الخصومة به لا يجوز له إنفاذه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 364

..........

______________________________

و الرواية الوحيدة الواردة في هذا الباب ما رواه السكوني و كذا طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام): أنّه كان لا يجيز كتاب قاضٍ إلى قاض في حدّ و لا غيره حتى وليت بنو أُمية، فأجازوا بالبيّنات «1». و الظاهر انّها رواية واحدة كما في الوسائل، و إن عبّر عنها في الجواهر بالخبرين؛ لاتّحاد المرويّ عنه و عدم الاختلاف في التعبيرات و

لو في شي ء يسير.

ثمّ الظاهر أنّ هنا أمرين لا يصحّ الاختلاط بينهما:

أحدهما: جواز إنشاء الحكم و فصل الخصومة بالكتابة، و بعبارة أخرى بغير اللفظ و عدمه.

ثانيهما: جواز إنهاء الحكم إلى حاكم آخر لأجل الإجراء و التنفيذ، من دون أن يكون نفس الحكم منشأً بالكتابة، و قد تعرّض لهذا الأمر في المسألة الثانية، كما أنّه قد تعرّض للأمر الأوّل في هذه المسألة، و كتابة قاض إلى قاض آخر إنّما تناسب الأمر الثاني لا الأمر الأوّل. و عليه فتفريعه في المتن على هذا الأمر كأنّه في غير محلّه، خصوصاً مع كون المكتوب إليه قاضياً آخر، إلّا أن يقال بإمكان استفادة الحكم، و هو عدم الجواز بالإضافة إلى هذا الأمر أيضاً، و لكنّه محلّ تأمّل.

و كيف كان، فإن كان المراد اختصاص إنشاء الحكم و فصل الخصومة باللفظ، فلا يجوز بغيره مثل الفعل و الكتابة، بحيث كان المراد الفرق بين هذا المقام و هو إنشاء الحكم، و بين مثل البيع الذي هو من الأمور الإنشائية، و يجري فيه

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 300 ح 840 و 841، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 297، كتاب القضاء، أبواب كيفيّة الحكم ب 28 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 365

..........

______________________________

المعاطاة و الفعل. فيرد عليه أنّه لا دليل على الاختصاص، فقد صرّح السيّد (قدّس سرّه) في الملحقات بأنّه يكفي فيه الفعل الدالّ إذا قصد به إنشاء، كما إذا أخذ مال المحكوم عليه و دفعه إلى المحكوم له «1».

و إن كان المراد عدم كفاية الكتابة في مقام القضاء و مثله، كما عن ابن إدريس في نوادر القضاء التصريح بأنّه لا يجوز للمستفتي أن يرجع إلّا إلى قول

المفتي دون ما يجده بخطّه إلى أن قال: بغير خلاف من محصّل ضابط لأصول الفقه «2». فالظاهر أنّه لا دليل عليه بنحو الإطلاق كما عن الأردبيلي أنّه مع العلم بقصده لا مانع من العمل بها قال: و لهذا جاز العمل بالمكاتبة في الرواية، و أخذ المسألة و العلم و الحديث من الكتاب الصحيح عند الشيخ المعتمد، و لأنّه قد يحصل منها ظنّ أقوى من الظنّ الحاصل من الشاهدين، بل يحصل منها الظنّ المتاخم للعلم، بل العلم مع الأمن من التزوير، و أنّه كتب قاصداً للمدلول، و حينئذٍ يكون مثل الخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للعلم، بأنّ القاضي الفلاني الذي حكمه مقبول حكم بكذا، فإنّه يجب إنفاذه و إجراؤه من غير توقّف، و يكون ذلك مقصود ابن الجنيد «3»، و يمكن أن لا ينازعه فيه أحد بل يكون مقصودهم الصورة التي لم يأمن فيها التزوير، أو لم يعلم قصد الكاتب إرادة مدلول الرسم «4».

و الدليل على ما ذكرنا من كفاية الكتابة في صورة الأمن من التزوير السيرة

______________________________

(1) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 50 مسألة 3.

(2) السرائر: 2/ 187.

(3) حكى عنه مختلف الشيعة: 8/ 445 مسألة 45.

(4) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 210 و 209 مع تقديم و تأخير و نقل بالمعنى تبعاً للجواهر: 40/ 303- 304.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 366

..........

______________________________

المستمرّة في جميع الأعصار و الأمصار على ذلك، بل قال في الجواهر: يمكن دعوى الضرورة على ذلك، خصوصاً مع ملاحظة عمل العلماء في نسبتهم الخلاف و الوفاق، و نقلهم الإجماع و غيره في كتبهم المعمول عليها بين العلماء «1».

أقول: و مع ملاحظة شدّة الاحتياج إلى الكتابة خصوصاً في الأزمنة السالفة

التي لم تحدث فيها صنعة الطبع، و في هذا الزمان مع رواج هذه الصنعة كثيراً يكون الاحتياج إلى الكتابة باقياً بحاله كما نراه بالوجدان، و حينئذٍ فكيف يمكن دعوى عدم اعتبار الكتابة مطلقاً حتى في صورة الأمن من التزوير الحاصل بالاطلاع على خصوصيات الخطّ و بالمختومية و نحوهما. و في كلام المحقّق في الشرائع تعليل عدم اعتبار الكتابة بإمكان التشبيه «2».

نعم في الجواهر: الفرق بين مثل الكتابة و اللفظ بما يرجع إلى أنّ اللفظ يحكم بمجرّد صدوره من اللافظ بما يقتضيه لفظه إلّا أن يعلم خلافه، بخلاف مثلها، فإنّها من قسم الأفعال لا دلالة فيه كذلك «3»، و أمّا عدم العبرة به حتّى مع العلم فلا، فلعلّه حينئذٍ يصير النزاع لفظيّاً، كما أشار إليه المحقّق الأردبيلي في كلامه المتقدّم.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 304.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 95.

(3) جواهر الكلام: 40/ 305.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 367

[مسألة 2: إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء لفظاً إلى حاكم آخر إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة]

مسألة 2: إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء لفظاً إلى حاكم آخر إمّا بالكتابة أو القول أو الشهادة، فإن كان بالكتابة بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه فلا عبرة بها حتى مع العلم بأنّها له و أراد مفادها، و أمّا القول مشافهة فإن كان شهادة على إنشائه السابق فلا يقبل إلّا مع شهادة عادل آخر، و أولى بذلك ما إذا قال: ثبت عندي كذا، و إن كان الإنشاء بحضور الثاني بأن كان الثاني حاضراً في مجلس الحكم فقضى الأوّل، فهو خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه، و أمّا شهادة البيّنة على حكمه فمقبولة يجب الإنفاذ على حاكم آخر، و كذا لو علم حكم الحاكم بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين

(1).

______________________________

(1) إنهاء حكم الحاكم بعد فرض الإنشاء الصحيح سواء كان باللفظ بناءً على الاختصاص به أو بغيره بناءً على جوازه، كما عرفت في ذيل المسألة الأُولى بأحد أمور الثلاثة.

و ليعلم قبل التعرّض لهذه الأُمور أنّ الغرض من الإنهاء كما أشار إليه المحقّق في الشرائع أنّ الحاجة قد تمسّ إليه؛ لأن احتياج أرباب الحقوق إلى إثباتها في البلاد المتباعدة غالب، و تكليف شهود الأصل بالانتقال إلى تلك البلاد متعذّر أو متعسّر، فلا بدّ من وسيلة إلى استيفائها مع تباعد الغرماء، و لا وسيلة إلّا رفع الأحكام إلى الحكّام، و لأنه لو لم يشرع إنهاء الاحكام بطلت الحجج مع تطاول المُدد، و لأنّ المنع من ذلك يؤدّي إلى استمرار الخصومة في الواقعة الواحدة، بأن يرافعه المحكوم عليه إلى آخر، فإن لم ينفذ الثاني ما حكم به الأوّل اتصلت المنازعة، و غير ذلك

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 368

..........

______________________________

من الفوائد «1».

كما أنّه ينبغي قبل التعرّض لتلك الأمور الثلاثة بيان أصل أصّله صاحب الرياض، و حكى في الجواهر أنّه قد بنى عليه كثيراً من مسائل هذا الفصل، و لخّصه في أنّ قضاء التنفيذ قسم آخر من القضاء، غير أصل القضاء بالواقعة بموازينها المقرّرة شرعاً، و هي: البيّنة و الايمان، بخلاف الحكم بحكم الأوّل الذي هو من القول بغير علم، بل لعلّه منافٍ لرأي الحاكم الآخر، و أقصى ذلك عدم جواز نقضه، لا تنفيذه بمعنى إنشاء حكم منه على المحكوم عليه أوّلًا بحكم الأوّل، حتى لو كان حاضر الإنشاء فضلًا عن ثبوته بالكتاب أو الإخبار أو البيّنة، إلّا أنّه خرج ما خرج بالإجماع و بقي غيره على الأصل «2».

و أورد عليه في الجواهر

بما يرجع إلى أنّه يمكن استفادة قضاء التنفيذ من أدلّة أصل القضاء، التي منها: «جعلته حاكماً و حجّة كما أنا حجّة» «3»، و نحو ذلك ممّا يشمل القضاء التنفيذي أيضاً، و احتمال كون المراد من ذلك عدم نقضه لا إنشاء إلزام بإلزام الأوّل من حيث إلزامه، يدفعه ما سمعته من الأدلّة الدالّة على مشروعيته، مضافاً إلى إطلاق كونه حاكماً و حجّة المقتضي لتناول ذلك لو صدر منه، و قال في ذيله: فتأمّل جيّداً، فإنّ المسألة غامضة، و لم أجد من نقّحها كما ذكرنا، بل ستسمع كلام بعض أنّ الإنفاذ ليس حكماً بل هو إقرار حكم، و التحقيق ما عرفت «4».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 884.

(2) رياض المسائل: 13/ 149- 151.

(3) وسائل الشيعة: 27/ 136 و 138، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 11 ح 1 و 9، هو نقل بالمعنى.

(4) جواهر الكلام: 40/ 309 310.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 369

..........

______________________________

أقول: إنّ البحث في القضاء التنفيذي قد يقع في حقيقته و ماهيته، و قد يقع في وجه الاحتياج و الافتقار إليه.

أمّا البحث من الجهة الأُولى و إن لم يكن منقّحاً في كلمات الأصحاب كما عرفت من الجواهر فالظاهر أنّه حكم مستقلّ لا إنفاذ الحكم الأوّل، غاية الأمر أنّه لا يعتبر فيه البيّنات و الايمان. و قد عرفت في مبحث علم القاضي «1» أنّ الحصر فيهما إضافي، و لا ينافي الحكم بالعلم، بل المعتبر فيه حكم الأوّل و ثبوته، و إن لم يكن مطابقاً لرأي الثاني و نظره. و أمّا سائر الخصوصيات المعتبرة سيما ما يكون من صفات القاضي فهو معتبر في القاضي التنفيذي؛ و لذا سمّي بالقضاء التنفيذي لا به

تنفيذ القضاء، فتدبّر.

و أمّا البحث من الجهة الثانية؛ فلأنّه ربّما تمسّ الحاجة إلى حكمه لأجل شدّة اقتداره و قوّته على إجراء حكمه دون القاضي الأوّل، أو لأجل أنّ المتخاصمين لهما أو لأحدهما مناقشة في الحكم الأوّل من جهة عدالة القاضي أو علمه مثلًا، مع ثبوت كلاهما عند القاضي التنفيذي، أو لأجل ضعف القاضي الأوّل و عدم بناء الثاني إلّا على إجراء حكم نفسه، أو لغير ذلك من الجهات.

و بالجملة: الافتقار إلى القاضي التنفيذي يتحقّق كثيراً.

الأوّل، الكتابة: بأن يكتب إلى حاكم آخر بحكمه، و قد عرفت أنّ التعبير بكتاب قاض إلى قاض، كما في الكلمات تبعاً للرواية إنّما يناسب هذا الأمر، و في المتن أنّه لا عبرة بها حتى مع العلم بأنّها له و أراد مفادها.

______________________________

(1) أي في المسألة الثامنة من صفات القاضي.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 370

..........

______________________________

و الظاهر أنّ مستندها هو إطلاق الرواية المتقدّمة «1» الحاكية لعمل أمير المؤمنين (عليه السّلام)، و أنّه كان لا يجيز كتاب قاض إلى قاض، بعد وضوح أنّ المراد عدم الإجازة الوضعية لا التكليفية، فإنّ مقتضى إطلاقها عدم الإجازة و لو مع العلم بأنّها له و أراد مفادها، خصوصاً مع ملاحظة أنّ الحاكي لعمل المولى كان هو الإمام (عليه السّلام)، و كان في مقام بيان الحكم لا نقل القصّة، غاية الأمر بهذه الكيفية، و لو كان القيد دخيلًا فيه كان عليه بيانه، كما لا يخفى.

هذا، و لكنّ الظاهر انصراف الرواية عن هذه الصورة التي كانت الكتابة مقرونة بقرائن قطعية موجبة للعلم بذلك، أو الاطمئنان الذي يعامل معه عند العرف و العقلاء معاملة العلم.

ثمّ إنّ المحقّق في الشرائع أورد على الرواية سنداً بأنّ طلحة

بتري و هم فرقة من الزيدية و السكوني عامي «2»، و أضاف إليه صاحب الجواهر أنّه لا جابر لهما في خصوص المفروض أي صورة ثبوت الحكم و إحرازه بل الوهن محقّق، و شهرة مضمونها في غير المفروض لا يقتضي جبرها فيه «3».

أقول: مضافاً إلى أنّه لا يعتبر في حجية خبر الواحد و اعتباره إلّا مجرّد الوثاقة و هي متحقّقة بالإضافة إلى سند السكوني و قد حكي عن الشيخ في العُدّة أنّه قال: و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث .. و السكوني .. عن أئمّتنا (عليهم السّلام)، فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه «4»، أنّ ثبوت استناد المشهور إليه

______________________________

(1) في ص: 343- 344.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 97.

(3) جواهر الكلام: 40/ 311.

(4) العُدّة في أصول الفقه: 1/ 149 150.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 371

..........

______________________________

كافٍ في الحجية، و إن لم يكن إطلاق الرواية مورداً لقبولهم.

نعم قد عرفت انصراف الإطلاق إلى صورة الاشتباه و عدم الأمن من التزوير، و لا يشمل صورة الأمن بوجه، مضافاً إلى ما أفاده المحقّق في الشرائع، حيث قال: و مع تسليمها نقول بموجبها، فإنّا لا نعمل بالكتاب أصلًا و لو شهد به فكأنّ الكتاب ملغى «1».

و الظاهر أنّ قوله: «و لو شهد به» أنّ قيام البيّنة على كونه كتاب القاضي لا يكفي، خلافاً لبني أميّة حيث انّهم لمّا ولوا أجازوا بالبيّنات. و الظاهر أنّ المراد البيّنات علىٰ ثبوت الكتابة، لا البيّنات على الحكم الموافقة لما في الكتاب، فإنّه لم يحك عن علي (عليه السّلام) منعه، فلا تتحقّق الموافقة بين الصدر و الذيل كما لا يخفىٰ.

و قد انقدح من جميع

ما ذكرنا الخلل فيما أفاده في المتن من أنّه لا عبرة بها؛ أي بالكتابة حتى مع العلم بأنّها له و أراد مفادها.

الثاني، القول مشافهة: و قد فصّل فيه في المتن بين ما إذا كان شهادة على إنشائه السابق، فلا يجدي إلّا ما إذا كان مع شهادة عادل آخر لتتحقّق البيّنة على ذلك. و أولى من ذلك ما إذا قال: ثبت عندي كذا، و بين ما إذا كان الإنشاء بحضور الثاني، إن كان الثاني حاضراً في مجلس الإنشاء الصّادر من الأوّل، و أفاد أنّه خارج عن محطّ البحث لكن يجب إنفاذه. و يظهر من المحقّق في الشرائع التردّد في القبول حيث قال فيها: و أمّا القول مشافهة فهو أن يقول للآخر: حكمت بكذا أو أنفذت أو أمضيت، ففي

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 96.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 372

..........

______________________________

القضاء به تردّد. نصّ الشيخ في الخلاف «1» أنّه لا يقبل «2».

و من الواضح أنّ قول: حكمت أو أنفذت أو مثلهما إنّما هو إخبار عمّا وقع له من الإنشاء السابق لا الإنشاء، كما أنّ التعبير بقوله: ففي القضاء به .. إشارة إلى ما ذكرنا في القضاء التنفيذي من كونه حكماً ثانياً، غاية الأمر كونه كذلك لا مجرّد تنفيذ حكم الحاكم الأوّل.

و الظاهر أنّ منشأ الترديد أنّ خبر العادل الواحد في الموضوعات التي منها حكم نفسه لا يكون حجّة كما حقّقناه في محلّه، و عليه فيحتاج إلى شهادة عادل آخر حتى تقوم البيّنة على ذلك، و أنّ الإنشاء أمر لا يكاد يعلم إلّا من قبله، خصوصاً مع أنّ الظاهر أنّه لا يعتبر فيه أن يكون بحضور المتخاصمين و في معرض استماعهما، و إن

كان مشروطاً بالتماس المحكوم له.

و حينئذٍ يكفي فيه الإخبار عن إنشاء الحكم إذا لم يكن بحضورهما، فإذا كان إخباره كافياً لهما مع كونه عادلًا و إن كان واحداً، فالظاهر كفايته بالإضافة إلى الحاكم الآخر، و خبر العادل الواحد و إن لم يكن حجّة في الموضوعات بنحو الكلية إلّا أنّه حجة في بعض الموارد، بل و إن لم يكن عادلًا، كإخبار البائع بوزن المبيع الموزون أو كيل المبيع المكيل، و إخبار ذي اليد بنجاسة ما في يده و نظائرهما. و قد حكم صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بعد حكاية تردّد المحقّق بأنّ أقربه القبول كما ستعرف «3»، و لكني لم أتحقّق وجهه في كلامه، و الظاهر أنّ وجهه ما ذكرنا.

الثالث، شهادة البيّنة على حكم الحاكم الأوّل: و قد عرفت أنّ المراد بقوله عليه السلام:

______________________________

(1) الخلاف: 6/ 245 مسألة 42.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 96.

(3) جواهر الكلام: 40/ 306.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 373

..........

______________________________

«فأجازوا بالبيّنات» في رواية السكوني هي البيّنة على الكتابة لا البيّنة في أصل الواقعة في مقابل اليمين، التي قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) في حقّهما: «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان» «1».

و من الواضح عدم كون الولي مخالفاً للنبيّ صلّى اللّٰه عليهما و آلهما. و ستعرف في بعض المسائل الآتية إنّ حجّية البيّنة على إنشاء القاضي لا يعتبر فيها حضور مجلس الإنشاء و لا إشهاد القاضي إيّاها، بل هي حجّة مطلقا سواء كانا حاضرين مجلس الإنشاء أم لا، و سواء أشهدهما القاضي أم لا. و سيأتي أيضاً في بعض المسائل الآتية إن شاء اللّٰه تعالى الفرق بين حقوق الناس و حقوق اللّٰه فانتظر.

و هكذا في وجوب

الإنفاذ بالمعنى الذي ذكرناه؛ ما لو علم القاضي الثاني بحكم القاضي الأوّل بالتواتر أو قرائن قطعية أو إقرار المتخاصمين. و المراد صورة إفادة إقرارهما العلم بذلك، و إلّا فربّما لا يكون الإقرار الكذائي مفيداً للعلم، كما إذا لم يكن المتخاصمان مدّعياً و منكراً، بل متداعيين و احتمل التباني بينهما، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 374

[مسألة 3: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة]

مسألة 3: الظاهر أنّ إنفاذ حكم الحاكم أجنبي عن حكم الحاكم الثاني في الواقعة؛ لأنّ قطع الخصومة حصل بحكم الأوّل، و إنّما أنفذه و أمضاه الحاكم الآخر ليجريه الولاة و الأُمراء، و لا أثر له بحسب الواقعة، فإنّ إنفاذه و عدم إنفاذه بعد تمامية موازين القضاء في الأوّل سواء، و ليس له الحكم في الواقعة؛ لعدم علمه و عدم تحقّق موازين القضاء عنده (1).

______________________________

(1) قد عرفت في ذيل المسألة الثانية المتقدّمة أنّ القضاء التنفيذي نوع من القضاء و قسم منه، و قد عرفت أنّ المحقّق في الشرائع عبّر بالقضاء به أي بالقول مشافهة، كما أنّك عرفت وجه الاحتياج و الافتقار إليه، و موضوعه القضاء الأوّل بعد تماميّة موازين القضاء عند القاضي الأوّل الحاكم في نفس الواقعة بخصوصياتها، و عليه فالتعبير بمغايرة الإنفاذ عن حكم الحاكم الثاني لا يكون في محلّه، و عدم كونه حكماً لأجل عدم العلم بالواقعة، و عدم تحقق موازين القضاء عند الحاكم الثاني لا يلائم إلّا مع عدم كونه حكماً في الواقعة مستقيماً، و أمّا عدم كونه حكماً و إنشاءً مطابقاً لإنشاء الأوّل فلا، و عليه فالمغايرة إنّما هي باعتبار كونه حكماً في الواقعة لا باعتبار أصل الحكم و إنشائه.

و بالجملة: فالدقّة في العبارة

تعطي أنّ الماتن (قدّس سرّه) إنّما هو في مقام بيان أنّ الحكم الثاني لا يكون حكماً في الواقعة بحيث يترتّب عليه فصل الخصومة، و أمّا أصل كونه حكماً إنشائياً فلا يكون المتن بصدد نفيه، و إن كان ربّما يوهمه في بادئ النظر، كما لا يخفى.

و الإنصاف أنّ القولَ بعدم كونه حكماً ناشئٌ عن عدم الدقّة و التدبّر في كلمات القوم و عباراتهم، و عن تخيّل كون فصل الخصومة و رفع التنازع قد حصل بحكم

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 375

..........

______________________________

الأوّل، فلا مجال لحكم الثاني، فلا بدّ أن يكون حكمه إنفاذاً لحكم الأوّل غفلة عن أنّه نوع من القضاء لا يعتبر فيه العلم بالواقعة، و تحقّق موازين القضاء عنده بل موضوعه حكم الأوّل مع الخصوصيّات المتحقّقة.

و قد عرفت أنّ الحصر في قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان» حصر إضافي «1»؛ و لذا يجوز للقاضي القضاء بعلمه، لو لم نقل بالانصراف إلى القضاء الأصلي في نفس الواقعة.

و عليه فالدليل عليه هو الدليل على أصل مسألة القضاء ممّا يدلّ على كون القاضي حَكَماً و حجّة، كما مرّ في كلام صاحب الجواهر، مضافاً إلى أنّ الأمر الثالث المتحقّق في المقام بعد عدم كون عمل القاضي الثاني قضاءً في نفس الواقعة لعدم تحقّق موازين القضاء عنده، و عدم كونه إجراءً محضاً هو الإنشاء على طبق حكم الأوّل و الحكم عليه، لا مجرّد القبول و الرّضا.

فالحقّ ما عرفت، و إن كان ربّما يستبعده الذهن خصوصاً بعد ارتباطه نوعاً بالقضاء الأصلي، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) في ص 186.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 376

[مسألة 4: لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق اللّٰه تعالى و حقوق الناس إلّا في الثبوت بالبيّنة]

مسألة

4: لا فرق فيما ذكرناه بين حقوق اللّٰه تعالى و حقوق الناس إلّا في الثبوت بالبيّنة، فإنّ الإنفاذ بها فيها محلّ إشكال و الأشبه عدمه (1).

______________________________

(1) الظاهر وقوع السّهو و الاشتباه في تقديم حقوق اللّٰه تعالى في الذكر على حقوق الناس، فإنّ ما هو محلّ الإشكال في الثبوت بالبيّنة إنّما هي حقوق اللّٰه.

قال المحقّق في الشرائع: العمل بذلك أي بالقضاء التنفيذي مقصور على حقوق الناس دون الحدود و غيرها من حقوق اللّٰه «1»، و أضاف إليه في الجواهر قوله: بلا خلاف أجده فيه، بل حكى الإجماع عليه غير واحد «2»، بل قد يشهد له التتبّع، و هو حجّة لا ما ذكروه من درء الحدود بالشبهات «3» التي لا محلّ لها بعد قيام البيّنات.

ثمّ قال: اللهمّ إلّا إنّ يقال: إنّ الشبهة حاصلة للحاكم الآخر حتى لو سمع إنشاء حكمه فضلًا عن الشهادة به، فلا يشرع قضاء التنفيذ في الحدّ «4» ..

أقول: و يمكن أن يكون الوجه فيه بناء على كون الإجماع فقط مدركاً للقضاء التنفيذي إنّ الإجماع حيث يكون دليلًا لبّياً، و الأدلّة اللبّية يقتصر فيها على القدر المتيقّن، فالقدر المتيقّن هي حقوق الناس دون حقوق اللّٰه مثل الحدّ و غيره، فإنّها محلّ إشكال لو لم نقل بقيام الإجماع فيها على العدم، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 97.

(2) السرائر: 2/ 176، تحرير الأحكام: 5/ 150، الرقم 6478، مختلف الشيعة 8/ 445، قواعد الاحكام: 3/ 216 456- 458، كشف اللثام: 10/ 156، رياض المسائل: 13/ 147.

(3) تقدّمت الرواية الدّالة عليه في ص 174- 272

(4) جواهر الكلام: 40/ 312.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 377

[مسألة 5: لا يعتبر في جواز شهادة البيّنة و لا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات]

مسألة 5: لا يعتبر في جواز شهادة

البيّنة و لا في قبولها هنا غير ما يعتبر فيهما في سائر المقامات، فلا يعتبر إشهادهما على حكمه و قضائه في التحمّل، و كذا لا يعتبر في قبول شهادتهما إشهادهما على الحكم، و لا حضورهما في مجلس الخصومة و سماعهما شهادة الشهود، بل المعتبر شهودهما أنّ الحاكم حكم بذلك، بل يكفي علمهما بذلك (1).

______________________________

(1) قد عرفت أنّ طرق الإنهاء ثلاثة:

منها: قيام البيّنة عند الحاكم الثاني على ثبوت حكم الحاكم الأوّل و إنشائه لرفع الخصومة و النزاع، فاعلم أنّه لا يعتبر في اعتبار هذه البيّنة شي ء زائد على البيّنة المعتبرة في سائر المقامات، فلا يعتبر حضورهما في مجلس المرافعة و لا سماعهما شهادة الشهود، بل و لا سماع إنشاء الحاكم الأوّل، بل الظاهر كفاية علمهما بذلك، كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى في كتاب الشهادات «1».

نعم، القدر المتيقّن صورة حضور الشاهدين سماع الحكم و إشهادهما الحاكم الأوّل، و هو الذي عبّر عنه المحقّق في الشرائع بأنّه أتمّ احتياطاً «2»، لكن لا دليل على اعتبار شي ء من الأمرين بعد عدم الدليل عليه في مقابل عموم أدلّة حجّية البيّنة، و اعتبارها في الموضوعات التي منها إنشاء الحكم من الحاكم الأوّل.

______________________________

(1) يأتي في «القول في الشهادة على الشهادة».

(2) شرائع الإسلام: 4/ 96.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 378

[مسألة 6: قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة فحكى الحاكم لهما الواقعة و صورة الحكم]

مسألة 6: قيل: إن لم يحضر الشاهدان الخصومة فحكى الحاكم لهما الواقعة و صورة الحكم، و سمّى المتحاكمين بأسمائهما و آبائهما و صفاتهما، و أشهدهما على الحكم فالأولى القبول؛ لأنّ إخباره كحكمه ماضٍ، و الأشبه عدم القبول إلّا بضمّ عادل آخر، بل لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة فجواز الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق

مشكل بل ممنوع، و الشهادة بنحو التقييد بأنّه لم يكن إنشاء مجلس الخصومة و لا إنشاء الرافع لها جائزة، لكن إنفاذه للحاكم الآخر مشكل بل ممنوع (1).

______________________________

(1) القائل هو المحقّق في الشرائع، حيث إنّه بعد الترديد في المسألة قال: و القبول أولى، مستدلّاً بأنّ حكمه كما كان ماضياً كان إخباره ماضياً «1». و حكي الخلاف عن الشيخ في الخلاف «2»، بل قيل: إنّ ظاهره دعوى الإجماع عليه، إلّا أنّه ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه): أنّه لم يجد من وافقه عليه سوى بعض متأخّري المتأخّرين «3». «4» و كيف كان، فمنشأ الترديد ما استدلّ به المحقّق من أنّه كما يكون إنشاؤه ماضياً يكون إخباره أيضاً ماضياً؛ لأنّ مستند حجّية الإنشاء كونه حجّة و كون الرادّ عليه كالراد عليهم (عليهم السّلام)، و انطباق هذا العنوان عليه يوجب كونه مصدّقاً لحقّ الغير، و إن لم يقبل الإقرار عليه خصوصاً مع أنّ إنشاء القضاء فيما هو المفروض شي ء

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 98.

(2) الخلاف: 6/ 245 مسألة 42.

(3) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 209 210.

(4) جواهر الكلام: 40/ 314.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 379

..........

______________________________

لا يعلم إلّا من قبله، و من أنّ إخبار عادل واحد لا يكفي في الموضوعات الخارجية، و لا يقبل إلّا بضمّ عادل آخر. فأخبار القاضي بإنشائه السابق من هذا القبيل، و لا ملازمة بين حجّية إنشائه و حجّية إخباره و إن كان المخبرُ به إنشاءَه.

و منه يظهر أنّ دعوى أولوية الفرض ممّا قام على إنشائه شاهدان عادلان ممنوعة؛ لأنّ إخباره بإنشائه في السابق إخبار عادل واحد بخلاف صورة قيام البيّنة عليه، فالأولوية ممنوعة جدّاً. و استفادة حجّية أخباره بذلك

من دليل حجّية إنشائه موجبة للالتزام بحجّية أخباره في سائر الموضوعات الخارجيّة، مع انّا لا نقول به.

و يظهر من المحكي عن المسالك: أنّ وجه التردّد غير ذلك، حيث قال: قد ظهر من الأدلّة المجوِّزة لقبول إنفاذ الحكم أنّ موردها الضرورة إلى ذلك في البلاد البعيدة عن الحاكم الأوّل، فذهب بعض الأصحاب إلى اختصاص الحكم بما إذا كان بين الحاكمين وساطة، و هم الشهود على حكم الأوّل. فلو كان الحاكمان مجتمعين و أشهد أحدهما الآخر على حكمه لم يصحّ إنفاذه؛ لأنّ هذا ليس من محلّ الضرورة المسوّغة للإنفاذ المخالف للأصل «1».

و أورد عليه في الجواهر: بأنّ ذلك ليس قولًا لأحد من أصحابنا، و لم نعرف أحداً حكاه غيره، و الضرورة المذكورة في الدليل إنّما هي حكمة أصل المشروعية للإنفاذ لا أنّها علّته، على أنّها قد تتحقّق فيه لقطع الخصومة مع عدم

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 14/ 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 380

..........

______________________________

التباعد «1» ..

فالحقّ حينئذٍ ما اختاره في المتن من عدم القبول، و أنّه أشبه بالأصول و القواعد كما لا يخفىٰ.

بل ذكر في المتن أنّه لو أنشأ الحكم بعد الإنشاء في مجلس الخصومة، و أشهد الشاهدين على هذا الحكم الثاني، فجواز الشهادة بالحكم بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع، و الشهادة بنحو التقييد غير مفيد، و عليه فالإنشاء الثاني لغو لا يترتّب عليه أثر. فتدبّر جيّداً.

أمّا الممنوعيّة في صورة الإطلاق؛ فللانصراف إلى الحكم المنشأ أوّلًا الفاصل للخصومة و الرافع للتنازع، و مع هذا الانصراف لا تجوز الشهادة على نحو الإطلاق.

و أمّا عدم كونه مفيداً في صورة التقييد بأن يشهد بأنّ الحكم المشهود به ليس هو الحكم الأوّل الفاصل للخصومة، فلأنّ أدلّة

الإنفاذ سيّما الإجماع مقصورة على إنفاذ الحكم المنشأ أوّلًا، الصادر على طبق موازين القضاء، و لا يشمل الحكم الثاني من الحاكم الأوّل مع عدم إحراز الحكم الأوّل.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 316.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 381

[مسألة 7: لا فرق في جميع ما مرّ بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما، و بين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعى البيّنة]

مسألة 7: لا فرق في جميع ما مرّ بين أن يكون حكم الحاكم بين المتخاصمين مع حضورهما، و بين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعى البيّنة، فالتحمل فيهما و الشهادة و شرائط القبول واحد، و لا بدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعى و المدّعى عليه ممّا يخرجهما عن الإبهام، و حفظ المدّعى به بخصوصياته المخرجة عن الإبهام، و حفظ الشاهدين و خصوصياتهما كذلك فيما يحتاج إليه، كالحكم على الغائب و أنّه على حجّته (1).

______________________________

(1) لا فرق فيما مرّ من القضاء التنفيذي بين أن يكون حكم الحاكم الأوّل بين المتخاصمين مع حضورهما، و بين حكمه على الغائب بعد إقامة المدّعى البيّنة، و قد مرّ البحث في جواز الحكم على الغائب «1»، و حينئذٍ فتجوز شهادة البيّنة على صدور الحكم على الغائب عند الحاكم الثاني، غاية الأمر أنّه لا بدّ للشاهدين من حفظ جميع خصوصيات المدّعى و المدّعى عليه و المدّعى به بما يخرج كلّ واحد من هذه الأُمور عن الإبهام و الإجمال.

و ظاهر العبارة خصوصاً بملاحظة اللابدية الآتية فيها أنّ هذه اللابدية إنّما هي في خصوص صورة الحكم على الغائب، مع أنّ الظاهر تحقّقها في كلتا الصورتين، فإنّه في صورة حضور المتخاصمين لا بدّ من حفظ خصوصياتهما و خصوصيّات المدّعى به في الحكم التنفيذي.

نعم لا يعتبر في غير الحكم على الغائب حفظ الشاهدين و خصوصياتهما، بل تكفي الشهادة على حكم الأوّل و

إن لم يُعرف الشاهدان أصلًا. و أمّا في الحكم على الغائب فيعتبر ذلك نظراً إلى أنّ الغائب على حجّته، و يمكن له قدح الشاهدين

______________________________

(1) تقدّم في «القول في شروط سماع الدعوى» مسألة 5 و 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 382

..........

______________________________

أو أحدهما، كما قد تقدّم في الحكم على الغائب.

ثمّ إنه قد ظهر ممّا ذكر في هذا الفصل أنّ جعل عنوانه «كتابة قاض إلى قاض» لا ينبغي، و إن جعل عنوانه «القضاء التنفيذي» لكان أولى، و السرّ فيه أنّه جعل القضاء بالكتابة غير مشروع، و كتابة قاض إلى قاض غير مؤثِّرة، و لو في صورة العلم بأنّه الكاتب و أنّه أراد المفاد، فتدبّر جيّداً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 383

[مسألة 8: لو اشتبه الأمر على الحاكم الثاني]

مسألة 8: لو اشتبه الأمر على الحاكم الثاني؛ لعدم ضبط الشهود له ما يرفع به الإبهام أوقف الحكم حتى يتّضح الأمر بتذكّرهما أو بشهادة غيرهما (1).

[مسألة 9: لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد حكمه بموت أو جنون، لم يقدح ذلك في العمل بحكمه]

مسألة 9: لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد حكمه بموت أو جنون، لم يقدح ذلك في العمل بحكمه، و في لزوم إنفاذه على حاكم آخر لو توقّف استيفاء الحقّ عليه، و لو تغيّرت بفسق فقد يقال: لم يعمل بحكمه أو يفصّل بين ظهور الفسق قبل إنفاذه فلم يعمل أو بعده فيعمل، و الأشبه العمل مطلقا كسائر العوارض، و جواز إنفاذه أو وجوبه (2).

______________________________

(1) من الواضح أنّه لو اشتبه الأمر على الحاكم الثاني؛ لعدم ضبط الشهود ما يرفع به الإبهام عن أحد الأُمور التي تقدّم أنّه لا بدّ أن يكون خالياً عن الإبهام و الإجمال لا يجوز له الإنفاذ حتى يتّضح الأمر بتذكّرهما أو بشهادة غيرهما، كما لا يخفى.

(2) لو تغيّرت حال الحاكم الأوّل بعد إنشائه الحكم و رفع التنازع و فصل الخصومة، فتارةً يكون التغيّر بموت أو جنون، و أُخرى بزوال العدالة و عروض الفسق، فإن كان بالأوّل فالظاهر عدم قدح ذلك في العمل بحكمه، و في لزوم إنفاذه على حاكم آخر إذا توقّف استيفاء الحقّ عليه؛ لأنّ اعتبار الحياة و عدم الجنون إنّما يلاحظ بالإضافة إلى حال الإنشاء و حال صدور الحكم، و أمّا عروضهما أو أحدهما بعد الإنشاء فلا دخل له في اعتبار الإنشاء المصحّح للحكم بالإنفاذ من الحاكم الثاني، كما لا يخفى.

و إن كان بالثاني، فمقتضى القاعدة هو الحكم في الصورة الاولى من أنّ الملاك

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 384

..........

______________________________

حال الإنشاء من جهة اعتبار صفات القاضي التي منها

العدالة، لكن المحقّق في الشرائع و جماعة أخرى ذكروا أنّه إن تغيّر بفسق لم يعمل بحكمه «1»، و في محكيّ المسالك أنّهم فرّقوا بينه و بين الموت، بأنّ ظهور الفسق يشعر بالخبث و قيام الفسق يوم يرفع الحكم «2».

هذا، و لكنّ الظاهر مضافاً إلى عدم تمامية الإشعار المذكور، بل مقتضى الاستصحاب بقاء العدالة إلى ظهور الفسق أنّ المفروض وجود العدالة المعتبرة في القاضي حال إنشائه و صدور حكمه، و لا يكون ظهور الفسق كاشفاً عن عدم العدالة حال الحكم، لأنّ الفسق و العدالة ليسا بأولى من الإيمان و الكفر، و قد قال اللّٰه تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدٰادُوا كُفْراً «3»، و ظاهره تحقّق هذه الأوصاف حقيقة لا مجازاً. و عليه فالعادل الواقعي يمكن أن يصير فاسقاً، لا أنّ فسقه يكشف عن عدم عدالته سابقاً.

و منه يظهر بطلان التفصيل بين ما إذا كان ظهور الفسق قبل إنفاذه أو بعده، فإنّ الظهور قبل الإنفاذ لا يقدح في جوازه أو لزومه بعد تحقّق الخصوصيات المعتبرة حال الإنشاء، فالأشبه كما في المتن العمل به، أي صحّة إنفاذه مطلقا من دون فرق بين الظهور قبله أو بعده.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 99، قواعد الأحكام: 3/ 457، إرشاد الأذهان: 2/ 148، الدروس الشرعيّة: 2/ 92، مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 216.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 20.

(3) سورة النساء 4: 137.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 385

..........

______________________________

ثمّ الظاهر أنّ مراده أي المحقّق عدم إنفاذ حكمه فيما إذا تغيّر بفسق لا أصل العمل بحكمه، و إلّا يلزم أوّلًا ما ذكره في الجواهر من اقتضائه بطلان ما وقع من العمل بفتاواه الذي هو

أولى بذلك من الحكم، و هو معلوم البطلان «1».

و ثانياً عدم لزوم العمل بحكم حاكم أصلًا؛ لاحتمال عروض الفسق له بعد الحكم، و هو ينافي حكمه مشروعية القضاء، التي هي فصل الخصومة و رفع التنازع، كما لا يخفى.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 318.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 386

[مسألة 10: لو أقرّ المدّعى عليه عند الحاكم الثاني بأنّه المحكوم عليه و هو المشهود عليه ألزمه الحاكم]

مسألة 10: لو أقرّ المدّعى عليه عند الحاكم الثاني بأنّه المحكوم عليه و هو المشهود عليه ألزمه الحاكم، و لو أنكر فإن كانت شهادة الشهود على عينه لم يسمع منه و الزم، و كذا لو كانت على وصف لا ينطبق إلّا عليه، و كذا فيما ينطبق عليه إلّا نادراً، بحيث لا يعتني باحتماله العقلاءُ و كان الانطباق عليه ممّا يطمأنّ به، و إن كان الوصف علىٰ وجه قابل للانطباق على غيره و عليه فالقول قوله بيمينه، و على المدّعى إقامة البيّنة بأنّه هو، و يحتمل في هذه الصورة عدم صحّة الحكم؛ لكونه من قبيل القضاء بالمبهم، و فيه تأمّل (1).

______________________________

(1) لو أقرّ المدّعى عليه عند الحاكم الثاني بأنّه المحكوم عليه في حكم الأوّل و أنّه المشهود عليه عند الثاني، فلا إشكال و لا ارتياب في أنّه يلزمه الحاكم الثاني؛ لقاعدة «إقرار العقلاء على أنفسهم جائز» «1»، لثبوت الحكم عند الثاني بالبيّنة و إقراره بأنّه المحكوم عليه و المشهود به. و لو أنكر المحكوم عليه عند الحاكم الثاني أنّه المشهود عليه ففيه صور و فروض:

لأنّه تارةً يشهد الشهود على عينه و شخصه، و في هذه الصورة لا يسمع إنكاره لتعلّق الشهادة بعينه و أنّه المحكوم عليه.

و أُخرى يشهد الشهود بأوصاف أو بوصف لا تنطبق إلّا عليه و لا يوصف بها أو به

إلّا هو، و في هذه الصّورة أيضاً لا يسمع إنكاره لانحصار المشهود عليه به، غاية الأمر من طريق الوصف.

______________________________

(1) انظر القواعد الفقهيّة للمؤلف دام ظلّه: 1/ 65- 83.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 387

..........

______________________________

و ثالثة يشهد على وصف ربما ينطبق على غيره نادراً، لكنّ الندرة بلغت إلى حدّ لا يكاد يعتني باحتماله العقلاءُ، بل الانطباق عليه ممّا يُطمَأَن به. و من الواضح أنّه يعامل العرف و العقلاء معه معاملة العلم، و إن لم يكن علماً عقلًا، و في هذه الصورة أيضاً لا يسمع إنكاره لما ذكرنا.

و رابعة يشهد على وصف قابل للانطباق عليه و على غيره، و لا يكون الانطباق على الغير نادراً، بل احتمال الانطباق على الغير احتمال عقلائي كالانطباق على المشهود عليه، و قد احتُمل في هذه الصورة أمران مع التأمّل في الثاني:

أحدهما: أنّه لو كانت للمدّعي بيّنة على أنّ المشهود عليه هو، و إلّا فيمين المنكر، مثل أصل الدعوى في أنّه إذا لم يكن للمدّعي بيّنة تصل النوبة إلى يمين المنكر، بمقتضى ما ورد من أنّ «البيّنة على المدّعى و اليمين على المدّعى عليه» «1»، و إن شئت قلت: إنّ مقتضى إطلاقه الشمول لما ذكرنا، و لا يختصّ بأصل الدّعوىٰ.

ثانيهما: أنّه حيث يكون القضاء التنفيذي على خلاف القاعدة يقتصر فيه على ما لا يكون مبهماً بوجه، ففي مثل أصل الفرض ممّا لا يكون المشهود عليه مُبيّناً؛ لأنّ المفروض أنّ الشهود الذين يكونون واسطة في انتقال حكم الحاكم الأوّل إلى الحاكم الثاني قد شهدوا على وصفٍ قابل للانطباق على المحكوم عليه الواقعي و غيره، فمع هذا الإبهام لا مجال لإنفاذ الحكم و إمضائه، و لكنّه (قدّس سرّه)

تأمّل فيه

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 233- 235، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 3، و قد تقدم في ص 85 و 136 و غيرهما.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 388

..........

______________________________

خصوصاً مع استلزامه تضييع الحقوق و عدم استيفاء الحقّ بدون الإنفاذ.

فالظاهر هو الاحتمال الأوّل، كما أفاده المحقّق في الشرائع حيث قال: و لو أنكر و كانت الشهادة بوصف يحتمل الاتّفاق غالباً، فالقول قوله مع يمينه ما لم يُقم المدّعى البيّنة «1»

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 99.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 389

[الفصل الثاني: في المقاصّة]
اشارة

الفصل الثاني: في المقاصّة

[مسألة 1: لا إشكال في عدم جواز المقاصّة مع عدم جحود الطرف و لا مماطلته و أدائه عند مطالبته]

مسألة 1: لا إشكال في عدم جواز المقاصّة مع عدم جحود الطرف و لا مماطلته و أدائه عند مطالبته، كما لا إشكال في جوازها إذا كان له حقّ على غيره من عين أو دين أو منفعة أو حقّ، و كان جاحداً أو مماطلًا، و أمّا إذا كان منكراً لاعتقاد المحقّية أو كان لا يدري محقّية المدّعى ففي جواز المقاصّة إشكال، بل الأشبه عدم الجواز، و لو كان غاصباً و أنكر لنسيانه فالظاهر جواز المقاصّة (1).

______________________________

(1) يدلّ على أصل مشروعيّة المقاصّة في الجملة الكتاب و السّنة مع أنّ مقتضى القاعدة عدم الجواز؛ لأنّها تصرّف في مال الغير بغير إذنه، فمن الكتاب قوله تعالى فَمَنِ اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ «1» و قوله تعالى فَعٰاقِبُوا بِمِثْلِ مٰا عُوقِبْتُمْ بِهِ «2»، و قوله تعالى-:

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 194.

(2) سورة النحل 16: 126.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 390

..........

______________________________

وَ الْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ «1».

و من السّنة روايات كثيرة:

منها: ما تقدّم في بحث الحبس على الدَّين من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): ليّ الواجد بالدين يحلّ عرضه و عقوبته «2» بناءً على شمول العقوبة للتقاصّ، و على أنّه إذا كان الليّ محلّاً لذلك، فالجحود و الإنكار كان محلّاً له بطريق أولى، أو دلالة عنوان «لي» على ذلك بالمطابقة بناءً على عدم اختصاصه بالمماطلة و المسامحة و الشمول للجحود.

و إن شئت قلت: إنّ الليّ بمعنى المماطلة، غاية الأمر أنّها قد يكون منشأها الجحود و قد يكون غيره.

و منها: رواية جميل بن درّاج قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل يكون له على الرجل الدَّين فيجحده فيظفر من

ماله بقدر الذي جحده أَ يأخذه و إن لم يعلم الجاحد بذلك؟ قال: نعم «3».

و منها: صحيحة داود بن رزين قال: قلت لأبي الحسن موسى (عليه السّلام): إنّي أُخالط السلطان فتكون عندي الجارية فيأخذونها، و الدابّة الفارهة فيبعثون فيأخذونها، ثمّ يقع لهم عندي المال فلي أن أخذه؟ قال: خذ مثل ذلك و لا تزد عليه «4».

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 194.

(2) في ص 124.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 349 ح 986، الاستبصار: 3/ 51 ح 167، و عنهما وسائل الشيعة: 17/ 275، كتاب التجارة أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 10.

(4) التهذيب: 6/ 338 ح 939، و عنه وسائل الشيعة: 17/ 272، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 391

..........

______________________________

و منها: صحيحة أبي بكر قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني و حلف عليها، أ يجوز لي إن وقع له قبلي دراهم أن آخذ منه بقدر حقّي؟ قال: فقال: نعم و لكن لهذا كلام، قلت: و ما هو؟ قال: تقول اللهمّ إنّي لا آخذه ظلماً و لا خيانة، و إنّما أخذته مكان مالي الذي أُخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً «1»، و قد جعل في الوسائل روايات أبي بكر ثلاثاً، مع أنّ الظاهر أنّ له رواية واحدة و إن اختلفت الروايات في التعبير، كما نبّهنا عليه مراراً.

و منها: صحيحة أبي العبّاس البقباق أنّ شهاباً ماراه في رجل ذهب له بألف درهم و استودعه بعد ذلك ألف درهم، قال أبو العبّاس: فقلت له: خذها مكان الألف التي أُخذ منك، فأبى شهاب، قال: فدخل شهاب على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فذكر له

ذلك، فقال: أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ و تحلف «2». و الظاهر أنّ ما رآه بمعنى نازعه و خالفه، لكن في التهذيب: ما رآه (سأله خ ل) «3».

و منها: غير ذلك من الروايات التي سيأتي نقل بعضها في بعض المباحث الآتية «4» إن شاء اللّٰه تعالى، و لكن هذه الروايات معارضة ظاهراً بمثل موثقة سليمان بن خالد قال: سألت

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 348 ح 982، الاستبصار: 3/ 52 ح 168، الفقيه: 3/ 114 ح 485، و عنها وسائل الشيعة: 17/ 273، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 4.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 347 ح 979، الاستبصار: 3/ 53 ح 174، و عنهما وسائل الشيعة: 17/ 272، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 2.

(3) تهذيب الأحكام: 2/ 150، الطبعة الحجرية، مؤسّسة فراهاني، طهران الطبعة الأولى، 1363 ش.

(4) يأتي في ص 364 367.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 392

..........

______________________________

أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه و حلف، ثمّ وقع له عندي مال آخذه لمكان مالي الذي أخذه و أجحده، و أحلِف عليه كما صنع؟ قال: إن خانك فلا تخنه و لا تدخل فيما عبته عليه «1»، و حملها صاحب الجواهر على أنّ مراد الإمام (عليه السّلام) بيان نوع مرجوحيّة بسبب كونها صورة الخيانة التي قد تأكّد النهي عنها «2»، «3».

و مرجعه إلى حمل النهي فيها على الكراهة؛ لأنّها ظاهرة في الحرمة، و النصوص المتقدّمة صريحة في الجواز، فهي قرينة على إرادة خلاف الظاهر.

و من الواضح أنّه مع وجود الجمع الدلالي يخرج المورد عن موضوع المتعارضين، الذي هو الموضوع لأخبار

الترجيح.

و من الواضح أيضاً اختصاص الجمع الدلالي بما إذا كان عقلائيّاً و إن لم يكن عقليّاً، و يجمع بين العام و الخاص، حيث إنّه جمع عقلائي في مقام التقنين، و إن كان بنظر العقل تعارضاً لمناقضة السلب الكلي مع الإيجاب الجزئي و بالعكس، و قد حقّقنا ذلك في محلّه «4».

و حملها بعض آخر «5» على صورة التمكّن من القضايا و أخذ المال من طريقه، و لكن لو سلّم التعارض فالشهرة المحقّقة موافقة للطائفة الدالّة على جواز المقاصّة،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 348 ح 980، الاستبصار: 3/ 52 ح 171، الفقيه: 3/ 113 ح 482، الكافي: 5/ 98 ح 1، و عنها وسائل الشيعة: 17/ 274، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 7.

(2) وسائل الشيعة: 19/ 76- 78، كتاب الوديعة ب 3.

(3) جواهر الكلام: 40/ 392.

(4) سيرى كامل در اصول فقه 8/ 291- 296.

(5) راجع رياض المسائل: 13/ 171- 172.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 393

..........

______________________________

و هي أوّل المرجّحات على ما ذكرنا في محلّه «1».

و يمكن أن يقال بملاحظة التعبير به «عبته عليه»: إنّ النهي إنّما هو للإرشاد؛ لاشتراكه معه فيما عابه عليه بحسب الصّورة و إن لم يكن واقعاً كذلك.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ القدر المسلّم من مورد المقاصّة ما إذا كان الجحود أو المماطلة بغير حقّ؛ بمعنى أنّ الجاحد أو المماطل لا يرى نفسه محقّاً في ذلك، و أمّا إذا كان إنكاره لاعتقاد محقّية نفسه، أو لأنّه لا يدري محقّية المدّعى بوجه، فقد استشكل فيه في المتن في جواز المقاصّة، بل قال: الأشبه عدم الجواز.

و الوجه فيه ما عرفت من كون المقاصة على خلاف القاعدة «2»، لا

يكاد يصار إليها بدون الدليل. و شمول أدلّة المقاصّة له غير معلوم بل الظاهر العدم. نعم في المغصوب إذا كان إنكاره مستنداً إلى نسيانه استظهر جواز المقاصّة، و الوجه فيه أنّ عدم الجواز مستلزم لضياع الحقّ، و إن شئت قلت: إطلاق بعض الروايات المتقدّمة كصحيحة داود يشمله، كما لا يخفى.

و يؤيّده إطلاق رواية عليّ بن سليمان، قال: كتبت إليه: رجل غصب مالًا أو جارية، ثمّ وقع عنده مال بسبب وديعة أو قرض مثل خيانة أو غصب مثل ما خانه أو غصبه «3» أ يحلّ له حبسه عليه أم لا؟ فكتب: نعم يحلّ له ذلك إن كان بقدر حقّه، و إن كان أكثر فيأخذ منه ما كان عليه، و يسلّم الباقي إليه إن شاء اللّٰه «4».

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه 16/ 532- 555.

(2) في ص 289.

(3) في الاستبصار: مثل ما خانه أو غصبه.

(4) تهذيب الأحكام: 6/ 349 ح 985، الاستبصار: 3/ 53 ح 173، و عنهما وسائل الشيعة: 17/ 275، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 9.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 394

[مسألة 2: إذا كان له عين عند غيره]

مسألة 2: إذا كان له عين عند غيره، فإن كان يمكن أخذها بلا مشقّة و لا ارتكاب محذور فلا يجوز المقاصّة من ماله، و إن لم يمكن أخذها منه أصلًا جاز المقاصّة من ماله الآخر، فإن كان من جنس ماله جاز الأخذ بمقداره، و إن لم يكن جاز الأخذ بمقدار قيمته، و إن لم يمكن إلّا ببيعه جاز بيعه و أخذ مقدار قيمة ماله و ردّ الزائد (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: من كانت دعواه عيناً في يد فله انتزاعها و لو قهراً

ما لم يثر فتنة، و لا يقف ذلك على إذن الحاكم «1».

أقول: إذا كان له عين عند غيره، فإن كان يمكن أخذها بلا مشقّة و لا ارتكاب محذور و لو بإقامة البيّنة على أنّها ماله في صورة إنكار الغير، فلا يجوز المقاصّة له من مال الغير؛ لإمكان التوصّل إلى حقّه من دون مشقّة و لا ارتكاب محذور، و صرف جحوده و إنكاره لا يسوِّغ المقاصّة مع إمكان إقامة البيّنة الموجبة للحكم له من دون عسر على ما هو المفروض كما هو ظاهر، مضافاً إلى أنّ الحكم بالجواز في هذه الصورة يستلزم تعطيل القضاء كثيراً و إثارة الفتنة كذلك، فالأقوىٰ عدم الجواز في هذه الصورة.

و أمّا إذا لم يمكن أخذها منه مع أنّه لا يجوز له التأخير و المماطلة فضلًا عن أصل العين و تملّكها فيجوز له المقاصّة من ماله الآخر، فإن كان من جنس ماله جاز الأخذ بمقداره و ردّ الزائد إن كان، و إن لم يكن من جنس ماله جاز له الأخذ منه بمقدار قيمة ماله الذي جحده مثلًا، و إن لم يمكن إلّا ببيعه جاز بيعه و أخذ مقدار قيمة ماله و ردّ الزائد؛ لأنّه لا يتحقّق الاستيفاء بدونه.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 395

..........

______________________________

ثمّ إنّه أفاد المحقّق العراقي (قدّس سرّه) في رسالة القضاء ما محصّله: إنّ التقاصّ في صورة بقاء العين موجب لانتقالها إلى الجاحد، أو تبقى العين على ملكية المقاص، و إن لم يكن له ضمان على المقاص منه وجهان مبنيان على أنّ باب التقاص من قبيل المعاوضة أم من قبيل الوفاء بمرتبة من مراتب المال، مع بقاء خصوصية العين في

ملكية المالك الأوّل بلا ضمان في المالية. ثمّ جعل الأقوى هو الثاني؛ لأنّه المرتكز في الذهن، لا أنّه معاملة مستقلّة، و لا أقل من الشك، فيبقى استصحاب بقاء ملكية شخص العين بحاله «1».

أقول: و الظاهر أيضاً ما أفاده، و إلّا يلزم أن يقال بأنّ المقاصّة أيضاً من المعاملات.

ثمّ إنّه ذكر صاحب الجواهر عقيب قول المصنف: «ما لم يثر فتنة» قوله: بل و إن ثارت ما لم تصل إلى حدّ وجوب الكفّ عن الحقّ له؛ لترتّب تلف الأنفس و الأموال و غيره من الفساد الذي يمكن دعوى العلم من مذاق الشرع بعدم جواز فعل ما يترتّب عليه ذلك، و إن كان مباحاً في نفسه أو مستحبّاً أو واجباً، و إن لم يكن الترتيب ترتيب سببية أو علّية «2».

أقول: أمّا في صورة عدم وصول إثارة الفتنة إلى الحدّ المزبور فواضح، و أمّا في صورة الوصول إليه فالظاهر أنّ المورد من مصاديق اجتماع الأمر و النهي و مثلهما فإنّه هنا عنوانين: أحدهما: أخذ العين التي تكون لنفسه و ملكاً لها.

______________________________

(1) كتاب القضاء، شرح تبصرة المتعلّمين: 165- 166.

(2) جواهر الكلام: 40/ 387.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 396

..........

______________________________

و الآخر إثارة الفتنة. و لا مانع من بقاء كلّ منهما على حكمه من دون أن تتحقّق السراية، و حرمة الثاني لا يستلزم حرمة الأوّل بوجه. و ما ورد في بيع الوقف من أنّه ربّما حصل من الاختلاف تلف الأنفس و الأموال «1» فإنّما هو حكمة لأصل الحكم، و هو الجواز في الصورة المذكورة، فهو غير المقام.

ثمّ إنّ جواز بيع مال الغير لأخذ الحقّ في صورة عدم إمكان أخذ عينه منه إنّما هو لأجل انحصار طريق

الاستيفاء به، فمقتضى القاعدة و إن كان هو أنّه «لا بيع إلّا في ملك» إلّا أنّ الالتزام بالبطلان منافٍ لوصوله إلى حقّه، فالبيع في هذا المورد نظير بيع الحاكم مال المديون في صورة إبائه عن أداء الدين مع كونه واجداً، و بيع غير المالك في سائر الموارد الجائزة.

ثمّ إنّه لو أمكن له الوصول إلى عينه لكن بعسر و مشقّة، كدخول دار الغير الذي تكون العين عنده، أو كسر قفل حانوتة أو نحو ذلك، فمع عدم إثارة الفتنة الظاهر جواز الأمرين، خصوصاً فيما لو كان الغير عالماً بأنّها ماله و مع ذلك جحده و أنكره، أمّا جواز مثل دخول الدار فلانحصار طريق الوصول إلى العين به كما هو المفروض، و أمّا جواز المقاصّة فلعدم وجود ما فيه العسر و الحرج.

و دعوى أنّ التقاص حيث إنّه على خلاف الأصل يقتصر فيه على المورد المتيقّن، و هو ما إذا لم يمكنه أصلًا التوصل إلى أخذ حقّه بالترافع عند الحاكم،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 9/ 130 ح 557، الاستبصار: 4/ 98 ح 381، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 188، كتاب الوقف، و الصدقات ب 6 ح 6، و فيه: «فإنه ربما جاء في الاختلاف تلف الاموال و النفوس».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 397

..........

______________________________

مدفوعة: بأنّ مقتضى إطلاق أدلّة مشروعية التقاص الجواز مطلقا، كما ذهب إليه بعض الأعلام قدس سره «1»، فلا مجال للاقتصار على المورد المتيقّن، و إن كان يبعّده كون جلّ القضاة منصوبين من قبل سلاطين الجور و كون قاضي العدل قليلًا، كما لا يخفى.

نعم فيما إذا أمكن ذلك بدون العسر و الحرج فالظاهر هو عدم جواز المقاصة؛ لأنّ مورد تلك الأدلّة على ما

هو المتفاهم عند العرف صورة انحصار طريق التوصل إلى الحقّ في المقاصّة.

نعم في صورة العسر و الحرج الظاهر جواز كلا الأمرين، و عدم التعيّن في طريق الترافع منع فرض ثبوت العسر و الحرج، كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّه لا يلاحظ هنا ضرر الغير؛ لعدم جريان قاعدة نفي الضرر بالإضافة إلى الأحكام الفرعية، و قد نبّهنا على الاختلاف في مجرى قاعدة لا ضرر و في مفادها في موارد عديدة «2»، فراجع.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: 1/ 46- 47.

(2) منها: تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الإجارة: 340- 343 و 500- 501، و قد تقدّمت الإشارة هنا في ص 16 و 99.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 398

[مسألة 3: لو كان المطلوب مثليّا و أمكن له المقاصّة من ماله المثلي و غيره]

مسألة 3: لو كان المطلوب مثليّا و أمكن له المقاصّة من ماله المثلي و غيره، فهل يجوز له أخذ غير المثلي تقاصّاً بقدر قيمة ماله، أو يجب الأخذ من المثلي، و كذا لو أمكن الأخذ من جنس ماله و من مثلي آخر بمقدار قيمته، مثلًا لو كان المطلوب حنطة و أمكنه أخذ حنطة منه بمقدار حنطته و أخذ مقدار من العدس بقدر قيمتها، فهل يجب الاقتصار على الحنطة أو جاز الأخذ من العدس؟ لا يبعد جواز التقاص مطلقا فيما إذا لم يلزم منه بيع مال الغاصب و أخذ القيمة، و مع لزومه و إمكان التقاص بشي ء لم يلزم منه ذلك، فالأحوط بل الأقوى الاقتصار على ذلك، بل الأحوط الاقتصار على أخذ جنسه مع الإمكان بلا مشقة و لا محذور (1).

______________________________

(1) قد عرفت أنّ مقتضى القاعدة عدم جواز المقاصة من مال الغير؛ لعدم حلّية التصرّف في مال الغير بغير إذنه «1»، و لكنّ الأدلّة المتقدّمة

يستفاد منها المشروعية و الجواز، و اللّازم فيما إذا لم يكن هناك إطلاق الأخذ بالقدر المتيقّن، و عليه فما نفى عنه البعد في المتن من جواز التقاص مطلقا فيما إذا لم يلزم منه بيع مال الغير في غاية البعد؛ لأنّ المفروض إمكان التقاص له من الحنطة التي هي مطلوبة، فلا مجال له لأخذ العدس مكانها بمقدار القيمة فضلًا عن قيمي يماثل الحنطة في مقدار القيمة.

و لا إطلاق في شي ء من روايات مشروعية المقاصة، بل موردها القيمي أو مثل

______________________________

(1) في ص 389.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 399

..........

______________________________

الدراهم، كما يظهر بالمراجعة إليها «1»، و لكن يؤيّده أنّه لو فرض كون المطلوب مثلياً و وقع عنده قيميّ يعادله من حيث المالية، فهل لا يجوز له التقاص إلّا بعد بيع القيمي أو يجوز له التقاص به؟ الظاهر هو الثاني كما لا يخفى. اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الكلام في خصوص صورة الإمكان.

نعم في صورة المشقّة و العسر و الحرج يجوز له الأخذ من العدس، و لا يتعيّن في أخذ الحنطة، كما ذكرنا نظيره بالنسبة إلى الترافع عند الحاكم و التقاص من دون الترافع، من أنّه مع العسر و الحرج يتخيّر بين الأمرين: الترافع و التقاص، و سيأتي في المسألة الخامسة إن شاء اللّٰه تعالى أنّه لو أمكن أخذ ماله يعني عينه الشخصية بمشقّة فالظاهر جواز التقاص.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه الأقوائية في صورة استلزام البيع، فإنّ الحكم بصحة البيع في هذه الصورة مع عدم انحصار التوصل إلى الحقّ به في غاية الضعف، خصوصاً مع أنّه «لا بيع إلّا في ملك»، و مع أنّ خصوصيات الأجناس ربما تكون مقصورة لمالكها، كما لا

يخفى.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17/ 272- 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 400

[مسألة 4: لو أمكن أخذ ماله بمشقّة]

مسألة 4: لو أمكن أخذ ماله بمشقّة فالظاهر جواز التقاص، و لو أمكن ذلك مع محذور كالدخول في داره بلا إذنه أو كسر قفله و نحو ذلك ففي جواز المقاصّة إشكال، هذا إذا جاز ارتكاب المحذور و أخذ ماله و لو أضرّ ذلك بالغاصب، و أمّا مع عدم جوازه كما لو كان المطلوب منه غير غاصب و أنكر المال بعذر، فالظاهر جواز التقاص من ماله إن قلنا بجواز المقاصّة في صورة الإنكار لعذر (1).

______________________________

(1) أمّا جواز التقاص فيما لو أمكن أخذ ماله بمشقّة فلما عرفت «1» في بعض المسائل السابقة من جواز المقاصّة في صورة العسر و الحرج، و إن كان يمكن له الترافع إلى غير حكّام الجور مع عدم سهولة، خصوصاً مع أنّ تعلّق الغرض بخصوصيات العين غير قليل. و أمّا في صورة إمكان الأخذ مع محذور فالظاهر أنّ المراد من المحذور الشرعي هي الحرمة التكليفية أو الوضعية كالضمان، مع أنّه ليس هناك محذور بالإضافة إلى الغاصب لأخذ العين المغصوبة منه.

و عليه فكما أنّه يجوز الدخول في داره أو كسر قفله لأخذ عينه، كذلك تجوز المقاصّة كما عرفت سابقاً «2»، لا لما ورد في الكتب الفقهية من أنّ الغاصب يؤخذ بأشقّ الأحوال؛ لأنّه لا مستند له على ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري (قدّس سرّه) «3»، بل لأنّ جحد الغاصب يكون نوعاً مع عدم النسيان و رؤية نفسه غير محقّة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الجمع بين جعل الموضوع الإمكان مع محذور، و بين تقسيم المحذور إلى صورة الجواز و

عدمه ممّا لا يستقيم، فإنّه إن كان المراد بالمحذور الشرعي فلا معنى

______________________________

(1) في 396- 397.

(2) في 396- 397.

(3) المكاسب (تراث الشيخ الأعظم): 3/ 271.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 401

..........

______________________________

لفرض جوازه، و إن كان المحذور العرفي الذي هو عبارة أخرى عن المشقة و العسر، فلا يلائم مع المقابلة مع الفرض الأوّل، كما لا يخفى.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ المراد بالمحذور ما كان بعنوانه الأوّلي كذلك، و بالجواز ما كان جائزاً بعنوانه الثانوي، كما إذا توقّف حفظ نفس محترمة على دخول دار الغير بغير إذنه، حيث إنّ دخول دار الغير بغير إذنه حرام بعنوانه الأوّلي، و واجب بعنوان المقدّمة المنحصرة لحفظ النفس، و هكذا المقام، فإنّ مثل دخول دار الغير بغير إذنه حرام بالعنوان الأوّلي و جائز بعنوان توقّف التوصل إلى الحقّ عليه.

و يرد على هذا القول: إنّه خلاف ظاهر العبارة، خصوصاً مع أنّ مبناه جواز اجتماع الأمر و النهي، و كفاية تعدّد العنوانين في صحّة اجتماع الحكمين، كما قرّره في الأصول «1».

و أمّا لو كان المطلوب منه غير غاصب و أنكر المال لعذرٍ، فقد عرفت في المسألة الاولى أنّ الأشبه عدم جواز المقاصّة فيما إذا كان معتقداً بأحقّية نفسه، أو كان لا يدري محقّية المدّعى، و علّلناه بأنّ المقاصة حيث تكون على خلاف القاعدة يقتصر فيها على القدر المتيقّن، خصوصاً مع ملاحظة مورد كثير من الروايات السابقة «2»، حيث إنّه صورة الجحد و الإنكار من غير من يعتقد أحقّية نفسه، أو كان لا يدري محقّية المدّعى، و عليه فالحكم بالجواز و استظهاره في هذه المسألة يغاير ما تقدّم منه في المسألة الاولى من أنّ الأشبه عدم الجواز، و

إن كان استظهاره معلّقاً على القول بالجواز في هذه الصورة، فتدبّر.

______________________________

(1) مطارح الأنظار: 617- 693.

(2) في ص 390 391.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 402

[مسألة 5: لو كان الحقّ ديناً و كان المديون جاحداً أو مماطلًا، جازت المقاصّة من ماله]

مسألة 5: لو كان الحقّ ديناً و كان المديون جاحداً أو مماطلًا، جازت المقاصّة من ماله و إن أمكن الأخذ منه بالرجوع إلى الحاكم (1).

______________________________

(1) أمّا عدم الفرق في جواز المقاصّة بين العين و الدين، فلدلالة الروايات المتقدّمة «1» الدالّة على مشروعية المقاصّة، كصحاح أبي بكر الحضرمي و أبي العباس البقباق و غيرهما على ذلك، و عليه فلا يكون فرق بينهما من هذه الجهة.

و أمّا جواز المقاصّة في صورة إمكان الأخذ و لو بالرجوع إلى الحاكم، فقد عرفت «2» أنّ الإمكان إن كان بسهولة كوجود الحاكم العادل و القاضي غير الجور و سهولة إقامة البيّنة الشاهدة عنده فالظاهر عدم جواز المقاصّة، و إن كان مقروناً بالعسر و المشقة فقد عرفت «3» ثبوت التخيير في هذه الصورة بين الأمرين: المقاصة و الترافع.

قال المحقّق في الشرائع: و لو كان المدين جاحداً و للغريم بيّنة تثبت عند الحاكم و الوصول إليه ممكن، ففي جواز الأخذ تردّد أشبهه الجواز، و هو الّذي ذكره الشيخ في الخلاف و المبسوط «4»، و عليه دلّ عموم الإذن في الاقتصاص «5». انتهىٰ.

و ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بعد قوله: «أشبهه»: وفاقاً للأكثر كما في كشف اللثام «6»

______________________________

(1) في ص 390- 391.

(2) في ص 394.

(3) في ص 399.

(4) الخلاف: 6/ 355 مسألة 28، المبسوط: 8/ 311.

(5) شرائع الإسلام: 10/ 109.

(6) كشف اللثام: 10/ 133.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 403

[مسألة 6: لو توقّف أخذ حقّه على التصرّف في الأزيد جاز]

مسألة 6: لو توقّف أخذ حقّه على التصرّف في الأزيد جاز، و الزائد يردّ إلى المقتصّ منه، و لو تلف الزائد في يده من غير إفراط و لا تفريط و لا تأخير في ردّه لم يضمن (1).

______________________________

و غيره

«1».

و ذكر في ذيل كلامه أنّه لم نر للقائل بالمنع من شي ء يعتدّ به «2».

أقول: المتفاهم عند العرف من أخبار المقاصة «3» مع إطلاقها ظاهراً عدم الجواز مع إمكان أخذ الحقّ بسهولة من طريق الترافع و القضاء؛ لأنّ لازم الجواز انحصار موارد القضاء بصورة عدم الإمكان أو تعسّره، و هو بعيد كما لا يخفى.

(1) لو فرض توقّف أخذ حقّه على التصرّف في الأزيد، كما لو كان عنده فرش زائد قيمته على الدين أو قيمة العين، فالظاهر جواز التصرّف في الأزيد، لكن لا بدّ أن يردّ الزائد إلى المقتص منه؛ لأنّه يعتبر في جواز المقاصة التساوي في القيمة، و قد عرفت التصريح بذلك في جملة من الروايات المتقدّمة «4»، و في الدعاء الوارد في بعضها، حيث يصرّح بأنّي لم أزدد عليه شيئاً «5»، و لا يترتّب على تلف الزائد مع عدم التعدّي و التفريط ضمان؛ لأنّه أمانة شرعية، و الترخيص إنّما وقع من الشارع.

نعم في صورة التعدّي و التفريط يكون ضامناً لضمان الأمين معهما، و لو كانت أمانة مالكية، فتدبّر.

______________________________

(1) مسالك الافهام: 14/ 70 71.

(2) جواهر الكلام: 40/ 388 390.

(3) وسائل الشيعة: 17/ 272- 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83.

(4) وسائل الشيعة: 17/ 272، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 1 و ص 275 ح 9 و ص 276 ح 13.

(5) تقدّم في ص 391.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 404

[مسألة 7: لو توقف أخذ حقّه على بيع مال المقتصّ منه جاز بيعه و صحّ]

مسألة 7: لو توقف أخذ حقّه على بيع مال المقتصّ منه جاز بيعه و صحّ، و يجب ردّ الزائد من حقّه، و أمّا لو لم يتوقّف على البيع بأن كان قيمة المال بمقدار

حقّه فلا إشكال في جواز أخذه مقاصّة، و أمّا في جواز بيعه و أخذ قيمته مقاصّة، أو جواز بيعه و اشتراء شي ء من جنس ماله ثمّ أخذه مقاصّة إشكال، و الأشبه عدم الجواز (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة مقامان:

المقام الأوّل: فيما لو توقّف أخذ حقّه على بيع مال المقتصّ منه، سواء كان بقدر حقّه أو أزيد، و في هذا المقام ذكر أنّه يجوز بيعه و يصحّ، و يدلّ عليه أنّه قد أقامه الشارع مقام من عليه الحقّ في الاستيفاء، فلا يلزم بالمقاصة من غير الجنس، كما ربما يتوهّم في بادئ النظر من النصوص. نعم حيث كان هو الولي في ذلك وجب عليه الجمع بينه و بين حقّ المالك.

قال في محكيّ المبسوط: «و من الذي يبيع؟ قال بعضهم: الحاكم؛ لأنّ له الولاية عليه. و قال آخرون: يحضر عند الحاكم و معه رجل واطأه على الاعتراف بالدين و الامتناع من أدائه، ثمّ قال: و الأقوى عندنا أنّ له البيع بنفسه؛ لأنّه قد يتعذّر عليه إثباته عند الحاكم، و الذي قالوه كذب يتنزّه عنه» «1».

و يظهر من عبارته أنّ جواز البيع بنفسه قول علمائنا الإمامية في مقابل العامة القائلين بأحد القولين الأوّلين، و عليه فهذا المورد كما أشرنا إليه سابقاً من الموارد التي يجوز فيها بيع غير

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 311.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 405

..........

______________________________

المالك، كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّه ظهر أنّه لو كان بيع مال المقتصّ منه بأزيد من مقدار حقّه وجب عليه ردّ الزائد إليه، و قد عرفت حكم ضمانها في صورة التلف.

المقام الثاني: فيما لو لم يتوقّف أخذ مقدار حقّه على البيع، بأن كانت قيمة المال بمقدار حقّه، فلا

إشكال حينئذٍ في جواز أخذه مقاصة لفرض التساوي، و أمّا جواز البيع و أخذ القيمة مقاصّة أو اشتراء شي ء من جنس ماله ثمّ أخذه مقاصة، فقد استشكل فيه في المتن، ثمّ جعل الأشبه عدم الجواز، أي لا يجوز البيع في هذه الصورة مطلقا؛ لأنّ الجمع بين كون المقاصة على خلاف القاعدة، و بين عدم توقّف أخذ مقدار الحقّ على البيع كما هو المفروض العدم، خصوصاً مع أنّه لم يرد في شي ء من الروايات جواز البيع، كما لا يخفى.

و مع أنّ الغرض الأصلي من المقاصة الوصول إلى مقدار المالية الذي هو المقصود بالأصالة نوعاً، و المفروض أنّ قيمة المال الذي عنده بمقدار حقّه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 406

[مسألة 8: لا إشكال في أنّ ما إذا كان حقّه ديناً على عهدة المماطل فاقتصّ منه بمقداره برأت ذمّته]

مسألة 8: لا إشكال في أنّ ما إذا كان حقّه ديناً على عهدة المماطل فاقتصّ منه بمقداره برأت ذمّته، سيّما إذا كان المأخوذ مثل ما على عهدته، كما إذا كان عليه مقدار من الحنطة فأخذ بمقدارها تقاصّاً، و كذا في ضمان القيميات إذا اقتصّ القيمة بمقدارها، و أمّا إذا كان عيناً فإن كانت مثليّة و اقتص مثلها فلا يبعد حصول المعاوضة قهراً على تأمّل.

و أمّا إذا كانت من القيميات كفرس مثلًا و اقتص بمقدار قيمتها، فهل كان الحكم كما ذكر من المعاوضة القهرية، أو كان الاقتصاص بمنزلة بدل الحيلولة، فإذا تمكّن من العين جاز أخذها بل وجب، و يجب عليه ردّ ما أخذ، و كذا يجب على الغاصب ردّها بعد الاقتصاص و أخذ ماله؟ فيه إشكال و تردّد، و إن لا يبعد جريان حكم بدل الحيلولة فيه (1).

______________________________

(1) في المسألة أيضاً مقامان:

المقام الأوّل: فيما إذا كان حقّه ديناً علىٰ عهدة المماطل

بالمعنى الأعمّ من الجاحد، و قد وقع الاقتصاص من ماله بمقداره، و في هذا المقام نفى الإشكال عن براءة ذمّته سواء كان المأخوذ مثل ما على عهدته، كما إذا كان الدين مقداراً من الحنطة فأخذ بمقدارها تقاصّاً، أو كان المأخوذ من غير جنس ما على عهدته، كما في المثال المفروض إذا كان المأخوذ شعيراً مثلًا و انحصرت المقاصّة به أو جازت؛ لأنّ الغرض من الاقتصاص ليس مجرّد وصول الدائن إلى ماله، بل حصول البراءة من الدين للمديون أيضاً، على أنّه لا يكاد يجتمع بين ملكيّة المال المأخوذ بعد الاقتصاص و بقاء الدين على عهدته، و هكذا في ضمان القيميات إذا اقتصّ القيمة بمقدارها.

ثمّ إنّ قوله في المتن: «و كذا في ضمان القيميات ..» يشعر بل يدلّ على أنّ العين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 407

..........

______________________________

المغصوبة التالفة في يد الغاصب تكون مضمونة بقيمتها إذا كانت قيمية، مع أنّا قد حقّقنا في كتابنا في القواعد الفقهية في بحث ضمان اليد أنّه يمكن أن يقال بأنّها مضمونة بنفسها، و أنّ المستفاد من قاعدة «على اليد ما أخذت» نفس كون المأخوذ على العهدة «1».

و الثمرة تظهر في لزوم أداء قيمة يوم الأداء لا التلف و لا الغصب و لا غيرهما فراجع.

المقام الثاني: فيما إذا كان عيناً باقية في حال الاقتصاص تحت يد المماطل بالمعنى المذكور، و قد فصّل في المتن بين ما إذا كانت مثلية و اقتص مثلها، فنفى البعد عن حصول المعاوضة القهرية على تأمّل، و بين ما إذا كانت قيمية و اقتص بمقدار قيمتها، ففيه إشكال من جهة المعاوضة القهرية، أو كان الاقتصاص بمنزلة بدل الحيلولة، و نفى البعد عن

الثاني. و قد مرّ كلام في هذا المجال من المحقّق العراقي في الرسالة «2»، و عرفت أنّ الظاهر عدم كون الاقتصاص معاوضة قهرية ثابتة بالكتاب و السّنة «3»، فراجع.

و إن كان يظهر من صاحب الجواهر الأوّل، حيث قال فيها: و ينبغي أن يلزمه انتقال مقابله إلى ملك الغاصب؛ لقاعدة عدم الجمع بين العوض و المعوّض عنه، بل قد يشكل استحقاق الردّ عليه لو بذله له بعد ذلك، بل لعلّه كذلك لو كان البذل من المالك استصحاباً لملك العوض، و احتمال كون الملك متزلزلًا نحو ما ذكروه في القيمة التي يدفعها الغاصب للحيلولة مناف لقاعدة اللزوم بعد ظهور

______________________________

(1) القواعد الفقهية: 1/ 92- 97.

(2) في ص 395 397.

(3) في ص 395 397.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 408

..........

______________________________

النصوص في ذلك، بل يمكن دعواه أيضاً هناك، و يجعل ما هنا دليلًا عليه، فتأمّل جيّداً «1».

و يدفعه المنع من الجمع بين العوض و المعوّض بعد عدم تحقّق تسلّطه في زمان واحد إلّا على واحد منهما، و مجرّد الجمع في الملكية من دون أن يدلّ دليل هناك على ثبوت المعاوضة ليتحقق عنوان العوض و المعوّض ممنوع، و يؤيّد عدم ثبوت المعاوضة أنّه ربّما تكون خصوصيات العين أو بعضها مطلوبة للمالك، فإذا قلنا: بثبوت المعاوضة يلزم ارتفاع يده عنها، بخلاف ما إذا كان على نحو بدل الحيلولة التي لا تكون الخصوصيات مرتفعة يده عنها بمجرّد تحقّق الحيلولة، فالاعتبار يساعد على عدم التعارض؛ لأنّ غرض المالك يتحقّق معه دون المعاوضة القهرية.

ثمّ إنّه يترتّب على المعاوضة القهرية و بدل الحيلولة أنّه لو تمكّن المقاص من العين جاز أخذها، و يجب عليه ردّ ما أخذ بدلها، و

كذا لا يجوز للغاصب التصرّف فيها بعد الاقتصاص، بل يجب عليه الردّ إلى المغصوب منه بناءً على بدل الحيلولة بخلاف المعاوضة القهرية، إلّا أن يلزم بانفساخ المعاوضة حينئذٍ قهراً و هو كما ترى، كما لا يخفى.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 40/ 396.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 409

[مسألة 9: الأقوى جواز المقاصّة من المال الّذي جعل عنده وديعةً على كراهية]

مسألة 9: الأقوى جواز المقاصّة من المال الّذي جعل عنده وديعةً على كراهية، و الأحوط عدمه (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: لو كان المال وديعة عنده ففي جواز الاقتصاص تردّد أشبهه الكراهة «1»، و أضاف إليه في الجواهر «2» قوله: وفاقاً لأكثر المتأخّرين «3».

و قد وردت فيه طائفتان من الأخبار:

الطائفة الأُولى: ما تدلّ على الجواز، مثل: صحيحة أبي العبّاس البقباق المتقدّمة «4» في ذيل المسألة الأُولى، و كذا رواية علي بن سليمان المتقدّمة «5»، و مثل بعض الروايات الأُخر الشاملة بإطلاقها للوديعة كصحيحتي داود و أبي بكر المتقدّمتين «6».

الطائفة الثانية: ما تدلّ على المنع مثل:

رواية ابن أخي الفضيل بن يسار قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) و دخلت امرأة، و كنت أقرب القوم إليها، فقالت لي: اسأله، فقلت: عمّا ذا؟ فقالت: إنّ ابني مات و ترك مالًا كان في يد أخي فأتلفه، ثمّ أفاد مالًا فأودعنيه، فلي أن آخذ منه بقدر

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 109.

(2) جواهر الكلام: 40/ 391.

(3) إرشاد الأذهان: 2/ 143، مختلف الشيعة: 8/ 166- 167 مسألة 4، قواعد الأحكام: 3/ 448، إيضاح الفوائد: 4/ 347، غاية المراد: 4/ 24- 25، التنقيح الرائع: 4/ 269- 270، غاية المرام: 4/ 254- 255، مسالك الأفهام: 14/ 71، كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 723- 724، رياض المسائل: 13/ 169.

(4)

في ص 391.

(5) في ص 393.

(6) في ص 390- 391.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 410

..........

______________________________

ما أتلف من شي ء؟ فأخبرته بذلك، فقال: لا، قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك و لا تخن من خانك «1».

و موثقة سليمان بن خالد المتقدّمة «2» المشتملة على قوله: إن خانك فلا تخنه و لا تدخل فيما عبته عليه.

و صحيحة معاوية بن عمّار، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلت له: الرجل يكون لي عليه حقّ فيجحدنيه، ثمّ يستودعني مالًا، أ لي أن آخذ مالي عنده؟ قال: لا، هذه الخيانة «3».

هذا مضافاً إلى الإطلاقات الواردة الدالّة على وجوب ردّ الأمانة و أدائها إلى صاحبها، و لو إلى قاتل الحسين (عليه السّلام) أو ضارب عليّ (عليه السّلام) بالسيف «4»، و يؤيّدها إطلاق الكتاب و عمومه، مثل قوله تعالى إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا «5».

أقول: الظاهر في أمثال هذا المورد حمل الأخبار الناهية على الكراهة لظهورها في الحرمة، و صراحة أخبار الجواز في الجواز، و الجمع العرفي بين النصّ و الظاهر يقتضي حمل الظاهر على النصّ، فلا تصل النوبة إلى المرجّحات المذكورة في الأخبار العلاجية بعد كون موضوعها المتعارضين، و النصّ و الظاهر ليسا كذلك، فما

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 348 ح 981، الاستبصار: 3/ 172، و عنهما وسائل الشيعة: 17/ 273، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 3.

(2) في ص 291- 292.

(3) الفقيه: 3/ 114 ح 483، الكافي: 5/ 98 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 197 ح 348، و عنها وسائل الشيعة: 17/ 275، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب

83 ح 11.

(4) وسائل الشيعة: 19/ 72- 76، كتاب الوديعة ب 2 ح 2، 4، 8، 12، 13.

(5) سورة النساء 4: 58.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 411

..........

______________________________

عن النهاية «1» و الغنية «2» و الكيدري «3» و القاضي «4» من القول بعدم الجواز، بل عن الغنية الإجماع عليه واضح الضعف، و إن توقّف فيه في ظاهر المحكيّ عن الدروس «5» و الرّوضة «6»، بل مال إليه الأردبيلي «7».

و ما يمكن أن يقال وجهاً للمنع: من أنّ الأدلّة بعد تعارض الخاصّة منها و تساقطها، فالعمومات بينهما تعارض العموم و الخصوص من وجه و لا ترجيح، و الأصل حرمة التصرّف في مال الغير، و عدم تعيين الكلّي في ذمّة المديون بتعيين غيره، يدفعه ما ذكرنا من عدم التعارض بين الأدلّة الخاصة بعد حمل الظاهر على النص، فلا تصل النوبة إلى العمومات أصلًا.

و دعوى أنّ روايات المنع صريحة في الحرمة و تأبى الحمل على الكراهة، مدفوعة بأنّ الصراحة إمّا من ناحية الهيئة و إمّا من ناحية المادة أي المتعلّق للنهي، أمّا الصيغة و هي النهي فلا إشكال في ظهورها في الحرمة لا صراحتها فيها.

______________________________

(1) النهاية: 307.

(2) غنية النزوع: 240.

(3) إصباح الشيعة: 284.

(4) لم أجده في المهذّب، نعم نقل عن ابن البرّاج العلّامة في المختلف: 8/ 166 مسألة 4، و الصيمري في غاية المرام: 4/ 254، فلعلّه نقل عن كامله.

(5) الدروس: 2/ 85- 86.

(6) الروضة البهيّة: 3/ 242.

(7) مجمع الفائدة و البرهان: 9/ 126 و ج 12/ 107- 111.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 412

..........

______________________________

و أما المتعلّق أو التعليل في بعضها و هي الخيانة فقد عرفت «1»

أنّ التعبير بها أو بالظلم «2» إنّما هو للمشابهة، لا أنّ المقاصّة خيانة واقعاً و ظلم كذلك، بل هو مثل الاعتداء في الآية الشريفة «3»، ضرورة عدم كونه اعتداءً حقيقة. فأخبار المنع ظاهرة في الحرمة قابلة للحمل على الكراهة.

اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ الكراهية الثابتة بعد حمل أخبار النهي على الحرمة لا تجتمع مع ما في صحيحة البقباق من قوله: أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ و تحلف «4» بعد ظهور قوله: «أحبّ» في الاستحباب، و وضوح عدم دخالة الحلف في ذلك، فهي ظاهرة في الاستحباب الذي لا يجتمع مع الكراهة، فالمعارضة متحقّقة.

أقول: هذه المعارضة مضافاً إلى أنّها لا تنتج الحرمة لخروجها عن الطرفين اللذين هما الاستحباب و الكراهة لازمها الحكم بالكراهة؛ لأنّه لم يقل أحد بالاستحباب، فالشهرة بل الإجماع على خلافه «5»، فاللّازم ثبوت الكراهة، فتدبّر جيّداً.

بل قال صاحب الجواهر (قدّس سرّه): لو لا شهرة الكراهة لأمكن المناقشة فيها بظهور قوله (عليه السّلام): «أمّا أنا فأحبّ أن تأخذ و تحلف» في عدمها، مع احتمال حمل ما دلّ على النّهي عن خيانة من خان على ما لو استحلفه، فإنّه لا يجوز حينئذٍ المقاصّة، كما

______________________________

(1) في ص 432.

(2) يأتي التعبير به في رواية عبد الله بن وضّاح في ص 432.

(3) سورة البقرة 2: 194.

(4) تقدم في ص 391.

(5) مستند الشيعة: 17/ 456- 458، رياض المسائل: 13/ 168- 173.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 413

..........

______________________________

أومأ إليه في خبر عبد اللّٰه بن وضاح مع اليهودي الذي حلّفه، ثمّ وقع له عنده أرباح تجارة دراهم كثيرة، فسأل أبا الحسن (عليه السّلام) عن ذلك. فقال له: «إن كان ظلمك فلا تظلمه، و لو لا

أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك» «1»، و هو دليل آخر أيضاً على جواز المقاصة، كما هو واضح «2».

هذا، و لكن مع ذلك يكون مقتضى الاحتياط الاستحبابي العدم، خروجاً من خلاف المانعين المتقدّمين، و دعوى الإجماع من الغنية على ما عرفت.

______________________________

(1) تقدم في ص 142.

(2) جواهر الكلام: 40/ 393- 394.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 414

[مسألة 10: جواز المقاصّة في صورة عدم علمه بالحقّ مشكل]

مسألة 10: جواز المقاصّة في صورة عدم علمه بالحقّ مشكل، فلو كان عليه دين و احتمل أداءَه يشكل المقاصّة، فالأحوط رفعه إلى الحاكم، كما أنّه مع جهل المديون مشكل و لو علم الدائن، بل ممنوع كما مرّ، فلا بدّ من الرفع إلى الحاكم (1).

______________________________

(1) أمّا الإشكال في صورة عدم العلم بالحقّ، ففيما إذا كان غير عالم بأصل الحقّ أصلًا بمعنى عدم العلم بأنّه صار مديوناً له أم لا فواضح؛ لأنّ عنوان المقاصة فرع كونه مديوناً له، فالمقاصة في صورة الشك كالقصاص ممّن يحتمل كونه قاتلًا عمداً مع عدم ثبوته.

و أمّا إذا كان عالماً بأصل الحقّ سابقاً، و احتمل تحقّق الأداء من المديون، فيمكن أن يقال: بأنّه يكفي في إحراز عدم الأداء الاستصحاب، إلّا أن يقال: بأنّ ظاهر روايات التقاص «1» عدم كفاية مطلق الإحراز، بل لا بدّ و أن يكون بالعلم الوجداني أو الاطمئنان الذي يعامل معه معاملة العلم عند العرف و العقلاء، فإذا قامت بيّنة غير مفيدة للاطمئنان على ثبوت الدين فضلًا عن الأصل، لا يكفي في جواز التقاصّ بل لا بدّ من العلم أو الاطمئنان، و عليه فلا تسوغ المقاصّة مع استصحاب بقاء الدين على عهدة المديون و عدم أدائه، و عليه فيكون العلم أو الاطمئنان له

دخل موضوعي في الحكم بالجواز، فتدبّر فإنّه لا غرو في ذلك بعد كون المقاصّة على خلاف القاعدة، كما عرفت «2» مراراً.

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 17/ 272- 276، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83.

(2) مثل ص 389.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 415

..........

______________________________

و أمّا جعل الأحوط الرفع الوجوبي إلى الحاكم، فهو يغاير ما تقدّم منه في شروط سماع الدعوى من أنّه من جملة الشروط الجزم بالدّعوى «1»، فكيف يمكن له إقامة الدّعوى مع عدم الجزم بثبوتها، أو ما يقوم مقام الجزم على ما عرفت في السابق «2»، خصوصاً في الصورة الأُولىٰ؟

و أمّا الإشكال في صورة جهل المديون و لو مع علم الدائن بل ممنوعيته فلما عرفت في شرح المسألة الاولى من أنّ مورد المقاصّة صورة جحد المديون أو مماطلته، كما وقع التعبير بالجحد في مورد جملة من الرّوايات المتقدّمة «3»، خصوصاً مع أنّ المقاصّة أمر على خلاف القاعدة، كما أشرنا إليه مراراً.

و من فرض المسألة يعلم أنّ الرفع إلى الحاكم في صورة علم الدائن هنا ممكن؛ لأنّ المدّعى إنّما يدعيه بصورة الجزم، و قد عرفت «4» صور جواب المدّعى عليه و إنّ من جملتها الجواب بقوله: لا أدري، و مسائل هذا الجواب فراجع.

______________________________

(1) أي في الشرط الثامن و شرحه.

(2) أي في الشرط الثامن و شرحه.

(3) في ص 390- 391.

(4) في المسألة 4 من مسائل «القول في السكوت ..».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 416

[مسألة 11: لا يجوز التقاص من المال المشترك بين المديون و غيره إلّا بإذن شريكه]

مسألة 11: لا يجوز التقاص من المال المشترك بين المديون و غيره إلّا بإذن شريكه، لكن لو أخذ وقع التقاص و إن أثم، فإذا اقتصّ من المال المشاع صار

شريكاً لذلك الشريك إن كان المال بقدر حقّه أو أنقص منه، و إلّا صار شريكاً مع المديون و شريكه، فهل يجوز له أخذ حقّه و إفرازه بغير إذن المديون؟

الظاهر جوازه مع رضا الشريك (1).

______________________________

(1) إذا كان المال مشتركاً بين المديون و غيره فلا يجوز التقاص منه إلا بإذن الشريك؛ لاستلزامه التصرّف في المال المشترك، و هو لا يجوز بدون إذن الشريك، و هو حرام قبل تحقّق القسمة؛ لأنّ التقاص متقوّم بالأخذ بقصده و لا يتحقّق بمجرّد القصد. لكن لو ارتكب المحرّم و أخذ المال المشترك بدون إذن الشريك و بقصد التقاص يترتّب عليه مجرّد الإثم، و لا يكون تصرّفاً في مال الغير المحرّم، بل تصرّفاً في المال المشترك بدون إذن الشريك، و هو ليس كالأوّل في الحرمة؛ لوضوح وجود الفرق بين التصرّف في مال الغير و بين التصرّف في مال نفسه المشترك بينه و بين غيره.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّ جواز التقاص من المال المشترك لا يكون مقيّداً بإذن الشريك، فإنّ جواز المقاصة مطلق، و إنّما المتوقّف على إذن الشريك جواز التصرّف في المال المشترك.

ثمّ إنّه ذكر أنّه إذا اقتصّ من المال المشترك أي بإذن الشريك بناءً على ما هو ظاهر عبارته، فإن كان المال المشترك بقدر حقّه أو أنقص منه صار شريكاً لذلك الشريك، و يترتّب عليه أحكام المال المشترك، و إن كان أزيد من حقّه تتحقّق الشركة بين أشخاص ثلاثة منهم المقتصّ منه، فهل يجوز للمقتصّ أخذ حقّه و إفرازه بغير إذن المديون الشريك أيضاً؟ استظهر

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 417

..........

______________________________

الجواز مع رضا الشريك الآخر، و الوجه فيه انّ التقاص إنّما هو للوصول إلى ماليّة

ماله؛ لفرض جحود المديون أو مماطلته، فإذا فرض أنّ جواز التصرّف في ماله متوقف على إذن المديون، يلزم نقض الغرض خصوصاً في صورة الجحود؛ لأنّه لا يكاد يجتمع الجحود مع الإذن في المال المشترك كما لا يخفى، فما استظهره الماتن (قدّس سرّه) من الجواز أي جواز الإفراز مع رضا شريك المديون فقط في محلّه، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 418

[مسألة 12: لو كان له حقّ و منعه الحياء أو الخوف أو غيرهما من المطالبة فلا يجوز له التقاص]

مسألة 12: لو كان له حقّ و منعه الحياء أو الخوف أو غيرهما من المطالبة فلا يجوز له التقاص، و كذا لو شك في أنّ الغريم جاحد أو مماطل لا يجوز التقاص (1).

[مسألة 13: لا يجوز التقاص من مال تعلّق به حقّ الغير]

مسألة 13: لا يجوز التقاص من مال تعلّق به حقّ الغير كحقّ الرهانة و حقّ الغرماء في مال المحجور عليه، و في مال الميّت الذي لا تفي تركته بديونه (2).

______________________________

(1) لا يجوز التقاص مع ثبوت الحقّ، غاية الأمر منع الحياء أو الخوف أو غيرهما من المطالبة؛ لأنّ مورد الروايات المتقدّمة «1» الدالّة على مشروعية المقاصّة مع كونها على خلاف القاعدة على ما عرفت «2» هي صورة الجحد و الإنكار أو المماطلة و المسامحة، فالمانع عن الأداء إنكار أصل الدين أو الأمر الموجب للتأخير، و أمّا لو كان المانع هو الحياء أو الخوف أو غيرهما فهو خارج عن مورد أدلّة جواز التقاصّ، خصوصاً مع الاطمئنان بالأداء على تقدير المطالبة، و هكذا لو شك في أنّ الغريم جاحد أو مماطل، و احتمال الأداء على فرض المطالبة، فإنّه أيضاً خارج عن مورد الأدلّة الدالة على المشروعية.

(2) غير خفيّ أنّ التقاص إنّما يكون مورده ما إذا كان المال للمقتص منه، من دون أن يكون متعلّقاً لحقّ الغير، فإنّ التقاص من مثله يوجب تضييع حقّ الغير كحقّ الرهانة مثلًا، فإنّ العين المرهونة لا بدّ و أن تكون عند المرتهن وثيقة للدين، بحيث إذا لم يؤدّ المديون دينه لكان استفادة الدين منها للمرتهن ممكنة، و هذا لا يكاد يجتمع مع المقاصة منها.

______________________________

(1) في ص 389- 391.

(2) في ص 389- 391.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 419

..........

______________________________

و كذا المثالان الأخيران، كثبوت حقّ الغرماء

في مال المحجور عليه و ثبوت حقّهم في مال الميّت الذي لا تفي تركته بديونه، فإنّ المقاصّة من مال المحجور عليه أو الميت تنافي حقّ الغرماء، إلّا أن يقال: إنّه حينئذٍ يكون كأحد من الغرماء لغرض العلم بأنّه دائن و الغريم مديون، و إن كان بينه و بينهم فرق من جهة أنّ الغرماء عبارة عمّن ثبت عند الحاكم كونه دائناً، و إلّا لا يحكم بكونه محجوراً، أو أنّه لا تفي تركة الميت بديونه، و لا يعتبر في المقاصة ذلك، بل لا تحتاج إلى إذن الحاكم مطلقاً أو في بعض فروضها قطعاً، كما إذا كان للغريم على الغارم أيضاً دَينٌ، فأراد الغارم الاحتساب عمّا عليه مقاصّة كما لا يخفى، و سيأتي «1» إن شاء اللّٰه تعالى.

______________________________

(1) أي في المسألة 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 420

[مسألة 14: لا يجوز لغير ذي الحقّ التّقاص إلّا إذا كان وليّاً أو وكيلًا عن ذي الحقّ]

مسألة 14: لا يجوز لغير ذي الحقّ التّقاص إلّا إذا كان وليّاً أو وكيلًا عن ذي الحقّ، فللأب التقاص لولده الصغير أو المجنون أو السّفيه في مورد له الولاية، و للحاكم أيضاً ذلك في مورد ولايته (1).

______________________________

(1) من الواضح أنّ من لا يكون له حقّ على المقتص منه لا يجوز له التقاص، بل لا يتحقّق عنوان المقاصّة أصلًا؛ لأنّه كعنوان القصاص ممّن لا يكون قاتلًا أصلًا؛ لأنّ عنوان التقاص و القصاص و القصّة كلّها من مادّة واحدة يعتبر فيها وقوع عمل شبه العمل الواقع أو حكاية عمل قد وقع. و من الواضح أنّه مع عدم ثبوت الحقّ بوجه لا يكاد يصدق هذا العنوان.

نعم إذا كان وليّاً شرعياً فيجوز له التقاص بالإضافة إلى المولّى عليه، فإذا كان للصغير حقّ على غيره و هو يجحد أو

يماطل فلأبيه أو جدّه من قبله التقاص للصغير من مال الغريم، و هكذا بالنسبة إلى الوكيل إذا كانت دائرة توكيله شاملة لمثل التقاص، و كذا الحاكم في مورد ثبوت الولاية له كالمجنون غير المتصل جنونه بصغره، خصوصاً مع أنّ الغرض الأصلي من المقاصة وصول الحقّ إلى ذيه و لو بماليته، كما مرّ مراراً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 421

[مسألة 15: إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل عليه دين، جاز احتسابه]

مسألة 15: إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل عليه دين، جاز احتسابه عوضاً عمّا عليه مقاصّة إذا كان بقدره أو أقلّ و إلّا فبقدره، و تبرأ ذمّته بمقداره (1).

______________________________

(1) إذا كان للغريم الجاحد أو المماطل على المقتصّ دَينٌ، ففي المتن أنّه يجوز احتسابه عوضاً عمّا عليه مقاصّة إذا كان بقدره أو أقل و إلّا فبقدره.

و يمكن أن يقال بوقوع التهاتر قهراً من دون افتقار إلى الاحتساب أصلًا، فإذا كان الدين الثابت على المقتص ألف درهم مثلًا، و للمقتص على المقتص منه ألف درهم يتحقّق التهاتر القهري و إن لم يحتسب المقتصّ، إلّا أن يقال: إنّه قد لا يكون المقتصّ بصدد التقاص؛ لأجل عدم اقتضاء شأنه ذلك أو لغيره من الجهات. و قد عرفت «1» أنّ التقاص متقوّم بالقصد كالقصاص، فإنّه تارةً يقتل القاتل لأجل كونه قاتلًا و تارةً يقتل لغير ذلك. و عليه فاللّازم القول بجواز الاحتساب من دون تحقق التهاتر قهراً، و على أيّ حال أي سواء وقع التهاتر كذلك أو احتسب مقاصّة تبرأ ذمّة المقتص منه بمقداره، كما لا يخفى.

______________________________

(1) في ص 416.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران،

اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 422

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 422

[مسألة 16: ليس للفقراء و السادة المقاصّة من مال مَن عليه الزكاة أو الخمس]

مسألة 16: ليس للفقراء و السادة المقاصّة من مال مَن عليه الزكاة أو الخمس أو في ماله إلّا بإذن الحاكم الشرعي، و للحاكم التقاصّ ممّن عليه أو في ماله نحو ذلك و جحد أو ماطل، و كذا لو كان شي ء وقفاً على الجهات العامّة أو العناوين الكلّية و ليس لها متولٍّ لا يجوز التقاص لغير الحاكم، و أمّا الحاكم فلا إشكال في جواز مقاصّته منافع الوقف. و هل يجوز المقاصّة بمقدار عينه إذا كان الغاصب جاحداً أو مماطلًا لا يمكن أخذها منه، و جعل المأخوذ وقفاً على تلك العناوين؟ وجهان، و على الجواز لو رجع عن الجحود أو المماطلة فهل ترجع العين وقفاً و تردّ ما جعله وقفاً إلى صاحبه أو بقي ذلك على الوقفية و صار الوقف ملكاً للغاصب؟ الأقوىٰ هو الأوّل، و الظاهر أنّ الوقف من منقطع الآخر، فيصحّ إلى زمان الرجوع (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في مقامين:

المقام الأول: في جواز مقاصة الفقراء من مال مَن عليه الزكاة أو في ماله، و السّادة من مال مَن عليه الخمس أو في ماله أي سهم السادة أو مستحقّي سهم الإمام (عليه السّلام) من مال من عليه السهم أو في ماله، فإنّ المقتص منه لو كان جاحداً أو مماطلًا يجوز ذلك لهم بإذن الحاكم الشرعي، كما أنّه مع عدم الجحود أو المماطلة كان جواز الأخذ متوقّفاً على إذن الحاكم خصوصاً في سهم الإمام (عليه السّلام). و كذا للحاكم نفسه المقاصّة من المذكورين الجاحدين أو المماطلين.

و السرّ

في ذلك أنّ جواز أخذ المذكورات للمذكورين يحتاج إلى إذن الحاكم الشرعي على الأقوى أو على الاحتياط الوجوبي، كما ذكرنا الأخير في التعليقة

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 423

..........

______________________________

على العروة الوثقى بالإضافة إلى سهم السّادة «1»، و إن كان ظاهر الآية الشريفة «2» بالإضافة إلى الزكاة و الخمس ثبوتهما بنحو الشركة، كما هو أحد الأقوال و الاحتمالات فيهما؛ للتعبير باللّام الظاهرة في الملكيّة التي لا تكاد تنطبق فيهما إلّا على الكسر المشاع، إلّا أنّه حيث تكون العناوين المأخوذة في آيتي الزكاة و الخمس ثابتة بنحو المصرف، بحيث يكفي الصرف في أحدها و لا يلزم الصرف في الجميع.

و من ناحية أُخرى بما أنّه يكون تعداد مصاديقها كثيراً و غير قابل للإحصاء ظاهراً لا بدّ و أن يكون الحاكم أو إذنه معتبراً و لو احتياطاً.

و ممّا ذكرنا ظهر الجواز لنفس الحاكم مع رعاية شرائط المقاصّة التي تكون عمدتها الجحود أو المماطلة، كما لا يخفى.

المقام الثاني: في جواز المقاصة بالإضافة إلى العين الموقوفة على الجهات العامة و العناوين الكلّية كالفقراء و العلماء مثلًا، فإن لم يكن له متولٍّ خاصّ و كان أمره إلى الحاكم، فإن أمكن له أخذ العين و ردّها إلى ما قبل و جعل المأخوذ وقفاً على تلك العناوين فاللّازم ذلك، و إن لم يمكن مع فرض جحود الغاصب أو مماطلته، فإن أمكن له التقاص من منافع العين الموقوفة و صرفه في تلك العناوين فاللّازم ذلك.

و هل تجوز المقاصّة بمقدار العين إذا كان الغاصب جاحداً أو مماطلًا؟ قد احتمل فيه وجهين ناشئين من أنّ الحاكم هنا بمنزلة المقتصّ صاحب العين أو الدين في سائر الموارد، فلِمَ لا تجوز المقاصة

من الحاكم؟ و من أنّ جعل الحاكم المأخوذ

______________________________

(1) الحواشي على العروة الوثقى: 195.

(2) سورة الأنفال 8: 41، سورة التوبة 9: 60 و 103.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 424

..........

______________________________

وقفاً على تلك العناوين مع عدم كونه مالكاً أو شبهه على خلاف القاعدة جدّاً، خصوصاً في مثل المقام ممّا لم يكن المال المأخوذ ملكاً لواحد منهم، بل الغرض وصول منافعه إليهم. و قد فرض جواز التقاص من منافع العين الموقوفة بخلاف التقاص في سائر الموارد، حيث يكون جواز التصرّف للمقتصّ مطلقا متوقّفاً على الملكيّة، و لذا التزم صاحب الجواهر (قدّس سرّه) في كلامه المتقدّم بالمعاوضة القهرية و إن ناقشنا فيه «1» فراجع لا يبعد اختيار الاحتمال الثاني لما ذكرنا.

ثمّ إنّ قوله: «و جعل المأخوذ وقفاً» إنّما يكون عطفاً على قوله: «المقاصّة» لا أنّه عطف على المنفيّ، و الشاهد عليه مضافاً إلى أنّه لا يحتاج إلى الوقف ثانياً قوله: «و تردّ ما جعله وقفاً إلى صاحبه» الظاهر في أنّه وقف ثانوي صادر من الحاكم، فتدبّر.

ثمّ إنّه على تقدير الجواز لو رجع المقتصّ منه عن الجحود أو المماطلة، فهل ترجع العين وقفاً و تردّ ما جعله وقفاً إلى صاحبه أو بقي ذلك على الوقفية و صار الوقف ملكاً للغاصب؟ فيه وجهان، جعل في المتن الأقوى الأول، و الوجه فيه أنّ العين الموقوفة المغصوبة لا تخرج عن الوقفية و لو بالغصب، و الجحود أو المماطلة لا دخل لهما في الخروج عن ذلك سيّما المماطلة، كما أنّه لا دخل لهما في زوال ملكية المالك، و إلّا لا يبقى مجال للمقاصة أصلًا، كما لا يخفى، و لا مجال لدعوى بقاء العين على الوقفية و صيرورتها

مع ذلك ملكاً للغاصب.

ثمّ إنّ الماتن (قدّس سرّه) استظهر بعد ذلك أنّ الوقف الصادر من الحاكم من منقطع الآخر الصحيح في مقابل منقطع الأوّل أو الوسط الباطلين، فيصح إلى زمان الرجوع أي الرجوع عن الجحود، و الوجه فيه واضح لا يخفىٰ.

______________________________

(1) 407- 408.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 425

[مسألة 17: لا تتحقق المقاصّة بمجرّد النيّة بدون الأخذ و التسلّط على مال الغريم]

مسألة 17: لا تتحقق المقاصّة بمجرّد النيّة بدون الأخذ و التسلّط على مال الغريم، نعم يجوز احتساب الدين تقاصّاً كما مرّ، فلو كان مال الغريم في يده أو يد غيره فنوى الغارم تملّكه تقاصّاً لا يصير ملكاً له، و كذا لا يجوز بيع ما في يد الغير منه بعنوان التقاص من الغريم (1).

[مسألة 18: الظاهر أنّ التقاص لا يتوقف على إذن الحاكم]

مسألة 18: الظاهر أنّ التقاص لا يتوقف على إذن الحاكم، و كذا لو توقف على بيعه أو إفرازه يجوز كلّ ذلك بلا إذن الحاكم (2).

______________________________

(1) قد عرفت أنّ المقاصّة متقوّمة بالأخذ و القصد «1»، فلا تتحقّق بمجرّد النّية، لأنّها عبارة عن مثل فعله كالقصاص الذي هو عبارة عن قتل القاتل عمداً، فلو كان مال الغريم في يد نفسه أو في يد غيره الأجنبي، فنوى الغارم تملّكه تقاصّاً لا يصير ملكاً له، و كذا لا يجوز بيع ما في يد الغير منه أو من غيره بهذا العنوان، فاللّازم الأخذ و قصد المقاصّة، و لا يكفي مجرّد الأخذ أيضاً؛ لأنّه ربّما لا يكون الغارم بصدد التقاص؛ لأنّه ليس من شأنه ذلك؛ لأجل كونه خيانة ظاهراً و إن لا يكون كذلك واقعاً أو لغير هذه الجهة.

نعم يجوز احتساب الدين تقاصّاً، بل كما ذكرنا سابقاً يقع التهاتر القهري احتمالًا من دون الاحتساب الذي لا يقع إلّا بالنيّة.

(2) وجه الظهور إطلاق أدلّة المشروعيّة الدالّة على أنّ الشارع أذن في ذلك

______________________________

(1) في ص 416.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 426

..........

______________________________

مطلقاً من غير اعتبار المراجعة إلى الحاكم و الاستئذان منه. نعم قد عرفت «1» أنّه مع سهولة المرافعة إلى الحاكم و إقامة البيّنة على حقّه لا تجوز المقاصّة، بل يتعيّن الترافع حينئذٍ

و أخذ الحقّ من طريق القضاء.

و إن شئت قلت: في صورة جواز المقاصة قد أذن الشارع في ذلك، و لا حاجة إلى إذن الحاكم خصوصاً مع أنّ التقاص كما عرفت مراراً يكون على خلاف القاعدة المقتضية لعدم جواز التصرّف في مال الغير بغير إذنه، و خصوصاً مع أنّه بعد الرجوع إلى الحاكم و الاستئذان منه إمّا أن يكون ملتزماً بالإذن بالإضافة إلى الجميع، فيلزم لغوية لزوم الاستئذان، و أمّا أن لا يكون، فيلزم التبعيض من غير وجه مضافاً إلى أنّ الجهة الموجبة لعدم الاذن كإثارة الفتنة و نحوها لا ربط لها بالتقاصّ كما مرّ «2».

هذا فيما إذا لم يتوقّف على البيع أو الإفراز، و أمّا لو توقّف على شي ء من ذلك فالظاهر أيضاً عدم التوقّف على الإذن؛ لعدم الدليل عليه خصوصاً مع أنّ البيع أو الافراز غير مصرّح بجوازه في شي ء من الروايات المتقدّمة «3»، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّك عرفت «4» مراراً أنّ قاعدة نفي الضرر أجنبيّة عن مثل المقام، فلا يجوز التمسّك بها كما لا يخفى.

______________________________

(1) في ص 394.

(2) في ص 394- 396.

(3) في ص 389- 391 و غيرها.

(4) في ص 397 و غيرها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 427

[مسألة 19: لو تبيّن بعد المقاصّة خطوة في دعواه يجب عليه ردّ ما أخذه أو ردّ عوضه مثلًا أو قيمته لو تلف]

مسألة 19: لو تبيّن بعد المقاصّة خطوة في دعواه يجب عليه ردّ ما أخذه أو ردّ عوضه مثلًا أو قيمته لو تلف، و عليه غرامة ما أضرّه من غير فرق بين الخطأ في الحكم أو الموضوع، و لو تبيّن أنّ ما أخذه كان ملكاً لغير الغريم يجب ردّه أو ردّ عوضه لو تلف (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة صورتان:

الاولىٰ: ما إذا تبيّن بعد المقاصّة خطأ المقتص النادم فيما يعتقده و

يدّعيه من ثبوت حقّ له على الغريم، و أنّه لم يكن له حقّ عليه عند المقاصّة، و يجب عليه حينئذٍ ردّ ما أخذه إن كان موجوداً و لم يتحقّق نقله إلى الغير، و ردّ عوضه مثلًا أو قيمته لو تلف أو نقل إلى الغير بالنقل اللازم من دون فرق بين أن يكون الخطأ في الحكم أو الموضوع، و الوجه فيه واضح.

الثانية: ما إذا تبيّن له بعد المقاصّة أنّ المأخوذ لم يكن ملكاً للغريم بل لغيره، و كان يعتقد أنّه ملك للغريم. و من المعلوم أنّه لم تتحقق المقاصّة حينئذٍ؛ لأنّه لا معنى لها بالإضافة إلى مال الغير، و إن كان من حواشيه كأبيه أو ابنه مثلًا فيجب عليه ردّه أو ردّ عوضه مثلًا أو قيمته لو تلف أو مثله.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 428

[مسألة 20: تجوز المقاصّة من العين أو المنفعة أو الحقّ في مقابل حقّه من أيّ نوع كان]

مسألة 20: تجوز المقاصّة من العين أو المنفعة أو الحقّ في مقابل حقّه من أيّ نوع كان، فلو كان المطلوب عيناً يجوز التقاصّ من المنفعة إذا عثر عليها أو الحقّ كذلك و بالعكس (1).

______________________________

(1) لا تعتبر في المقاصّة إلّا المماثلة في المالية، و لا تعتبر المماثلة من جهة العين أو المنفعة أو الحقّ، فلو كان المطلوب عيناً يجوز التقاص من المنفعة إذا عثر عليها أو الحقّ كذلك و بالعكس، بل لا تعقل المماثلة من جميع الجهات في بعض صور المقاصّة، فإذا كان المطلوب عيناً لا تتحقق المماثلة معها في الجميع خصوصاً بعد كون خصوصيات العين مقصورة، فالمعتبر في المقاصة المماثلة في المالية.

نعم قد عرفت «1» أنّه مع إمكان المقاصة من المثل في المثلي الكلي، يشكل التقاص من جنس آخر، كالتقاص من الشعير فيما لو

كان عليه حنطة مع إمكان التقاص من الحنطة التي هي من جنسها، كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّه ربّما يقال بقصور أدلّة المقاصة عن الدلالة على جوازها من غير جنس حقّه؛ نظراً إلى صحيحة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة الواردة في الدراهم من الطرفين، و صحيحة داود بن رزين المتقدّمة المشتملة على قوله: «خذ مثل ذلك» «2»، مضافاً إلى آية الاعتداء «3» و المعاقبة «4» المشتملتين على التعبير بالمماثلة، و لا تصدق المماثلة فيما إذا كان المطلوب عيناً و أُريد التقاص من الحقّ، و لكن ضعف

______________________________

(1) في ص 355.

(2) تقدّمتا في ص 398- 391.

(3) سورة البقرة 2: 194.

(4) سورة النحل 16: 126.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 429

..........

______________________________

هذا القول ظاهر بعد وضوح أنّ المراد بالمماثلة هي المماثلة في المقدار، بمعنى عدم الزيادة على المطلوب، و إلّا يلزم عدم استفادة مشروعية التقاص فيما إذا لم يتمكّن من الجنس من أمثال هذه الأدلّة، مع أنّه من الواضح خلافه، بل يلزم عدم مشروعية المقاصة في مقدار أقلّ من الحقّ.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 430

[مسألة 21: إنّما يجوز التقاص إذا لم يرفعه إلى الحاكم فحلّفه]

مسألة 21: إنّما يجوز التقاص إذا لم يرفعه إلى الحاكم فحلّفه، و إلّا فلا يجوز بعد الحلف، و لو اقتص منه بعده لم يملكه (1).

______________________________

(1) غير خفي أنّه إذا رفع الأمر إلى الحاكم و لم يكن بيّنة للمدّعي، و وصلت النوبة إلى حلف المدّعى عليه فحلّفه الحاكم و حلف، و حكم الحاكم على طبق حلفه بعدم كونه غاصباً أو مديوناً، لا يجوز للدائن و إن كان يرى نفسه فيما بينه و بين اللّٰه دائناً المقاصة من مال المديون؛ لاقتضاء فصل الخصومة الحاصل بحكم

الحاكم ذلك، و إن كان لا يصير الغاصب مالكاً للعين واقعاً، و المديون بريئاً من الدين كذلك، و قد ورد في بعض الروايات النبوية الصحيحة المشتملة على قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «1» ما هو مفاده أنّه لو قضيت لكم بخلاف الواقع لا يصير المحكوم له مالكاً واقعاً، بل إنّما قطع له قطعة من النار. و مع اقتضاء القاعدة ذلك فقد وردت في المسألة أيضاً روايات:

منها: رواية خضر النخعي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في الرجل يكون له على الرجل المال فيجحده، قال: إن استحلفه فليس له أن يأخذ شيئاً، و إن تركه و لم يستحلفه فهو على حقّه «2».

و منها: رواية ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا رضي صاحب الحقّ بيمين المنكر لحقّه فاستحلفه، فحلف أن لا حقّ له قبله ذهبت اليمين بحقّ المدّعى، فلا دعوى له.

______________________________

(1) تقدّم في ص 135- 245.

(2) تقدّم في ص 142.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 431

..........

______________________________

قلت له: و إن كانت عليه بيّنة عادلة؟ قال: نعم و إن أقام بعد ما استحلفه باللّٰه خمسين قسامة ما كان له، و كانت اليمين قد أبطلت كلّ ما ادّعاه قبله ممّا قد استحلفه عليه «1».

و لا يخفى أنّ المراد بذهاب اليمين بحقّ المدّعى، كما يظهر من تفريع قوله: «فلا دعوى له» هو الذهاب من جهة إقامة الدعوى أو التقاص أو مثلهما لا ذهابها به واقعاً.

كما أنّه لا خصوصية لنفي الدعوى في التفريع، بل كلّ ما يترتّب على دعواه فلا يجوز بيعه أيضاً، كما أنّ المراد من إقامة البيّنة هي الإقامة قبل حلف المنكر،

و إلّا فلا تصل النوبة إلى الحلف، كما تقدّم «2».

لكن في صحيحة أبي بكر الحضرمي المتقدّمة الدالّة على مشروعية المقاصة قال: قلت له: رجل لي عليه دراهم فجحدني و حلف عليها إلخ «3»، و ظاهرها أنّ «حلف» بصيغة المبني للفاعل. و قد حملها السيّد في الملحقات على حلف الغريم من عنده، أو باستحلاف المدّعى و حلفه دون تحليف الحاكم «4».

إن قلت: إنّ السؤال فيها مطلق، و ترك الاستفصال في الجواب دليل الإطلاق.

قلت: لو سلّم ذلك و لم نقل بانصرافه عن الحلف عقيب استحلاف الحاكم لا بدّ من حمل الإطلاق بقرينة الروايتين على ما إذا لم يكن هناك استحلاف من الغارم بتوسط الحاكم، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 137.

(2) أي في المسألة الحادية عشرة من مسائل «القول في الجواب بالإنكار».

(3) في ص 391.

(4) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 216.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 432

..........

______________________________

و هنا رواية ظاهرة في أنّه لو رضي المدّعى بحلف المدّعى عليه يكفي ذلك في عدم جواز المقاصّة، و إن لم يكن في البين ترافع إلى الحاكم، و هي رواية عبد اللّٰه بن وضّاح قال: كانت بيني و بين رجل من اليهود معاملة، فخانني بألف درهم، فقدّمته إلى الوالي فأحلفته فحلف، و قد علمت أنّه حلف يميناً فاجرة، فوقع له بعد ذلك عندي أرباح و دراهم كثيرة، فأردت أن أقتصّ الألف درهم التي كانت لي عنده و أحلف عليها، فكتبت إلى أبي الحسن (عليه السّلام) فأخبرته أنّي قد أحلفته فحلف، و قد وقع له عندي مال فإن أمرتني أن آخذ منه الألف درهم التي حلف عليها فعلت. فكتب: لا تأخذ منه شيئاً إن كان ظلمك فلا

تظلمه، و لو لا أنّك رضيت بيمينه فحلّفته لأمرتك أن تأخذ من تحت يدك، و لكنّك رضيت بيمينه و قد ذهبت اليمين بما فيها، فلم آخذ منه شيئاً، و انتهيت إلى كتاب أبي الحسن (عليه السّلام) «1».

و لكن لو قطعنا النظر عن هذه الرواية من جهة السند لكان الحكم فيما لو كان الحلف بإذن الحاكم ما ذكرنا.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 142.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 433

[مسألة 22: يستحب أن يقول عند التقاص: «اللهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي]

مسألة 22: يستحب أن يقول عند التقاص: «اللهمّ إنّي آخذ هذا المال مكان مالي الذي أخذه منّي، و إنّي لم آخذ الذي أخذته خيانةً و لا ظلماً». و قيل: يجب، و هو أحوط (1).

______________________________

(1) قد عرفت «1» اشتمال صحيحة أبي بكر الحضرمي الدالّة على مشروعية المقاصّة، المشتملة على قوله: «و لكن لهذا كلام» على الدّعاء المزبور، و ظاهرها و إن كان هو الوجوب إلّا أنّها محمولة على الاستحباب، و يؤيّده مضافاً إلى أنّ الغرض من المقاصة التوصل إلى الحقّ، و هو لا يتوقف على الدعاء المزبور، بل تتقوّم بالأخذ مع القصد بينه و بين اللّٰه تعالى، و إلى اختلاف الدعاء في روايتي أبي بكر، ففي إحداهما ما هو المذكور في المتن «2»، و في الأُخرى كما تقدّم «3»: اللهمّ إني لا آخذه «لم آخذه لن أخذه» ظلماً و لا خيانة، و انّما أخذته مكان مالي الذي أُخذ منّي لم أزدد عليه شيئاً، و إن كان يدفعه أنّ الاختلاف إنّما يدلّ على الاستحباب فيما إذا كانت الروايات متعدّدة.

و قد عرفت «4» أنّ الروايتين أو الروايات لأبي بكر الحضرمي لا تكون متعدّدة، و إن جعلها في الوسائل و بتبعها الكتب الفقهية كذلك و عليه

فلا دلالة للاختلاف على الاستحباب.

لخلوّ أكثر أدلّة مشروعية التقاص عن هذا الدعاء، و لا مجال لدعوى كون

______________________________

(1) في ص 391.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 197 ح 439، الاستبصار: 3/ 52 ح 169، الكافي 5/ 98 ح 3، الفقيه: 3/ 114 ح 486، و عنها وسائل الشيعة: 17/ 274، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 5.

(3) في ص 391.

(4) في ص 391.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 434

..........

______________________________

أكثرها ضعيفاً سنداً؛ لوجود روايات صحيحة فيها، مضافاً إلى آيتي الاعتداء «1» و المعاقبة «2».

و يؤيّده ذهاب المشهور إلى الاستحباب «3»، مع أنّه يحتمل عدم دلالة رواية أبي بكر على الوجوب، و قوله (عليه السّلام): «و لكن لهذا كلام» لا دلالة له عليه، بل هو إرشاد و بيان لطريق المقاصّة، و أنّه في النيّة لا بدّ و أن تكون كذلك، خصوصاً مع قصد عدم الازدياد.

و قد عرفت أنّه يعتبر في المقاصة مضافاً إلى الأخذ القصد «4»؛ لأنّ الآخذ ربّما لا يكون له قصد المقاصّة؛ لعدم اقتضاء شأنه ذلك أو لغيره من الجهات، و عليه يمكن أن يكون ذلك منشأً لفتوى المشهور لا وقوفهم على قرينة خاصة على عدم الوجوب.

و يؤيّد عدم الوجوب أنّه إن كان المراد التلفّظ بهذا الدعاء باللغة العربية فربما لا يكون المقتص عارفاً بهذه اللغة، و استحباب مجرّد التلفّظ بها فضلًا عن الوجوب مستبعد جدّاً. و إن كان المراد التلفظ بمفادها من أيّة لغة كانت فهو يناسب الاستحباب، دفعاً لتوهّم أنّه تصرّف في مال الغير بغير إذنه مطلقاً، أو خصّ لنفسه ما زاد عن مقدار حقّه أيضاً، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لم يعلم أنّ القائل بالوجوب هل

أراد الوجوب الشرطي الراجع إلى مدخلية الدعاء المزبور في صحّة المقاصة، أو أراد الوجوب النفسي عند

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 194.

(2) سورة النحل 16: 126.

(3) ملحقات العروة الوثقى: 3/ 216.

(4) في ص 416.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 435

..........

______________________________

إرادتها؟ و الأوّل في غاية البعد كما لا يخفىٰ.

و يؤيّد عدم الوجوب انّ الصدوق بعد روايته خبر أبي بكر الحضرمي قال: و زاد في خبر آخر ما هو مفاده: أنّه إن استحلفه المديون على عدم أخذه ماله بعنوان المقاصّة جاز له الحلف إن قال هذا الدعاء «1»، فإنّ مرجعه إلى أنّ التكلّم بهذا الدعاء فائدته ذلك، و أن لا يكون واجباً شرطاً أو نفساً، فتدبّر جيّداً.

و لكنّه مع ذلك يكون مقتضى الاحتياط الاستحبابي رعاية الدعاء المزبور، كما في المتن.

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 114 ح 487، و عنه وسائل الشيعة: 17/ 274، كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب به ب 83 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 436

[مسألة 23: لو غصب عيناً مشتركة بين شريكين فلكلٍّ منهما التقاص منه بمقدار حصّته]

مسألة 23: لو غصب عيناً مشتركة بين شريكين فلكلٍّ منهما التقاص منه بمقدار حصّته، و كذا إذا كان ديناً مشتركاً بينهما، من غير فرق بين التقاص من جنسه أو بغير جنسه، فإذا كان عليه ألفان من زيد فمات و ورثه ابنان، فإن جحد حقّ أحدهما دون الآخر فلا إشكال في أنّ له التقاص بمقدار حقّه، و إن جحد حقّهما فالظاهر أنّه كذلك، فلكلٍّ منهما التقاص بمقدار حقّه، و مع الأخذ لا يكون الآخر شريكاً، بل لا يجوز لكلّ المقاصّة لحقّ شريكه (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فرضان:

الفرض الأوّل: ما لو كان الغاصب قد غصب عيناً مشتركة بين الشريكين، فلا مجال

لدعوى عدم ثبوت المقاصّة في المقام؛ نظراً إلى أنّ موردها ما إذا كان المغصوب منه شخصاً واحداً و إنساناً فريداً، بل الظاهر ثبوت حقّ المقاصّة بالإضافة إلى كلّ واحد من الشريكين بمقدار حقّه و حصّته في العين المغصوبة، فإذا كانت قيمة حصّته لا تتجاوز عن الألف لا يجوز له التقاص أزيد من تلك القيمة، و لا يجوز له التقاص بمقدار حصّة الشريك أيضاً إلّا أن يكون وكيلًا عنه في ذلك بالخصوص أو العموم على ما عرفت «1».

الفرض الثاني: ما إذا كان هناك دين مشترك بين شريكين، كما إذا اشترى منهما عيناً مشتركة بينهما بثمن مؤجّل، ثمّ جحد ذلك و أنكر كدارٍ مثلًا أو غيرها، فإنّه لا يجوز لكلّ من البائعين المقاصة بالإضافة إلى سهم الآخر أيضاً، من غير فرق بين التقاص من جنسه أو بغير جنسه.

و في المثال المذكور في المتن إذا كان عليه ألفان من ناحية زيد الدائن فمات زيد

______________________________

(1) في ص 416- 417.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 437

..........

______________________________

و ورثه اثنان، فإن جحد حقّ أحدهما دون الآخر بأن اعترف بأنّ لأحد الوارثين عليه ألفاً لا من ناحية الوراثة دون الآخر، فالظاهر أنّه لا إشكال في أنّ للمجحود حقّ التقاص لجحده، و المفروض اعترافه للآخر. و إن جحد حقّهما معاً يجوز لكلٍّ منهما المقاصة بالإضافة إلى حقّه دون حقّ الآخر إلّا في صورة الوكالة على ما مرّ، و لا يكون الآخر شريكاً في المأخوذ؛ لفرض كون الحقّ هو الدّين، و لا مجال لتوهّم الشركة في حقّ كلّ واحد منهما إلّا أن يكون المأخوذ بعنوان الشركة، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 438

[مسألة 24: لا فرق في جواز التقاص بين أقسام الحقوق الماليّة]

مسألة 24: لا فرق في جواز التقاص بين أقسام الحقوق الماليّة، فلو كان عنده وثيقة لدينه فغصبها جاز له أخذ عين له وثيقة لدينه و بيعها لأخذ حقّه في مورده، و كذا لا فرق بين الديون الحاصلة من الاقتراض أو الضمانات أو الدّيات، فيجوز المقاصة في كلّها (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة أيضاً أمران:

أحدهما: أنّه كما يجري التقاص بالإضافة إلى الأموال سواء كانت عيناً أو منفعةً كذلك يجري في الحقوق المالية، فلو كان عنده العين المرهونة وثيقة لدينه فغصبها غاصب يجوز له أخذ عين من الغاصب وثيقة لدينه، و جاز بيعها لأخذ حقّه في مورده؛ لإطلاق أدلّة التقاص و عدم الاختصاص بالأموال، فكما أنّه يجري التقاص بالإضافة إلى المنفعة، بأن سكن في داره سنة مثلًا من دون إذنه و لم يؤدّ أجرة المثل، كذلك يجري في الحقوق الماليّة كما في المثال المتقدّم.

ثانيهما: أنّ الملاك في التقاص في باب الديون ثبوت أصل الدين بنظر الغارم، سواء كان منشؤه الاقتراض أو الضمانات أو الدّيات، و سواء قلنا في باب ضمان اليد: بأنّ الثابت على العهدة نفس العين أو قيمتها لو لم نقل بأولوية الأوّل، كما لا يخفى.

و أمّا خصوص الوديعة فقد عرفت جواز التقاصّ منها على كراهية «1»؛ لورود طائفتين من الأخبار فيها، كما لا يخفىٰ.

هذا تمام الكلام فيما يتعلّق بشرح كتاب القضاء من تحرير الوسيلة للإمام الراحل الخميني قدّس سرّه الشريف المسمّى ب «تفصيل الشريعة».

و كان ينبغي له (قدّس سرّه) أن يجعل الخاتمة في فصول ثلاثة؛ ثالثها مسائل القسمة

______________________________

(1) في ص 409- 410.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 439

..........

______________________________

و أحكامها لشدّة الابتلاء بها، مضافاً إلى التعرّض لها في كثير

من الكتب الفقهية في ذيل مباحث القضاء كالشرائع و مثلها «1»، كما أنّه كان ينبغي له البحث في أصل كتاب القضاء في مباحث قاضي التحكيم في مقابل القاضي المنصوب ابتداءً، و أنّه هل هو مشروع أم لا؟ و على تقدير المشروعية هل يعتبر فيه الاجتهاد أم لا؟

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 100- 105، تحرير الأحكام: 5/ 215- 229، قواعد الأحكام: 3/ 460- 468، الدروس الشرعيّة: 2/ 117- 120.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 440

..........

______________________________

و أنا العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغني محمد الفاضل اللنكراني عفا اللّٰهُ عنه و عن والديه بحق المواليد الكريمة في هذا الشهر المعظّم، سيّما خاتم الأوصياء روحي و أرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء، صلوات اللّٰه عليه و على آبائه عليهم آلاف الثناء و التحية، شعبان 1419، و الحمد للّٰه أوّلًا و آخراً و ظاهراً و باطناً.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 441

[كتاب الشهادات]

اشارة

كتاب الشهادات

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 443

[القول في صفات الشهود]

اشارة

القول في صفات الشهود و هي أمور:

[الأوّل: البلوغ]

الأوّل: البلوغ، فلا اعتبار بشهادة الصبي غير المميّز مطلقاً و لا بشهادة المميّز في غير القتل و الجرح، و لا بشهادته فيهما إذا لم يبلغ العشر، و أمّا لو بلغ عشراً و شهد بالجراح و القتل ففيه تردّد، نعم لا إشكال في عدم اعتبار شهادة الصبيّة مطلقاً (1).

______________________________

(1) لا إشكال في أنّه لا اعتبار بشهادة الصّبي غير المميّز مطلقا، و لا بشهادة الصبيّة مطلقا مميّزة كانت أو غير مميّزة، إنّما الإشكال في قبول شهادة المميّز تارة في غير القتل و الجرح و أخرى فيهما، و ليعلم قبل الشروع في البحث أنّه لا ارتباط لهذه المسألة بمسألة شرعية عبادات الصبي و عدمها، و قد تكلّمنا في مسألة شرعية عباداته في كتابنا «القواعد الفقهية» «1»، و اخترنا هناك الثبوت و إن كانت التكاليف الالتزامية منتفية عنه، فيمكن في المقام الجمع بين عدم وجوب أداء الشهادة و إقامتها على الصغير و بين قبول شهادته.

______________________________

(1) القواعد الفقهية: 1/ 355- 370.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 444

..........

______________________________

نعم على القول بأنّ الصبي مسلوب العبارة لا مجال لتوهم قبول شهادته، و كيف كان فالروايات الواردة في هذا المجال على ثلاث طوائف تقريباً:

الطائفة الأُولى: الروايات الدالّة على عدم قبول شهادة الصبي ما لم يدرك، مثل:

صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال في الصبي يشهد على الشهادة فقال: إنّ عقله حين يدرك أنّه حقّ جازت شهادته «1».

و رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السّلام): إنّ شهادة الصبيان إذا أشهدوهم و هم صغار جازت إذا كبروا ما لم ينسوها «2».

و نقل في الوسائل

«3» رواية عن إسماعيل بن أبي زياد الذي هو السكوني غير هذه الرواية، مع أنّ الظاهر الاتحاد و عدم التعدّد، و يظهر من الجواهر «4» عدم اعتبار رواية السكوني مع أنّه ثقة كما عن المحقق في المسائل العزّية «5»، و عن الشيخ (قدّس سرّه) في العدة: أنّ روايات السكوني فيما إذا لم يكن على خلافه الرواية يكون معمولًا بها عند الطائفة «6»، و كيف كان فالظاهر اعتبار الرواية.

و صحيحة محمد بن حمران قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة الصّبي؟ قال:

______________________________

(1) الكافي: 7/ 389 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 251 ح 647، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 342، كتاب الشهادات ب 21 ح 1.

(2) الكافي: 7/ 389 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 648، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 342، كتاب الشهادات ب 21 ح 2.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 250 ح 643، الاستبصار: 3/ 18 ح 51، الفقيه: 3/ 28 ح 80، و عنهما وسائل الشيعة:

27/ 343، كتاب الشهادات ب 21 ح 4.

(4) جواهر الكلام: 41/ 12.

(5) المسائل العزّية الأولى، المطبوع ضمن الرسائل التسع: 64.

(6) عدّة الأُصول: 1/ 149.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 445

..........

______________________________

فقال: لا، إلّا في القتل، يؤخذ بأوّل كلامه و لا يؤخذ بالثاني «1». و صحيحة جميل، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): تجوز شهادة الصبيان؟ قال: نعم، في القتل يؤخذ بأوّل كلامه و لا يؤخذ بالثاني منه «2».

الطائفة الثانية: الروايات الدالّة بظاهرها على الجواز مثل:

صحيحة أبي أيّوب الخزّاز قال: سألت إسماعيل بن جعفر: متى تجوز شهادة الغلام؟ فقال: إذا بلغ عشر سنين، قلت: و يجوز أمره؟ قال: فقال: إنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه

عليه و آله) دخل بعائشة و هي بنت عشر سنين، و ليس يدخل بالجارية حتى تكون امرأة، فإذا كان للغلام عشر سنين جاز أمره، و جازت شهادته «3».

و الرواية مضافاً إلى عدم حجّيتها لعدم كون قول ابن الإمام (عليه السّلام) حجّة بعد عدم كونه إماماً، و لا يروي ذلك عن أبيه (عليه السّلام) مضطربة؛ لعدم الارتباط بين السؤال عن أنّه متى تجوز شهادة الغلام، و بين الجواب بأنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) دخل بعائشة و هي بنت عشر سنين، بعد كون المرأة في هذه الحالة بالغة خارجة عن حدّ الصغر، و لا ملازمة بين جواز الدخول بها في هذا السنّ و بين جواز أمر الصبي، و جواز شهادته في هذه السنّ، و لعلّ هذا الأمر يدلّ على عدم الصدور من الإمام (عليه السّلام)،

______________________________

(1) الكافي: 7/ 389 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 251 ح 646، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 343، كتاب الشهادات ب 22 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 389 ح 2 و 6، تهذيب الأحكام: 6/ 251 ح 645 و ص 252، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 342، كتاب الشهادات ب 22 ح 1.

و رواه صاحب الوسائل في نفس الباب مرّتين، غاية الأمر أنّ سند إحداهما صحيح و الآخر غير صحيح؛ لوجود «سهل بن زياد» فيه. (المؤلف دام ظلّه).

(3) الكافي: 7/ 388 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 251 ح 644، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 344، كتاب الشهادات ب 22 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 446

..........

______________________________

كما لا يخفى.

و موثّقة عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة الصبي و المملوك؟

فقال: على قدرها يوم أشهد تجوز في الأمر الدون، و لا تجوز في الأمر الكبير «1».

و يرد عليها انّها مضافاً إلى التفصيل في شهادة المملوك بين الأمر الدون و الأمر الكبير، مع أنّه لا يجري فيها بل التفصيل الواقع فيها هو كون الشهادة على المولى أو على غيره كما بيّن في محلّه «2»- لم يقع فيها التحديد بالإضافة إلى الدون و الكبير، مع انّهما من الأُمور المتضايفة، فكلّ دونٍ كبيرٌ بالإضافة إلى ما تحته و دونٌ بالإضافة إلى ما فوقه، و لذا ذكر بعضهم في تقسيم المعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة أنّ كلّ معصية صغيرة بالإضافة إلى ما فوقها، و كبيرة بالإضافة إلى ما تحتها «3»، و هذا الأمر و إن كان يمكن الجواب عنه بالكتاب و السنّة الدالّة على تعداد المعاصي الكبيرة إلّا أنّه لا يمكن الجواب عنه في المقام، و التحقيق في محلّه «4».

و موثّقة طلحة بن زيد، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي (عليهم السّلام) قال: شهادة الصبيان جائزة بينهم ما لم يتفرّقوا أو يرجعوا إلى أهلهم «5».

و أورد عليها بأنّ غاية مفادها هو جواز شهادة الصبيان بينهم ما لم يتفرّقوا أو

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 252 ح 650، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 344، كتاب الشهادات ب 22 ح 5.

(2) راجع ص 481- 485.

(3) السرائر: 2/ 118.

(4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، الاجتهاد و التقليد: 331- 348.

(5) الفقيه: 3/ 27 ح 79، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 345، كتاب الشهادات ب 22 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 447

..........

______________________________

يرجعوا إلى أهلهم، و لا دلالة لها على جواز شهادتهم

على غيرهم «1»، على أنّها لو كانت مطلقة يلزم تقييدها بموارد الشهادة على القتل، على ما سنبيّنه إن شاء اللّٰه تعالى.

الطائفة الثالثة: الروايات الواردة في القتل، كصحيحتي محمد بن حمران و جميل المتقدّمتين الدالّتين على جواز شهادة الصبيان في القتل.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ المستند للتفصيل بين العشر و من دونه ليس إلّا صحيحة أبي أيوب الخزاز المتقدّمة التي عرفت انّه لا يجوز الالتزام بمضمونها؛ لعدم ورودها عن الإمام (عليه السّلام)، و عدم إمكان الالتزام بمضمونها، و بطلان المقايسة الواقعة فيها، و في محكيّ المسالك أنّه نقل عن جماعة «2»، منهم: الشيخ فخر الدين «3» الاتفاق على عدم قبول شهادة من دون العشر حتى في الدّم، و انّما الخلاف في من زاد عن ذلك «4».

و قال صاحب الجواهر: و إن كنّا لم نتحقّقه، بل في الكفاية: انّ الموجود في الإيضاح أنّ من لم يبلغ العشر لا تقبل شهادته في غير القصاص و القتل و الجراح إجماعاً «5»، و ظاهره عدم الإجماع على ذلك في القتل و الجراح، و ربما كان ظاهر جملة من العبارات التي جعل فيها العنوان الصبي، كما عن الخلاف «6» و الإسكافي «7» «8».

______________________________

(1) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 741.

(2) كشف الرموز: 2/ 514، المهذّب البارع: 4/ 507.

(3) إيضاح الفوائد: 4/ 417، لكنّه نقل الإجماع على عدم قبول شهادته في غير القصاص و القتل و الجراح.

(4) مسالك الأفهام: 14/ 154.

(5) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 740.

(6) الخلاف: 6/ 270 مسألة 20.

(7) حكى عنه في إيضاح الفوائد: 4/ 417، و المهذّب البارع: 4/ 507.

(8) جواهر الكلام: 41/ 10.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 448

..........

______________________________

و أمّا ما يدلّ على جواز شهادة الصبي مطلقا كموثقة طلحة بن زيد المتقدّمة فلا بدّ من الحمل على القتل بقرينة الصحيحتين الواردتين في القتل، و السرّ في التفصيل بين القتل و غيره هو وقوع القتل بمرأى و منظر من الصبيان غالباً دون غيرهم، فلا يتوهم أنّه إذا جازت شهادة الصبيان في القتل ففي غير القتل بطريق أولى، و هنا بعض الروايات الدالّة على جواز شهادة الصبيان في القتل في الجملة، مثل:

رواية محمد بن سنان، عن الرضا (عليه السّلام) فيما كتب إليه من العلل: و علّة ترك شهادة النساء في الطلاق و الهلال، لضعفهنّ عن الرؤية، و محاباتهنّ النساء في الطلاق، فلذلك لا تجوز شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة، مثل شهادة القابلة، و ما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه، كضرورة تجويز شهادة أهل الكتاب إذا لم يوجد غيرهم، و في كتاب اللّٰه عزّ و جلّ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ مسلمين أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ «1» كافرين، و مثل شهادة الصبيان على القتل إذا لم يوجد غيرهم «2».

و رواية السكوني، عن الصادق (عليه السّلام) أنّه رفع إلى أمير المؤمنين (عليه السّلام) ستّة غلمان كانوا في الفرات، فغرق واحد منهم فشهد ثلاثة منهم على اثنين أنّهما غرقاه، و شهد اثنان على الثلاثة أنّهم غرقوه، فقضى بالدية ثلاثة أخماس على الاثنين، و خمسين على الثلاثة «3».

______________________________

(1) سورة المائدة 5: 106.

(2) علل الشرائع 508 ح 1، عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/ 508 ح 1، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 365، كتاب لشهادات ب 24 ح 50.

(3) الكافي: 7/ 284 ح 6، تهذيب الأحكام: 10/ 239- 240 ح 953 و 954، الفقيه: 4/ 86 ح 277، الإرشاد للمفيد:

1/ 220، المقنعة: 750، و عنها وسائل الشيعة: 29/ 235، كتاب الديات، أبواب موجبات الضمان ب 2 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 449

..........

______________________________

و هل قبول شهادة الصبيان على القتل مقيّد بما إذا لم يوجد غيرهم، أو بما إذا كان فيما بينهم، أو بما إذا لم يتفرّقوا، أو يرجعوا إلى أهلهم، أو إذا كان أوّل الكلام دون الثاني، أو مطلقٌ؟ الظاهر هو ما قبل الأخير؛ لدلالة الصحيحتين المتقدّمتين عليه و عدم حجية رواية محمد بن سنان، و لا دلالة لرواية السكوني على عدم حجية شهادة الصبيان بالإضافة إلى غيرهم، و التقييد ب «ما إذا لم يتفرّقوا أو يرجعوا إلى أهلهم» إنّما يناسب خصوص الشهادة على ما بينهم دون غيرهم.

ثمّ إنّه ربما يشترط في قبول شهادة الصبيان أن لا يكون اجتماعهم على أمر مباح دون المحرّم، كالشيخ في محكي الخلاف «1»، و تبعه جملة من المتأخرين عنه «2». و يرد عليه مضافاً إلى أنّ الصبي قد رفع عنه قلم التكليف الإلزامي مطلقا «3» أنّه لا دليل على اعتبار هذا الشرط، كما عرفت.

ثمّ إنّ ما يدل على قبول شهادة الصبي انّما ورد في القتل، كما عرفت التصريح به في الصحيحتين المتقدّمتين، فالتعدّي إلى الجرح لا بدّ و أن يكون بملاك الأولوية، و قد عرفت منعها و إلّا فاللازم التعدّي إلى غير الجرح أيضاً أو لأجل الإجماع، و الظاهر عدم ثبوته و ذكر بعض الأعلام (قدّس سرّه): أنّه من الغريب ذهاب المحقّق «4» إلى اختصاص قبول

______________________________

(1) الخلاف: 6/ 270 مسألة 20.

(2) كالعلّامة في قواعد الأحكام: 3/ 496، و الشهيدين في اللمعة: 54، و الدروس الشرعيّة: 2/ 123، و الروضة البهية:

3/ 125.

(3) وسائل الشيعة: 1/ 45، أبواب مقدّمة العبادات ب 4 ح 11، و ج 28/ 22، كتاب الحدود و التعزيرات، أبواب مقدمات الحدود ب 8 ح 1.

(4) شرائع الإسلام: 4/ 125.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 450

[الثاني: العقل]

الثاني: العقل، فلا تقبل شهادة المجنون حتى الأدواري منه حال جنونه و أمّا حال عقله و سلامته فتقبل منه إذا علم الحاكم بالابتلاء و الامتحان حضور ذهنه

______________________________

شهادة الصبي بالجراح، و ما عن الدروس «1» و الشهيد الثاني في الروضة «2» من اشتراط قبول شهادة الصبي بما إذا لم يبلغ الجرح النفس، فانّ النصوص خاصّة بالقتل، فكيف يمكن دعوى اختصاص قبول شهادة الصبيان بغير ذلك «3».

ثمّ انّه ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه): أنّ ظاهر النصوص و الفتاوى اختصاص الحكم بشهادة الصبيان دون الصبية الباقية على مقتضى الأُصول و العمومات الدالّة على عدم قبول شهادتها «4». و يظهر من المتن ذلك أيضاً، و الوجه فيه أنّه يعتبر في الشاهد، كما يأتي إن شاء اللّٰه تعالى العدالة المفقودة في الصغير قطعاً بل الايمان، فقبول شهادة الصبي مطلقا مخالف للقاعدة، إلّا أنّه قام الدليل في الصبي في الجملة على خلافها كما تقدّم، و لم يقم الدليل بالإضافة إلى الصبية كما لا يخفى.

هذا، مضافاً إلى أنّ جمع الصبي صبيان و جمع الصبيّة صبايا، و الرواية الدالّة على الجواز واردة في الصبيان.

و مما ذكرنا يظهر النظر فيما في المتن من التفصيل بين العشر و غيره من الترديد في القبول في القتل، و من التشريك بين القتل و الجرح، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) الدروس الشرعيّة: 2/ 123.

(2) الروضة البهيّة: 3/ 125.

(3) مباني تكملة المنهاج: 1/ 79 80.

(4) جواهر الكلام: 41/

14 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 451

و كمال فطنته، و إلّا لم تقبل. و يلحق به في عدم القبول من غلب عليه السهو أو النسيان أو الغفلة أو كان به البله. و في مثل ذلك يجب الاستظهار على الحاكم حتى يستثبت ما يشهدون به، فاللازم الإعراض عن شهادتهم إلّا في الأُمور الجلية التي يعلم بعدم سهوهم و نسيانهم و غلطهم في التحمل و النقل (1).

______________________________

(1) عدم اعتبار شهادة المجنون المطبق إجماعي بل ضروري من المذهب أو الدين على وجه، بحيث كما أفاد صاحب الجواهر (قدّس سرّه) لا يحسن من الفقيه ذكر ما دلّ على ذلك من الكتاب و السنّة «1». و أمّا المجنون الأدواري ففي دور الجنون كذلك، و أمّا في حال الإفاقة و السّلامة فمقتضى القاعدة القبول مقيّداً بما إذا علم الحاكم بالابتلاء و الامتحان حضور ذهنه و كمال فطنته و إلّا لم تقبل، و الوجه فيه مضافاً إلى انّه لا خلاف فيه و لا إشكال كما يظهر من كشف اللثام «2» و بتبعه صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «3» أنّه مع عدم العلم لا يجري فيه أصالة عدم الخطأ و الاشتباه، فلا بدّ من حصول العلم بحضور الذهن و كمال الفطنة، ثمّ إجراء أصالة عدم الخطأ و الاشتباه، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه في المتن الحق بالمجنون الأدواري في عدم القبول إلّا مع الاستظهار على الحاكم حتى يستثبت ما يشهدون به مَن غلب عليه السهو و النسيان، و كذا المغفل الذي في جبلته البله، بحيث ربما استغلط لعدم تفطنه لمزايا الأُمور و خصوصيات الوقائع و الحوادث، و الوجه فيه ما ذكرنا من عدم جريان أصالة عدم الخطأ و

الاشتباه بالإضافة إلى مثل هذه الأشخاص، فلا بدّ للحاكم الاستظهار للاستثبات،

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 15.

(2) كشف اللّثام: 10/ 272.

(3) جواهر الكلام: 41/ 15.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 452

[الثالث: الايمان]

الثالث: الايمان، فلا تقبل شهادة غير المؤمن فضلًا عن غير المسلم مطلقا على مؤمن أو غيره أو لهما. نعم تقبل شهادة الذمي العدل في دينه في الوصية بالمال إذا لم يوجد من عدول المسلمين من يشهد بها، و لا يعتبر كون الموصي في غربة، فلو كان في وطنه و لم يوجد عدول المسلمين تقبل شهادة الذمّي فيها، و لا يلحق بالذمّي الفاسق من أهل الإيمان، و هل يلحق به المسلم غير المؤمن إذا كان عدلًا في مذهبه؟ لا يبعد ذلك. و تقبل شهادة المؤمن الجامع للشرائط على جميع الناس من جميع الملل، و لا تقبل شهادة الحربي مطلقا. و هل تقبل شهادة كل ملّة على ملّتهم؟ به رواية، و عمل بها الشيخ (قدّس سره) (1).

______________________________

و مع ذلك فقد فرّع عليه أنّ اللازم الاعراض عن شهادتهم إلّا في الأُمور الجلية التي لا تخفى على مثلهم أيضاً، فالتفريع المذكور لا بدّ و أن يكون لأجل صعوبة الاستظهار المذكور، و إلّا فلا وجه مع الاقتصار في قبول الشهادة على الأُمور الجلية المذكورة للزوم الاستظهار، و لذا عبّر المحقّق في الشرائع بأنّ الأولى الاعراض عن شهادته ما لم يكن الأمر الجليّ، إلى آخر كلامه «1».

فالإنصاف عدم ملائمة ما أفاده قبل التفريع مع ما فرّعه عليه، و ما في الشرائع أولىٰ.

(1) لا خلاف في اعتبار الإيمان الذي هو أخصّ من الإسلام، بل ادّعي عليه الإجماع في كلمات غير واحد «2»، بل في الجواهر: أنّ ذلك

لعلّه من ضروري

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 126.

(2) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 4/ 287، و ابن فهد في المهذّب البارع: 4/ 510- 511، و الصيمري في غاية المرام: 4/ 275، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 14/ 160، و الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان 12/ 298.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 453

..........

______________________________

المذهب «1»، و لكنّه أورد عليه بعض الأعلام (قدّس سرّه) بأنّه إن تم الإجماع فهو و إلّا ففي إطلاق الحكم إشكال، فإنّ غير المؤمن إذا كان مقصّراً فيما اختاره من المذهب فلا إشكال في أنّه فاسق أشدّ الفسق، و تارك لأهمّ الواجبات الإلهية بغير عذر، فلا يكون خيِّراً و مرضياً و عادلًا كي تقبل شهادته، بل هو مخزيّ في دينه، ففي معتبرة السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إنّ أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان لا يقبل شهادة فحّاش و لا ذي مخزية في الدين «2». و قريب منها روايته الثانية «3».

و امّا إذا كان قاصراً كما إذا كان مستضعفاً فمقتضى إطلاق عدّة روايات قبول شهادته.

منها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادة الرجل إذا علم منه خير مع يمين الخصم في حقوق الناس «4».

و منها: صحيحته الأُخرى قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن الذمّي و العبد يشهدان على شهادة، ثمّ يسلم الذمي و يعتق العبد أ تجوز شهادتهما على ما كانا أشهدا عليه؟ قال: نعم إذا علم منهما بعد ذلك خير جازت شهادتهما «5» «6».

و يرد عليه أنّ الظاهر يكون المراد من الصحيحة الأُولى الردّ على العامة غير

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 16.

(2) الكافي:

7/ 396 ح 7، تهذيب الأحكام: 6/ 243 ح 603، الفقيه: 3/ 27 ح 73، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 377، 378، كتاب الشهادات ب 32 ح 1 و 5.

(3) الكافي: 7/ 396 ح 7، تهذيب الأحكام: 6/ 243 ح 603، الفقيه: 3/ 27 ح 73، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 377، 378، كتاب الشهادات ب 32 ح 1 و 5.

(4) الفقيه: 3/ 33 ح 104، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 394، كتاب الشهادات ب 41 ح 8.

(5) الفقيه: 3/ 41 ح 139، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 387، كتاب الشهادات ب 39 ح 1.

(6) مباني تكملة المنهاج: 1/ 80 81.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 454

..........

______________________________

القائلين بقبول شهادة الشيعة و إن كانوا في أعلى مراتب العدالة، و إلّا فشهادة غير المؤمن مقبولة عندهم، و كان الغرض أنّه لم لا تقبل شهادة الشيعة إذا علم منهم خير، و لو كان الأمر إلينا لأجزنا شهادتهم. و يمكن أن يكون المراد الاكتفاء بشاهد و يمين في مطلق حقوق الناس، و عليه فالمراد بالرجل هو الرجل الواحد، و على هذا فلا دلالة لها على ما يعتبر في الشاهد، و ظاهر الصحيحة الثانية عدم قبول شهادة العبد المملوك قبل إعتاقه، مع انّك عرفت «1» في بحث اعتبار البلوغ عدم كون المملوكية مانعة عن قبول الشهادة، و ظاهرها أنّ العبد لا يتّصف بالعدالة ما دام كونه عبداً، مع أنّ العبودية لا تمنع عن العدالة بوجه.

فالإنصاف أنّه لا فرق بين الطائفتين المذكورتين في عدم قبول شهادتهم على المؤمن أو له، و يؤيّده بل يدلّ عليه عدم ثبوت العدالة الحقيقية إلّا للمؤمن و لا توجد في غيره، قال

اللّٰه تعالى في سورة الطلاق وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2»، غاية الأمر وجوب الإشهاد في باب الطلاق و عدم وجوبه في غيره، و أمّا من جهة صفات الشهود فلا فرق بين المقامين، لكنّ الذي يشكل الأمر أنّه لو كان اعتبار العدالة التي هي وصف رابع من صفات الشهود كافياً عن اعتبار البلوغ و العقل و الإيمان لكان اللازم الاقتصار عليه لا ذكرها بعنوان وصف غيرها، بل بعنوان وصف رابع، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّ هنا بعض الروايات التي يتوهم منها قبول شهادة الناصب فضلًا عن غيره

______________________________

(1) في ص 446.

(2) سورة الطلاق 65: 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 455

..........

______________________________

من المخالفين، مثل صحيحة عبد اللّٰه بن المغيرة قال: قلت لأبي الحسن الرضا (عليه السّلام): رجل طلّق امرأته و أشهد شاهدين ناصبيّين، قال: كلّ من ولد على الفطرة و عرف بالصّلاح في نفسه جازت شهادته «1». و مثلها صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر في باب الطلاق «2».

و يرد عليهما مضافاً إلى مخالفتهما لظاهر الكتاب في باب الطلاق أنّ العدول عن الجواب بنعم أو لا و الجواب بما ذكر جمع بين التقية و بيان الواقع، خصوصاً أنّ المسلم المولود على فطرة الإسلام لا يكون ناصبياً؛ لأنّ الناصب كافر و إن انتحل الإسلام، بل الإسلام الواقعي هو الإسلام المبيّن في مدرسة أهل البيت عليهم الصلاة و السّلام.

و كيف كان فقد ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه): أنّه لا يمكن إحصاء وجوه الدلالة في النصوص على عدم قبول شهادتهم، منها: إطلاق الكفر، و منها: الفسق، و منها: الظلم، و منها: كونهم غير رشدة، و منها: ردّ شهادة الفحاش و ذي المخزية في الدين،

و منها: ممن ترضون دينه و أمانته، و منها: اعتبار العدالة التي قد ذكر في النصوص «3» ما هو كالصريح في عدم تحقّقها في مخالفي العقيدة، إلى غير ذلك من النصوص «4».

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 28 ح 83، تهذيب الأحكام: 6/ 283 ح 778، الاستبصار: 3/ 14 ح 37، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 393، كتاب الشهادات ب 41 ح 5.

(2) الكافي: 6/ 67 ح 6، تهذيب الأحكام: 8/ 49 ح 152، و عنهما وسائل الشيعة: 22/ 26، كتاب الطلاق، أبواب مقدّمات الطلاق ب 10 ح 4.

(3) وسائل الشيعة: 27/ 393، كتاب الشهادات ب 41.

(4) جواهر الكلام: 41/ 17.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 456

..........

______________________________

و بعد ملاحظة ما ذكرنا لا ينبغي الارتياب في عدم قبول شهادة غير المؤمن على المؤمن أو له في الجملة، الذي هو الأساس في اعتبار هذا الأمر، خصوصاً مع أنّ التعليل في مثل مقبولة ابن حنظلة «1» من الروايات الواردة في علاج المتعارضين المشتملة على الترجيح بمخالفتهم بأنّ الرشد في خلافهم يظهر منه أنّ جنس الرشد و طبيعته في خلافهم، فلا يجوز للحاكم الاعتماد على شهادتهم للوصول إلى الواقع. و دعوى أنّ الشاهد لا دخل له في الرشد واضحة البطلان، فكون الرشد في خلافهم لا يجتمع مع قبول شهادتهم بوجه.

بقي في هذا الشرط الثالث أمران:

الأمر الأول: أنّه تقبل شهادة الذمّي العدل في دينه في خصوص الوصية بالمال إذا لم يوجد عدول المسلمين لأنْ يشهدوا؛ و الأصل في هذا الأمر قوله تعالى يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهٰادَةُ بَيْنِكُمْ إِذٰا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنٰانِ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصٰابَتْكُمْ

مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمٰا مِنْ بَعْدِ الصَّلٰاةِ فَيُقْسِمٰانِ بِاللّٰهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لٰا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كٰانَ ذٰا قُرْبىٰ وَ لٰا نَكْتُمُ شَهٰادَةَ اللّٰهِ إِنّٰا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ «2» و الروايات الواردة في هذا المجال كثيرة:

منها: صحيحة عبيد اللّٰه بن علي الحلبي قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) هل تجوز شهادة أهل الذمّة على غير أهل ملّتهم؟ قال: نعم إن لم يوجد من أهل ملّتهم جازت شهادة غيرهم، إنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد «3».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 106، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 ح 1، و تقدّمت في ص 252.

(2) سورة المائدة 5: 106.

(3) الفقيه: 3/ 29 ح 84، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 389، كتاب الشهادات ب 40 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 457

..........

______________________________

و منها: مضمرة أحمد بن عمر الصحيحة قال: سألته عن قول اللّٰه عزّ و جلّ ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال: اللذان منكم مسلمان و اللذان من غيركم من أهل الكتاب، فإن لم يجد من أهل الكتاب فمن المجوس؛ لأنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب، و ذلك إذا مات الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلمين يشهدهما فرجلان من أهل الكتاب «1».

و منها: صحيحة هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في قول اللّٰه عزّ و جلّ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ فقال: إذا كان الرجل في أرض غربة لا يوجد فيها مسلم جازت شهادة من ليس بمسلم في الوصية «2».

و منها: موثّقة سماعة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة أهل الملّة؟ قال: فقال: لا تجوز

إلّا على أهل ملّتهم، فإن لم يوجد غيرهم جازت شهادتهم على الوصية؛ لأنّه لا يصلح ذهاب حقّ أحد «3».

إذا عرفت ما ذكرنا فلا ينبغي الإشكال بملاحظة الكتاب و السنّة في أصل المسألة، و هو قبول شهادة الذمي في الوصية بالمال، و حيث يكون الحكم على خلاف القاعدة فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن، و هو كون الوصية بالمال و كون الشاهدين ذميّين و كونهما مرضيين في دينهما، و فرض عدم وجدان الشاهدين من المسلمين أي المؤمنين، و أمّا اعتبار كون الوصيّة في أرض الغربة

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 29 ح 85، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 390، كتاب الشهادات ب 40 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 398 ح 6، تهذيب الأحكام: 6/ 252 ح 653، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 390، كتاب الشهادات ب 40 ح 3.

(3) الكافي: 7/ 398 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 252 ح 652، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 311، كتاب الوصايا، ب 20 ح 5 و ج 27/ 390، كتاب الشهادات ب 40 ح 4.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 458

..........

______________________________

فقد نفاه في المتن، و ذكر المحقّق في الشرائع: أنّ باشتراطه رواية مطرحة «1»، و الظاهر أنّها هي رواية حمزة بن حمران، عن الصادق (عليه السّلام) قال: سألته عن قول اللّٰه عز و جل ذَوٰا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ قال: فقال: اللذان منكم مسلمان و اللذان من غيركم من أهل الكتاب، فقال: إذا مات الرجل المسلم بأرض غربة فطلب رجلين مسلمين يشهدهما على وصيّته فلم يجد مسلمين فليشهد على وصيته رجلين ذميّين من أهل الكتاب مرضيين عند أصحابهما «2».

هذا، مع كون الرواية مطرحة عند مشهور

الأصحاب، و لا مجال للالتزام بها كما حقّق في محلّه «3»، فالظاهر أنّ القيد غالبي لا مجال للالتزام به، و إن كان يشعر به ظاهر الآية الشريفة بلحاظ قوله تعالى إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ، كما أنّ ظاهره عدم الترتيب، مع أنّك عرفت أنّ قوله أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ انّما هو في صورة عدم وجدان الشاهدين من المؤمنين.

ثمّ إنّه لا يلحق بالذمّي الفاسق من أهل الإيمان؛ لظهور الأدلّة من الكتاب و السنّة في أنّ العِدل للشاهدين المؤمنين هو آخران من غير المؤمنين، و الفاسق و إن كان من أهل الإيمان و الكفر أعظم من الفسق، إلّا أنّ الدليل قد دلّ على ما ذكر خصوصاً مع اشتراط كونهما مرضيين في دينهما عادلين كذلك، لكن عن التذكرة لو وجد مسلمان فاسقان، فان كان فسقهما بغير الخيانة و الكذب فالأولى أنّهما

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 126.

(2) تهذيب الأحكام: 9/ 179 ح 7108 و ج 6/ 253 ح 655، الكافي: 7/ 399 ح 8، و عنهما وسائل الشيعة:

19/ 312، كتاب الوصايا ب 20 ح 7.

(3) راجع سيرى كامل در اصول فقه: 16/ 533- 567.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 459

..........

______________________________

أولى من أهل الذمّة، و إن كان فسقهما يتضمّن اعتماد الكذب و عدم التحرّز عنه فأهل الذمة أولى «1».

و هل يلحق بالذمّي المخالف العادل في مذهبه؟ قد نفى البعد عنه في المتن، و السرّ فيه أولوية المخالف عن الكافر في هذه الجهة، مع وجود شرط العدالة فيه و إن كانت بحسب مذهبه، و الأخبار الدالّة على أنّ قوله تعالى أَوْ آخَرٰانِ مِنْ غَيْرِكُمْ يراد بها أو آخران من غير المؤمنين لا خصوص أهل الكتاب،

كما لا يخفى، اللهمّ إلّا أن يقال: إنّه خلاف الظاهر، فنفي البعد ليس في محلّه.

الأمر الثاني: في أنّه هل تقبل شهادة كلّ ملّة على ملّتهم؟ المشهور على عدم القبول «2»، و عن الشيخ في محكي الخلاف «3» و النهاية «4» القبول، استناداً إلى موثقة سماعة المتقدّمة الدالّة على أنّ شهادة أهل الملّة «5» لا تجوز إلّا على ملّتهم، و مع ذلك قال المحقّق في الشرائع: و المنع أشبه «6» أي بأصول المذهب و قواعده التي منها اشتراط الايمان و العدالة في الشاهد، و من المعلوم انتفاؤهما في الفرض، فان ثبت في المسألة شهرة فاللازم أن يقال: بأنّ إعراض المشهور عنها قادحٌ في حجّيتها، فالمتعيّن العمل على طبق القاعدة، و إن لم تثبت كما يظهر من نسبة العلّامة في محكي المختلف «7» مفاد الرواية إلى الأصحاب، فاللازم الالتزام بها كما لا يخفى.

______________________________

(1) تذكرة الفقهاء: 2/ 521- 522.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 164، جواهر الكلام: 41/ 24.

(3) الخلاف: 6/ 273 مسألة 22.

(4) النهاية: 334.

(5) قال المؤلّف دام ظلّه: و رواه في وسائل الشيعة في ب 12 من كتاب الوصايا ح 5 مع التعبير ب «أهل الذمّة».

(6) شرائع الإسلام: 4/ 911.

(7) مختلف الشيعة: 8/ 520 مسألة 87.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 460

[الرابع: العدالة]

اشارة

الرابع: العدالة، و هي الملكة الرادعة عن معصية اللّٰه تعالى، فلا تقبل شهادة الفاسق، و هو المرتكب للكبيرة أو المصرّ على الصغيرة، بل المرتكب للصغيرة على الأحوط إن لم يكن الأقوى، فلا تقبل شهادة مرتكب الصغيرة إلّا مع التوبة و ظهور العدالة (1).

______________________________

(1) الكلام في هذا الأمر يقع في مقامين:

المقام الأوّل: في اعتبار العدالة في الشاهد، و قد دلّ الكتاب

على اعتبارها في موردين: أحدهما: الوصية في الآية المتقدّمة آنفاً «1»، ثانيهما: الطلاق في قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «2». غاية الأمر أنّ الإشهاد في باب الطلاق واجب دون غيره، و من المعلوم أنّه لا فرق بين الوصية و الطلاق و بين غيرهما من جهة الصفات المعتبرة في الشهود و الخصوصيّات اللازمة فيهما، و الأخبار التي يستفاد منها اعتبار العدالة في الشاهد مستفيضة أو متواترة كما في الجواهر «3»، و يساعده الاعتبار كما أشار إليه المحقّق في الشرائع بقوله: إذ لا طمأنينة مع التظاهر بالفسق «4»، و لا يرجع هذا المعنى إلى اعتبار حصول الطمأنينة الشخصية في حجّية الشهادة لتكون النسبة بينها و بين المدّعى عموماً و خصوصاً من وجه، بل المراد حصول الطمأنينة بحسب الغالب و إن لم يحصل اطمئنان شخصي.

و يظهر من جملة من الروايات أنّ اعتبار اتّصاف الشاهد بالعدالة كان مفروغاً

______________________________

(1) تقدّمت في ص 456.

(2) سورة الطلاق 65: 2.

(3) جواهر الكلام: 41/ 25، و كذا في رياض المسائل: 13/ 249.

(4) شرائع الإسلام: 4/ 126.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 461

..........

______________________________

عنه عند الرواة و السائلين، بل السؤال انّما كان عن حقيقة العدالة أو أمور ترتبط بها، مثل الامارة الشرعية، كصحيحة عبد اللّٰه بن أبي يعفور المعروفة المشتملة على قول الراوي: بِمَ تعرف عدالة الرجل بين المسلمين حتى تقبل شهادته لهم و عليهم؟ «1» و كيف كان فلا إشكال في هذا المقام في أصل الاعتبار بل الإجماع بقسميه عليه «2»، و إن كان لا أصالة للإجماع بعد دلالة الكتاب و السنة عليه، كما عرفت.

هذا، و قد يستفاد من بعض الروايات عدم اعتبار العدالة في الشاهد،

مثل:

صحيحة حريز، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، فعدل منهم اثنان و لم يعدل الآخران، فقال: إذا كانوا أربعة من المسلمين ليس يعرفون بشهادة الزّور أُجيزت شهادتهم جميعاً، و أُقيم الحدّ على الذي شهدوا عليه، انّما عليهم أن يشهدوا بما أبصروا و علموا، و على الوالي أن يجيز شهادتهم إلّا أن يكونوا معروفين بالفسق «3».

و رواية العلاء بن سيّابة قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة من يلعب بالحمام، قال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، الحديث «4».

و لكن هاتان الروايتان مضافاً إلى كونهما معرضاً عنهما، و إلى مخالفتهما لظاهر الكتاب و الروايات المستفيضة بل المتواترة المتقدّمة، يحتمل أن يكون المراد وجود

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 391، كتاب الشهادات ب 41 ح 1 قد تقدّمت بتمامها في تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، الاجتهاد و التقليد: 313- 314.

(2) جواهر الكلام: 41/ 25.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 277 ح 759 و ص 286 ح 793، الاستبصار: 3/ 14 ح 36، الكافي: 7/ 403 ح 5، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 397، كتاب الشهادات ب 41 ح 18.

(4) الفقيه: 3/ 30 ح 88، تهذيب الأحكام: 6/ 284 ح 784، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 394، كتاب الشهادات ب 41 ح 6 و ص 421 ب 54 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 462

..........

______________________________

الأمارة الشرعية للعدالة و هو حسن الظاهر، و كفايتها عن إحراز العدالة التي هي صفة نفسانية في ترتيب الأثر على الشهادة، كما أنّه يحتمل أن يكون المراد هو أحد الأقوال الخمسة المعروفة في حقيقة العدالة، و هو الإسلام و

عدم ظهور الفسق، فتدبّر جيّداً.

المقام الثاني: في بيان حقيقة العدالة و ماهيتها عند الشارع و المتشرّعة، و قد فصّلنا الكلام بحمد اللّٰه في هذا المجال في شرح المسائل الأخيرة من كتاب الاجتهاد و التقليد «1»، و إن كان في بعض ما ذكر هناك مناقشة اعتبار المروءة في العدالة، و لا نرى حاجة إلى التطويل بالإعادة بعد قلّة المجال و ضيق الحال و عدم تمامية شرح الكتاب إلى الحال، فاللازم صرف الوقت إلى ذلك و إتمام الشرح الذي هو منتهى الآمال إن شاء اللّٰه تبارك و تعالى.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، الاجتهاد و التقليد: 303- 328.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 463

[مسألة 1 لا تقبل شهادة كلّ مخالف في شي ء من أُصول العقائد]

مسألة 1 لا تقبل شهادة كلّ مخالف في شي ء من أُصول العقائد، بل لا تقبل شهادة من أنكر ضروريّاً من الإسلام، كمن أنكر الصلاة أو الحج أو نحوهما، و إن قلنا بعدم كفره إن كان لشبهة، و تقبل شهادة المخالف في الفروع و إن خالف الإجماع لشبهة (1).

______________________________

(1) إمّا عدم قبول شهادة المخالف في شي ء من أصول العقائد التي يكون المراد بها أُصول مسائل التوحيد و العدل و النبوّة و الإمامة و المعاد، فلعدم الاتصاف بالإسلام أو الإيمان مع المخالفة، و قد عرفت اعتبار الايمان فضلًا عن الإسلام، و أمّا فروعها من المعاني و الأحوال و غيرهما من فروع علم الكلام فقد صرّح في المسالك بأنّه لا يقدح الخلاف فيها؛ لأنّها مباحث ظنّية و الاختلاف فيها بين علماء الفرقة الواحدة كثير شهير «1»، و لكن أورد عليه في الجواهر بأنّ أكثرها قطعي بالتواتر و بالضرورة أو غيرهما، خصوصاً بالنظر إلى هذا الزمان، فإنّه قد يصير النظري

قطعيّاً كعصمة الأئمّة (عليهم السّلام) عن السهو و النسيان، و إن خالف في ذلك الصدوق (قدّس سرّه) «2» «3».

و أمّا عدم قبول شهادة من أنكر ضروريّاً من الإسلام كمن أنكر الصلاة أو الحجّ أو نحوهما، فإن قلنا بكفره فواضح لعدم قبول شهادة الكافر إلّا في بعض الموارد على ما عرفت، و إن لم نقل بكفره كما إذا كان إنكاره لشبهة مثل عدم العلم بكونه ضروريّاً، أو أنّ إنكار الضروري يرجع إلى تكذيب النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله)، فالظاهر عدم قبول شهادته أيضاً؛ لأنّ عدم الكفر لا يستلزم الاتصاف بالعدالة المعتبرة في

______________________________

(1) مسالك الأفهام: 14/ 172.

(2) الفقيه: 1/ 233- 235.

(3) جواهر الكلام: 41/ 36.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 464

..........

______________________________

الشاهد بوجه.

و أمّا قبول شهادة المخالف في الفروع فواضح أيضاً؛ لأنّ المخالفة فيها لا تكون مانعة عن الاتصاف بالصفات المعتبرة في الشاهد، خصوصاً مع اختلاف الاجتهاد في الفروع لعدم كونها قطعية، و إن كانت المخالفة في المسائل الإجماعية لكنها كانت مستندة إلى شبهة في حجية الإجماع، لعدم العلم بالدخول و إنكار كون قاعدة اللطف قاعدة مقبولة، و كذا إنكار الحدس القطعي، فإنّه في مثل هذه الصورة لا يكون المجمع عليه قطعيّاً عنده، فلا تضرّ مخالفته.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 465

[مسألة 2 لا تقبل شهادة القاذف مع عدم اللّعان أو البيّنة أو إقرار المقذوف]

مسألة 2 لا تقبل شهادة القاذف مع عدم اللّعان أو البيّنة أو إقرار المقذوف إلّا إذا تاب، و حدّ توبته أن يكذّب نفسه عند من قذف عنده أو عند جمع من المسلمين أو عندهما، و إن كان صادقاً واقعاً يورّي في تكذيب نفسه، فإذا كذّب نفسه و تاب تقبل شهادته إذا صلح

«1» (1).

______________________________

(1) الأصل في عدم قبول شهادة القاذف إلّا إذا تاب قوله تعالى-: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ «2».

و ظاهره العموم للأزواج و غيرهنّ، نعم فيما بعد هذه الآية قد وقع التعرّض للّعان فيما إذا رموا أزواجهم و لم يكن لهم شهداء إلّا أنفسهم، و لا تكون دليلًا على اختصاص الآية الأولىٰ برمي غير الأزواج حتى يقال بعدم دلالة الكتاب على فسق رمي الأزواج و عدم قبول شهادتهم، فتدبّر.

ثمّ إنّ الآية الأُولى تدلّ على قبول شهادة الرامي بعد التوبة و الإصلاح، و الكلام يقع حينئذٍ في الأمرين:

الأول: في حدّ التوبة، و قد ذكر المحقّق في الشرائع: و حدّ التوبة أن يكذب نفسه و إن كان صادقاً يورّي باطناً، و قيل «3»: يكذّبها إن كان كاذباً و يخطّئها في الملإ

______________________________

(1) كذا في طبعة نشر دار التعارف في بيروت 1401، و لكن في بقية النسخ التي لاحظتها «صلح».

(2) النور 24: 4 5.

(3) قاله الشيخ في المبسوط: 8/ 179، و ابن إدريس في السرائر: 2/ 116، و يحيى بن سعيد في الجامع للشرائع: 540، و العلّامة في قواعد الأحكام: 3/ 494 و تحرير الأحكام: 5/ 249، الرقم 6625، و إرشاد الأذهان: 2/ 157.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 466

..........

______________________________

إن كان صادقاً، و الأوّل مرويّ «1». و يظهر من الجواهر «2» أنّه لا يكون في المسألة أزيد من هذين القولين.

و الروايات عبارة عن صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سألت أبا عبد اللّٰه

(عليه السّلام) عن المحدود إذا تاب أتقبل شهادته؟ فقال: إذا تاب، و توبته أن يرجع ممّا قال، و يكذّب نفسه عند الإمام و عند المسلمين، فإذا فعل فانّ على الإمام أن يقبل شهادته بعد ذلك «3» فإنّ السؤال و إن كان عن مطلق المحدود إلّا أنّ الجواب منطبق على القاذف المحدود؛ لأنّ تكذيب النفس لا يكون إلّا فيه، و يمكن أن يقال بأنّ السؤال ناظر إلى الآية الشريفة الواردة في القذف، و على أيّ حالٍ فدلالة الجواب على أنّ حدّ التوبة تكذيب النفس لا إشكال فيه.

و رواية أبي الصباح الكناني قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن القاذف بعد ما يقام عليه الحدّ ما توبته؟ قال: يكذب نفسه، قلت: أ رأيت ان أكذب نفسه و تاب أتقبل شهادته؟ قال: نعم «4».

و رواية القاسم بن سليمان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يقذف الرجل فيجلد حدّا، ثمّ يتوب و لا يعلم منه إلّا خير أ تجوز شهادته؟ قال: نعم، ما يقال عندكم؟ قلت: يقولون: توبته فيما بينه و بين اللّٰه، و لا تقبل شهادته أبداً، فقال: بئس

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 127- 128.

(2) جواهر الكلام: 41/ 39.

(3) الكافي: 7/ 397 ح 6، تهذيب الأحكام: 6/ 245 ح 616، الاستبصار: 3/ 36 ح 121، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 385، كتاب الشهادات ب 37 ح 1.

(4) الكافي: 7/ 397 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 245 ح 615، الاستبصار: 3/ 36 ح 120، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 383، كتاب الشهادات ب 36 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 467

..........

______________________________

ما قالوا، كان أبي يقول: إذا تاب و لم يعلم

منه إلّا خير جازت شهادته «1».

و مرسلة يونس، عن بعض أصحابه، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: سألته عن الذي يقذف المحصنات تقبل شهادته بعد الحدّ إذا تاب؟ فقال: نعم، قلت: و ما توبته؟ قال: يجي ء فيكذب نفسه عند الإمام و يقول: قد افتريت على فلانة و يتوب ممّا قال «2».

نعم في رواية السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) قال: ليس أحد يصيب حدّا فيقام عليه ثمّ يتوب إلّا جازت شهادته إلّا القاذف، فإنّه لا تقبل شهادته، إنّ توبته فيما كان بينه و بين اللّٰه تعالى «3». و لكن ذكر في الجواهر: أنّ الاستثناء المزبور قد اختصّ به بعض نسخ التهذيب، و قد خلا عنه البعض الآخر و الكافي «4» الذي هو أضبط من التهذيب «5».

أقول: و على تقدير وجوده لا بدّ من رفع اليد عنه لمخالفته لظاهر الآية الشريفة، و موافقته للتقية و الشهرة المحققة الفتوائية على خلافها «6». ثمّ إنّ تكذيب النفس

______________________________

(1) الكافي: 7/ 397 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 246 ح 620، الاستبصار: 3/ 37 ح 125، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 383، كتاب الشهادات ب 36 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 397 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 245 ح 617، الاستبصار: 3/ 36 ح 122، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 384، كتاب الشهادات ب 36 ح 4.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 284 ح 782، الاستبصار: 3/ 37 ح 127، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 384، كتاب الشهادات ب 36 ح 6.

(4) الكافي: 7/ 397 ح 4.

(5) جواهر الكلام: 41/ 37.

(6) راجع تحرير الأحكام: 5/ 249، و التنقيح الرائع: 4/ 293، و كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 748 و رياض المسائل:

13/ 270، و جواهر الكلام: 41/ 37.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 468

..........

______________________________

هل يلزم أن يكون عند الإمام الذي أقام الحدّ عليه، أو عند المقذوف، أو عند جماعة من المسلمين، أو عند الإمام و المسلمين؟ الظاهر كما في الجواهر إرادة الإجهار بذلك لا كونه شرطاً في التوبة «1»، و السرّ فيه أنّ هذا الأمر المحرّم يوجب وقوع عرض الناس في معرض التوهم بل أزيد، و مجرّد التوبة الحاصل بالندم و العزم على عدم العود و الاستغفار من اللّٰه تعالى لا يوجب الجبران، بل الجابر هو تكذيب النفس إجهاراً، و هذا بخلاف التوبة بالإضافة إلى سائر المحرمات.

الأمر الثاني: أنّ المذكور في الآية في ناحية المستثنى هي التوبة و الإصلاح، و هل الإصلاح أمر آخر زائد على التوبة أم لا؟ قال المحقّق في الشرائع: و في اشتراط إصلاح العمل زيادة على التوبة تردّد، و الأقرب الاكتفاء بالاستمرار؛ لأنّ بقاءه على التوبة إصلاح و لو ساعة «2».

و يشعر بالزيادة بعض الروايات المتقدّمة الدالّة على أنّه إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خير فتقبل شهادته، و عن الخلاف «3» و جامع المقاصد «4» و متشابه القرآن لابن شهرآشوب «5» أنّه لا بدّ مع التوبة التي هي الإكذاب من ظهور عمل صالح منه و إن قلّ.

أقول: الظاهر أنّ عطف قوله «وَ أَصْلَحُوا» على «تٰابُوا» عطف تفسيري،

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 40.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 128.

(3) الخلاف: 6/ 264 مسألة 13.

(4) الجامع للشرائع 540.

(5) متشابه القرآن: 2/ 224.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 469

..........

______________________________

و لا يشترط إصلاح العمل زيادة على التوبة حتى يبحث أنّ الإصلاح بما ذا يتحقّق، و

السرّ في هذا العطف لعلّه إفادة أنّ التوبة في مقام القذف تغاير التوبة في سائر المقامات؛ لأنه بالقذف قد أفسد عرض المقذوف، فاللازم إصلاحه بإكذاب النفس إجهاراً على ما عرفت، فلا يكون الإصلاح زائداً على التوبة الخاصة الثابتة في القذف.

و إن أبيت إلّا عن كون ظاهر العطف المغايرة بين المعطوف و المعطوف عليه فنقول: الدليل على عدم المغايرة في خصوص المقام الروايات التي فيها الصحيحة الدالّة على أنّه بمجرّد تحقّق التوبة تقبل شهادة القاذف من دون إضافة الإصلاح، كصحيحة عبد اللّٰه بن سنان، و أمّا قوله (عليه السّلام) في بعض الروايات المشار إليها آنفاً «إذا تاب و لم يعلم منه إلّا خير» فهو لا دلالة فيها بل و لا إشعار على اعتبار أمر زائد على التوبة، بل المراد صلاحية القاذف التائب للشهادة مع قطع النظر عن جريان قذفه بدءاً و ختماً، و هذا هو المراد من قوله: «أصلح» في المتن، و إلّا لكان اللازم عدم تأخير قيد الإصلاح عن قبول الشهادة و عطفه على التوبة، فتدبّر جيّداً، أو بتعيّن هذا المعنى على تقدير كون المذكور مقيّداً بصلاحه لا إصلاحه، كما لا يخفى، و إن كان هذا الاحتمال بعيداً في نفسه، لأن الظاهر كون القيد المذكور انّما هو بتبع الآية الشريفة و اقتباساً منها، و فيها قوله «وَ أَصْلَحُوا» كما عرفت.

و قد انقدح من جميع ما ذكرنا أنّه لا يعتبر في قبول شهادة القاذف إلّا التي تقدّم حدّها، و لو لا الروايات الواردة في بيانها لقلنا بأنّ التوبة في القذف إنّما هي كالتوبة في سائر الموارد من دون فرق بينها، لكنّ الروايات قد بيّنت المغايرة في التوبة بين

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 470

..........

______________________________

القذف و غيره و قد عرفت أنّ قوله «وَ أَصْلَحُوا» عطف تفسيري لقوله «تٰابُوا» لا أمر زائد عليه، فتدبّر، كما أنّ ملاحظة عطف الإصلاح على مثل العفو و التوبة في كثير من موارد الكتاب يعطي ذلك، مثل قوله وَ جَزٰاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهٰا فَمَنْ عَفٰا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللّٰهِ «1» و قوله تعالى: فَإِنْ تٰابٰا وَ أَصْلَحٰا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمٰا «2» و غير ذلك من الموارد فراجع، فلا ينبغي الارتياب فيما ذكرنا من عدم كون الإصلاح أمراً زائداً على التوبة، كما لا يخفى.

______________________________

(1) الشورى 42: 40.

(2) النساء 4: 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 471

[مسألة 3 اتخاذ الحَمام للأُنس و إنفاذ الكتب و الاستفراخ و التطيير و اللعب ليس بحرام]

مسألة 3 اتخاذ الحَمام للأُنس و إنفاذ الكتب و الاستفراخ و التطيير و اللعب ليس بحرام، نعم اللعب بها مكروه، فتقبل شهادة المتخذ و اللاعب بها، و أمّا اللعب بالرهان فهو قمار حرام لا تقبل شهادة من فعل ذلك (1).

______________________________

(1) انّ في هذه المسألة عناوين ثلاثة: اتخاذ الحمام للأنس و نحوه، و اللعب بها، و اللعب بالرّهان.

امّا الأوّل: فلا دليل على حرمته و لا كراهته، و يمكن أن يستفاد من دليل عدم حرمة اللعب عدم حرمة الاتخاذ و لا عكس، كما لا يخفى، و الدليل على عدم حرمة الاتخاذ و عدم كراهته مضافاً إلى الأصل أنّه ربما يستفاد من بعض النصوص استحباب اتخاذها للأُنس أو للصيانة من آفة الجنّ و مثلهما، ففي النبويّ أنّ رجلًا شكا إليه (صلّى اللّٰه عليه و آله) الوحدة، فقال: اتخذ زوجاً من حمام «1».

و عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ليس من بيت فيه حمام إلّا لم يصب أهل ذلك البيت آفة من الجنّ،

إنّ سفهاء الجن يعبثون في البيت فيعبثون بالحمام و يدعون الإنسان «2».

و قال عبد الكريم بن صالح: دخلت على أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فرأيت على فراشه ثلاث حمامات خضر قد ذرقن على الفراش، فقلت: جعلت فداك هؤلاء الحمام يقذر الفراش، فقال: لا، إنّه يستحب أن يمسكن في البيت «3».

امّا الثاني: فبالإضافة إلى عدم الحرمة مضافاً إلى أنّه مقتضى الأصل يدلّ عليه رواية العلاء بن سيابة التي جعلها في الوسائل روايتين مع وضوح كونهما

______________________________

(1) الكافي: 6/ 546 ح 6، الفقيه: 3/ 220 ح 1022، و عنهما وسائل الشيعة: 11/ 517، كتاب الحج، أبواب أحكام الدّواب ب 31 ح 15.

(2) الكافي: 6/ 546 ح 5، و عنه وسائل الشيعة: 11/ 516، كتاب الحج، أبواب أحكام الدّواب ب 31 ح 8.

(3) الكافي: 6/ 548 ح 15، و عنه وسائل الشيعة: 11/ 520، كتاب الحج، أبواب أحكام الدّواب ب 34 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 472

..........

______________________________

رواية واحدة، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة من يلعب بالحمام؟ قال: لا بأس إذا كان لا يعرف بفسق، قلت: فانّ من قبلنا يقولون: قال عمر: هو شيطان، فقال: سبحان اللّٰه أما علمت أنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: إنّ الملائكة لتنفر عند الرهان و تلعن صاحبه ما خلا الحافر و الخفّ و الريش و النصل، فإنّها تحضره الملائكة، و قد سابق رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) أسامة بن زيد و أجرى الخيل «1».

و ذكر صاحب الوسائل إنّ عند أهل مكّة لعب الحمام هو لعب الخيل «2»، و لعلّه يشهد له ما في ذيله.

و بالإضافة إلى

الكراهة فقد استدلّ لها في الجواهر بما فيه من العبث و اللعب و تضييع العمر فيما لا يجدي، بل قد يكون في بعض الأحوال أو الأزمنة أو الأمكنة من منافيات المروءة، خلافاً للمحكي عن ابن إدريس «3»، فعدّ اللعب به فسقاً مسقطاً للعدالة «4».

و يرد عليه أنّه على تقدير تسليم كراهة تلك العناوين المذكورة نقول: إنّ الحكم لا يتعدّى من متعلّقه و لا يسري إلى غيره، و إن كان متّحداً معه في الوجود، فكراهتها أمر و كراهة اللعب بالحمام أمر آخر، و المدّعىٰ هو الثاني، و مراعاة المروءة لا تكون دخيلة في العدالة، و إلّا لكان اللازم الالتزام بالفسق فيما كان منافياً لها من الأزمنة و الأمكنة و الحالات.

فالإنصاف أنّه لا دليل على كراهة اللعب بالحمام بعنوانه، إلّا أن يقال: إنّ نفس

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6 284 ح 784، الفقيه: 3/ 30 ح 88، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 394، كتاب الشهادات ب 41 ح 6 و ص 413 ب 54 ح 1 و 3.

(2) تهذيب الأحكام: 6 284 ح 784، الفقيه: 3/ 30 ح 88، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 394، كتاب الشهادات ب 41 ح 6 و ص 413 ب 54 ح 1 و 3.

(3) السرائر: 2/ 124.

(4) جواهر الكلام: 41/ 56.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 473

..........

______________________________

السؤال في رواية العلاء المتقدمة دليل على مفروغيّة وجود حزازة و منقصة فيه، بناء على كون المراد باللعب بالحمام معناه الظاهر، و إن كان يخالفه ما في الذيل من الاستشهاد بمسابقة رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله)، و لكن يؤيده نفس السؤال؛ لأن إجراء الخيل و اللعب به كان

أمراً مستحسناً في الشرع، فلا وجه لاحتمال كون شهادة اللاعب بالحمام غير مقبولة، و يؤيّده أيضاً ما حكاه السائل عمّن قبله من أنّ الثاني قال: «هو شيطان» كما لا يخفى، و كيف كان فالأمر سهل.

و أمّا الثالث: فهو اللعب بالرهان، ففي المتن انّه قمار حرام لا تقبل شهادة من فعل ذلك، و تفريع عدم قبول شهادته دليل على أنّ المراد هي الحرمة التكليفية القادح ارتكابها في ثبوت العدالة، و الوجه في التعرّض لذلك في المقام انّما هي التبعيّة للرواية المتقدّمة، و إلّا فلا يرى ارتباط بين اللعب بالحمام و بين حرمة اللعب بالرهان نظراً إلى أنّه قمار حرام، و قد خالف صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «1» في الحرمة التكليفية في الرهن على اللعب بغير الآلات المعدّة للقمار، بل التزم بثبوت الحرمة الوضعيّة فقط، بمعنى الفساد و عدم ملك العوض في غير الموارد المنصوصة في السبق و الرماية.

و التحقيق ثبوت كلا الحكمين التكليفي و الوضعي، نظراً إلى دلالة العرف و اللغة على أنّ القمار ما يكون فيه الرهان، سواء كان بالآلات المعدّة أو بغيرها، و تفسيرها بخصوص الآلات المعدّة للقمار فيه دور واضح، و عليه فالحظّ و النصيب ببطاقات اليانصيب المعبّر عنه في الفارسية في الزمان السابق ب «بليط بخت آزمايي» كان محرّماً من هذه الجهة، و مثله في هذه الأزمنة التي تكون الحكومة حكومة إسلامية شيعيّة المسابقات المعمولة لأجل الاطّلاع على الكتب المفيدة المؤثرة في ازدياد الاطلاع أو غيره، و لكن غرض المشتركين فيها الوصول إلى بعض الهدايا

______________________________

(1) جواهر الكلام: 22/ 109- 110.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 474

..........

______________________________

المنظورة بمراتبها المختلفة، و تحصيل ثروة أو سفر زيارة من حج

أو غيره في صورة إصابة القرعة إليهم، و مثل هذه المسابقات كثيرة في زماننا هذا، إلّا أن يقال بعدم صدق القمار عليها بوجه، إذ ليس الغرض الأصلي فيها المراهنة، و الهدايا انّما هي بصورة الجائزة الاختيارية، و لكن مع ذلك يكون الأمر مشكلًا.

ثمّ إنّ صاحب الجواهر (قدّس سرّه) ذهب إلى الجواز التكليفي دون الوضعي، و ربما يستدلّ له بصحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رجل أكل و أصحاب له شاة، فقال: إن أكلتموها فهي لكم، و إن لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا، فقضى فيه إنّ ذلك باطل لا شي ء في المؤاكلة من الطعام ما قلّ منه و ما كثر، و منع غرامته منه (فيه خ ل) «1».

و الظاهر أنّ السؤال فيه و مورده هي صحّة المؤاكلة و بطلانها، و قوله: «أكل» ليس فعلًا ماضياً ثلاثياً و لا اسم فاعل على وزن الفاعل، بل هو فعل ماض من باب المفاعلة، و كيفية المؤاكلة ما هو المذكور في الرواية من أنّ صاحب الشاة يقول: إن أكلتموها فهي لكم و إن لم تأكلوها فعليكم كذا و كذا، و الجواب ناظر إلى بطلان المؤاكلة، و منع الغرامة فيه إنّما هي بالإضافة إلى صورة أكل الجميع لتحقّق الإباحة المالكية، و أمّا بالإضافة إلى صورة أكل البعض مع عدم القدرة على أكل الجميع فالغرامة فيها متحقّقة؛ لعدم صحّة عقد المؤاكلة و عدم تحقق الإباحة المالكية.

نعم الغرامة المذكورة في عقد المؤاكلة الباطل غير ثابتة لفرض البطلان، و لا ارتباط لهذا باللعب بالرهان المفروض في المقام، و التحقيق أزيد من هذا موكول إلى مباحث المكاسب المحرّمة.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 528 ح 11، تهذيب

الأحكام: 3/ 290 ح 803، و عنهما وسائل الشيعة: 23/ 192، كتاب الجعالة ب 5 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 475

[مسألة 4 لا تردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة]

مسألة 4 لا تردّ شهادة أرباب الصنائع المكروهة، كبيع الصرف و بيع الأكفان و صنعة الحجامة و الحياكة و نحوها، و لا شهادة ذوي العاهات الخبيثة كالأجذم و الأبرص (1).

[الخامس: طيب المولد]

الخامس: طيب المولد، فلا تقبل شهادة ولد الزنا و إن أظهر الإسلام و كان عادلًا. و هل تقبل شهادته في الأشياء اليسيرة؟ قيل: نعم و الأشبه لا، و أمّا لو جهلت حاله فان كان ملحقاً بفراش تقبل شهادته و إن أنالته الألسن، و إن جهلت مطلقاً و لم يعلم له فراش ففي قبولها إشكال (2).

______________________________

(1) لعدم ثبوت الفسق المانع عن قبول الشهادة في شي ء من الموردين، و كون بعض تلك الصنائع خلاف المروءة بالإضافة إلى بعض الأشخاص أو في بعض الأحوال إنّما يقتضي عدم ثبوت العدالة بناءً على اعتبار المروءة فيها على خلاف ما أشرنا إليه بالإضافة إلى ذلك البعض، أو في تلك الحال لا مطلقا كما لا يخفىٰ. و عدم ترتيب الأثر على فعل الأجذم و الأبرص في بعض المقامات لا يلازم المقام.

(2) يدلّ على اعتبار هذا الأمر قبل الشهرة المحققة «1» بل الإجماع المدّعى في كلمات جماعة «2» و إن لم يكن محكوماً بالكفر بل كان متصفاً بالعدالة الروايات الكثيرة الواردة في هذا المجال، بل يظهر من بعضها أنّه من خصائص فقه

______________________________

(1) المهذّب: 2/ 557، السرائر: 2/ 122، شرائع الإسلام: 4/ 132، قواعد الأحكام: 3/ 496، التنقيح الرائع: 4/ 303، مسالك الأفهام: 14/ 221.

(2) منهم السيد المرتضى في الانتصار: 501 مسألة 275، و الشيخ في الخلاف: 6/ 309 مسألة 57، و ابن زهرة في غنية النزوع: 440.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 476

..........

______________________________

أهل البيت (عليهم السّلام)

الذي نزل عليهم جبرئيل، مثل:

رواية أبي بصير قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن ولد الزنا أ تجوز شهادته؟ فقال: لا، فقلت: إنَّ الحكم بن عتيبة يزعم أنّها تجوز، فقال: اللهم لا تغفر ذنبه، ما قال اللّٰه للحكم وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «1»، و في رواية الكشي زيادة فليذهب الحكم يميناً و شمالًا، فو الله لا يجد العلم إلّا في أهل بيت نزل عليهم جبرئيل «2».

و صحيحة أبي أيّوب الخزّاز، عن محمد بن مسلم قال: قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): لا تجوز شهادة ولد الزّنا «3».

و رواية عبيد بن زرارة، عن أبيه قال: سمعت أبا جعفر (عليه السّلام) يقول: لو أنّ أربعة شهدوا عندي بالزنا على رجل و فيهم ولد زنا لحددتهم جميعاً؛ لأنّه لا تجوز شهادته و لا يؤمّ الناس «4».

و صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن شهادة ولد الزنا؟ فقال: لا، و لا عبد «5».

و رواية عبيد اللّٰه الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: ينبغي لولد الزنا أن لا تجوز له

______________________________

(1) سورة الزخرف 43: 44.

(2) الكافي: 7/ 395 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 244 ح 610، بصائر الدرجات: 9، الجزء الأول ب 6 ح 3، اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 209، الرقم 370، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 374، كتاب الشهادات ب 31 ح 1.

(3) الكافي: 7/ 395 ح 6، تهذيب الأحكام: 6/ 244 ح 613، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 375، كتاب الشهادات ب 31 ح 3.

(4) الكافي: 7/ 396 ح 8، تهذيب الأحكام: 6/ 244 ح 614، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 375، كتاب الشهادات ب 31 ح

3.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 244 ح 612، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 376، كتاب الشهادات ب 31 ح 6.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 477

..........

______________________________

شهادة، و لا يؤمّ الناس، لم يحمله نوح في السفينة، و قد حمل فيها الكلب و الخنزير «1» و غير ذلك من الروايات الواردة في هذا الباب.

و عن المسالك المناقشة في سند الروايات إلّا صحيحة الحلبي، ثمّ قال: و لكن دلالته لا تخلو عن قصور، حكى عن ابن إدريس التعليل بالكفر «2»، و عن المرتضى الاستدلال بما ورد من أنّ ولد الزنا لا ينجب «3». و عن ابن الجنيد أنّه شرّ الثلاثة «4»، «5».

أقول: المناقشة في أدلّة الثلاثة واضحة، و الظاهر أنّ قصور دلالة الصحيحة باعتبار اشتمالها على قبول شهادة العبد مع أنها مقبولة مطلقاً أو في الجملة.

و في الجواهر: لا حاجة إلى صحّة السند بعد الانجبار و الاعتضاد بما عرفت، مع أنّه أطنب بعض الأفاضل في فساد مناقشته في السّند «6»، فانّ كثيراً منها معتبر «7».

______________________________

(1) تفسير العيّاشي: 2/ 148 ح 28، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 377، كتاب الشهادات ب 31 ح 9.

(2) السرائر: 2/ 122.

(3) الموجود في الانتصار: 502 مسألة 275 هكذا: «أنّ طائفتنا مجمعة على أنّ ولد الزنا لا يكون نجيباً ..» و لم نجد رواية بهذا اللفظ في جوامع الحديث، و الظاهر أنّه معقد إجماع ادّعاه السيّد المرتضى في الانتصار.

(4) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 503 مسألة 80.

(5) مسالك الأفهام: 14/ 222- 223.

(6) رياض المسائل: 13/ 307- 308.

(7) جواهر الكلام: 41/ 119.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 478

..........

______________________________

ثمّ إنّ في مقابل هذه الروايات

روايتين آخرتين:

إحداهما: الرواية الدالّة على قبول شهادة ولد الزنا و هي رواية عبد اللّٰه بن الحسن، عن عليّ بن جعفر، عن أخيه قال: سألته عن ولد الزنا هل تجوز شهادته؟ قال: نعم تجوز شهادته و لا يؤمّ. و في كتاب قرب الاسناد زيادة: و ليس لك إلّا لها «1»، كما أنّه روى في الوسائل عن كتاب عليّ بن جعفر، عن أخيه قال: لا تجوز شهادته و لا يؤمّ «2».

و كيف كان فلا يعلم أنّ الرواية تنفي الجواز أو تثبته، و على التقدير الثاني فالشهرة الفتوائية التي هي أوّل المرجّحات، مع ما يدلّ على المنع خصوصاً مع جريان احتمال التقية فيها، بلحاظ أنّ أكثر العامة قائلون بالجواز «3»، و مع أنّ عبد اللّٰه ابن الحسن لم يرد فيه توثيق بل و لا مدح.

ثانيتهما: الرواية المفصّلة التي أفتى على طبقها الشيخ في النهاية «4»، و هي رواية عيسى بن عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة ولد الزنا؟ فقال: لا تجوز إلّا في الشي ء اليسير إذا رأيت منه صلاحاً «5»، و يرد على الأخذ بها مضافاً إلى اشتراك عيسى بن عبد اللّٰه بين الثقة و غيرها

______________________________

(1) كذا في جواهر الكلام: 41/ 120، و لكن جملة ( «و ليس لك إلّا لها») لم نجدها في قرب الإسناد و وسائل الشيعة. و أيضا في نسخ قرب الإسناد هكذا: «لا تجوز شهادته و لا يؤم».

(2) قرب الإسناد: 298 ح 1171، مسائل عليّ بن جعفر: 191 ح 391، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 376- 377، كتاب الشهادات ب 31 ح 7 و 8.

(3) راجع المغني لابن قدامة: 12/ 73، و الخلاف: 6/ 309 مسألة 57.

(4) النهاية:

326.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 244 ح 611 و عنه وسائل الشيعة: 27/ 376، كتاب الشهادات ب 31 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 479

..........

______________________________

و إن كان يظهر من بعض الأعلام (قدّس سرّهم) «1» أنّ عيسى بن عبد اللّٰه في الرواية هو عيسى بن عبد اللّٰه القمي الأشعري الذي ورد فيه بسند صحيح مدح بليغ عن الصادق (عليه السّلام) «2»، و عليه فتكون الرواية معتبرة و إلى إعراض المشهور عنها، عدم دلالتها على ثبوت المعيار للشي ء اليسير، فانّ كلّ يسير غير يسير بالإضافة إلى ما دونه و يسير بالإضافة إلى ما فوقه؛ لأنه من الأُمور الإضافية المختلفة بحسب الأشياء و الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة.

ثمّ إنّ ولد الزنا ان علم كونه كذلك فالحكم ما ذكرنا، و إن جهلت حاله فان كان ملحقاً بفراش و كان فيه شرائط اللحوق الشرعي بفرد فلا إشكال في قبول شهادته، و لا يقدح في ذلك انالته الألسن و حتى الشيوع غير المفيد للعلم و الاطمئنان، و إن لم يكن ملحقاً بفراش ففي المتن إنّ في قبول شهادته اشكالًا، و لكن ذكر بعض الأعلام (قدّس سرّه) أنّه يكفي في قبول شهادته العمومات و الإطلاقات، فانّ المخصص عنوان وجودي فيثبت عدمه عند الشك فيه بالأصل «3».

هذا، و الظاهر عدم جريان مثل هذا الأصل على ما ذكرناه في استصحاب عدم قرشية المرأة من أنّ القضيّة المشكوكة سالبة بانتفاء المحمول، و القضية المتيقّنة سالبة بانتفاء الموضوع و لا اتحاد بين القضيتين، و المقام من هذا القبيل، فان ولد الزنا كذلك يكون مشكوكاً من حين انعقاد نطفته، و لم يمض عليه زمان علم بعدم كونه من زنا حتى يستصحب

العدم.

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: 1/ 110 مسألة 94.

(2) اختيار معرفة الرجال، المعروف ب «رجال الكشي»: 333، الرقم 610.

(3) مباني تكملة المنهاج: 1/ 111 مسألة 94.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 480

..........

______________________________

و العجب من الأستاد الماتن (قدّس سرّه) انّه مع شدّة إنكاره جريان الأصل في مثل استصحاب عدم القرشية كيف استشكل في قبول شهادة المجهول حاله، مع أنّ لازم إنكاره عدم القبول، و لا وجه للتمسك بالعمومات؛ لأنّه من قبيل التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص فتدبّر، و التحقيق الأزيد في محلّه «1».

و يمكن أن يكون وجه الإشكال في المتن أحد أمرين آخرين:

أحدهما: أنّ اعتبار طيب المولد هل يكون بنحو الشرطية أو كون الشاهد ولد زنا بنحو المانعية، فعلى الأوّل لا بدّ من الاحتراز دون الثاني، و فيه أنّ الفرق بين الشرط و المانع بهذا النحو غير صحيح، بل لا بدّ في المانع أيضاً من إحراز العدم و لو بالأصل.

ثانيهما: أنّه يمكن أن يستظهر من الأدلّة الواردة في المقام أنّه لا تعتبر شهادة من أحرز كونه ولد الزنا لا ولد الزنا الواقعي، و فيه منع واضح.

و قد انقدح من جميع ذلك أنّ الظاهر بمقتضى الأدلّة عدم قبول شهادة المشكوك كمشكوك العدالة مع عدم إحرازها وجوداً أو عدماً بالأصل.

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه 8: 236- 244.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 481

[السادس: ارتفاع التهمة]

اشارة

السادس: ارتفاع التهمة، لا مطلقاً بل الحاصلة من أسباب خاصّة، و هي أُمور:

منها: أن يجرّ بشهادته نفعاً له عيناً أو منفعة أو حقّا كالشريك فيما هو شريك فيه، و أمّا في غيره فتقبل شهادته، و صاحب الدّين إذا شهد للمحجور عليه بمال

يتعلّق دينه به بخلاف غير المحجور عليه، و بخلاف مال لم يتعلق حجره به، و الوصي و الوكيل إذا كان لهما زيادة أجر بزيادة المال، بل و كذا فيما كان لهما الولاية عليه و كانا مدّعيين بحقّ ولايتهما، و أمّا عدم القبول مطلقا منهما ففيه تأمّل، و كشهادة الشريك لبيع الشقص الذي فيه له الشفعة، إلى غير ذلك من موارد جرّ النفع (1).

______________________________

(1) و يدلّ عليه موثقة سماعة قال: سألته عمّا يردّ من الشهود؟ قال: المريب، و الخصم، و الشريك، و دافع مغرم، و الأجير، و العبد، و التابع، و المتّهم، كلّ هؤلاء تردّ شهادتهم «1».

و صحيحة عبيد اللّٰه بن علي الحلبي قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عمّا يردّ من الشهود؟ فقال: الظنين، و المتّهم، و الخصم، قال: قلت: فالفاسق و الخائن؟ فقال: هذا يدخل في الظنين «2».

و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): ما يردّ من الشهود؟ قال: فقال: الظنين، و المتهم، قال: قلت: فالفاسق و الخائن؟ قال: ذلك يدخل

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 242 ح 599، الاستبصار: 3/ 14 ح 38، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 378، كتاب الشهادات ب 32 ح 3.

(2) الفقيه: 3/ 25 ح 66، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 374، كتاب الشهادات ب 30 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 482

..........

______________________________

في الظنين «1».

و هنا شي ء و هو أنّ جعل العنوان في اعتبار هذا الأمر «ارتفاع التهمة» في الجملة لا ينطبق على هذه الروايات المذكور فيها عنوان المتهم من دون قيد، و كأنّه تبع في ذلك المحقق في الشرائع، حيث جعل الشرط الخامس ارتفاع التهمة،

ثمّ قال: و يتحقّق المقصود ببيان مسائل «2» و أفاد صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «3» أنّ المقصود حصر التهمة المانعة بها لاستفاضة الأخبار بأنّ التهمة غير مانعة مطلقا، كالصديق بالإضافة إلى صديقه، و الزوج بالنسبة إلى زوجته و بالعكس، و هكذا.

و من هنا استظهر بعض الأعلام (قدّس سرّه) أنّ المراد بالمتهم في هذه الروايات من لم تثبت عدالته، و كانت شهادته في معرض شهادة الزور في قبال من كان عفيفاً صائناً ثابت العدالة، فإنّ ذلك هو المتفاهم العرفي من لفظ المتهم، كما يستفاد ذلك من رواية يحيى بن خالد الصيرفي، عن أبي الحسن الماضي (عليه السّلام) قال: كتبت إليه في رجل مات و له أُمّ ولد، و قد جعل لها سيّدها شيئاً في حياته ثمّ مات، فكتب (عليه السّلام): لها ما أثابها به سيّدها في حياته معروف لها ذلك، تقبل على ذلك شهادة الرجل و المرأة و الخدم غير المتّهمين «4» «5».

فانّ الظاهر قبول شهادة هؤلاء مع إحراز عدالتهم دون المتّهمين الذين لم تثبت

______________________________

(1) الكافي: 7/ 395 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 242 ح 601، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 373، كتاب الشهادات ب 30 ح 1.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 914.

(3) جواهر الكلام: 41/ 61.

(4) الفقيه: 3/ 32 ح 99، وسائل الشيعة: 27/ 364، كتاب الشهادات ب 24 ح 47.

(5) مباني تكملة المنهاج: 1/ 92- 93.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 483

..........

______________________________

عدالتهم، و عليه فيدخل في اعتبار العدالة في الشاهد على ما عرفت، و يؤيّد هذا الاستظهار عطف المتهم من دون قيد على مثل الخصم و الظنين و غيرهما، مع أنّهما داخلان في الاتهام بقول مطلق، و عليه

فاللازم ملاحظة الأسباب الخاصة.

ثمّ إنّه حكى في مجمع البحرين عن بعضٍ ما خلاصته: انّ كلمة الظنّ تقع لمعانٍ أربعة، منها: معنيان متضادّان، أحدهما الشك و الآخر اليقين الذي لا شك فيه، و منها: معنيان غير متضادّين، أحدهما الكذب و الآخر التهمة، و استُشهد لكلّ واحدٍ من المعاني الأربعة ببعض الآيات و الاستعمالات «1»، و لا بدّ في المقام من ملاحظة معنى الظنين خصوصاً مع وقوعه في مقابل المتّهم في الصحيحتين، و خصوصاً مع دخول الفاسق القطعي و الخائن كذلك في معناه على ما دلّتا عليه، و من العجيب استدلال بعض للمقام بآية وَ مٰا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ «2» مع أنّ الظنين هناك يكون بالضاد أي بخيل لا بالظاء أخت الطاء، و لا يرتبط بالمقام أصلًا، فالظاهر أنّ الظنين من يجري فيه ظنّ التهمة بالظن الذي يكون متاخماً للعلم، و لذا يدخل فيه الفاسق القطعي و الخائن كذلك، و المتهم من يجري فيه شبهة الاتّهام من الشكّ في العدالة أو مطلقا، و عطف الخصم عليهما في صحيحة الحلبي المتقدّمة إمّا باعتبار كون الخصومة موجبة لأداء الشهادة على غير ما هي عليه، و أمّا باعتبار كونه عطفاً تفسيرياً للمتهم، و يؤيّده عدم ذكره مع المتّهم في الروايتين الأخيرتين، هذا كلّه بالإضافة إلى أصل اعتبار هذا الأمر.

______________________________

(1) مجمع البحرين: 2/ 1143.

(2) التكوير 81: 24.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 484

..........

______________________________

و أمّا بالإضافة إلى الشركة و شهادة الشريك فتدلّ على عدم قبول شهادة الشريك في شي ء له فيه نصيب صحيحة أبان على نقل الصدوق و مرسلته على نقل الشيخ (قدّس سرّهما) قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شريكين شهد أحدهما

لصاحبه، قال: تجوز شهادته إلّا في شي ء له فيه نصيب «1».

لكن في مقابلها صحيحة عبد الرحمن قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن ثلاثة شركاء ادّعى واحد و شهد الاثنان، قال: يجوز «2». لكن في رواية أُخرى رواها أبان ابن عثمان، عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّٰه قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن ثلاثة شركاء شهد اثنان عن (على خ ل) واحد؟ قال: لا تجوز شهادتهما «3».

و الظاهر عدم كونهما روايتين و إن عدّهما في الوسائل كذلك، و عليه فلم تثبت أنّ الصادر من الإمام (عليه السّلام) هو النفي أو الإثبات، فاللازم الالتزام بعدم قبول شهادة الشريك في شي ء له فيه نصيب لا في غيره، و إن كان الشاهد شريكاً.

و ممّا ذكرنا يظهر انّ صاحب الدين إذا شهد للمحجور عليه بمال يتعلّق دينه به لا تكون شهادته مقبولة، بخلاف غير المحجور عليه و بخلاف مال لم يتعلّق حجره به، فإنّه لا مانع من قبول شهادته؛ لعدم الاتهام فيه أصلًا.

و أما الوصي و الوكيل فإذا كان لهما زيادة أجر بزيادة المال فلا تقبل شهادتهما

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 27 ح 78، تهذيب الأحكام: 6/ 246 ح 623، الاستبصار: 3/ 15 ح 40، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 370، كتاب الشهادات ب 27 ح 3.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 246 ح 622، الاستبصار: 3/ 15 ح 93، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 370، كتاب الشهادات ب 27 ح 4.

(3) الكافي: 7/ 394 ح 1، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 369، كتاب الشهادات ب 27 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 485

..........

______________________________

أصلًا لجرّهما النفع بذلك، و في المتن «بل و

كذا فيما كان لهما الولاية عليه و كانا مدّعيين بحقّ ولايتهما»، و الظاهر أنّ الوجه في ذلك ظهور لزوم كون الشهود غير المدّعى، كما هو المتفاهم عند العرف من قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى، و اليمين على من ادّعي عليه «1»، لكن في مكاتبة الصفّار إلى أبي محمد (عليه السّلام): هل تقبل شهادة الوصي للميّت بدين له على رجل مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع: إذا شهد معه آخر عدل فعلى المدّعى يمين. و كتب: أ يجوز للوصي أن يشهد لوارث الميّت صغيراً أو كبيراً، و هو القابض للصغير و ليس للكبير بقابض؟ فوقّع (عليه السّلام): نعم، و ينبغي للوصي أن يشهد بالحقّ و لا يكتم الشهادة. و كتب أو تقبل شهادة الوصي على الميت مع شاهد آخر عدل؟ فوقّع (عليه السّلام): نعم من بعد يمين «2»، و عن كشف اللّثام: ليس فيها إلّا أنّ عليه الشهادة و أمّا قبولها فلا «3».

و لكنّه كما ترى خلاف لما هو المتفاهم عند العرف من الملازمة بين النهي عن كتمان الشهادة و بين قبولها، كما لا يخفى، و ما في الجواهر من إمكان حملها على قبول شهادة الوصيّ إذا كان المدّعى للميت أحد ورثته؛ لأنّ كلّ واحد منهم يقوم مقام الميّت في ذلك، فليس الوصي حينئذٍ مدّعياً بل الوارث، و إن كان بعد الثبوت يتعلّق به حقّ الوصاية، و ربما يشهد

______________________________

(1) تقدّم في ص 136

(2) الكافي: 7/ 394 ح 3، الفقيه: 3/ 43 ح 147، تهذيب الأحكام: 6/ 247 ح 626، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 371، كتاب الشهادات ب 28 ح 1.

(3) كشف اللثام: 10/ 304.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 486

و منها: ما إذا دفع بشهادته ضرراً عنه، كشهادة العاقلة بجرح شهود الجناية خطأً، و شهادة الوكيل و الوصيّ بجرح الشهود على الموكّل، و الموصي في مثل

______________________________

لذلك قوله (عليه السّلام): «فعلى المدّعى يمين» الظاهر في كون المدّعى غيره، قال: و لعلّ اليمين المزبورة استحباباً للاستظهار «1». فهو ليس بحمل للرواية على خلاف معناها الظاهر منها، بل حمل لها على ظاهرها. و يؤيّده قوله:

«فعلى المدّعى يمين» و إلّا لكان المناسب الاقتصار على الضمير كما في قوله: «إذا شهد معه» كما لا يخفى.

و مقتضى إطلاقها حينئذٍ أنّه لا فرق بين زيادة الأجرة بشهادته و بين عدمها، لكن ينبغي ترك القبول في صورة الزيادة. و عليه فالنسبة بينها و بين الرواية الواردة في الشريك، المتقدّمة المشتملة على استثناء شي ء فيه نصيب بناءً على استفادة شبه التعليل منها هي العموم و الخصوص من وجه، و مادّة الاجتماع هو الوصي مع زيادة الأُجرة، و الترجيح بعد التعارض مع هذه الرواية المطابقة للعموم لو لم نقل بأظهرية الآخر، فتدبّر.

و كذا شهادة الشريك بالإضافة إلى بيع الشقص الذي له فيه الشفعة، و في الشرائع و كذا لا تقبل شهادة من يستدفع بشهادته ضرراً، كشهادة أحد العاقلة بجرح شهود الجناية، و كذا شهادة الوكيل و الوصي بجرح شهود المدّعى على الموصي و الموكّل «2»؛ لأنّ المستفاد من الرواية الواردة في الشريك عدم كون الشهادة موجبة لجرّ النفع إلى الشاهد، و من الواضح أنّ استدفاع الضرر جرّ نفع عند العقلاء، فلا تقبل الشهادة في مثل هذه الموارد.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 68.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 129.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 487

الموردين المتقدّمين (1).

و منها:

أن يشهد ذو العداوة الدنيوية على عدوّه، و تقبل شهادته له إذا لم يستلزم العداوة الفسق، و أمّا ذو العداوة الدينيّة فلا تردّ شهادته له أو عليه حتى إذا أبغضه لفسقه و اختصمه لذلك (2).

______________________________

(1) قد عرفت عبارة الشرائع في ذلك في ذيل المسألة السابقة مع استدلال له منّا، و لكنه ذكر صاحب الجواهر (قدّس سرّه) في مقام الاستدلال قوله: ضرورة كون الجارح في الجميع هو المدّعىٰ عليه، فلا وجه لقبول شهادته في دفع الدعوى عنه كما هو واضح «1».

(2) لا خلاف في أنّ العداوة الدنيوية غير المستلزمة للفسق إذا كانت الشهادة على عدوّه كذلك تكون مانعة عن القبول، كما إذا كانت مستلزمة للفسق بلا إشكال، و ذلك لما عرفت من اشتمال بعض الروايات المتقدّمة على عنوان الخصم في مقابل الظنين و المتّهم، بناء على عدم كونه عطفاً تفسيريّاً و كونه عنواناً آخر، كما أنّه قد فسّره بعضهم بالعدوّ، و القدر المتيقّن منه هي العداوة الدنيوية و العرفية، و لرواية إسماعيل بن مسلم «2»، عن الصادق جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه (عليهم السّلام) قال: لا تقبل شهادة ذي شحناء، أو ذي مخزية في الدين «3».

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 487

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 69.

(2) الفهرست للشيخ: 50 الرقم 38.

(3) الفقيه: 3/ 27 ح 73، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 378، كتاب الشهادات ب 32 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 488

..........

______________________________

و حينئذٍ يشكل الأمر من جهة احتمال وحدة هذه الرواية مع روايته السابقة «1»، المشتملة على «فحّاش» مكان «الشحناء»؛ لاشتراكهما في عنوان ذي مخزية في الدين، و عليه فيحتمل أن يكون الصادر هو عنوان الفحاش لا الشحناء، كما لا يخفى.

و في رواية معاني الأخبار قال: قال النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله): لا تجوز شهادة خائن و لا خائنة، و لا ذي غمز على أخيه، و لا ظنين في ولاء، و لا قرابة، و لا القانع مع أهل البيت «2» و قد تقرّر في محلّه «3» انّ هذا النحو من الإرسال الذي يسند مثل الصدوق مقول القول إلى النبي أو الإمام دون الرواية يكون معتبراً؛ لأنّه بمنزلة توثيق الوسائط بينه و بينه كما لا يخفى، بخلاف ما إذا كان مسنداً إلى الرواية مثل «روي عنه».

ثمّ حكي عن الصدوق (قدّس سرّه) أنّه قال: الغمز: الشحناء و العداوة، و الظنين: المتّهم في دينه، و الظنين في الولاء و القرابة: الذي يتّهم بالدعاء إلى غير أبيه، و المتولّي غير مواليه، و القانع من أهل البيت: الرجل يكون مع قوم في حاشيتهم، كالخادم لهم و التابع و الأجير و نحوه.

ثمّ إنّه يظهر من مناسبة الحكم و الموضوع أنّ شهادة الخصم إذا لم تكن على عدوّه بل كان بنفع عدوّه لا مانع عن قبولها بوجه، كما أنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ العداوة الدينية لا تكون مانعة عن قبول الشهادة بوجه، كشهادة المسلم على الكافر أو له، و يؤيّده انّ الشهود في باب موجبات الحدّ الشرعي لا تكون خالية عن هذه

______________________________

(1) تقدّمت في ص 453.

(2) معاني الأخبار: 208 ح 3، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 379، كتاب الشهادات ب 32

ح 8.

(3) القواعد الفقهيّة للمؤلّف «دام ظله»: 220، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحجّ: 2/ 47 و الحدود: 564.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 489

و منها: السؤال بكفّه، و المراد منه من يكون سائلًا في السوق و أبواب الدّور و كان السؤال حرفة و ديدناً له، و أمّا السؤال أحياناً عند الحاجة فلا يمنع من قبول شهادته (1).

______________________________

العداوة، فتدبّر جيّداً.

ثمّ إنّ المحقّق في الشرائع بعد أن ذكر أنّ العداوة الدنيوية تمنع، سواء تضمّنت فسقاً أو لم تتضمّن، قال: و تتحقّق العداوة بأن يعلم من حال أحدهما السرور بمساءة الآخر و المساءة بسروره، أو يقع بينهما تقاذف «1».

و يرد عليه مضافاً إلى أنّ العداوة قد تكون من جانب واحد لا من الطرفين، ما أورده عليه جماعة من الفقهاء «2» من استلزام الفرح بمساءة المؤمن و بالعكس المعصية، إلّا أن يقال بأنّ الإصرار لا يتحقّق إلّا بالإكثار من الصغائر لا بالاستمرار على معصية واحدة، أو بعدم كونه معصية ما دام لم يقع التظاهر به، أو إذا لم يكن هو البادئ.

(1) العمدة في هذا الأمر وجود روايات كثيرة دالّة عليه:

منها: صحيحة عليّ بن جعفر، عن أخيه أبي الحسن (عليه السّلام) قال: سألته عن السائل الذي يسأل بكفّه هل تقبل شهادته؟ فقال: كان أبي لا يقبل شهادته إذا سأل في كفّه «3». و رواه عبد اللّٰه بن الحسن، عن علي بن جعفر (عليه السّلام) «4».

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 129.

(2) كالشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 14/ 191- 192، و الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 389، و الطباطبائي في رياض المسائل: 9/ 482.

(3) الكافي: 7/ 397 ح 14، تهذيب الأحكام: 6/

244 ح 609، قرب الإسناد: 289 ح 1172، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 382، 383، كتاب الشهادات ب 35 ح 1 و 3.

(4) الكافي: 7/ 397 ح 14، تهذيب الأحكام: 6/ 244 ح 609، قرب الإسناد: 289 ح 1172، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 382، 383، كتاب الشهادات ب 35 ح 1 و 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 490

..........

______________________________

و منها: صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: ردّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) شهادة السائل الذي يسأل في كفّه، قال أبو جعفر (عليه السّلام): لأنّه لا يؤمن على الشهادة، و ذلك لأنّه إن اعطي رضي و إن منع سخط «1».

و الظاهر أنّ عنوان السائل بكفّه عنوان كنائي عمّن يكون سائلًا في أبواب الدور و الطرق و السوق، و أمّا ما عن المسالك من أنّه كناية عمّن يباشر السؤال و الأخذ بنفسه «2»، ففيه أنّه خلاف ما هو المتفاهم منه عند العرف؛ لأنّ المنساق منه من يدور الأبواب و الناس بسؤال الشي ء اليسير كالخبز و الدرهم مثلًا، و أمّا مجرّد المباشرة في السؤال و الأخذ بنفسه فلا يصدق عليه السائل بالكفّ؛ لتداول ذلك بين الناس كثيراً، و من الواضح عدم صدق هذا العنوان عليهم.

و الظاهر كون السؤال حرفة و ديدناً له لا أحياناً و لو مرّتين أو مرّات، و الجمع في الجواب في الصحيحة الاولى مع كون السؤال فيها عن السائل الذي يسأل بكفّه، بين عدم قبول شهادته و بين ما إذا سأل في كفّه، هل هو لأجل التأكيد و بيان أنّ هذا العنوان بنفسه مانع عن قبول الشهادة و إن كان شرائط الشهادة

بأجمعها موجودة، أو لأجل أنّ هذا الحكم ما دامي، و انّ عدم قبول شهادته ما دام كونه سائلًا بكفّه، فإذا زال هذا العنوان يرتفع الحكم، و لو قلنا بأنّ المشتق حقيقة في الأعم من المقتضى عنه المبدأ، و يؤيّد الأوّل خلوّ رواية عبد اللّٰه بن الحسن، عن علي بن جعفر (عليه السّلام) المروية في قرب الاسناد عن هذه الزيادة، فتدبّر.

ثمّ إنّ التعليل في صحيحة محمّد بن مسلم بقوله (عليه السّلام): «لأنّه لا يؤمن على

______________________________

(1) الكافي: 7/ 396 ح 13، تهذيب الأحكام: 6/ 243 ح 608، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 382، كتاب الشهادات ب 35 ح 2.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 199.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 491

و منها: التبرع بالشهادة في حقوق الناس، فإنه يمنع عن القبول في قول معروف، و فيه تردّد، و أمّا في حقوق اللّٰه كشرب الخمر و الزنا و للمصالح العامة فالأشبه القبول (1).

______________________________

الشهادة» الى آخره، يعطي أنّه لو فرض في مورد تحقق الأمن بأن علم أنّ الإعطاء و المنع غير مؤثّرين فيه في مقام الشهادة، فاللازم الأخذ بشهادته؛ لأن العلّة منصوصة لا بدّ فيها من الاقتصار على موردها، كما لا يخفىٰ.

ثمّ إنّ السؤال بالكفّ بالنحو المذكور هل يكون محرّماً مطلقاً، أو في خصوص المدلّس بإظهار الحاجة مع عدم كونه كذلك واقعاً، أو لا يكون له حرمة بعنوانه، كما يؤيده ذكره في مقابل الفاسق و فاقد العدالة، نعم التدليس المستلزم للكذب القولي أو العملي حرام، و في الجواهر: أنّ النصوص مستفيضة بالنهي عن سؤال الناس «1»، لكن كثيراً منها محمول على بعض مراتب الأولياء، و هو الغناء عن الناس و الالتجاء إلى اللّٰه تعالى،

و آخر محمول على المدلّس بإظهار الحاجة و الفقر لتحصيل المال من الناس بهذا العنوان إلى أن قال: و أمّا حرمة السؤال من حيث كونه سؤالًا و لو بالكفّ فلا دليل مطمئنّ به على حرمته، و إن كان ذلك مغروساً في الذهن «2».

(1) معنى التبرّع بالشهادة هو إقامتها و أداؤها قبل طلب الحاكم و سؤاله، و هو بالإضافة إلى حقوق الآدميين كالبيّنة الشاهدة للمدّعي يمنع عن القبول، و نفى في الجواهر وجدان الخلاف فيه، بل حكى عن كشف اللثام أنّه ممّا قطع به الأصحاب،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 9/ 436- 446، كتاب الزكاة، أبواب الصدقة ب 31- 34.

(2) جواهر الكلام: 41/ 82 83.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 492

..........

______________________________

سواء كان قبل دعوى المدّعى أو بعدها «1»، «2». و قد وقع في كلام كثير كالمحقق في الشرائع التعليل بالتهمة «3»، و قد عرفت «4» أنّ هذا العنوان بمعناه العام العرفي لا يكون مانعاً عن قبول الشهادة، مع أنّ ظاهر كلامهم ردّ المتبرّع بشهادته و إن انتفت التهمة عنه بقرائن الأحوال، ككون المشهود له عدوّاً له و المشهود عليه صديقاً له، أو يعلم منه أنّ ذلك كان منه جهلًا بالحكم الشرعي.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ المراد من التهمة الواقعة في التعليل هي التهمة الشرعية الصادقة مع عدم التهمة العرفية أيضاً، و الدليل على ثبوت التهمة الشرعية هو الإجماع المزبور المؤيّد بالنبويّ، المروي عن غير طرقنا الوارد في مقام الذمّ: ثمّ يجي ء قَوم يتسمَّنون يحبّون السمن يعطون الشهادة قبل أن يسألوها «5»، و آخر: ثمّ يفشو الكذب حتى يشهد الرجل و ما يُستشهد «6» و مثل ذلك، إلّا أن يقال: لو كان المستند هو

الإجماع لما كان هناك حاجة إلى قيام الإجماع على ثبوت التهمة الشرعية ثمّ ردّ الشهادة لأجل ذلك، بل كان قيام الإجماع على الردّ مستقيماً كافياً في ذلك، لكن الشأن مع ذلك كلّه في أصل انعقاد الإجماع؛ و لذا تردّد فيه في المتن. هذا كلّه بالنسبة إلى حقوق الآدميين.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 104.

(2) كشف اللثام: 10/ 312.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 131، و كذا العلّامة في قواعد الأحكام: 3/ 497، و الفاضل الآبي في كشف الرموز:

2/ 524، و الشهيد الثاني في الروضة البهيّة: 3/ 134.

(4) في ص 481- 483 و 488.

(5) مسند أحمد: 7/ 193 ح 19841.

(6) سنن ابن ماجة: 3/ 129 ح 2363.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 493

..........

______________________________

و أمّا بالنسبة إلى حقوق اللّٰه تعالى و المصالح العالية كالأمثلة المذكورة في المتن، فالمشهور شهرة عظيمة القبول «1»، بل لم يعرف الخلاف فيه إلّا من الشيخ في بعض كتبه «2»، و إن وافق المشهور في البعض الآخر «3» و علّل بأنّه لا مدّعي لها، مع أنّه لو كان التبرّع مانعاً فيها لتعطّلت الحدود، مع أنّ الناس خصوصاً في هذه الأزمنة لهم مشاغل كثيرة لا يمكن لهم نوعاً الانتظار و صرف الوقت و لو ساعة مثلًا.

و أمّا الحقوق المشتركة بين اللّٰه و بين الناس كالسرقة لوجود القطع فيها و الغرامة، فالظاهر و إن كان في بادئ النظر هو التبعيض فيها، فيكون التبرّع بالشهادة مانعاً عن القبول في حق الناس دون حق اللّٰه، إلّا أنّه في المقام خصوصية تقتضي القبول و لو بالإضافة إلى حق الناس، و هي أنّ الدليل على المنع في حق الناس على تقديره هو الإجماع، و حيث أنّه من

الأدلّة اللبّية فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن و هو حق الناس محضاً، فلا يشمل الحق المشترك، مع أنّ ثبوت الإجماع أيضاً كان محلّ ترديد و كلام.

______________________________

(1) غاية المرام: 4/ 284، و رياض المسائل: 13/ 313، و جواهر الكلام: 41/ 106.

(2) النهاية: 330.

(3) أي في المبسوط، على ما نقل عنه في كشف الرموز: 2/ 524 525، و التنقيح الرائع:، 4/ 305 و لكن لم نعثر عليه في المبسوط.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 494

[مسألة 5 النسب لا يمنع عن قبول الشهادة، كالأب لولده و عليه]

مسألة 5 النسب لا يمنع عن قبول الشهادة، كالأب لولده و عليه و الولد لوالده و الأخ لأخيه و عليه، و سائر الأقرباء بعضها لبعض و عليه، و هل تقبل شهادة الولد على والده؟ فيه تردّد، و كذا تقبل شهادة الزوج لزوجته و عليها و شهادة الزوجة لزوجها و عليه، و لا يعتبر في شهادة الزوج الضميمة، و في اعتبارها في الزوجة وجه و الأوجه عدمه، و تظهر الفائدة فيما إذا شهدت لزوجها في الوصية، فعلى القول بالاعتبار لا تثبت، و على عدمه يثبت الرابع (1).

______________________________

(1) النسب لا يمنع عن قبول الشهادة و إن كانت التهمة العرفية متحقّقة؛ لعدم الدليل على الكبرى كما عرفت، فتجوز شهادة الأب لولده أو عليه و الأخ كذلك و سائر الأقرباء كذلك، مضافاً إلى قيام الدليل على الجواز في كثير من الموارد، ففي صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن شهادة الوالد لولده، و الولد لوالده، و الأخ لأخيه؟ فقال: تجوز «1».

و في مضمرة سماعة قال: سألته عن شهادة الوالد لولده، و الولد لوالده، و الأخ لأخيه؟ قال: نعم، الحديث «2».

ثمّ إنّه حكي عن الشيخ «3» أنّه

يعتبر في قبول شهادة القريب للقريب انضمام شاهد أجنبي، و قد استدلّ له بموثقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام) أنّ شهادة الأخ لأخيه تجوز إذا كان مرضياً و معه شاهد آخر «4». و أنت خبير بعدم دلالتها على

______________________________

(1) الكافي: 7/ 393 ح 1 و 2، تهذيب الأحكام: 6/ 248 ح 632، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 368، كتاب الشهادات ب 26 ح 4.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 247 ح 629، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 368، كتاب الشهادات ب 26 ح 4.

(3) النهاية: 330.

(4) تهذيب الأحكام: 6/ 286 ح 790، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 368، كتاب الشهادات ب 26 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 495

..........

______________________________

كون الشاهد الآخر أجنبيّا، كما لا يخفى.

انّما الكلام في أمرين:

الأمر الأوّل: شهادة الولد على والده، فالمشهور شهرة عظيمة «1» بل عن جملة من الكتب الفقهية القديمة الإجماع عليه «2» هو عدم القبول، خلافاً للمرتضى «3» و المحكي عن الإسكافي القبول «4»، و هو الذي قوّاه في محكي الدروس «5»، و تردّد فيه الفاضل في التحرير «6» كما في المتن.

و نقول: إنّه ربّما يقال: إنّ ظاهر قوله تعالى وَ صٰاحِبْهُمٰا فِي الدُّنْيٰا مَعْرُوفاً «7» هو عدم القبول، فإنّه ليس من المعروف الشهادة على الوالد و الردّ لقوله و إظهار تكذيبه، بل هو من مصاديق العقوق، و لكن قوله تعالى كُونُوا قَوّٰامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدٰاءَ لِلّٰهِ وَ لَوْ عَلىٰ أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوٰالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ .. «8» قرينة على أنّ الشهادة على الوالد لا تنافي المصاحبة بالمعروف، مع أنّ لازمه اشتراك الوالدة مع

______________________________

(1) المقنع: 397، المقنعة: 726، النهاية: 330، المهذّب: 2/ 557، السرائر:

2/ 134، الوسيلة: 231، شرائع الإسلام: 4/ 130، قواعد الأحكام: 3/ 496، مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 404- 405، رياض المسائل:

13/ 285 و 478، جواهر الكلام: 41/ 74.

(2) جوابات المسائل الموصليات (رسائل السيد المرتضى) المجموعة الاولى: 246 مسألة 62، الخلاف: 6/ 297- 298 مسألة 45، السرائر: 2/ 134.

(3) الانتصار: 496 مسألة 273، لكن يستفاد مخالفته من ظاهر كلامه حيث نسب عدم القبول إلى بعض الأصحاب.

(4) حكى عنه السيوري في كنز العرفان: 2/ 535.

(5) الدروس الشرعية: 2/ 132.

(6) تحرير الأحكام: 5/ 254.

(7) سورة لقمان 31: 15.

(8) سورة النساء 4: 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 496

..........

______________________________

الوالد في هذه الجهة.

و دعوى أعمّية وجوب الشهادة عن القبول واضحة المنع، و أمّا الروايات فلا يكون فيها ما يدلّ على المنع إلّا مرسلة الصدوق، حيث قال: و في خبر آخر أنّه لا تقبل شهادة الولد على والده «1»، و من الواضح أنّها لا تكون من المرسلات المعتبرة، خصوصاً مع أنّ في مقابلها رواية داود بن الحصين الثقة، قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: أقيموا الشهادة على الوالدين و الولد، و لا تقيموها على الأخ في الدين الضير، قلت: و ما الضير؟ قال: إذا تعدّى فيه صاحب الحق الذي يدّعيه قبله خلاف ما أمر اللّٰه به و رسوله، و مثل ذلك: أن يكون لآخر على آخر دين و هو معسر، و قد أمر اللّٰه بانظاره حتى ييسر، فقال تعالى فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ «2» و يسألك أن تقيم الشهادة و أنت تعرفه بالعسر، فلا يحلّ لك أن تقيم الشهادة في حال العسر «3».

و رواية علي بن سويد السائي الثقة المروية بأسانيد مختلفة عنه عن

أبي الحسن (عليه السّلام) في حديث قال: كتب إليّ في رسالته إليّ: و سألت عن الشهادات لهم، فأقم الشهادة للّٰه و لو على نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فان خفت على أخيك ضيماً فلا «4».

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 26 ح 71، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 369، كتاب الشهادات ب 26 ح 6.

(2) البقرة 2: 280.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 257 ح 675، الفقيه: 3/ 30 ح 89، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 340، كتاب الشهادات ب 19 ح 3.

(4) الكافي: 7/ 381 ح 3 و ج 8/ 125 قطعة من ح 95، تهذيب الأحكام: 6/ 276 ح 757، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 368، كتاب الشهادات ب 3 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 497

..........

______________________________

هذا، و لكن صاحب الجواهر «1» تبعاً للمحقّق في الشرائع «2» جعل الأظهر في المسألة المنع، نظراً إلى أنّ الرواية الدالّة عليه و إن كانت مرسلة إلّا انّها منجبرة بفتوى المشهور بل المجمع عليه، و أنّ المرتضى لم يقل بالجواز إلّا بمقتضى إطلاق كلامه في الانتصار «3» لا صريحه، و أنّ الإسكافي قد اختلف النقل عنه، بل ربما يقال «5» بأنّه لم يتعرّض للمسألة «4»، فلا يبقى إلّا الشهيد في الدروس «5» و جملة من المتأخّرين عنه «6»، و الأوّل قد اختار المنع في شرح الإرشاد «7»، و الآية الظاهرة في الجواز غير صريحة في الشهادة بالمعنى المراد في المقام، و الروايتان الدالّتان عليه لا جابر لهما بالإضافة إلى مفادهما.

و لكن يرد عليه مضافاً إلى أنّ الجواز لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه، بل اللازم ملاحظة دليل المنع أنّ غاية ما

يمكن أن يقال بالإضافة إلى الآية عدم اختصاصها بالشهادة بالمعنى الأخصّ لا عدم دخولها فيها قطعاً، كما أنّ الحمل على صورة الموت خلاف الظاهر جدّاً، و إن ادّعي الإجماع على القبول في

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 78.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 130.

(3) الانتصار: 496 مسألة 273.

(4) قاله العلّامة في مختلف الشيعة: 8/ 510 مسألة 84، و كذا الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 14/ 195.

(5) الدروس الشرعية: 2/ 132.

(6) كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 4/ 295- 296، و ابن فهد في المقتصر: 389، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 14/ 195- 196، و الصيمري في غاية المرام: 4/ 280- 281، و المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 405 406.

(7) غاية المراد في شرح نكت الإرشاد: 4/ 116- 119.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 498

..........

______________________________

صورة الموت «1»، فالإنصاف أنّ في المسألة تردّداً كما في المتن من وجود رواية دالّة على المنع، و إن كانت مرسلة غير معتبرة في حدّ ذاتها، لكنّها منجبرة بفتوى المشهور شهرة محقّقة على طبقها لو لا الإجماع، و مستند بعض المدّعين للإجماع و إن كان قابلًا للخدشة كالشيخ الذي يستند إلى قاعدة اللطف «2» الممنوعة كما حقّق في محلّه «3»، إلّا أنّ عدم حكاية الخلاف الصريح عمّن قبل الشهيد في الدروس يؤيّد تحقّقه، و الروايتان الدالّتان على الجواز لا تكونان منجبرتين؛ لعدم الدليل على عدم جواز الشهادة على المعسر و إن لا يكون إعساره ثابتاً عند المدّعى، أو يعمل بالإضافة إليه على خلاف أمر الهّٰا و رسوله، و كذا بالنسبة إلى الضيم الذي يكون معناه المظلوم، و من أنّ السيّد في الانتصار يجعل ممّا انفردت به

الإمامية القول بجواز شهادة ذوي الأرحام بعضهم لبعض إذا كانوا عدولًا، و يستثنى ما يقول به بعض الأصحاب: من عدم جواز شهادة الولد على والده «4». و حمل الآية على حال الموت أو على عدم كون المراد الشهادة الاصطلاحية أصلًا خلاف الظاهر، و إن كان يؤيّده الشهادة على الأنفس غير المحققة في باب القضاء، كما لا يخفى.

الأمر الثاني: لا إشكال و لا خلاف في اعتبار شهادة الزوج لزوجته و بالعكس في الجملة، و انّما الإشكال في اعتبار الضميمة و عدمه، قال المحقّق في الشرائع: و كذا

______________________________

(1) غنية النزوع: 440.

(2) العدّة في الأصول: 2/ 631 و 637.

(3) سيرى كامل در اصول فقه: 10/ 306- 310.

(4) الانتصار: 496 مسألة 273.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 499

..........

______________________________

تقبل شهادة الزوج لزوجته و الزوجة لزوجها مع غيرها من أهل العدالة، و منهم من شرط في الزوج الضميمة كالزوجة «1»، و لا وجه له «2».

هذا، و لكن حكى صاحب الجواهر عن المتأخرين كافّة «3» و ظاهر أكثر القدماء «4» عدم اعتبار الضميمة في الزوجة أيضاً «5»، و الروايات الواردة في هذا المجال لا تتجاوز عن ثلاث:

الأولى: صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال: تجوز شهادة الرجل لامرأته، و المرأة لزوجها إذا كان معها غيرها «6»، و الظاهر انّ ضميري التأنيث في آخر الرواية ترجعان إلى الزوجة، فيكون الحكم مختصاً بها لا إلى الشهادة حتى يعمّ الحكم لكليهما، فالرواية ظاهرة أو صريحة في التفصيل بين الزوجين، و أنّ شهادة الزوج لا تحتاج إلى انضمام الغير بخلاف شهادة الزوجة.

الثانية: موثّقة سماعة في حديث، قال: سألته عن شهادة الرجل لامرأته؟ قال: نعم، و المرأة

لزوجها؟ قال: لا، إلّا أن يكون معها غيرها «7»، و حمل قوله (عليه السّلام): «نعم»

______________________________

(1) كالشيخ في النهاية: 330، و القاضي في المهذّب: 2/ 557، و ابن حمزة في الوسيلة: 231.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 130.

(3) منهم كالفاضل المقداد في التنقيح الرائع: 4/ 297، و الشهيد الثاني في المسالك: 14/ 197- 198، و السبزواري في كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 758- 759.

(4) المقنعة: 726، المبسوط: 8/ 220، الخلاف: 6/ 299 مسألة 49، و حكاه عن العماني في مختلف الشيعة:

8/ 511 مسألة 85، ثمّ قال و هو المعتمد، الكافي في الفقه: 436، السرائر: 2/ 134، غاية المرام: 4/ 282، و قد نسبه إلى المشهور، رياض المسائل: 13/ 289.

(5) جواهر الكلام: 41/ 79.

(6) الكافي: 7/ 392 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 247 ح 627، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 366، كتاب الشهادات ب 25 ح 1.

(7) تهذيب الأحكام: 6/ 247 ح 629، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 367، كتاب الشهادات ب 25 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 500

..........

______________________________

على أنّه مجرّد خطاب، و مرجعه إلى تفهيم السائل أنّه في مقام الاستماع كما هو متعارف الآن في المخاطبة، و الجواب عن كليهما هو قوله: «لا» إلى آخره خلاف الظاهر جدّاً، كما أنّ إرجاع ضميري التأنيث إلى الشهادة يكون كذلك، فالإنصاف ظهور الرواية في التفصيل أيضاً، كالرواية السابقة.

الثالثة: رواية عمّار بن مروان قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) أو قال: سأله بعض أصحابنا عن الرجل يشهد لامرأته؟ قال: إذا كان خيراً جازت شهادته لامرأته «1»، و هذه الرواية ظاهرة في عدم اعتبار الضميمة في شهادة الزوج من دون تعرّض

للعكس.

و أنت خبير أنّه بملاحظة هذه الروايات لا بدّ و أن يقال بعدم اعتبار الضميمة في شهادة الزوج، و أمّا بالإضافة إلى شهادة الزوجة فقد يقال كما في الجواهر بأنّه يحتمل أن يكون ورود الشرط في الصحيحة و الموثقة الأُوليين مورد الغالب «2». و عليه فلا دلالة لهما على العدم في غيره، و لكنّ الظاهر أنّه لا مجال لهذا الاحتمال خصوصاً في الموثقة المشتملة على النفي و الإثبات، فتدبّر جيّداً. فالإنصاف تمامية دلالة الرواية على التفصيل كما اختاره المحقّق في الشرائع على ما عرفت.

نعم اعتبار الضميمة في الزوجة انّما هو باعتبار كونها مرأة لا زوجة؛ لعدم اعتبار شهادة المرأة الواحدة حتى مع ضمّ اليمين، كما تقدّم في كتاب القضاء «3». نعم،

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 366، كتاب الشهادات ب 25 ح 2.

(2) جواهر الكلام: 41/ 79.

(3) ص 189 مسألة 1 من «القول في الشاهد و اليمين».

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 501

..........

______________________________

مقتضى إطلاق ما دلّ على ثبوت الربع بشهادة المرأة الواحدة في باب الوصية ثبوت الربع في ذلك المقام مع شهادة الزوجة فقط، و ممّا ذكرنا يظهر أنّ جعل الفائدة و ظهورها في باب الوصية من جهة ثبوت الربع بشهادة الزوجة فقط مع عدم اعتبار الضميمة و عدم ثبوت الربع بها، بناء على اعتبار الضميمة كما في المتن ليس على ما ينبغي، و إن كان يظهر ذلك من صاحب الجواهر «1» أيضاً تبعاً للشرائع «2»؛ لأنّ الظاهر أنّ إطلاق ما ورد «3» في ثبوت الربع بشهادة المرأة في باب الوصية ثبوته بشهادتها، مع أنّه لم يكن غيرها معها.

و أمّا إذا كانت الضميمة موجودة فلا مجال لدعوى ثبوت الربع فقط، و

الظاهر أنّ المستند في ذلك كون الروايتين في شهادة الزوجة في المقام الدالتين على اعتبار الضميمة أخصّين مما ورد في ثبوت الربع بشهادة المرأة في باب الوصية فيخصّص بهما، مع أنّ الظاهر ما عرفت من أنّ اعتبار الضميمة في شهادة الزوجة انّما هو باعتبار كونها مرأة و لا خصوصية للزوجة في ذلك، و عليه فالظاهر أنّ إطلاق ما ورد في باب الوصية الشامل للزوجة محكّم على الروايتين الواردتين فيها، و حاكم عليهما، و دالّ على أنّ اعتبار الضميمة انّما هو في غير باب الوصية، و أمّا في ذلك الباب فشهادة الزوجة كافية و لو من دون انضمام، فتدبّر في المقام فإنّه من مزالّ الأقدام.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 80.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 130.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 267- 268 ح 717 و 718، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 355، كتاب الشهادات ب 24 ح 15 و 16.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 502

[مسألة 6 تقبل شهادة الصديق على صديقه و كذا له]

مسألة 6 تقبل شهادة الصديق على صديقه و كذا له، و إن كانت الصداقة بينهما أكيدة و الموادّة شديدة، و تقبل شهادة الضيف و إن كان له ميل إلى المشهود له. و هل تقبل شهادة الأجير لمن آجره؟ قولان: أقربهما المنع، و لو تحمّل حال الإجارة و أدّاها بعدها تقبل (1).

______________________________

(1) في هذه المسألة فروع:

الأوّل: أنّه تقبل شهادة الصديق لصديقه و كذا عليه، و إن كانت الصداقة كاملة و الموادّة كثيرة شديدة، و لا خلاف فيه بيننا بل الإجماع عليه «1»، مضافاً إلى أنّ القبول لا يحتاج إلى الدليل؛ لأنّ المانع هي التهمة العرفية، و قد عرفت «2» أنّه لا دليل على مانعيتها مطلقاً مع ثبوت العدالة المانعة

عن التسامح في مقام الشهادة، خلافاً لمالك «3» و بعض الشافعية «4»، فردّها مع الملاطفة، و ضعفه ظاهر.

الثاني: أنّه تقبل شهادة الضيف و إن كان له ميل إلى المشهود له، بلا خلاف فيه بيننا «5»، و يدلّ عليه مع أنّ القبول لا يحتاج إلى الدليل كما عرفت موثقة أبي بصير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا بأس بشهادة الضيف إذا كان عفيفاً صائناً. قال: و يكره شهادة الأجير لصاحبه، و لا بأس بشهادته لغيره، و لا بأس به له

______________________________

(1) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 760، مستند الشيعة: 18/ 257، جواهر الكلام: 41/ 80.

(2) 481- 483 و 488.

(3) المدوّنة الكبرى: 5/ 156، المغني لابن قدامة: 12/ 70، الحاوي الكبير: 21/ 175، الخلاف: 6/ 299 مسألة 48.

(4) نسب إليهم الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 14/ 199، و لكن لم ينقل هذا الخلاف عن الشافعية في كتب العامّة، راجع الحاوي الكبير: 21/ 175، المغني لابن قدامة: 12/ 70، العزيز شرح الوجيز: 13/ 30.

(5) مسالك الأفهام: 14/ 200، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 760، جواهر الكلام: 41/ 82.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 503

..........

______________________________

بعد مفارقته «1».

الثالث: قبول شهادة الأجير لمن آجره و عدمه، و فيه قولان، فالمشهور بين المتأخّرين «2» بل في محكيّ المسالك «3» نسبته إليهم «4» هو القبول، و المحكي عن أكثر المتقدّمين كالصدوقين «5» و الشيخ في بعض كتبه «6» و الحلبي «7» و القاضي «8» و بني حمزة و زهرة «9» عدم القبول، و استقرب في المتن هذا القول.

و يدلّ على الأوّل مضافاً إلى أنّ الجواز لا يحتاج إلى إقامة الدليل عليه

الموثقة المتقدّمة في الفرع الثاني بناء على إرادة المعنى المصطلح من الكراهة المذكورة فيها.

و يدلّ على القول الثاني الروايات المستفيضة:

منها: موثقة سماعة قال: سألته عمّا يردّ من الشهود؟ قال: المريب، و الخصم، و الشريك، و دافع مغرم، و الأجير، و العبد، و التابع، و المتهم، كلّ هؤلاء تردّ شهاداتهم «10».

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 27 ح 77، تهذيب الأحكام: 6/ 258 ح 676، الاستبصار 3/ 21 ح 64، و عنهما وسائل الشيعة:

27/ 372، كتاب الشهادات ب 29 ح 3.

(2) جواهر الكلام: 41/ 83.

(3) مسالك الأفهام: 14/ 200، و كذا في كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 760،

(4) كالعلامة في تحرير الأحكام: 5/ 255- 256، و الفاضل الآبي في كشف الرموز: 2/ 520، و السيوري في التنقيح الرائع: 4/ 297- 298.

(5) المقنع: 398، الهداية: 286، و حكاه عن الصدوقين و غيرهما في مختلف الشيعة: 8/ 501 مسألة 78.

(6) النهاية: 325.

(7) الكافي في الفقه: 436.

(8) المهذّب: 2/ 558.

(9) الوسيلة: 230، غنية النزوع: 440، و كذلك الكيدري في إصباح الشيعة: 529.

(10) تقدّمت في ص 481.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 504

..........

______________________________

و مثلها مرسلة الفقيه، و إن كانت مشتملة على عدم قبول شهادة شارب الخمر، و اللاعب بالشطرنج و النرد، و المقامر «1»، و رواية العلاء بن سيابة، عن أبي عبد الهّٰب (عليه السّلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) لا يجيز شهادة الأجير «2».

و منها: مرسلة الصدوق في معاني الأخبار المعتبرة المتقدّمة، المشتملة على عدم قبول شهادة جماعة، منهم: القانع مع أهل البيت، مع تفسير الصدوق بأنّ المراد به رجل يكون مع قوم في حاشيتهم، كالخادم لهم و التابع و الأجير «3».

و منها:

صحيحة صفوان، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: سألته عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثمّ فارقه، أ تجوز شهادته له بعد أن يفارقه؟ قال: نعم، و كذلك العبد إذا أُعتق جازت شهادته «4».

هذا، و مقتضى الجمع الدلالي العرفي بين هذه الروايات مع كثرتها و وجود الصحيحة و الموثقة أو كالصحيحة فيها مع موثقة أبي بصير المتقدّمة المشتملة على لفظ الكراهة حمل الكراهة فيها على غير المعنى المصطلح و غير المنافية مع الحرمة، كما أنّه ربما تستعمل الكراهة في هذا المعنى كثيراً، و بذلك يتحقّق الخروج عن عنوان المتعارضين الذي هو الموضوع في الأخبار العلاجيّة.

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 25 ح 67، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 379، كتاب الشهادات ب 32 ح 7.

(2) الكافي: 7/ 394 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 246 ح 624، الاستبصار 3/ 21 ح 62، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 372، كتاب الشهادات ب 29 ح 2.

(3) تقدّمت في ص 488.

(4) تهذيب الأحكام: 6/ 257 ح 674، الاستبصار 3/ 21 ح 63، الفقيه: 3/ 41 ح 138، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 372، كتاب الشهادات ب 29 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 505

..........

______________________________

و لا مجال لاحتمال العكس بأن تجعل الكراهة في الموثقة قرينة على عدم إرادة الحرمة من الروايات الدالة على المنع؛ لأنّه مضافاً إلى عدم موافقة العرف مع ذلك و إلى أنّ الكراهة الاصطلاحية لا معنى لأن تستعمل في الحكم الوضعي الذي هو المقصود في المقام من نفوذ شهادة الأجير و عدمه، بل لا بدّ أن يكون متعلّقها فعل المكلّف من الإشهاد أو تحمّل الشهادة أو إقامتها كما لا يخفى، فلا بدّ أن يكون المراد

بها هي الحرمة الوضعية الراجعة إلى عدم القبول تكون الأخبار الناهية مشتملة على من لا تقبل شهادته قطعاً.

و دعوى أنّه لا مانع من الحمل على الكراهة بالمعنى الأعمّ من الحرمة و الكراهة مدفوعة، بأنّه و إن كان يمكن ذلك بالإضافة إلى صيغة النهي، إلّا أنّ التعبير في كثيرها بما يردّ من الشهود، و ذكر بعض من يردّ مسلّماً مانع عن ذلك، فالإنصاف يقتضي ما أفاده في المتن من القول بالمنع، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه ربما يستشكل في بعض الروايات المانعة كالموثقة و المرسلة، و كذا تفسير الصدوق بالإضافة إلى مرسلة معاني الأخبار بالاشتمال على التابع قبل الأجير أو بعده، مع أنّه لا قائل معتدّ به بأنّه لا تقبل شهادة التابع، كما أفاده في الجواهر قال: و بذلك تضعف دلالة الخبرين المزبورين؛ لكون المراد بالردّ فيهما حينئذٍ الأعمّ من الردّ الواجب و المرجوح، بل قد يقوّى بقرينة خبر أبي بصير المنجبر بفتوى المتأخرين تعيين إرادة الردّ الكراهي بالمعنى الذي ذكرناه «1».

و يرد عليه مضافاً إلى ما عرفت من أنّ الكراهة الاصطلاحية لا معنى لها في الأحكام الوضعية المردّدة بين الوجود و العدم أنّ عدم وجود القائل المعتدّ به

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 85- 86.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 506

..........

______________________________

بعدم قبول شهادة التابع على فرض تحقّق الشهرة و ثبوتها لا يوجب إلّا الإعراض عن خصوص هذا الحكم، و لا يقتضي الاعراض عن الجميع، و الظاهر أنّ في تعارض الشهرتين القدماء و المتأخّرين يكون الترجيح مع الأوّل، كما حقّق في محلّه «1»، و إن كان يظهر من الجواهر الثاني.

ثمّ إنّ الظاهر أنّ المراد بالأجير بعد كونه عنواناً غير المستأجر هو الأجير

الخاصّ الذي استؤجر بجميع منافعه في مدّة معينة، و لا أقلّ بمنفعته الخاصة في تلك المدّة، و أمّا الأجير لعمل مخصوص كالخياطة و القصارة فلا منع فيه، و إلّا يلزم المحذور في كثير من الموارد سيّما إذا لم يعتبر فيه المباشرة، بل كان المستأجر عليه العمل الكلّي في الذمة، مع أنّ التعبير بالمفارقة كما في بعض الروايات لا يناسب مطلق الأجير، و أنّ جعل الأجير من مصاديق القانع مع أهل البيت، و عطفه على التابع و الخادم في مرسلة الصدوق المعتبرة المتقدّمة يؤيّد هذا المعنى، كما لا يخفى.

ثمّ إنّ الظاهر أيضاً أنّ المراد هو الأجير في حال أداء الشهادة و إقامتها، و أمّا الأجير حال التحمّل المؤدّي في حال عدم كونه أجيراً فالظاهر أنّه لا منع فيه، و يدلّ عليه الصحيحة المتقدّمة الدالّة على الجواز بعد أن يفارقه، كما لا يخفى.

______________________________

(1) راجع سيرى در اصول فقه: 16/ 556- 558.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 507

[مسألة 7 من لا يجوز شهادته لصغر أو فسق أو كفر]

مسألة 7 من لا يجوز شهادته لصغر أو فسق أو كفر إذا عرف شيئاً في تلك الحال ثمّ زال المانع و استكمل الشروط فأقام تلك الشهادة تقبل، و كذا لو أقامها في حال المانع فردّت ثمّ أعادها بعد زواله، من غير فرق بين الفسق و الكفر الظاهرين و غيرهما (1).

______________________________

(1) وقع التعرّض في هذه المسألة لأمرين:

أحدهما: انّ الصفات المعتبرة في الشاهد المتقدمة كالبلوغ و الإيمان و العدالة انّما يعتبر فيه في حال إقامته الشهادة و أدائها، سواء كانت موجودة في حال التحمّل أيضاً أم لم تكن موجودة في تلك الحال، فلو تحمّل في حال وجود المانع و زال المانع في حال الإقامة تكون شهادته

مقبولة، و ذلك لأنّ ظاهر أدلّة اعتبار تلك الصفات اعتبارها عند الإقامة، و مقتضى إطلاقها أنّه لا فرق بين الوجود حال التحمّل أيضاً و بين عدمه، مضافاً إلى خصوص ما ورد من ذلك في الصغير و الكافر و غيرهما.

مثل صحيحة صفوان بن يحيى، أنّه سأل أبا الحسن (عليه السّلام) عن رجل أشهد أجيره على شهادة ثمّ فارقه، أ تجوز شهادته بعد أن يفارقه؟ قال: نعم. قلت: فيهوديٌّ أشهد على شهادة ثمّ أسلم أ تجوز شهادته؟ قال: نعم «1»، و غيرها من الروايات التي ادّعيت استفاضتها بل تواترها «2»، نعم في صحيحة جميل قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن نصرانيّ أشهد على شهادة ثمّ أسلم بعد أ تجوز شهادته؟ قال: لا «3».

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 41 ح 138، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 387، كتاب الشهادات ب 39 ح 2.

(2) رياض المسائل: 13/ 304، جواهر الكلام: 41/ 86.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 254 ح 661، الاستبصار 3/ 19 ح 56، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 389، كتاب الشهادات ب 39 ح 7.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 508

..........

______________________________

و قال صاحب الوسائل بعد نقلها: ذكر الشيخ أنّه خبر شاذّ، و حمله على التقية؛ لأنّه مذهب بعض العامة «1» إلى أن قال: و يحتمل الحمل على ما لو شهد بها في حال كفره، فلا تقبل و إن أسلم بعد، و على عدم عدالته بعد الإسلام.

ثانيهما: لو أقامها أحدهم في حال المنع فردّت الشهادة لأجل ذلك ثمّ أعادها بعد زوال المانع قبلت أيضاً، ضرورة أنّ ردّها للمانع لا ينافي قبولها بعد زواله، إذ كلّ منهما قد كان لأدلّته من غير فرق بين الفسق

و الكفر الظاهرين و غيرهما، نعم ذكر المحقّق في الشرائع: امّا الفاسق المستتر إذا أقام فردّت أي بجرحه ممّن له خبرة بباطن أمره ثمّ تاب و أعادها، فهنا تهمة الحرص على دفع الشبهة عنه؛ لاهتمامه بإصلاح الظاهر «2»، بل ربما حكي ذلك قولًا و إن كان لم يعرف قائله «3».

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 254، الاستبصار: 3/ 19.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 131.

(3) رياض المسائل: 13/ 305، جواهر الكلام: 41/ 87- 88.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 509

[مسألة 8 إذا سمع الإقرار مثلًا صار شاهداً]

مسألة 8 إذا سمع الإقرار مثلًا صار شاهداً و إن لم يستدعه المشهود له أو عليه، فلا يتوقف كونه شاهداً على الاشهاد و الاستدعاء، فحينئذٍ إن لم يتوقّف أخذ الحقّ على شهادته فهو بالخيار بين الشهادة و السكوت، و إن توقّف وجبت عليه الشهادة بالحق، و كذا لو سمع اثنين يوقعان عقداً كالبيع و نحوه أو شاهد غصباً أو جناية، و لو قال له الغريمان أو أحدهما: لا تشهد علينا فسمع ما يوجب حكماً ففي جميع تلك الموارد يصير شاهداً (1).

______________________________

(1) إذا سمع الشاهد الإقرار فقط يصير بالسّماع شاهداً من غير فرق بين أن يستدعيه المشهود له أو عليه و بين ما إذا لم يستدعه، فلا يتوقّف كونه شاهداً و متصفاً بهذا العنوان على الاستشهاد و الاستدعاء، فحينئذٍ ان لم يتوقّف أخذ الحق على شهادته و أدائه للشهادة فلا دليل على وجوب إقامته الشهادة و أدائه لها؛ لأنّ المفروض عدم الاشهاد، و عدم توقّف أخذ الحق على شهادته و سماعه للإقرار لا يوجب عليه ذلك، فهو بالخيار بين الشهادة و الآباء عن إقامتها و اختيار السكوت. و إن توقف عليها ففي المتن أنّه

وجبت عليه الشهادة بالحقّ، و قد ورد في أصل المسألة روايات متعدّدة.

مثل صحيحة ابن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء شهد و إن شاء سكت «1».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 381 ح 2 و ص 382 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 285 ح 678، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 317، 318، كتاب الشهادات ب 5 ح 1 و 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 510

..........

______________________________

و صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء شهد و إن شاء سكت. و قال: إذا أشهد لم يكن له إلّا أن يشهد «1».

و قد روى في الوسائل عن محمد بن مسلم ما يتجاوز عن أربع روايات بهذا المضمون في باب واحد، و في بعضها استثناء ما «إذا علم مَن الظالم فيشهد» و زيادة «و لا يحلّ له إلّا أن يشهد» «2».

و لكنّ الظاهر أنّ الروايات الدالّة على الخيار بين الشهادة و السكوت محمولة على صورة عدم توقّف أخذ الحق على الشهادة، و إلّا فمقتضى قوله تعالى وَ أَقِيمُوا الشَّهٰادَةَ لِلّٰهِ «3» بناء على كون المراد وجوب إقامة الشهادة مطلقا لا خصوص الشهادة عقيب الاشهاد مطلقاً أو خصوص الطلاق، كما ربما يؤيّد الأخير وقوعه عقيب قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «4»، و الروايات الكثيرة الدالّة على وجوب الإقامة «5» الوجوب مطلقا، و انّها بمنزلة الأمانة التي يجب على من عنده أداؤها، و إن لم يستأمنه إيّاها صاحبها، نحو الثوب الذي أطارته الريح عند غير صاحبه، و

يومي إليه استثناء صورة العلم بالظالم في جملة من الروايات التي منها ما عرفت، و ظاهر إطلاق كثير من الروايات المتقدّمة وجوب الشهادة عند

______________________________

(1) الكافي: 7/ 381 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 285 ح 679، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 318، كتاب الشهادات ب 5 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 381 ح 3، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 318، كتاب الشهادات ب 5 ح 4.

(3) الطلاق 65: 2.

(4) الطلاق 65: 2.

(5) راجع وسائل الشيعة: 27/ 309- 314، كتاب الشهادات ب 1 و 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 511

..........

______________________________

الإشهاد مطلقاً و لو لم يتوقف أخذ الحق عليها، و عليه ففي المسألة تفصيل بين صورة الإشهاد و عدمه، كما عليه جماعة من قدماء الفقهاء «1»، بل لعلّه يظهر من صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «2».

هذا، و مثل الإقرار ما لو سمع الشاهد أنّهما يوقعان عقداً، أو شاهد غصباً أو جناية، أو قال له الغريمان أو أحدهما: لا تشهد علينا فسمع ما يوجب حكماً، ففي جميع تلك الموارد يصير شاهداً.

______________________________

(1) كالشيخ في النهاية: 330، و حكاه عن الإسكافي في مختلف الشيعة: 8/ 521- 522، و القاضي في المهذّب: 2/ 561، و أبي الصلاح الحلبي في الكافي في الفقه: 436، و ابن زهرة في غنية النزوع: 441 و ابن حمزة في الوسيلة: 232.

(2) جواهر الكلام: 41/ 102.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 512

[مسألة 9 المشهور بالفسق إن تاب لتقبل شهادته لا تقبل حتى يستبان منه الاستمرار على الصلاح و حصول الملكة الرادعة]

مسألة 9 المشهور بالفسق إن تاب لتقبل شهادته لا تقبل حتى يستبان منه الاستمرار على الصلاح و حصول الملكة الرادعة. و كذا الحال في كلّ مرتكب للكبيرة بل الصغيرة، فميزان قبول الشهادة هو العدالة

المحرزة بظهور الصّلاح، فإن تاب و ظهر منه الصّلاح يحكم بعدالته و تقبل شهادته (1).

______________________________

(1) غير خفيّ أنّ المشهور بالفسق إن تاب لغرض قبول شهادته لأنّ شهادة الفاسق غير مقبولة لا تقبل شهادته بمجرّد التوبة، بل لا بُدّ أن يتحقّق فيه الملكة الرادعة و الاستمرار على الصلاح بالاجتناب عن ترك الواجبات و الإتيان بالمحرمات، الذي يمنع عن تحقّق العدالة، و حكى المحقّق في الشرائع عن الشيخ أنّه قال: يجوز أن يقول أي الحاكم للفاسق-: تب أقبل شهادتك «1»، «2»، و لكن في الجواهر: إنّ التوبة لقبول الشهادة ليست توبة حقيقية، بل يمكن أن تكون هي فسقاً آخر باعتبار منافاة ذلك للإخلاص المعتبر فيها «3».

هذا، و لكنّ الظاهر أنّ المنافاة للإخلاص مانعة عن كونها هي التوبة المأمور بها، و لا تستلزم كونها فسقاً إلّا أن يقال: بأنّ لازم ذلك عدم الإتيان بالمأمور به على وجهه و هو يستلزم ذلك، فتدبّر جيّداً.

و كيف كان فمثل هذه التوبة لا يوجب قبول الشهادة، و مقتضى الإطلاق عدم القبول و لو كانت الشهرة بالإضافة إلى فسق واحد و لو مرّة واحدة، و من الواضح

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 131.

(2) المبسوط: 8/ 179 و كذا قال به ابن سعيد في الجامع للشرائع: 541.

(3) جواهر الكلام: 41/ 110.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 513

..........

______________________________

عدم منافاة بعض صوره لبقاء الملكة الرادعة، إلّا أن يقال: بأنّ المراد بالمشهور بالفسق من لا يكون فيه الملكة الرادعة لارتكابه معاصي متعدّدة، أو المعصية الواحدة أزيد من مرّة، كما يؤيّده عطف المرتكب للكبيرة عليه مرّة واحدة، مع أنّ ارتكاب الكبيرة كذلك لا يوجب زوال الملكة على تقديرها، و تتحقّق العدالة بمجرّد التوبة

عنها حقيقة، و يمكن أن يقال في وجه كلام الشيخ (قدّس سرّه): إنّ العدالة عنده كما تقدّم «1» في البحث عن حقيقة العدالة لا تكون عبارة عن الملكة الراسخة المشهورة في معنى العدالة، بل أمر آخر يتحقّق بمجرّد التوبة، و لا يكون كلامه مشعراً بأنّ الغاية الحقيقية للتوبة هي قبول الشهادة، خصوصاً مع أنّ قبول الشهادة مترتّب على التوبة الواقعية، كالصلاة الاستيجارية التي يترتّب استحقاق الأجرة على الإتيان بالعمل المستأجر عليه، و هي الصلاة مثلًا بعنوان العبادة و قصد القربة، و قد تكلّمنا في كتابنا «القواعد الفقهية» «2» في عدم المنافاة بين أخذ الأُجرة و الإتيان بالواجب، سواء كان الواجب هو الوفاء بعقد الإجارة أو عنوان العمل بنفسه.

و بالجملة: فقد ذكر في المتن: إنّ الميزان في قبول الشهادة هي العدالة المحرزة بظهور الصلاح، مع انّك عرفت «3» أنّ الشارع جعل حسن الظاهر في باب العدالة أمارة شرعية، كما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور «4» المشهورة في باب العدالة،

______________________________

(1) في ص 462.

(2) القواعد الفقهية: 1/ 538- 544.

(3) في ص 462.

(4) تقدمت في ص 461.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 514

..........

______________________________

و معنى كونها أمارة شرعية أنّه مع ثبوتها لا معنى للرجوع إلى استصحاب الفسق؛ لأنّه لا مجال للأصل مطلقاً مع وجود الأمارة، كما أنّه لا تحتاج إلى حصول الظنّ الشخصي، بل هي حجّة و لو مع الظن الشخصي بالخلاف.

و حينئذٍ فمراد المتن إن كان لزوم إحراز العدالة الواقعية فيرد عليه أنّه لا دليل عليه، و إن كان وجود ما يكشف عنها شرعاً فلا مانع منه، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 515

[القول فيما به يصير الشاهد شاهداً]

اشارة

القول فيما به يصير الشاهد شاهداً

[مسألة 1 الضابط في ذلك العلم القطعي و اليقين]

مسألة 1 الضابط في ذلك العلم القطعي و اليقين، فهل يجب أن يكون العلم مستنداً إلى الحواس الظاهرة فيما يمكن كالبصر في المبصرات و السمع في المسموعات و الذوق في المذوقات و هكذا، فإذا حصل العلم القطعي بشي ء من غير المبادئ الحسيّة حتى في المبصرات من السماع المفيد للعلم القطعي لم يجز الشهادة، أم يكفي العلم القطعي بأيّ سبب كالعلم الحاصل من التواتر و الاشتهار؟ وجهان، الأشبه الثاني، نعم يشكل جواز الشهادة فيما إذا حصل العلم من الأُمور غير العادية، كالجفر و الرمل و إن كان حجّة للعالم (1).

______________________________

(1) قال المحقّق في الشرائع: و الضابط العلم لقوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ «1»، و مستندها إمّا المشاهدة، أو السماع، أو هما إلى آخره «2».

______________________________

(1) سورة الإسراء 17: 36.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 132.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 516

..........

______________________________

أقول: قبل ذكر الآيات و الكتاب في هذا المجال ينبغي التعرّض لأُمور مرتبطة بهذا المقال، و هي:

1- انّ اصطلاح الشهيد و الشاهد اصطلاح قرآني، و إن كانت الروايتان المنقولتان عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) مشتملتين على ذكر البيّنة، مثل قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «1» و قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): البيّنة على من ادّعى، و اليمين على من ادّعي عليه «2».

و أمّا القرآن فهو مشتمل على مثل قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ «3»، و غيره ممّا وردت فيه هذه العبارة.

2- انّ الشاهد مشتق من الشهود في مقابل الغيب، و الشاهد في مقابل الغائب، و الغيب المطلق هو البارئ تعالى،

فالشاهد من يكون حاضراً و لا يكون حاجز بينه و بين الواقعة إلّا مثل الحواس الظاهرة بتفصيل يأتي إن شاء اللّٰه تعالى.

3- قد عرفت «4» أنّ الاتصاف بالشهادة لا يتوقّف على الاشهاد، بل يجتمع حتى مع النهي عن الشهادة.

إذا عرفت ذلك فاعلم انّه ذكر في المتن: إنّ الضابط في ذلك العلم القطعي و اليقين للكتاب و السّنة.

أمّا الكتاب فمثل قوله تعالى وَ لٰا تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، و قد استدلّ به

______________________________

(1) تقدم في ص 135.

(2) تقدم في ص 136.

(3) سورة البقرة 2: 282.

(4) في ص 509.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 517

..........

______________________________

في الأُصول «1» في باب أنّ الأصل في المظنة عدم الحجّية و عدم الاعتبار، و ما خرج من هذا الأصل فإنّما خرج بدليل قطعي، و التحقيق الزائد موكول الى ذلك العلم.

و أمّا السنّة فروايات متعدّدة، مثل:

رواية الحسين بن سعيد المضمرة قال: كتب إليه جعفر بن عيسى: جعلت فداك جاءني جيران لنا بكتاب زعموا أنّهم أشهدوني على ما فيه، و في الكتاب اسمي بخطّي قد عرفته و لست أذكر الشهادة، و قد دعوني إليها، فأشهد لهم على معرفتي أنّ اسمي في الكتاب و لست أذكر الشهادة؟ أو لا تجب الشهادة عليّ حتى أذكرها كان اسمي في الكتاب أو لم يكن؟ فكتب: لا تشهد «2».

و رواية عليّ بن غياث، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تشهدنّ بشهادة حتى تعرفها كما تعرف كفّك «3».

و رواية السكوني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله): لا تشهد بشهادة لا تذكرها، فإنّه من شاء كتب كتاباً و نقش خاتماً «4».

و قوله

(صلّى اللّٰه عليه و آله) و قد سُئل عن الشهادة: هل ترى الشمس على مثلها فاشهد أو دع «5».

______________________________

(1) سيرى در اصول فقه: 10/ 375 و ما بعدها.

(2) الكافي: 7/ 382 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 259 ح 684، الاستبصار 3/ 22 ح 67، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 322، كتاب الشهادات، ب 8 ح 2.

(3) الكافي: 7/ 383 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 259 ح 682، الاستبصار 3/ 21 ح 65، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 322، كتاب الشهادات، ب 8 ح 3.

(4) الكافي: 7/ 383 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 259 ح 683، الاستبصار 3/ 22 ح 66، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 323، كتاب الشهادات، ب 8 ح 4.

(5) عوالي اللئالي: 3/ 528 ح 1، و عنه مستدرك الوسائل: 17/ 422، كتاب الشهادات ب 15 ح 21733.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 518

..........

______________________________

لكن في مقابلها صحيحة عمر بن يزيد المروية في الكتب الأربعة، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يشهدني على شهادة فأعرف خطّي و خاتمي، و لا أذكر من الباقي قليلًا و لا كثيراً، قال: فقال لي: إذا كان صاحبك ثقة و معه رجل ثقة فاشهد له «1».

فإن كان المراد حصول العلم من هذه الثلاثة التي هي عبارة عن خطّه و خاتمه و كون صاحبه ثقة و الرجل الآخر الذي معه ثقة، كما ربما يؤيّده التعبير بكون الشاهد الآخر ثقة، نظراً إلى أنّ المراد من الوثاقة هي العدالة؛ لأنّها الشرط الرابع المعتبر في الشاهد كما عرفت «2». و عليه يصير قرينة على أنّ المراد بكون الصاحب ثقة هي العدالة أيضاً، فاجتماع عدلين مع وجود خطّه و

خاتمه يفيد العلم غالباً، و عليه فلا تعارض بين الطائفتين، بل الجمع الدلالي العقلائي المخرج عن موضوع المتعارضين موجود، فيخرج عن الاخبار العلاجية التي موضوعها المتعارضان عند العرف و العقلاء، كما لا يخفى.

و إن لم يكن المراد خصوص صورة العلم بل أعمّ منها و من صورة عدم العلم فتارة يقال: بأنّ الصحيحة معرَض عنها نظراً إلى أنّ اعتبار كون المدّعى أيضاً ثقة لم يقل به من الجماعة غير والد الصدوق رحمهما اللّٰه تعالى «3»، فالعامل بها على هذا نادر كما أفاده في الرياض «4»،

______________________________

(1) الكافي: 7/ 382 ح 1، الفقيه: 3/ 43 ح 145، تهذيب الأحكام: 6/ 258 ح 681، الاستبصار 3/ 22 ح 68 و عنها وسائل الشيعة: 27/ 321، كتاب الشهادات ب 8 ح 1.

(2) في ص 460.

(3) حكى عنه العلامة في مختلف الشيعة: 8/ 530 مسألة 92.

(4) رياض المسائل: 13/ 380.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 519

..........

______________________________

و أُخرى لا يقال بذلك، لا إشكال على الأوّل في لزوم طرح الصحيحة؛ لأن إعراض المشهور عن رواية و لو كانت في عليا درجة الصحّة قادح في اعتبارها، كما ذكرنا مراراً.

و أمّا على الثاني يشكل الأمر نظراً إلى أنّ التعارض بينها و بين الروايات المتقدّمة الدالّة على اعتبار العلم تعارض العموم من وجه؛ لاختصاص تلك الروايات بصورة العلم و اختصاص هذه الصحيحة بما إذا كان المدّعى ثقة و يكون معه شاهد آخر كذلك، و مورد الاجتماع صورة وجود هذين الشرطين و عدم تحقق العلم، و لا مجال لدعوى تقدّم الروايات المتقدّمة لأجل الكثرة، أو لأجل أنّ الشهرة بين المتأخّرين أرجح من الشهرة بين القدماء كما في الجواهر «1»، و ذلك

لأنّ الكثرة لا تكون مرجّحة، و أرجحيّة الشهرة المتأخّرة عن الشهرة المتقدّمة ممنوعة، فاللازم أن يقال بعد عدم ثبوت الشهرة بين القدماء أصلًا: بأنّ المرجّح حينئذٍ موافقة الكتاب التي أشار إليها المحقّق في عبارته المتقدّمة.

بقي في هذه المسألة أمران:

أحدهما: ما أفاده في المتن من انّ المبصرات و المسموعات و المذوقات و مثلها إن أدركت بالحواس الظاهرة المرتبطة بها فلا إشكال في الاكتفاء به في مقام الشهادة؛ لأنّها القدر المتيقّن من صورة العلم و إن أدركت بالحواس الظاهرة غير المرتبطة، كما إذا سمع المبصر و هكذا، ففي الاكتفاء به وجهان، جعل في المتن الأشبه الثاني.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 124، و كذا في رياض المسائل: 13/ 379.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 520

..........

______________________________

و الوجه فيه أنّه بعد تحقّق العلم بالحواس الظاهرة لا مجال للخدشة في اعتباره و كفايته في الشهادة، و إن كان بسبب غير الحاسة المرتبطة، و أمّا إذا حصل العلم من الأُمور غير العادية كالجفر و الرمل فهو و إن كان حجّة بالنسبة إلى العالم؛ لعدم الفرق في حجّية القطع الطريقي بين سبب و سبب، إلّا أنّ كفايته في مقام الشهادة مشكلة بل ممنوعة؛ لانصراف الأدلّة إلى اعتبار العلم الحاصل من الأُمور العادية، كالاكتفاء بذلك في مقام الإفتاء، كما لا يخفى.

ثانيهما: انّا و إن ذكرنا مراراً أنّ العرف و العقلاء يعاملون مع الظنّ المتاخم للعلم أي الاطمئنان معاملة القطع و اليقين الذي هو حجّة عقلية، إلّا أنّ الظاهر عدم اعتباره في مقام الشهادة لظهور الأدلّة في خلافه.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 521

[مسألة 2 التسامع و الاستفاضة إن أفادا العلم تجوز الشهادة بهما لا لمجرّد الاستفاضة بل لحصول العلم]

مسألة 2 التسامع و الاستفاضة إن أفادا العلم تجوز الشهادة

بهما لا لمجرّد الاستفاضة بل لحصول العلم. و حينئذٍ لا ينحصر في أُمور خاصّة كالوقف و الزوجيّة و النسب و الولاء و الولاية و نحوها، بل تجوز في المبصرات و المسموعات إذا حصل منهما العلم القطعي، و إن لم يفدا علماً و إنّما أفادا ظنّاً و لو متاخماً للعلم، و لا تجوز الشهادة بالمسبب، نعم تجوز الشهادة بالسّبب بأن يقول: إنّ هذا مشهور مستفيض، أو إنّي أظنّ ذلك أو من الاستفاضة (1).

______________________________

(1) قال في محكي الدّروس: و الضابط في تحمّل الشهادة العلم بالسّماع أو الرؤية أو بهما، فيكفي الاستفاضة في تسعة: النّسب، و الملك المطلق، و الوقف، و النكاح، و الموت، و الولاية، و الولاء، و العتق، و الرقّ، و المراد بها اخبار جماعة يتاخم قولهم العلم، و قيل: يحصّله. و قيل: يكفي شاهدان بناء على اعتبار الظنّ «1».

و حكي عن الإسكافي «2» الاقتصار فيه على النسب خاصّة، و عن الإصباح «3» ثلاثة: النسب، و الموت، و الملك المطلق، و في النافع «4» و التبصرة «5» أربعة بحذف الموت و زيادة النكاح و الوقف، و في محكي المبسوط «6» و جمع من الكتب

______________________________

(1) الدروس الشرعية: 2/ 134.

(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 550 مسألة 109.

(3) إصباح الشيعة: 531.

(4) المختصر النافع: 416.

(5) تبصرة المتعلّمين: 183.

(6) المبسوط: 8/ 180- 183.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 522

..........

______________________________

الأُخرى «1» سبعة بزيادة العتق و ولاية القاضي، و عن جامع للشرائع الولاء بدل الولاية «2»، و عن التحرير «3» ثمانية بزيادة الولاء، و عن غيره «4» زيادة تاسع و هو الرّق، و في شرح الصيمري عشرة بزيادة العدالة، بل قال: هذا هو المحقّق

من فتاوى الأصحاب «5».

بل قيل «6»: بزيادة سبعة عشر إليها، و هي العزل، و الرضاع، و تضرّر الزوجة، و التعديل، و الجرح، و الإسلام، و الكفر، و الرشد، و السّفه، و الحمل، و الولادة، و الوصاية، و الحرّية، و اللوث، و الغصب، و الدين، و الإعسار. و كيف كان فقد اتّفق الجميع على ثبوت النسب به.

أقول: لا إشكال بمقتضى الروايات المتقدّمة في ذيل المسألة السابقة في أنّه مع حصول العلم منها تجوز الشهادة على طبقها، لا لأجل تحقّق الاستفاضة بل لحصول العلم، و قد عرفت أنّه لا فرق في حصول العلم بين سبب و سبب إلّا بالإضافة إلى الأُمور غير العادية، كالجفر، و الرمل، و النوم و مثلها، و أمّا مع عدم حصول العلم بل إفادتها الظنّ و إن كان متاخماً للعلم ففي جواز الشهادة بها و لو في خصوص الأُمور التسعة المذكورة في عبارة الدروس إشكال بل

______________________________

(1) كالوسيلة: 233، و قواعد الأحكام: 3/ 501، و إرشاد الأذهان: 2/ 160، و اللمعة الدمشقية: 54، و كشف اللثام 10/ 344.

(2) الجامع للشرائع: 537، و كذا في الوسيلة: 233.

(3) تحرير الأحكام: 5/ 262، الرقم 6654.

(4) كما في الدروس الشرعية على ما تقدّم آنفا.

(5) غاية المرام: 4/ 289، و قال في تلخيص الخلاف: 3/ 374: المشهور عند محققي أصحابنا أنه يثبت بالاستفاضة عشرة.

(6) القائل هو الفاضل الهندي في كشف اللثام: 10/ 346.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 523

..........

______________________________

منع؛ لعدم قيام الدليل عليه، و مجرّد عدم إمكان حصول العلم اليقيني في تلك الأُمور نوعاً فإنّه كيف يمكن العلم بتحقّق النسب مع أنّه فرع الزوجية و شرائط اللحوق متعددة، و كيف يمكن العلم

بتحقق الزوجية و هو فرع تحقق العقد الصحيح، و شرائط خاصة يحتمل عدم واحد منها أو أزيد لا يوجب عدم اعتبار العلم في مقام الشهادة و كفاية مجرّد الاطمئنان بل الظنّ في ذلك، و قد عرفت في ذيل المسألة السابقة عدم اعتبار الاطمئنان هنا و إن كان معتبراً عند العقلاء، و يعامل معه معاملة العلم في كثير من الموارد.

و كيف كان، فالظاهر أنّ ما ذكره في الدروس من كفاية الاستفاضة الظاهرة في الاستفاضة غير الموجبة للعلم، حيث جعلها في مقابل الضابط في مقام تحمّل الشهادة و هو العلم لا يساعده دليل. نعم تجوز له الشهادة بالسبب كالتعبيرات المذكورة في المتن للعلم به، و إن لم يكن له علم بالمسبّب كما لا يخفى.

ثمّ الظاهر أنّ الشياع و التسامع و الاستفاضة كلّها بمعنى واحد، فعطف الاستفاضة على التسامع ثمّ إرجاع ضمير التثنية إليهما كما في المتن ممّا لا ينبغي، و إن اقتصر في مقام التعليل على ذكر الاستفاضة فقط.

ثمّ إنّا قد تكلّمنا في كتاب القضاء في حجّية الشياع و عدمها، و ذكرنا هناك «1» أنّ عمدة الدليل على الحجّية قصة إسماعيل بن الإمام الصادق (عليه السّلام) و دفعه الدراهم لشارب الخمر، و ناقشنا في الاستدلال بها عليها «2»، و نضيف هنا أنّه يوجد في الروايات مرسلة أُخرى لعلّه يمكن أن يستفاد منها الحجّية، و هي:

______________________________

(1) في ص 56- 57.

(2) في ص 56- 57.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 524

..........

______________________________

مرسلة يونس بن عبد الرحمن، عن بعض رجاله، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: سألته عن البيّنة إذا أُقيمت على الحقّ، أ يحلّ للقاضي أن يقضي بقول البيّنة؟ فقال: خمسة أشياء يجب

على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم: الولايات، و المناكح، و الذبائح، و الشهادات، و الأنساب، فإذا كان ظاهراً مأموناً جازت شهادته، و لا يُسأل عن باطنه «1».

و يرد عليها أوّلًا: انّها مرسلة غير صالحة للحجّية، و ثانياً: انّها تدلّ على أنّ ثبوت الأمارة الشرعية على العدالة المعتبرة في الشاهد كافية، و لا يعتبر العلم بالعدالة، و كون ظاهر الرجل ظاهراً مأموناً أمارة على ذلك، كما دلّت عليه صحيحة ابن أبي يعفور «2» المعروفة الواردة في بيان ماهيّة العدالة، و الأمارة التي اعتبرها الشارع على العدالة، و قد مرّ بيان الأمرين فراجع «3»، و فرق بين كفاية الأمارة الشرعية و بين أنّ الشهادة مفتقرة إلى العلم بالمشهود به، الذي هو محلّ البحث.

نعم هنا شي ء و هو أنّه يظهر من صاحب الجواهر «4» الاتفاق على كون الشياع حجة في باب النسب؛ لاشتراك جميع الأقوال المتقدّمة بل و مرسلة يونس على ذلك، فإن كان المراد ثبوت حجّيته في ذلك الباب بسبب الإجماع فبها، و إلّا فللنظر فيه مجال، و يظهر من الشرائع خلاف ذلك، حيث قال: و ما يكفي فيه السماع فالنسب

______________________________

(1) الفقيه 3/ 9 ح 29، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 392، كتاب الشهادات ب 41 ح 3.

(2) تقدمت في ص 416.

(3) في ص 461- 462.

(4) جواهر الكلام: 41/ 133.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 525

..........

______________________________

و الموت و الملك المطلق؛ لتعذّر الوقوف عليها مشاهدة في الأغلب، و يتحقّق كلّ واحد من هذه بتوالي الأخبار من جماعة لا بضمّهم قيد المواعدة، أو يستفيض ذلك حتى يتاخم العلم. ثمّ قال: و في هذا عندي تردّد «1».

و الظاهر أنّ مراده من السماع التسامع

و هو غير السماع الذي عطفه على المشاهدة، فإنّ السماع في مقابلها ما يفيد العلم من طريق السماع، كما أنّ المراد بالسّماع هنا التسامع و الشياع، كما أنّه ظهر من استدلاله عدم ثبوت الإجماع و لو في باب النّسب، و تعذّر الوقوف عليه مشاهدة مع أنّه تكفي الرؤية بالإضافة إلى النساء اللاتي تقبل شهادتهنّ في تلك الأُمور انّما هو بالنسبة إلى النسب الشرعي المعتبر فيه شرائط اللّحوق من الدخول الحلال، و عدم مضيّ أقصى الحمل و مضيّ أقلّه، و أمّا بالنسبة إلى النسب العرفي الذي يكفي في ترتّب كثير من أحكام النسب إلّا مثل التوارث فلا تعذّر فيه أصلًا.

و كيف كان فلا دليل على حجّية الشياع و لو في باب النسب، كما هو ظاهر المتن.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 133.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 526

[مسألة 3 هل تجوز الشهادة بمقتضى اليد و البيّنة و الاستصحاب و نحوها من الأمارات و الأُصول الشرعية]

مسألة 3 هل تجوز الشهادة بمقتضى اليد و البيّنة و الاستصحاب و نحوها من الأمارات و الأُصول الشرعية، فكما يجوز شراء ما في يده أو ما قامت البيّنة على ملكه أو الاستصحاب، كذلك تجوز الشهادة على الملكية. و بالجملة يجوز الاتكال على ما هو حجّة شرعية على الملك ظاهراً، فيشهد بأنّه ملك مريداً به الملكيّة في ظاهر الشرع؟ وجهان، أوجههما عدم الجواز إلّا مع قيام قرائن قطعية توجب القطع. نعم، تجوز الشهادة بالملكية الظاهرية مع التصريح به بأن يقول: هو ملك له بمقتضى يده أو بمقتضى الاستصحاب لا بنحو الإطلاق، و وردت رواية بجواز الشهادة مستنداً إلى اليد و كذا الاستصحاب (1).

______________________________

(1) في جواز الشهادة بمقتضى اليد و البيّنة و الاستصحاب أو نحوها من الأمارات الشرعية و كذا الأُصول المعتبرة، كجواز الشراء مع وجود

شي ء من هذه الأدلّة وجهان. و محلّ البحث ما إذا أراد الشهادة على الملكية المطلقة، و أمّا بالملكية الظاهرية المستندة إلى حجّة شرعية فلا مانع لها؛ لوجود العلم بثبوت الحجّة الشرعية الظاهرية، و إن لم يكن له علم بالملكية الواقعية التي ينصرف إليها الملك المطلق.

قد ذكر في المتن: أنّ أوجه الوجهين عدم الجواز إلّا مع قيام قرائن قطعية توجب القطع، و لعلّ الوجه في الأوجهية ما عرفت «1» من أنّ الضابط فيما به يصير الشاهد شاهداً العلم لدلالة الكتاب و السّنة عليه، مضافاً إلى أنّ الشاهد بمعنى الحاضر، و قد تنزّلنا إلى كلّ من يعلم و لو من غير الحواسّ المرتبطة، و أمّا من لا يكون له علم فلا يصدق عليه الشاهد، و الأُمور المذكورة من اليد و البيّنة و الاستصحاب

______________________________

(1) في ص 516- 520.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 527

..........

______________________________

و إن كانت معتبرة بعنوان الأمارة أو الأصل العملي إلّا أنّها لا تفيد العلم، بل لا يكون اعتبارها لأجل إفادة الظنّ الشخصي فضلًا عن العلم. امّا الاستصحاب فواضح، و أمّا غيره من اليد و البيّنة فكذلك أيضاً؛ لأنّ اعتبارهما و إن كان بعنوان الأماريّة إلّا أنّه غير مقيّد بإفادة حصول الظن الشخصي، كما قد حقّق في محلّه «1».

و عليه فالحجّية أمر و جواز الشهادة على طبقها و عدمه أمر آخر، و لا ملازمة بين المسألتين، كما أنّ حجية اليد و البيّنة في نفسهما أمر و تقدّم البيّنة على اليد باعتبار انّ بيّنة المدّعى مقدّمة على يمين المنكر أمر آخر.

نعم هنا رواية أشار إليها في المتن تدلّ على الخلاف، و هي رواية حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّٰه

(عليه السّلام) قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنّه له؟ قال: نعم. قال الرجل: أشهد أنّه في يده و لا أشهد انّه له فلعلّه لغيره؟ فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): فلعلّه لغيره فمن أين جاز لك أن تشتريه و يصير ملكاً لك؟ ثمّ تقول بعد الملك: هو لي و تحلف عليه، و لا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟ ثمّ قال أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام): لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق «2».

و يظهر من الجواهر احتمالات لحمل الخبر على ما لا يخالف القاعدة، عمدتها ترجع إلى أنّ المراد من الشهادة ليست الشهادة عند الحاكم في مورد التخاصم التي يختلف الحكم بإطلاقها، بل المراد منها هي النسبة بأنّه له. قال: بل ظاهر قوله (عليه السّلام) في الآخر: «لو لم يجز» إلى آخره أو صريحه كون العمل على ملك ذي اليد الذي

______________________________

(1) القواعد الفقهية للمؤلف: 1/ 375- 385 و 501- 503.

(2) الكافي: 7/ 387 ح 1، الفقيه: 3/ 31 ح 92، تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 695، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 292، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 25 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 528

..........

______________________________

لا منازع له، لا الشهادة التي ذكرناها، فإنّه لا مدخلية لسوق المسلمين فيها، بل الشهادة بالواقع الذي يعلمه لا ينافي قيام السوق، و لا يتوقّف قيامه على الكذب و التدليس «1».

مع أنّه لو جازت الشهادة مستندة إلى اليد بالملك المطلق في صورة التنازع و التخاصم، لا

تزيد هذه الشهادة للحاكم أمراً زائداً على وجدان كون المال تحت يد المنكر، الذي يكون إنكاره نوعاً لأجل كونه ذا اليد، مع أنّ الغرض من البيّنة إفادة شي ء زائد على التخاصم و التنازع، كما لا يخفى.

أقول: لا مجال للاتكال على رواية واحدة في مقابل القاعدة الكلية التي عرفت عدم تخصيصها بمثل الشياع على النسب، مع اتفاق الجلّ لو لا الكلّ عليه.

و إن شئت قلت: إنّ الأدلّة المتقدّمة «2» الدالّة على اعتبار العلم بالمشهود به للشاهد قرينة على أنّ المراد بالشهادة في هذه الرواية غير الشهادة في باب القضاء المبحوث عنه في المقام، خصوصاً مع أنّ قياس جواز الشهادة بجواز الشراء باطل. فأيّ ملازمة بين جواز الشراء المترتّب على الحكم بالملكية ظاهراً و جواز الشهادة المترتّب على العلم بالمشهود به، كما لا يخفى.

فانقدح أنّه لا مجال للاتّكال على الرواية في جواز الشهادة على طبق اليد، هذا مع أنّه حكي عن الشيخ في العُدّة أنّه عملت الطائفة بما رواه حفص و .. فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه «3».

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 144.

(2) في ص 516- 517.

(3) عدّة الأُصول: 1/ 149- 150.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 529

..........

______________________________

مع أنّه في السند على ما في التهذيب «1» القاسم بن محمّد، و في نقل الكليني «2» القاسم بن يحيى، و لم يرد في شي ء منهما توثيق، غاية الأمر وقوع الثاني في اسناد كتاب كامل الزيارات «3»، فهو موثَّق بالتوثيق العام، و لا يكفي هذا الأمر هنا للترديد.

ثمّ إنّ هنا رواية ربما يتوهم دلالتها على جواز الشهادة مستنداً إلى الاستصحاب، و قد جعلها في الوسائل روايات ثلاثاً أوردها في باب واحد «4»،

و تبعه بعض الأعلام، غاية الأمر أنّه جعل واحدة منها شاهدة للجمع بين الأخريين «5»، مع أنّها في الحقيقة رواية واحدة مع الاختلاف في السند، و في الاشتمال على جميع السؤالات و بعضها و في الجواب.

و هي أنّه قال معاوية بن وهب: قلت لأبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): الرجل يكون في داره، ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة و يدع فيها عياله، ثمّ يأتينا هلاكه و نحن لا ندري ما أحدث في داره، و لا ندري ما أحدث (حدث خ ل) له من الولد، إلّا أنّا لا نعلم أنّه أحدث في داره شيئاً و لا حدث له ولد، و لا تقسم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان بن فلان، مات و تركها ميراثاً بين فلان و فلان، أو نشهد على هذا؟ قال: نعم.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 695، و كذا في طريق الصدوق إلى سليمان بن داود المنقري في مشيخة الفقيه.

(2) الكافي: 7/ 387 ح 1.

(3) كامل الزيارات: 39، 167، 289 و ....

(4) وسائل الشيعة: 27/ 336، كتاب الشهادات ب 17.

(5) مباني تكملة المنهاج: 1/ 114 115.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 530

..........

______________________________

قلت: الرجل يكون له العبد و الأمة فيقول: أبق غلامي أو أبقت أمتي فيؤخذ (فيوجد خ ل) بالبلد فيكلّفه القاضي البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم يبعه و لم يهبه، أ فنشهد على هذا إذا كلّفناه، و نحن لم نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ فقال: كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم تشهد به «1».

و في بعضها في الجواب عن السؤال

الأخير و جواز الشهادة على هذا إذا كلّفناه «قال: نعم» «2»، و في بعضها «اشهد بما هو علمك»، و فيه: «إنّ ابن أبي ليلى يحلفنا الغموس، فقال: احلف إنّما هو على علمك» «3».

و مع ملاحظة ما ذكرنا من اتحاد الروايات الثلاث لم يعلم أنّ جواب الإمام (عليه السّلام) هو جواز الشهادة مطلقاً أو بالمقدار المعلوم، فلا يجوز الاتكال عليها في حكم مخالف للقاعدة، خصوصاً مع أنّ ما يدلّ على الجواز إنّما يدلّ عليه في صورة التكليف الظاهرة في صورة الاضطرار.

ثمّ إنّه ظهر ممّا ذكرنا أنّ المراد من الرواية الواردة في المتن ليست رواية واحدة جامعة للحكم بجواز الشهادة مستنداً إلى اليد و إلى الاستصحاب، بل المراد من الرواية جنسها الصادق على أزيد من واحدة، فلا منافاة بين أن تكون الرواية التي توهّمت دلالتها على الجواز في اليد غير الرواية التي توهّمت دلالتها على الجواز في الاستصحاب.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 387 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 262 ح 698، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 336، كتاب الشهادات ب 17 ح 2.

(2) تهذيب الأحكام: 7/ 237 ح 1035، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 337، كتاب الشهادات ب 17 ح 3.

(3) الكافي: 7/ 387 ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 262 ح 696، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 336، كتاب الشهادات ب 17 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 531

[مسألة 4 يجوز للأعمى و الأصم تحمّل الشهادة و أداؤها إذا عرفا الواقعة، و تقبل منهما]

مسألة 4 يجوز للأعمى و الأصم تحمّل الشهادة و أداؤها إذا عرفا الواقعة، و تقبل منهما، فلو شاهد الأصمّ الأفعال جازت شهادته فيها، و في رواية: «يؤخذ بشهادته في القتل بأوّل قوله لا الثاني» و هي مطروحة، و لو سمع الأعمىٰ و عرف

صاحب الصوت علماً جازت شهادته، و كذا يصح للأخرس تحمّل الشهادة و أداؤها، فان عرف الحاكم إشارته يحكم، و إن جهلها اعتمد فيها على مترجمين عدلين، و تكون شهادته أصلًا و يحكم بشهادته (1).

______________________________

(1) يجوز للأعمى و الأصم تحمّل الشهادة و أداؤها إذا عرفا الواقعة و تقبل منهما؛ لأنّ فقدان حسّ من الحواس الظاهرة لا يوجب إلّا الممنوعية عن الإدراك بسبب تلك الحاسّة لا مطلقاً، و عليه فلو شاهد الأصمّ الأفعال مثل القتل جازت شهادته فيها لأنّه من الأفعال، و يكفي فيها المشاهدة القائمة بالبصر، كما أنّه لو سمع الأعمىٰ كاملًا و عرف صاحب الصوت كذلك تجوز له الشهادة به لتقومه بالسّماع، و الأعمى لا يكون فاقداً لهذه الحاسّة.

هذا، و في رواية جميل قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن شهادة الأصمّ في القتل؟ فقال: يؤخذ بأوّل قوله و لا يؤخذ بالثاني «1»، و لكن هذا التفصيل مع أنّه لا يناسب الأصمّ بل لعلّه مناسب لغير البالغ كما تقدّم «2» في رواية واردة لشهادة غير البالغ

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 254 ح 662، الكافي: 7/ 400 ح 1 و 2، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 336، كتاب الشهادات ب 42 ح 3.

(2) في ص 444- 445.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 532

..........

______________________________

بالقتل غير معمول به، بل كما قال المحقّق في الشرائع: و هي نادرة «1»، و لم يحك القول به إلّا من الشيخ في النهاية «2» و تلميذه القاضي «3» و ابن حمزة «4».

و كذلك يصحّ للأخرس تحمّل الشهادة و أداؤها، أمّا التحمّل فواضح، و أمّا الأداء فإن عرف الحاكم إشارته من دون إجمال فيها لديه يحكم على

طبقها بلا إشكال، و إن لم يعرف اعتمد فيها على مترجمين عدلين عارفين بإشارته عن علم، و قد مرّ نظيره سابقاً «5»، و الظاهر أنّ المستند الأصلي لحكم الحاكم انّما هي شهادة الأخرس، و يكون المترجمان واسطتين في ذلك، كما إذا كان الشاهد متكلِّماً باللغة الإنجليزية و الحاكم غير عارف بتلك اللغة، و مستنداً في فهم لغة الشاهد إلى المترجم، فإنّه لا يكون مدركاً لحكم الحاكم بل المدرك هو أصل الشهادة و إن كان الحاكم غير عارف.

قال المحقّق في الشرائع: و لا يكون المترجمان شاهدين على شهادته بل يثبت الحكم بشهادته أصلًا لا بشهادة المترجمين فرعاً «6»، و علّله في الجواهر بأنّ شهادته عبارة عن إشارته التي أبداها إلى أن قال: نعم لو لم تقع منه إشارة بمحضر الحاكم لم تصحّ شهادتهما، بناءً على عدم سماع شهادة الفرع مع حضور شاهد الأصل.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 132.

(2) النهاية: 327.

(3) المهذّب: 2/ 556.

(4) الوسيلة: 230.

(5) في ص 234.

(6) شرائع الإسلام: 4/ 920.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 533

..........

______________________________

و قد حكى عن النافع و الرياض ما حاصله، أنّه لو أراد أن يشهد الإنسان على الأخرس بإقراره فليشهد بالإشارة التي رآها منه دالّة عليه، و لا يقيمها بالإقرار الذي فهمه منها لاحتمال خطأه في الفهم فيتحقّق الكذب «1».

و قد أورد على هذا الكلام أوّلًا: بأنّ إشارة الأخرس كاللفظ من غيره، فيكتفى بالظاهر منها، و ثانياً: بأنّه لا ينبغي الإشكال في جواز الشهادة عليه بالإقرار بمعنى الالتزام مع القطع بالمراد من إشارته؛ لأنّك عرفت أنّ مدار الشاهد على حصول العلم، و منه يظهر الحال في الترجمة أيضاً «2».

______________________________

(1) المختصر النافع: 417، رياض المسائل: 13/

370.

(2) جواهر الكلام: 41/ 149- 150.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 535

[القول في أقسام الحقوق]

اشارة

القول في أقسام الحقوق

[مسألة 1 الحقوق على كثرتها قسمان]

مسألة 1 الحقوق على كثرتها قسمان: حقوق اللّٰه تعالى و حقوق الآدميّين، امّا حقوق اللّٰه تعالى فقد ذكرنا في كتاب الحدود: أنّ منها ما يثبت بأربعة رجال أو يثبت بثلاثة رجال و امرأتين، و منها برجلين و أربع نساء، و منها ما يثبت بشاهدين فليراجع إليه (1).

______________________________

(1) الحقوق على كثرتها قسمان: حقوق اللّٰه تعالى و حقوق الآدميين، و ليس المراد من حقوق اللّٰه هو الحقّ في مقابل الحكم الذي وقع البحث في ثبوته و عدمه، و ربّما يقال بالأوّل و أنّ الحق ما يقبل الاسقاط دون الحكم، فإنّه غير قابل للإسقاط بوجه، بل المراد منها هو الأُمور المنهيّ عنها التي عيّن اللّٰه لها حدّا، كالزنا و اللواط و السحق و شرب الخمر و أمثال ذلك، و المذكور في كتاب الحدود أنّ منها ما لا يثبت إلّا بأربعة رجال أو ثلاثة رجال و امرأتين، و منها ما يثبت برجلين و أربع نساء.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 536

..........

______________________________

و منها ما يثبت بشاهدين.

و التفصيل مذكور في كتاب الحدود، و قد بحثنا عنها فيما سبق «1»، و قد طبع بعنوان جزء من أجزاء كتاب تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، فليراجع إليه.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 115- 120، 288- 292، 330- 331، 463- 464 و غيرها.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 537

[مسألة 2 حق الآدمي على أقسام]

مسألة 2 حق الآدمي على أقسام: منها ما يشترط في إثباته الذكورة فلا يثبت إلّا بشاهدين ذكرين كالطلاق، فلا يقبل فيه شهادة النساء لا منفردات و لا منضمّات، و هل يعم الحكم أقسامه كالخلع و المباراة؟ الأقرب نعم إذا كان

الاختلاف في الطلاق، و أمّا الاختلاف في مقدار البذل فلا، و لا فرق في الخلع و المباراة بين كون المرأة مدعية أو الرجل على إشكال في الثاني (1).

______________________________

(1) حقّ الآدمي على أقسام، منها: ما يشترط في إثباته الذكورة فلا تقبل فيها شهادة النساء لا منفردات و لا منضمّات كالطلاق، و الأصل فيه قوله تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «1» الدالّ على وجوب الإشهاد عند الطلاق ذكرين عادلين، و من الواضح أنّ وجوب إشهادهما مقدّمة لأدائهما الشهادة عند الاختلاف في وقوع الطلاق و عدمه، فيدلّ بالملازمة العرفية على قبول شهادتهما في محضر الحاكم و وجود المدّعى و المنكر.

و دعوى أنّ وجوب إشهاد ذكرين عادلين لا دلالة له على ذلك، فمن الممكن وجوب الاشهاد كذلك، و أوسعية دائرة القبول أو أضيقيّتها يدفعها المتفاهم العرفي، فالآية بحسب الفهم العرفي تدلّ على الاكتفاء بذكرين عادلين، و على عدم قبول شهادة النساء في هذا الباب لا منفردات و لا منضمّات.

هذا، و يدلّ على عدم القبول روايات متكثّرة، مثل:

صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح، فقال:

______________________________

(1) سورة الطلاق 65: 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 538

..........

______________________________

تجوز إذا كان معهنّ رجل. و كان عليّ (عليه السّلام) يقول: لا أجيزها في الطلاق، الحديث «1».

و رواية إبراهيم الحارقي (الحارثي أو الخارقي خ ل) قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: تجوز شهادة النساء فيما لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليه و يشهدوا عليه، و تجوز شهادتهنّ في النكاح و لا تجوز في الطلاق، الحديث «2».

و صحيحة محمد بن مسلم قال: قال: لا تجوز شهادة النساء في الهلال، و

لا في الطلاق. و قال: سألته عن النساء تجوز شهادتهنّ؟ قال: نعم في العذرة و النفساء «3».

و رواية زرارة التي في سندها سهل بن زياد قال: سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ قال: نعم، و لا تجوز في الطلاق «4».

و رواية أبي الصباح الكناني، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قال عليّ (عليه السّلام): شهادة النساء تجوز في النكاح، و لا تجوز في الطلاق، الحديث «5».

و غير ذلك من الروايات المتعدّدة الأُخرى التي تدلّ منطوقاً أو مفهوماً على عدم قبول شهادتهنّ في الطلاق مطلقاً لا منفردات و لا منضمّات، كرواية محمد بن سنان المرويّة في العلل و عيون الأخبار بأسانيده المشتملة على

______________________________

(1) الكافي: 7/ 390 صدر ح 2، تهذيب الأحكام: 6/ 269 صدر ح 723، الاستبصار: 3/ 29 صدر ح 95، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 351، كتاب الشهادات ب 24 ح 2.

(2) الكافي: 7/ 392 ح 11، تهذيب الأحكام: 6/ 265 ح 707، الاستبصار: 3/ 24 ح 75، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 352، كتاب الشهادات ب 24 ح 5.

(3) الكافي: 7/ 391 ح 6، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 353، كتاب الشهادات ب 24 ح 8.

(4) الكافي: 7/ 391 ح 9، تهذيب الأحكام: 6/ 265 ح 706، الاستبصار: 3/ 24 ح 74، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 354، كتاب الشهادات ب 24 ح 11.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 267 ح 713، الاستبصار: 3/ 27 ح 84، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 357، كتاب الشهادات ب 24 ح 25.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 539

..........

______________________________

العلّة عن الرضا (عليه السّلام) فيما كتب إليه من العلل:

و علّة ترك شهادة النساء في الطلاق و الهلال لضعفهنّ عن الرؤية، و محاباتهنّ النساء في الطلاق، فلذلك لا تجوز شهادتهنّ إلّا في موضع ضرورة، مثل شهادة القابلة، و ما لا يجوز للرجال أن ينظروا إليه، الحديث «1».

و في محكيّ الدروس انّه ضبط الأصحاب ذلك بكلّ ما كان من حقوق الآدميّين ليس مالًا و لا المقصود به المال «2»، و في محكي كشف اللثام هو ما يطلع عليه الرجال غالباً و ما لا يكون مالًا و لا المقصود منه المال «3»، و لكن ذكر في الجواهر: لم أقف في النصوص على ما يفيده بل فيها ما ينافيه «4».

و كيف كان فلا شبهة في عدم اعتبار شهادتهنّ في الطلاق، و إن حكي عن المبسوط «5» أنّه قوّى ثبوته بشهادة النساء منضمّات، بل في محكيّ المسالك نسبته إلى جماعة «6»، و المتحقّق ما عن أبي علي من أنّه لا بأس بشهادتهنّ مع الرجال في الحدود و الأنساب و الطلاق «7»، لكنّ الكتاب و السنّة على خلافه على ما عرفت، و أمّا الخلع و المباراة فقد استقرب في المتن انّهما كالطلاق، و السرّ فيه ما هو

______________________________

(1) علل الشرائع: 508 ح 1، عيون أخبار الرضا عليه السلام: 2/ 95 ح 1، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 365، كتاب الشهادات ب 24 ح 50.

(2) الدروس الشرعية: 2/ 137.

(3) كشف اللثام: 10/ 326.

(4) جواهر الكلام: 41/ 159، و الحاكي هو السبزواري في كفاية الفقه المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 769.

(5) المبسوط: 8/ 172.

(6) مسالك الأفهام: 14/ 251.

(7) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 475، و كذا حكى فيه عن ابن أبي عقيل أنّه قال: شهادة النساء مع الرجال جائزة في

كلّ شي ء إذا كنّ ثقات ... مختلف الشيعة: 8/ 474 مسألة 74.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 540

..........

______________________________

المذكور في كتابهما من أنّهما قسمان من الطلاق و نوعان منه، خلافاً لما حكي عن الشيخ في بعض كتبه من أنّ الخلع فسخ لا طلاق «1» و إن كان يؤيّده جعل الخلع و المباراة كتاباً مستقلا بعد كتاب الطلاق، لكنّ المستفاد من جملة من الروايات «2» و من الأكثر «3» خلاف ذلك، و أنّ الخلع قسم من الطلاق.

نعم، ذلك إذا كان الاختلاف في أصل البينونة و حصول الخلع و عدمه، و أمّا إذا كان الاختلاف في مقدار البذل بعد الاتفاق على أصل الخلع فلا. نعم، في الصورة الأولى لا فرق بين أن تكون المرأة هي المدّعية أو كان الرجل مدّعياً، و إن استشكل في الثاني؛ لأنّ ادّعاء المرأة لا يكون مالًا و لا المقصود منه المال، و لا ملازمة بينه و بين المال أصلًا، ضرورة أنّه مع ثبوت الخلع لا يصل إليها المال بل يثبت عليها البذل، و هذا بخلاف ما إذا كان المدّعى هو الرجل، فانّ دعواه تلازم المال و إن لم يكن مقصوداً له بوجه.

______________________________

(1) الخلاف: 4/ 424 مسألة 3.

(2) وسائل الشيعة: 22/ 283- 287 و 289- 290، من كتاب الخلع و المباراة ب 3 و 5.

(3) المقنعة: 528، مسائل الناصريات: 351- 352 مسألة 165، المراسم العلوية: 163، غنية النزوع:

374- 375.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 541

[مسألة 3 قيل: ما يكون من حقوق الآدمي غير المالية و لم يقصد منه المال لا تقبل شهادة النساء فيها]

مسألة 3 قيل: ما يكون من حقوق الآدمي غير المالية و لم يقصد منه المال لا تقبل شهادة النساء فيها لا منفردات و لا منضمّات، و مثل

لذلك بالإسلام و البلوغ و الولاء و الجرح و التعديل و العفو عن القصاص، و الوكالة و الوصايا و الرجعة و عيوب النساء و النسب و الهلال، و ألحق بعضهم الخمس و الزكاة و النذر و الكفّارة، و الضابط المذكور لا يخلو من وجه و إن كان دخول بعض الأمثلة فيها محلّ تأمّل، و تقبل شهادتهنّ على الرضاع على الأقرب (1).

______________________________

(1) قد مرّ بيان الضابطة في محكيّ كلام الدّروس و في محكيّ كشف اللثام، لكنّ البحث في سند هذه الضابطة و الدليل عليها، و قد ذكر في الجواهر: أنّه لم يقف في النصوص على ما يفيده بل فيها ما ينافيه «1»، فاللازم ما يدلّ عليه الروايات.

فنقول: أمّا ما يدلّ على عدم قبول شهادة النساء في الهلال لا منفردات و لا منضمّات، فمثل رواية حمّاد بن عثمان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تقبل شهادة النساء في رؤية الهلال، و لا يقبل في الهلال إلّا رجلان عدلان «2».

و صحيحة العلاء، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: لا تجوز شهادة النساء في الهلال «3».

نعم في رواية داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في حديث طويل قال:

______________________________

(1) مر في ذيل المسألة السابقة.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 269 ح 724، الاستبصار: 3/ 30 ح 96، و عنهما وسائل الشيعة: وسائل الشيعة: 27/ 355، كتاب الشهادات ب 24 ح 17.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 269 ح 725، الاستبصار: 3/ 30 ح 97، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 356، كتاب الشهادات ب 24 ح 18.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 542

..........

______________________________

لا تجوز شهادة النساء في الفطر إلّا شهادة رجلين عدلين، و لا بأس

في الصوم بشهادة النساء و لو امرأة واحدة «1»، و حكى صاحب الوسائل عن الشيخ أنّه قال: الوجه في ذلك هو أن يصوم الإنسان بشهادة النساء استظهاراً و احتياطاً دون أن يكون ذلك واجباً.

و لكنّ الرواية معرض عنها باعتبار أنّه لم ينقل عن أحد الفتوى بمضمونها، فإنّ المحكيّ عن المبسوط «2» انّه أفتى بقبول الشاهد و الامرأتين في الهلال لا امرأة واحدة، و قد ادّعى في الغنية «3» الإجماع على عدم القبول.

و كيف كان فان كان اصطياد الضابطة من الموارد المتعدّدة التي دلّ الدليل على عدم قبول شهادتهنّ مطلقاً في كلّ واحد من الموارد، كالأمور المذكورة في المتن، فيرد عليه أنّه لم يقم دليل في المقام كذلك، بل قام الدليل بالإضافة إلى بعضها فقط، و إن كان المراد استفادة الضابطة من مثل الطلاق و الهلال و بعض الأمور التي دلّ الدليل على عدم اعتبار شهادتهن فيه، فيرد عليه منع جواز اصطياد القاعدة الكلية الجارية في جميع الأمور المذكورة في المتن من مثلهما، خصوصاً مع أنّ الطلاق يعتبر فيه الإشهاد على ما عرفت «4».

و كون الهلال حقّ الآدمي محل تأمّل، مضافاً إلى أنّه من الأُمور المرتبطة بعموم

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 269 ح 726، الاستبصار: 3/ 30 ح 98، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 361، كتاب الشهادات ب 24 ح 36.

(2) المبسوط: 8/ 172، و الحاكي هو صاحب جواهر الكلام: 41/ 162.

(3) غنية النزوع: 438.

(4) في ص: 537.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 543

..........

______________________________

الناس، و كثير من الناس يتصدّون للرؤية خصوصاً في أوّلي رمضان و شوّال، مع أنّه يرد على المتن أنّ ذكر عيوب النساء في عداد الأمور المذكورة غير

صحيح، فانّ عيوب النساء خصوصاً الباطنة منها مثل العفل و البرص و الجذام ممّا لا يستطيع الرجال أن ينظروا إليها، و قد دلّ الدليل على قبول شهادتهنّ بالإضافة إلى هذه الأمور.

ففي صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال إلى أن قال: تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه، الحديث «1».

و رواية عبد اللّٰه بن بكير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: تجوز شهادة النساء في العذرة، و كلّ عيب لا يراه الرجل «2».

و موثّقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليهم السّلام) أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق، و لا نكاح، و لا في حدود إلّا في الديون، و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه «3».

و يحتمل قويّاً أن تكون في الأصل «و عيوب النساء الظاهرة»، كما حكي عن أصل الوسيلة لآية اللّٰه المرحوم الأصبهاني ذلك «4»، و يؤيّده تقييد العيوب بالباطنة في

______________________________

(1) الكافي: 7/ 391 ح 8، تهذيب الأحكام: 6/ 264 ح 702، الاستبصار: 3/ 23 ح 70، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 353، كتاب الشهادات ب 24 ح 10.

(2) الكافي: 7/ 391 ح 7، تهذيب الأحكام: 6/ 271 ح 732، و عنهما، وسائل الشيعة: 27/ 353، كتاب الشهادات ب 24 ح 9.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 281 ح 773، الاستبصار: 3/ 25 ح 80، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 362، كتاب الشهادات ب 24 ح 42.

(4) لم نعثر عليه عاجلا.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 544

..........

______________________________

المسألة السادسة الآتية، التي حكم فيها بقبول شهادة

النساء و الفرق بينها و بين الظاهرة، فانتظر.

و من هذه الروايات يستفاد حكم شهادة النساء في الرّضاع و انّ شهادة النساء مقبولة فيه، كما استقربه في المتن تبعاً للمحقّق في الشرائع «1»، خلافاً لما عن الأكثر «2» من العدم، استناداً إلى مرسلة، و هي أنّه لا تقبل شهادة النساء في الرضاع «3»، و هي غير موجودة في الأُصول، فلا ينبغي توهم الانجبار فيها، كما لا يخفى.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 137.

(2) الخلاف: 6/ 257- 258 مسألة 9، المبسوط: 5/ 311، السرائر: 2/ 137، الجامع للشرائع: 543، و في السرائر: 2/ 115 و تحرير الأحكام: 5/ 268، و مسالك الأفهام: 14/ 259 نسبته إلى الأكثر.

(3) المبسوط: 8/ 172 و 175.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 545

[مسألة 4 من حقوق الآدمي ما يثبت بشاهدين، و بشاهد و امرأتين، و بشاهد و يمين المدعي، و بامرأتين و يمين المدّعى]

مسألة 4 من حقوق الآدمي ما يثبت بشاهدين، و بشاهد و امرأتين، و بشاهد و يمين المدعي، و بامرأتين و يمين المدّعى، و هو كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال كالديون بالمعنى الأعم، فيدخل فيها القرض و ثمن المبيع و السلف و غيرها ممّا في الذّمة، و كالغصب و عقود المعاوضات مطلقا، و الوصية له و الجناية التي توجب الدية، كالخطإ و شبه العمد و قتل الأب ولده و المسلم الذمي، و المأمومة و الجائفة و كسر العظام، و غير ذلك ممّا كان متعلّق الدعوى فيها مالًا أو مقصوداً منها المال، فجميع ذلك تثبت بما ذكر حتى بشهادة المرأة «1» و اليمين على الأظهر، و تقبل شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ الرّجل (2).

______________________________

(1) القسم الثاني من حقوق الآدمي ما يثبت بغير شاهدين عدلين ذكرين أيضاً، بل يثبت بشاهد و امرأتين و بشاهد

و يمين المدّعى، و بامرأتين و يمين المدّعى، و هو كلّ ما كان مالًا أو المقصود منه المال، و لا فرق في الأوّل بين الدين و العين، و قد ورد في آية الدين قوله تعالى وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ الآية «2»، كما أنّ الدين يشمل جميع الديون بالمعنى الأعم من القرض و ثمن المبيع و السّلف و غيرها ممّا في الذمّة، و العين تشمل الغصب و عقود المعاوضات مطلقاً و سائر الأمور المذكورة في المتن، كما هو المشهور «3».

و لكن بعض الأعلام (قدّس سرّه) استقرب عدم الثبوت في مثل الغصب و الوصية إليه

______________________________

(1) كذا في طبعه نشر دار التعارف في بيروت 1401، و لكن في بقية النسخ التي لاحظتها «المرأتين».

(2) البقرة 2: 282.

(3) المبسوط: 8/ 172، الجامع للشرائع: 542، شرائع الإسلام: 4/ 137، قواعد الأحكام: 3/ 499، الدروس الشرعية: 2/ 137- 138، رياض المسائل: 13/ 336، جواهر الكلام: 41/ 165- 166.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 546

..........

______________________________

و الأموال، نظراً إلى أنّه لا دليل على قيام المرأتين مقام رجل واحد في الموارد المزبورة، و مقتضى الأصل العدم، و لا وجه للتعدّي عن مورد الآية مع عدم القرينة على إلغاء الخصوصيّة، و معتبرة داود بن الحصين تدلّ على اختصاص الآية بالدين، مضافاً إلى دلالة جملة من الروايات على عدم قبول شهادتهنّ مطلقا إلّا فيما دلّ الدليل على اعتبارها «1».

أقول: امّا معتبرة داود بن الحصين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) فهي مشتملة على سؤال الراوي بعد حكمه (عليه السّلام) بالفرق بين النكاح و الطلاق، بأنّه قال: فقلت: فأنّى ذكر اللّٰه تعالى قوله

فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ؟ فقال: ذلك في الدين إذا لم يكن رجلان فرجل و امرأتان، الحديث «2».

و من الواضح أنّ الدين فيه في مقابل النكاح و الطلاق لا في مقابل الأموال الآخر، فلا دلالة لها على الاختصاص بالدين، و لو بني على الاختصاص بالمورد لكان اللازم الالتزام بالاختصاص بما إذا وقع بينهما التداين و الدين إلى أجل مسمّى، فيختص بالقرض المؤجّل إليه، مع أنّ لازمه الاختصاص بما إذا استشهد رجلين، و لا يعمّ صورة عدم الاستشهاد، و لا يقول بذلك أحد ظاهراً، فإذا بني على عدم الاختصاص بخصوص المورد فأيّ فرق بين الدين و العين على ما هو المتفاهم عرفاً، و عليه فالدليل على قبول شهادتهنّ في سائر الديون هو الدليل على القبول في سائر الموارد.

نعم، لا مجال للتعدّي إلى غير الأموال خصوصاً بعد ظهور مثل آية الطلاق في

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: 1/ 126 مسألة 100.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 281 ح 774، الاستبصار: 3/ 26 ح 81، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 360، كتاب الشهادات ب 24 ح 35.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 547

..........

______________________________

لزوم كون الشاهدين ذكرين عادلين، قال اللّٰه تعالى وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «1»، و يؤيّد ما ذكرنا مرسلة يونس، عمّن رواه قال: استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فان لم يكونا رجلين فرجل و امرأتان، فإن لم تكن امرأتان فرجل و يمين المدّعى، فإن لم يكن شاهد فاليمين على المدّعى عليه، الحديث «2».

ثمّ إنّ هنا بعض الروايات الدالّة على انحصار قبول شهادة النساء بالمنفوس و العذرة، و المراد بالأوّل الولد و بالثاني البكارة، ففي رواية عبد اللّٰه بن سنان قال: سألته عن امرأة

حضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة أ تجوز شهادتها؟ فقال: لا تجوز شهادتها إلّا في المنفوس و العذرة «3».

و الظاهر أنّ المراد شهادة المرأة وحدها و عدم انضمام الرجل و لا مثل اليمين إليها، و إلّا تكون مخالفة للكتاب المصرّح و لو في الدين بأنّه فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ الآية، و لجملة من الروايات الأُخر الدالّة على قبول شهادتهنّ في الموارد الأُخر، مثل:

صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المشتملة على قوله: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: نعم «4».

و الروايات المتكثرة الأُخر الدالّة على قبول شهادتهنّ في النكاح، و في الرجم و في غيرهما، بل ظاهر بعض الروايات قبول شهادتهنّ وحدهنّ في القتل، ففي صحيحة جميل بن دراج و محمد بن حمران، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: قلنا:

______________________________

(1) سورة الطلاق 65: 2.

(2) تقدمت في ص 148.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 270 ح 731، الاستبصار: 3/ 31 ح 105، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 318، كتاب الوصايا 23 ح و ج 27/ 357، كتاب الشهادات ب 24 ح 24.

(4) وسائل الشيعة: 27/ 351، كتاب الشهادات ب 24 قطعة من ح 2، و تقدمت صدرها في ص 537- 538.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 548

..........

______________________________

أ تجوز شهادة النساء في الحدود؟ فقال: في القتل وحده، إنّ علياً (عليه السّلام) كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم «1».

و بالجملة: لا مجال لاحتمال اختصاص قبول شهادتهنّ بالمنفوس و العذرة.

فانقدح صحّة ما هو المشهور و تبعه المتن و عدم تمامية ما استقربه بعض الأعلام (قدّس سرّه) من عدم الثبوت في غير الدين.

ثمّ إنّه قد تقدّم

في كتاب القضاء في بحث «القول في الشاهد و اليمين» أنّه لا إشكال في جواز القضاء في الديون بالشاهد الواحد و يمين المدّعى، و عدم الحكم و القضاء بهما في حقوق اللّٰه تعالى، كثبوت الهلال و حدود اللّٰه، و أنّ الماتن (قدّس سرّه) جعل الأشبه الاختصاص بالديون من بين حقوق الناس، و أنّه لا يشمل مطلق الأموال أو ما يقصد بها كذلك، و ذكر أنّ المراد بالدين كلّ حقّ ماليّ في الذمة بأيّ سبب كان، فيشمل ما استقرضه و ثمن المبيع و مال الإجارة و مهر الزوجة إذا تعلّق بالعهدة، و جوّز القضاء فيها بشهادة امرأتين مع اليمين «2».

فالذي هاهنا يغاير ما هناك في أمرين:

أحدهما: قبول الشهادة مع اليمين في جميع حقوق الناس من الأموال أو ما يقصد به المال، فإنّك عرفت أنّه هناك جعل الأشبه الاختصاص بالديون بالمعنى الأعم، و ظاهره هنا عدم الاختصاص.

ثانيهما: الاكتفاء بشهادة المرأة الواحدة مع اليمين و استظهاره الثبوت بها هنا، و إن كان في بعض نسخ التحرير ذكر المرأتين مكان المرأة في الجملة الأخيرة

______________________________

(1) الكافي: 7/ 390 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 266 ح 711، الاستبصار: 3/ 26 ح 82، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 350، كتاب الشهادات ب 24 ح 1.

(2) في ص 211- 212.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 549

..........

______________________________

من هذه المسألة، و لكن سياق العبارة يناسب مع ما هنا. مع أنّه لم يتقدّم منه ذلك، بل ظاهره العدم كما لا يخفى.

أقول: امّا بالإضافة إلى الأمر الأوّل فقد عرفت أنّ مورد آية الدين الدالّة على قيام المرأتين مقام الرجل و إن كان هو القرض إلى أجل مسمّى إلّا أنّ الظاهر عدم

اختصاص حكمها بالدين و لو بالمعنى الأعمّ؛ لأنه لو لم نقل بالتعدّي و إلغاء الخصوصية لكان اللازم التخصيص بما ذكر من القرض إلى أجل مسمّىٰ، و لم يقل به أحد لا المشهور و لا غيره، و عليه فالحكم المذكور في آية الدين يشمل جميع الحقوق المالية من الدين و غيره.

و أمّا في مسألة الاكتفاء بالشهادة و اليمين فإنّه و إن لم يمكن استفادة حكمها من الآية الشريفة؛ لدلالتها على قيام المرأتين مقام الرجل في مطلق الحقوق المالية، و لم يقم دليل على اتّحاد مورده مع مورد الشاهد و اليمين، إلّا أنّك عرفت في كتاب القضاء في باب الشاهد و اليمين أنّ مقتضى التحقيق بعد ملاحظة الطوائف المختلفة من الروايات الواردة في هذا المجال الحكم بجريان الشاهد و اليمين في جميع حقوق الناس المالية و غيرها، و إن كان الاحتياط يقتضي الاقتصار على خصوص الأولى، كما أنّه قد تقدّم في ذلك الباب أنّه يثبت الحقّ بشهادة امرأتين مع اليمين «1»؛ لدلالة صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام): أنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) أجاز شهادة النساء مع يمين الطالب في الدين، يحلف باللّٰه أنّ حقّه لحقّ «2». و مرسلة منصور بن حازم قال: حدّثني الثقة، عن أبي الحسن (عليه السّلام) قال: إذا شهد لصاحب الحق امرأتان و يمينه فهو جائز «3».

و الظاهر أنّ المراد هو الحق المالي لقبوله المطالبة، و عليه فالمراد بالدين هو

______________________________

(1) في ص 219- 221.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 549

(2) تقدمتا في ص 220- 221.

(3) تقدمتا في ص 220- 221.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 550

..........

______________________________

الأعمّ من العين، كما في الآية الشريفة على ما عرفت.

ثمّ إنّه ذكر بعض الأعلام (قدّس سرّه) أنّ المراد بشهادة النساء في صحيحة الحلبي هي شهادة المرأتين، فإنّها هي التي كانت جزء البيّنة و الجزء الآخر شهادة رجل واحد، و إذا لم يكن رجل واحد كانت يمين المدّعى بمنزلته، و بها يقيّد إطلاق صحيحته الأُخرىٰ عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إنّ رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) أجاز شهادة النساء في الدين و ليس معهنّ رجل «1» بما إذا كانت معهنّ يمين الطالب «2».

أقول: و إن كانت المرسلة المتقدّمة يؤيّده في أنّ المراد بشهادة النساء هي شهادة المرأتين و لا تشمل شهادة الواحدة، إلّا أنّ الالتزام بتعدّد صحيحتي الحلبي و أنهما روايتان في كمال الصعوبة و الإشكال خصوصاً مع وحدة السند، فإنّه في كلتيهما روى عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن الحلبي؛ و عليه يكون الحاكي عن الرسول (صلّى اللّٰه عليه و آله) هو الإمام (عليه السّلام)، و غرضه من الحكاية بيان الحكم بهذه الكيفية، ففي إحداهما ذكر يمين المدّعى و في الأُخرىٰ قد وصفت شهادة النساء بأنّه ليس معهنّ رجل، و يمكن أن يكون المراد شهادة أربع نسوة مكان شاهدين ذكرين، أو شاهد و امرأتين، أو شاهد و يمين، و لأجله يشكل الحكم بقبول شهادة المرأتين مع اليمين فضلًا عن المرأة الواحدة؛ لأنّها فاقدة للدليل المعتبر.

امّا الصحيحة فلأنّها مردّدة، و أمّا المرسلة فلأنّها غير معتبرة على

ما أفاده بعض الأعلام (قدّس سرّه) «3»، أضف إلى ذلك ما دلّ بعمومه على عدم قبول شهادة النساء

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 263 ح 701، و ص 271 ح 734، الاستبصار: 3/ 22 ح 69، الفقيه: 3/ 32 ح 100، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 356، كتاب الشهادات ب 24 ح 20.

(2) مباني تكملة المنهاج: 1/ 128 مسألة 101

(3) مباني تكملة المنهاج: 1/ 128 مسألة 102.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 551

..........

______________________________

مطلقاً إلّا فيما ثبت بدليل.

هذا، و يمكن أن يقال: إنّ استناد المشهور إلى المرسلة جابر لضعفها بالإرسال، إذ لا يوجد ظاهراً رواية دالّة على اعتبار شهادة امرأتين بانضمام اليمين غير هذه الرواية، أو يقال: بأنّه قد روى صاحب الوسائل الرواية في نفس الباب عن الصدوق بإسناده إلى منصور بن حازم «1»، فليراجع.

ثمّ إنّه لو بني على تعدّد صحيحتي الحلبي أمكن أن يقال بعد تقييد إطلاق كلّ منهما بقيد الآخر: بالدلالة على قبول شهادة المرأة الواحدة مع اليمين؛ لعدم تماميّة ما أفاده بعض الأعلام (قدّس سرّه) من كون المراد بشهادة النساء هي شهادة المرأتين، بل ظهورها في مطلق النساء و لو كانت واحدة، و لا يكون ذكر المرأتين في المرسلة قرينة على كون المراد من الصحيحة أيضاً ذلك. أو يقال: بأنّه يمكن الاستناد إليهما بالإضافة إلى القدر المتيقن منهما، و هي شهادة المرأتين في الدين بانضمام اليمين فيما إذا لا يكون رجل معهنّ، فتدبّر و اغتنم ما ذكر في هذا المجال. هذا كلّه في غير النكاح.

و أمّا النكاح فالمذكور في المتن انّه تقبل شهادتهنّ إذا كان معهنّ رجل، و حكي ذلك عن الصدوقين «2» و الإسكافي «3» و العماني

«4» و الحلبي «5» و غيرهم «6». بل نسب

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 33 ح 105، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 371، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 15 ح 1.

(2) المقنع: 402، و حكى عنهما في مختلف الشيعة: 8/ 474 و 480 مسألة 74.

(3) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 480 مسألة 74.

(4) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 474 مسألة 74.

(5) الكافي في الفقه: 439.

(6) كالشيخ في المبسوط: 8/ 172 و تهذيب الأحكام: 6/ 280 و الاستبصار: 3/ 25، و المحقق في شرائع

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 552

..........

______________________________

ذلك إلى أكثر المتأخّرين «1»، بل حكي عن الغنية الإجماع عليه «2»، لكن عن جماعة من القدماء «3» بل المنسوب إلى المشهور عدم القبول «4» في هذه الصورة أيضاً، و منشأ الخلاف اختلاف الروايات الواردة في هذا المجال؛ لأنّها على طوائف مختلفة:

الطائفة الأُولى: ما دلّ على عدم قبول شهادة النساء في النكاح مطلقا، كموثقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق، و لا نكاح، و لا في حدود إلّا في الديون، و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه «5». و يؤيّدها ما دلّ على عدم قبول شهادتهنّ إلّا في المنفوس و العذرة «6».

الطائفة الثانية: ما دلّ على قبول شهادتهنّ في النكاح مطلقا، مثل رواية زرارة قال سألت أبا جعفر (عليه السّلام) عن شهادة النساء تجوز في النكاح؟ فقال:

______________________________

الإسلام: 4/ 136، و العلّامة في قواعد الأحكام: 3/ 499، و إرشاد الأذهان: 2/ 159، و مختلف الشيعة: 8/ 480، و فخر المحققين في إيضاح الفوائد: 4/ 432، و الشهيد الأوّل في

الدروس الشرعية: 2/ 137.

(1) مسالك الأفهام: 2/ 413، الطبعة الحجرية، مكتبة بصيرتي، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 770، رياض المسائل: 13/ 323، جواهر الكلام: 41/ 162- 164 و غيرها.

(2) غنية النزوع: 439.

(3) كالشيخ المفيد في المقنعة: 727، و الشيخ الطوسي في الخلاف: 6/ 252 مسألة 4، و سلّار في المراسم:

234، و ابن حمزة في الوسيلة: 222، و ابن إدريس في السرائر: 2/ 115.

(4) غاية المرام: 4/ 295.

(5) تقدمت في ص 543.

(6) راجع وسائل الشيعة: 27/ 357- 364، كتاب الشهادات ب 24 ح 2، 8- 10، 14، 18، 19، 21، 24، 38، 41، 45، 46، و 49.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 553

..........

______________________________

نعم، و لا تجوز في الطلاق، الحديث «1».

و لكن ذكر بعض الأعلام (قدّس سرّه): إنّ أخبار هذه الطائفة كلّها ضعاف «2».

الطائفة الثالثة: ما دلّ على قبول شهادتهنّ في النكاح إذا كان معهنّ رجل مثل صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه سئل عن شهادة النساء في النكاح، فقال: تجوز إذا كان معهنّ رجل. و كان عليّ (عليه السّلام) يقول: لا أُجيزها في الطلاق، الحديث «3».

و رواية أبي بصير المشتملة على قوله: و تجوز شهادة النساء في النكاح إذا كان معهنّ رجل، و لا تجوز في الطلاق، الحديث «4».

و هذه الطائفة الثالثة أمّا شاهدة للجمع بين الأوليين على تقدير اعتبار الطائفة الثانية و لو ببعضها، و أمّا مقيّدة لإطلاق الأولى على تقدير عدم الاعتبار، و على أيّ فينتج ما أفاده في المتن من التفصيل.

ثمّ إنّ رواية داود بن الحصين المتقدّمة الواردة في تفسير آية الدين، و الحكم باختصاصها به تدلّ على قبول شهادة المرأتين في

النكاح بلا رجل معهنّ، لكنّها شاذّة مهجورة، و لم يعمل بها أحد من الأصحاب من هذه الجهة؛ لعدم قابليتها للجمع و لا للحمل المذكورين؛ لاختصاص السؤال فيها بما إذا لم يكن رجل معهنّ، و إن وجّهنا حكمها باختصاص الآية بالدين كما عرفت «5».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 391 ح 9، تهذيب الأحكام: 6/ 265 ح 706، الاستبصار: 3/ 24 ح 74، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 354، كتاب الشهادات ب 24 ح 11.

(2) مباني تكملة المنهاج: 1/ 125 مسألة 100.

(3) تقدمت في ص 537- 538.

(4) الكافي: 7/ 391 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 264 ح 704، الاستبصار: 3/ 23 ح 72، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 351، كتاب الشهادات ب 24 ح 4.

(5) تقدمت في ص 545- 547.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 554

[مسألة 5 في قبول شهادتهنّ في الوقف وجه لا يخلو عن إشكال]

مسألة 5 في قبول شهادتهنّ في الوقف وجه لا يخلو عن إشكال، و تقبل شهادتهنّ في حقوق الأموال، كالأجل و الخيار و الشفعة و فسخ العقد المتعلّق بالأموال، و نحو ذلك ممّا هي حقوق آدمي، و لا تقبل شهادتهنّ فيما يوجب القصاص (1).

______________________________

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في أمور:

الأمر الأول، في الوقف: فالمحكي عن جماعة «1» ثبوته بشهادة النساء، لكن استشكل الماتن و بعض الأعلام (قدّس سرّهما) «2» في ذلك نظراً إلى انّه لا دليل على اعتبار شهادة المرأتين منضمّة مع شهادة الرجل في المورد المذكور، و لا مجال لتوهّم الاستفادة من آية الدين «3» و إلغاء الخصوصية منها، و إن قلنا بعدم الاختصاص بالدين و قلنا بأنّ المراد هو الدين بالمعنى الأعم أو الشامل للعين أيضاً كما اخترناه «4».

الأمر الثاني، في حقوق الأموال: كالأجل و الخيار و

الشفعة و فسخ العقد المتعلّق بالأموال و نحو ذلك ممّا هي حقوق آدمي، و في المتن قبول شهادتهنّ فيها، و الوجه فيه أنّه مما يقصد به الأموال و إن لم يكن بنفسه مالًا، و قد عرفت في المسألة الرابعة القبول فيه.

الأمر الثالث، فيما يوجب القصاص: و في المتن عدم قبول شهادتهنّ فيه،

______________________________

(1) كالشيخ في المبسوط: 8/ 189 190، و ابن البرّاج في المهذب: 2/ 562، و المحقق في شرائع الإسلام:

4/ 137، و ابن إدريس في السرائر: 2/ 115، و العلّامة في قواعد الأحكام: 3/ 449 و 499، و فخر المحققين في إيضاح الفوائد: 4/ 434- 435، و الشهيد الأوّل في الدروس الشرعية: 2/ 138 مقيّداً بما إذا كان الوقف خاصاً، و الشهيد الثاني في مسالك الافهام: 14/ 257.

(2) مباني تكملة المنهاج: 1/ 126 مسألة 100.

(3) البقرة 2: 282.

(4) في ص 2: 214- 222.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 555

..........

______________________________

و الدليل عليه موثقة غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) قال: لا تجوز شهادة النساء في الحدود، و لا في القود «1»، و بذلك يجمع بين ما يدلّ على عدم جواز شهادتهنّ في القتل، مثل صحيحة ربعي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا تجوز شهادة النساء في القتل «2»، و بين صحيحة جميل و محمد بن حمران المتقدّمة «3» الدالّة على جواز قبول شهادة النساء بالقتل، معلّلًا له بأنّه لا يبطل دم امرئ مسلم، بحمل الأولى على نفي القود و حمل الثانية على ثبوت الدّية. و يمكن أن يقال بدلالة الثانية على ثبوت الدية في مورد قتل العمد الموجب للقصاص أيضاً، و

إلّا يلزم البطلان، فتدبّر.

و أمّا صحيحة عبد الرحمن المشتملة على قوله: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرجال «4»، فالظاهر أنّه شاذّ لا عامل به منّا، و لا بدّ من ردّ علمه إلى أهله، على أنّ الاشتمال على هذا الذيل غير موجود في الرواية على بعض الطرق و الأسانيد «5»، خصوصاً في نقل الكليني «6» الذي هو أضبط.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 265 ح 709، الاستبصار: 3/ 24 ح 77، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 358، كتاب الشهادات ب 24 ح 29.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 276 ح 716، الاستبصار: 3/ 27 ح 87، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 358، كتاب الشهادات ب 24 ح 27.

(3) في ص 547- 548.

(4) تهذيب الأحكام: 6/ 270 ح 728، الاستبصار: 3/ 30 ح 100، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 356، كتاب الشهادات ب 24 ح 21.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 270 ح 731، الاستبصار: 3/ 31 ح 105، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 357، كتاب الشهادات ب 24 ح 24.

(6) الكافي: 7/ 392 ح 10، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 355، كتاب الشهادات ب 24 ح 14.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 556

[مسألة 6 من حقوق الآدمي ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمّات]

مسألة 6 من حقوق الآدمي ما يثبت بالرجال و النساء منفردات و منضمّات، و ضابطه كلّ ما يعسر اطلاع الرجال عليه غالباً، كالولادة و العذرة و الحيض و عيوب النساء الباطنة، كالقرن و الرتق و القرحة في الفرج، دون الظاهرة كالعرج و العمى (1).

______________________________

(1) التفصيل بين العيوب الظاهرة للنساء و بين العيوب الباطنة لهنّ قرينة على أنّ المراد بعيوب النساء في المسألة الثالثة ليس إلّا خصوص الظاهرة، و الدليل على قبول شهادتهنّ

فيها و في مثلها كالولادة و العذرة و الحيض مضافاً إلى ما مرّ من أنّه لا تقبل شهادة النساء إلّا في المنفوس و العذرة عدّة روايات بعضها واردة في العذرة و النفساء، و بعضها في عيوب النساء الباطنة.

امّا الأوّل: فصحيحة العلاء، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: لا تجوز شهادة النساء في الهلال، و سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال: نعم، في العذرة و النفساء «1».

و صحيحة محمد بن مسلم قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهن؟ قال: نعم في العذرة و النفساء «2».

و أمّا الثاني: فصحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول:

لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال إلى أن قال: تجوز شهادة النساء وحدهنّ بلا رجال في كلّ ما لا يجوز للرجال النظر إليه «3».

و موثقة عبد اللّٰه بن بكير، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: تجوز شهادة النساء في

______________________________

(1) تقدم في ص 541.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 270 ح 727، الاستبصار: 3/ 30 ح 99، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 356، كتاب الشهادات ب 24 ح 19.

(3) تقدمت في ص 543.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 557

..........

______________________________

العذرة، و كلّ عيب لا يراه الرجل «1».

و موثقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليهم السّلام) أنّه كان يقول: شهادة النساء لا تجوز في طلاق و لا نكاح، و لا في حدود إلّا في الديون، و ما لا يستطيع الرجال النظر إليه «2».

و ليعلم أنّ مفاد هذه الروايات جواز شهادتهنّ وحدهنّ في هذه الأُمور، و أمّا جواز شهادة الرجال فيها منفرداً أو منضمّاً فلا ينفيه هذه الروايات، مع أنّ عدم جواز النظر للرجال

لا يجتمع مع اعتبار العدالة في الشهادة و اعتبار كون الشهادة مستندة إلى النظر، و بهذا يستشكل في الشهادة على الزنا بنحو الميل في المكحلة، مع أنّه لا يجتمع مع عدم جواز النظر كذلك للرجال، إلّا أن يقال بتحقّق التوبة الواقعية المعادة معها العدالة المعتبرة في الشاهد أو حصولها في مقام الأداء، أو تحقّق النظر غير المحرّم كالنظرة الأولى، أو عدم حرمة النظر لأجل إقامة الشهادة أو غير ذلك من الوجوه، فتدبّر.

______________________________

(1) تقدمت في ص 543.

(2) تقدمت في ص 543 و 552.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 558

[مسألة 7 كلّ موضع تقبل شهادة النساء منفردات لا يثبت بأقلّ من أربع]

اشارة

مسألة 7 كلّ موضع تقبل شهادة النساء منفردات لا يثبت بأقلّ من أربع، نعم تقبل شهادة المرأة الواحدة بلا يمين في ربع ميراث المستهل و ربع الوصية، و الاثنتين في النصف و الثلاث في ثلاثة أرباع، و الأربع في الجميع، و لا يلحق بها رجل واحد، و لا يثبت به أصلًا (1).

______________________________

(1) امّا الضابطة الأولى فللاستفادة من آية الدين «1»، و أنّ المرأتين تقوم مقام رجل واحد، فبعد إفادة الدليل بقبول شهادتهنّ منفردات عن الرجال و عن اليمين يبقى اعتبار الأربع لتتمّ البيّنة الشرعية على حاله. نعم، قد عرفت «2» اعتبار المرأتين مع اليمين، بل المرأة الواحدة كذلك على احتمال، و لكنّها مفروضة في صورة الانضمام مع اليمين كالرجل الواحد مع اليمين، و أمّا في صورة الانفراد فلا.

و أمّا قبول شهادة المرأة الواحدة بلا يمين في ربع الوصية و ربع ميراث المستهل و الاثنتين في النصف و هكذا، فتدلّ عليه روايات متعدّدة، مثل:

صحيحة ربعي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في شهادة امرأة حضرت رجلًا يوصي ليس معها رجل، فقال: يجاز

ربع ما أوصى بحساب شهادتها «3».

و موثقة أبان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) أنّه قال في وصية لم يشهدها إلّا امرأة فأجاز شهادتها في الربع من الوصيّة بحساب شهادتها «4».

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 282.

(2) في المسألة الرابعة من هذا المبحث.

(3) الكافي: 7/ 4 ح 4، الفقيه: 4/ 142 ح 486، تهذيب الأحكام: 9/ 180 ح 719، و عنها وسائل الشيعة:

19/ 316، كتاب الوصايا ب 22 ح 1.

(4) الكافي: 7/ 4 ح 5، تهذيب الأحكام: 9/ 180 ح 722، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 317، كتاب الوصايا ب 22 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 559

..........

______________________________

و صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر، عن أمير المؤمنين (عليهما السّلام) أنّه قضى في وصية لم يشهدها إلّا امرأة، فأجاز شهادة المرأة في ربع الوصية «1»، ثمّ إنّ صاحب الوسائل (قدّس سرّه) حكى رواية أخرى لمحمد بن قيس مشتملة على إضافة قوله: إذا كانت مسلمة غير مريبة في دينها «2»، و الظاهر اتحاد الروايتين، كما نبّهنا عليه في مثله مراراً.

هذا، و لكن في مقابلها مثل صحيحة عبد الرحمن قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة يحضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة تجوز شهادتها؟ قال: تجوز شهادة النساء في العذرة و المنفوس. و قال: تجوز شهادة النساء في الحدود مع الرّجل «3».

و صحيحة عبد اللّٰه بن سنان (سليمان خ ل) قال: سألته عن امرأة حضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة أ تجوز شهادتها؟ فقال: لا تجوز شهادتها إلّا في المنفوس و العذرة «4».

و رواية إبراهيم بن محمد الهمداني قال: كتب أحمد بن هلال إلى أبي الحسن (عليه السّلام):

امرأة شهدت على وصية رجل لم يشهدها غيرها، و في الورثة من يصدّقها، و منهم من يتّهمها، فكتب: لا، إلّا أن يكون رجل و امرأتان، و ليس بواجب

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 9/ 180 ح 720 و ج 6/ 267 ح 717، الاستبصار: 3/ 28 ح 88، و عنهما وسائل الشيعة:

19/ 317، كتاب الوصايا ب 22 ح 4.

(2) تهذيب الأحكام: 9/ 180 ح 723، و عنه وسائل الشيعة: 19/ 317، كتاب الوصايا ب 22 ح 3.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 270 ح 728، الاستبصار: 3/ 30 ح 100، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 318، كتاب الوصايا ب 22 ح 6 و ج 27/ 356، كتاب الشهادات ب 24 ح 21.

(4) تقدمت في ص 547.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 560

..........

______________________________

أن تنفذ شهادتهما «1»، و هذه الرواية ضعيفة بإبراهيم بن محمد؛ لعدم ثبوت وثاقته.

و الجمع بين الطائفتين امّا ما يدلّ على اختصاص قبول شهادة النساء بالمنفوس و العذرة فقد عرفت الجواب عنه، و إنّ هنا روايات كثيرة تدلّ على القبول في غيرهما «2».

و أمّا ما ظاهره عدم القبول في الوصية فإطلاقه و إن كان ذلك إلّا أنّه يقيّد بالربع في خصوص الوصية التمليكية بلحاظ روايات الطائفة الأولى؛ لإطلاق الوصية الشامل للوصية التمليكية و غيرها كما لا يخفى، و على تقدير الاختصاص بالوصية التمليكية بلحاظ كلمة الربع يكون التقييد بنحو أوضح.

ثمّ إنّ الحلبي روى في الصحيح قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن امرأة ادّعت أنّه أوصى لها في بلد بالثلث و ليس لها بيّنة؟ قال: تصدّق في ربع ما ادّعت «3». و من المعلوم أنّها شاذّة لا عامل بظاهرها منّا؛ لأنّه

لا يصدّق المدّعى بمجرّد دعواه، و لا مجال لأن يكون شاهداً لنفسه، هذا كلّه بالإضافة إلى ربع الوصية كذلك.

و أمّا بالإضافة إلى ربع ميراث المستهل فظاهر عدّة من الروايات القبول، سواء كانت الشاهدة هي القابلة أو امرأة أُخرى، مثل:

صحيحة عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن رجل مات و ترك امرأته و هي حامل، فوضعت بعد موته غلاماً ثمّ مات الغلام بعد ما وقع إلى الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنّه استهلّ و صاح حين وقع إلى الأرض ثمّ مات؟ قال:

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 268 ح 719، الاستبصار: 3/ 28 ح 90، و عنهما وسائل الشيعة: 19/ 319، كتاب الوصايا ب 22 ح 8 و ج 27/ 360، كتاب الشهادات ب 24 ح 34.

(2) تقدمت في ص 537- 557.

(3) تهذيب الأحكام: 9/ 180 ح 721، و عنه وسائل الشيعة: 19/ 317، كتاب الوصايا ب 22 ح 5.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 561

..........

______________________________

على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام «1».

و موثقة سماعة قال: قال: القابلة تجوز شهادتها في الولد على قدر شهادة امرأة واحدة «2».

و يستفاد من بعض الروايات قبول شهادة القابلة في ثبوت تمام الإرث، مثل:

صحيحة عبد اللّٰه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) يقول: لا تجوز شهادة النساء في رؤية الهلال إلى أن قال: و تجوز شهادة القابلة وحدها في المنفوس «3».

و صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) المشتملة على قوله: قلت: تجوز شهادة النساء مع الرجل في الدين؟ قال: نعم، و سألته عن شهادة القابلة في الولادة؟ قال: تجوز شهادة الواحدة، و قال: تجوز شهادة

النساء في المنفوس و العذرة، الحديث «4».

و مقتضى هاتين الصحيحتين ثبوت تمام الإرث بشهادة القابلة، إلّا أنّه لا بدّ من رفع اليد عن إطلاقهما بالصحيحة و الموثقة المتقدّمتين، هذا بالإضافة إلى القابلة. و أمّا بالنسبة إلى غيرها فتدلّ عليه روايات، مثل:

صحيحة محمد بن مسلم قال: سألته تجوز شهادة النساء وحدهنّ؟ قال: نعم، في العذرة و النفساء «5».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 392 ح 12، تهذيب الأحكام: 6/ 268 ح 720، الاستبصار: 3/ 29 ح 92، الفقيه: 3/ 32 ح 101، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 352، كتاب الشهادات ب 24 ح 6.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 270 ح 730، الاستبصار: 3/ 31 ح 103، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 357، كتاب الشهادات ب 24 ح 23.

(3) تقدمت قطعة منها في ص 543.

(4) وسائل الشيعة: 27/ 357، كتاب الشهادات ب 24 قطعة من ح 2، و تقدمت صدرها في ص 537- 538.

(5) تقدمت في ص 556.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 562

..........

______________________________

و صحيحة العلاء، عن أحدهما (عليهما السّلام) قال: لا تجوز شهادة النساء في الهلال. و سألته هل تجوز شهادتهنّ وحدهنّ؟ قال: نعم، في العذرة و النفساء «1».

و صحيحة عبد الرحمن قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن المرأة يحضرها الموت و ليس عندها إلّا امرأة تجوز شهادتها؟ قال: تجوز شهادة النساء في العذرة و المنفوس، الحديث «2»، فانّ مقتضى إطلاقها عدم الاختصاص بالقابلة بل تعمّ غيرها.

نعم يمكن أن يقال بعدم كون المراد بقوله (عليه السّلام): «وحدهنّ» هي المرأة الواحدة، بل المراد عدم انضمام الرجال و اليمين معها، و عليه فقول السائل في الرواية الأخيرة: «و ليس عندها إلّا امرأة» ليس هي

المرأة الواحدة، بل المراد هي الوحدة من جهة الطبيعة و الماهيّة، و عليه فلا دليل يعتمد عليه على جواز قبول شهادة المرأة الواحدة غير القابلة، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا يلحق بالمرأة الواحدة الرجل الواحد و إن كانت شهادته تعادل اثنتين بمقتضى الآية الشريفة «3»، إلّا أنّه لا دليل على إطلاق المعادلة و لا على أولوية الرجل من المرأة من هذه الجهة، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تقدمت في ص 556.

(2) تقدم ذيلها في ص 555.

(3) سورة البقرة 2: 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 563

[فروع]
اشارة

فروع:

[الأوّل: الشهادة ليست شرطاً في شي ء من العقود و الإيقاعات إلّا الطلاق و الظّهار]

الأوّل: الشهادة ليست شرطاً في شي ء من العقود و الإيقاعات إلّا الطلاق و الظّهار (1).

______________________________

(1) امّا شرطية الشهادة في الطلاق فلدلالة قوله تعالى في آية الطلاق وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ «1» الظاهر في وجوب إشهاد رجلين عادلين، و قد مرّ عدم جواز شهادة النساء في الطلاق لا منفردات و لا منضمّات «2»، بخلاف النكاح الذي تجوز شهادتهنّ فيه إذا كان معهنّ رجل «3»، و أمّا شرطيتها في الظهار فلما سيجي ء في كتابه «4» من الدليل على ذلك.

و أمّا عدم الشرطية في غيرها من العقود و الإيقاعات فلعدم الدليل عليها حتى مثل قوله تعالى في آية الدين وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجٰالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونٰا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتٰانِ «5» الآية، لأنّه محمول على الاستحباب؛ لعدم كون الاستشهاد شرطاً للقرض و مثله إجماعاً «6»، بل هو كقوله تعالى وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كٰاتِبٌ بِالْعَدْلِ، ضرورة عدم وجوب الكتابة، نعم ذهب العامّة إلى اعتبار الإشهاد في صحة النكاح «7»، و عن ابن أبي عقيل اختيار هذا القول

______________________________

(1) سورة الطلاق 65: 2.

(2) مرّ في المسألة الثانية من هذا المبحث.

(3) مرّ في المسألة الرابعة من هذا المبحث.

(4) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الظهار، المطبوع مع كتاب الطلاق و المواريث: 265.

(5) سورة البقرة 2: 282.

(6) راجع الخلاف: 6/ 249 مسألة 1، و كشف اللثام: 2/ 354، و جواهر الكلام: 41/ 178.

(7) الأم: 5/ 23، مختصر المزني: 164، الحاوي الكبير: 11/ 84، بداية المجتهد: 2/ 17، المغني لابن قدامة: 7/ 340، حلية العلماء: 6/ 365 و 8: 245.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 564

[الثاني: حكم الحاكم تبع للشهادة]

الثاني: حكم الحاكم تبع للشهادة، فإن كانت محقّقة

نفذ الحكم ظاهراً و واقعاً، و إلّا نفذ ظاهراً لا واقعاً، و لا يباح للمشهود له ما حكم الحاكم له مع علمه ببطلان الشهادة، سواء كان الشاهدان عالمين ببطلان شهادتهما أو معتقدين بصحتها (1).

______________________________

في النكاح الدائم «1».

و الروايات الدالّة على هذا القول بين ما هو ضعيفة سنداً أو غير تامّة من حيث الدلالة «2»، مضافاً إلى وجود الروايات المستفيضة الدالّة على عدم اشتراط الاشهاد في النكاح «3»، مثل:

صحيحة زرارة بن أعين قال: سئل أبو عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن الرجل يتزوّج المرأة بغير شهود؟ فقال: لا بأس بتزويج البتّة فيما بينه و بين اللّٰه، انّما جعل الشهود في تزويج البتّة من أجل الولد لو لا ذلك لم يكن به بأس «4».

(1) أمّا تبعية الحكم للشهادة فلقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): «إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان» و أمّا عدم الإباحة للمشهود له في صورة العلم ببطلان الشهادة فلقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله) بعد العبارة المذكورة: و بعضكم ألحن بحجّته من بعض، فأيّما رجل قطعت له من مال أخيه شيئاً فإنّما قطعت له به قطعة من النار «5»، و في رواية الحسين بن زيد، عن

______________________________

(1) حكى عنه العلّامة في مختلف الشيعة: 7/ 118 مسألة 58.

(2) مثل رواية المهلّب الدلّال عن أبي الحسن (عليه السّلام)، وسائل الشيعة: 21/ 34، كتاب النكاح، أبواب المتعة ب 11 ح 11. كما في المختلف: 7/ 118- 119، و مسالك الأفهام: 7/ 19 و تهذيب الأحكام: 7/ 255 و الاستبصار: 3/ 145- 146.

(3) وسائل الشيعة: 20/ 97- 100، كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح ب 43.

(4) الكافي: 5/ 387 ح 1، تهذيب الأحكام: 7/ 249 ح 1077، و عنهما وسائل

الشيعة: كتاب النكاح، أبواب مقدّمات النكاح ب 43 ح 3.

(5) تقدّمت في ص 245.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 565

[الثالث: الأحوط وجوب تحمّل الشهادة إذا دعي إليه من له أهلية لذلك]

الثالث: الأحوط وجوب تحمّل الشهادة إذا دعي إليه من له أهلية لذلك، و الوجوب على فرضه كفائي لا يتعيّن عليه إلّا مع عدم غيره ممّن يقوم بالتحمّل، و لا إشكال في وجوب أداء الشهادة إذا طلبت منه، و الوجوب هاهنا أيضاً كفائي (1).

______________________________

الصادق، عن آبائه (عليهم السّلام)، عن النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) في حديث المناهي، أنّه نهى عن أكل مال بشهادة الزّور «1»، و الروايات الأُخر الواردة في هذا المجال، و هذا من دون فرق أن يكون الشاهدان عالمين ببطلان شهادتهما أو معتقدين بصحتها.

(1) يقع الكلام في هذه المسألة في أمرين:

الأمر الأول: في وجوب تحمّل الشهادة إذا دعي إليه من له أهلية كذلك و عدمه، و المشهور شهرة عظيمة هو الوجوب «2»؛ لدلالة روايات كثيرة عليه، مثل:

صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في قول اللّٰه عز و جلّ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ «3» قال: قبل الشهادة، و قوله وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «4»، قال: بعد الشهادة «5».

و موثقة سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في قول اللّٰه عزّ و جلّ وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا، فقال: لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول:

______________________________

(1) الفقيه: 4/ 4 ح 1، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 232، كتاب القضاء، أبواب كيفية الحكم ب 2 ح 2.

(2) المقنعة: 728، النهاية: 328، الكافي في الفقه: 436، المراسم: 235، غنية النزوع: 441، مختلف الشيعة: 8/ 521- 524، اللمعة الدمشقية: 54،

مسالك الأفهام: 14/ 266.

(3) البقرة 2: 282 283.

(4) البقرة 2: 282 283.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 275 ح 705، الفقيه: 3/ 34 ح 112، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 309، كتاب الشهادات ب 1 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 566

..........

______________________________

لا أشهد لكم «1».

و صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في قوله تعالى وَ لٰا يَأْبَ الشُّهَدٰاءُ إِذٰا مٰا دُعُوا قال: لا ينبغي لأحد إذا دُعي إلى شهادة ليشهد عليها أن يقول: لا أشهد لكم عليها. و قال: فذلك قبل الكتاب «2».

و رواية داود بن سرحان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: لا يأب الشاهد أن يجيب حين يدعى قبل الكتاب «3».

و ما رواه الصدوق بإسناده عن محمد بن الفضيل قال: قال العبد الصالح (عليه السّلام): لا ينبغي للذي يدعى إلى الشهادة أن يتقاعس عنها «4»، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في هذا المجال.

هذا، و يمكن أن يقال: بأنّ التعبير ب «لا ينبغي» خصوصاً مع وقوعه في مقام تفسير الآية غير ظاهرة في الوجوب، لأنّه مثل قوله تعالى وَ لٰا يَأْبَ كٰاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ «5» مع عدم وجوب الكتابة عليه ظاهراً، لا دلالة له على الوجوب، و إن كانت الآية في نفسها ظاهرة في النهي التحريمي عن الإباء عن التحمّل، و لكن مع ذلك كلّه فالأحوط الوجوب، كما في المتن.

ثمّ إنّه ربما يقيّد الوجوب بصورة عدم الضرر، فان كان المنشأ فيه حديث

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 275 ح 753، الكافي: 7/ 378 ح 1، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 310، كتاب الشهادات ب 1 ح 5.

(2) الكافي: 7/ 380 ذ ح 2، و عنه وسائل

الشيعة: 27/ 310، كتاب الشهادات ب 1 ح 4.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 276 ح 755، الكافي: 7/ 380 ح 6، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 310، كتاب الشهادات ب 1 ح 6.

(4) الفقيه: 3/ 34 ح 111، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 311، كتاب الشهادات ب 1 ح 9.

(5) سورة البقرة 2: 282.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 567

..........

______________________________

«لا ضرر» «1» المعروف فقد ذكرنا «2» عدم ارتباطه بالأحكام الأوليّة و بالعنوان الثانوي، كما نبّهنا عليه مكرراً، و إن كان المنشأ هو دعوى انصراف دليل وجوب التحمّل إذا دعي عن صورة الضرر، فلا يبعد الالتزام به كما لا يخفى.

ثمّ إنّه ذكر في المتن: إنّ الوجوب على فرضه كفائي لا يتعيّن عليه إلّا مع عدم غيره ممّن يقوم بالتحمّل.

و يرد عليه أنّ ظاهر الآية الشريفة و الروايات الواردة في تفسيرها انّ الوجوب عينيّ مع الدعوة إلى الشهادة، و لا مانع من الالتزام به لو لم يكن إجماع على خلافه، خصوصاً مع ملاحظة أمرين: أحدهما: عدم شهود الواقعة نوعاً إلّا لعدد معدود و جماعة مخصوصة، و ثانيهما: الافتقار إلى إقامة الشهادة بعد التحمّل، و يمكن أن لا يبقى المتحمّلون بأجمعهم إلى زمان الأداء لفرض الموت للبعض أو عدم إمكان الإقامة لهم، و عليه فلا ملازمة بين التحمّل و الأداء، و قد ذكر في علم الأصول «3» أنّه مع التردّد بين العيني و الكفائي يتعيّن الحمل على العيني، و إن كان الوجه المذكور في الكفاية «4» لذلك مخدوشاً جدّاً.

الأمر الثاني: في وجوب أداء الشهادة إذا طلبت منه ذلك.

فنقول: الدليل على الوجوب قبل كلّ شي ء هو قوله تعالى وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 25/

427- 429، كتاب إحياء الموات ب 12 ح 1 و 3 و 5.

(2) في ص 16، 99 و 397.

(3) سيرى كامل در اصول فقه 4/ 30- 48.

(4) كفاية الأُصول: 99.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 568

..........

______________________________

فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «1»، خصوصاً مع ملاحظة قول الإمام (عليه السّلام) في صحيحة هشام بن سالم المتقدّمة في الأمر الأوّل في قوله تعالى وَ مَنْ يَكْتُمْهٰا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ من أنّه بعد الشهادة أي بعد تحمّلها، و هو مقام الإقامة و الأداء، و أمّا كون الوجوب هنا كفائياً أيضاً فهو و إن كان أظهر من سابقه لكنّه لا دليل عليه. و المذكور في كلام بعض الأعلام (قدّس سرّه) من أنّ الوجوب الكفائي و إن كان قد ذهب إليه الأكثر «2» لكنّه لم يظهر وجهه «3».

أقول: لا بدّ من فرض البحث فيما إذا لم يثبت الحقّ بعد، ضرورة أنّه مع ثبوته لا حاجة إلى الشاهد الآخر أصلًا، و حينئذٍ نقول: إنّ من الممكن جرح الحاكم بعض الشهود، فإذا اقتصر على المقدار اللازم يلزم عدم صدور الحكم من الحاكم أصلًا، بخلاف ما إذا تصدّى للأداء جميع المتحمّلين، فالإنصاف أنّه لا دليل على كون الوجوب في هذه الصورة كفائياً أيضاً.

______________________________

(1) سورة البقرة 2: 283.

(2) المبسوط: 8/ 186 187، إصباح الشيعة: 530، شرائع الإسلام: 4/ 138، قواعد الأحكام: 3/ 503، اللمعة الدمشقية: 54، مسالك الأفهام: 14/ 264، جواهر الكلام: 41/ 184.

(3) مباني تكملة المنهاج: 1/ 139 مسألة 108.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 569

[القول في الشهادة على الشهادة]

اشارة

القول في الشهادة على الشهادة

[مسألة 1 تقبل الشهادة على الشهادة في حقوق الناس عقوبة كانت كالقصاص أو غيرها كالطلاق و النسب]

مسألة 1 تقبل الشهادة على الشهادة في حقوق الناس عقوبة كانت كالقصاص أو غيرها كالطلاق و النسب، و كذا في الأموال كالدين و القرض و الغصب و عقود المعاوضات، و كذا ما لا يطّلع عليه الرجال غالباً كعيوب النساء الباطنة و الولادة و الاستهلال، و غير ذلك ممّا هو حق آدمي (1).

______________________________

(1) يدلّ على قبول الشهادة على الشهادة في الجملة مضافاً إلى عدم الخلاف فيه و الإشكال «1»، بل ادّعي عليه الإجماع في كثير من الكلمات «2»، و إلى إطلاقات أدلّة حجّية البيّنة في الموضوعات، و لا دلالة لقوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الايمان «3» على الاختصاص ببيّنة الأصل روايات متعدّدة واردة في هذا

______________________________

(1) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 1/ 777، رياض المسائل: 13/ 385.

(2) كغنية النزوع: 442، و غاية المرام: 4/ 299، و مسالك الأفهام: 14/ 269، و مفاتيح الشرائع: 3/ 292، و كشف اللثام: 10/ 358، و جواهر الكلام: 41/ 189.

(3) تقدمت في ص 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 570

..........

______________________________

المجال، مثل:

موثقة طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) أنّه كان لا يجيز شهادة رجل على رجل إلّا شهادة رجلين على رجل «1».

و المراد شهادة رجلين على شهادة رجل، كما يدلّ عليه موثقة غياث بن إبراهيم، عن جعفر بن محمد، عن أبيه (عليهما السّلام)، أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان لا يجيز شهادة رجل على شهادة رجل إلّا شهادة رجلين على شهادة رجل «2».

ثمّ إنّ مقتضى الإطلاق جريان الشهادة على الشهادة في مطلق الحقوق، و لكن سيجي ء ما يدلّ

على عدم الجريان في الحدود، و أمّا في مثل الهلال فلا دليل على عدم الجريان، خلافاً لما حكي عن العلّامة في التذكرة من عدم ثبوت الهلال بذلك مستدلّاً عليه بأصالة البراءة عن ذلك «3».

و أنت خبير بأنّه لا مجال هنا لأصالة البراءة، بل الأصل الجاري في مثله هو استصحاب العدم على تقديره، و استصحاب العدم إنّما ينفي الوجوب بالإضافة إلى هلال رمضان لا شوّال، مع أنّه لا موقع للأصل، مع ثبوت الإطلاق للروايتين الشامل للهلال؛ لعدم الدليل على استثنائه، و خروج الحدود لا يلازم خروج الهلال أصلًا، كما لا يخفى.

ثمّ إنّه لا فرق في جريان الشهادة على الشهادة بين الأُمور المذكورة و بين الأُمور التي لا يطّلع عليها الرجال غالباً، كعيوب النساء الباطنة و الولادة و الاستهلال ممّا

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 255 ح 668، الاستبصار: 3/ 21 ح 61، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 310، كتاب الشهادات ب 44 ح 2.

(2) الفقيه: 3/ 41 ح 136، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 403، كتاب الشهادات ب 44 ح 4.

(3) تذكرة الفقهاء: 6/ 135.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 571

..........

______________________________

تقبل فيه شهادتهن منفردات، غاية الأمر أنّه لا بدّ أن يكون شاهد الفرع رجلًا و إن كان شاهد الأصل امرأة، و سيجي ء في المسألة السابعة الآتية التعرّض لهذه الجهة إن شاء اللّٰه تعالى، و ذكر عنوان الرجل في شاهد الأصل في الروايتين المتقدّمتين ليس لأجل الاختصاص، بل المقصود قيام البيّنة على ثبوت بيّنة أخرى معتبرة، سواء كانت رجلًا أو امرأة.

غاية الأمر قيام الدليل على اعتبار بيّنة الأصل إذا كانت امرأة؛ لأنّ المفروض كون موردها ممّا لا يطّلع عليه الرجال غالباً، و

أمّا بالإضافة إلى بيّنة الفرع فلا تجري هذه الجهة، فاللازم أن يكون رجلًا كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 572

[مسألة 2 لا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود]

مسألة 2 لا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود، و يلحق بها التعزيرات على الأحوط لو لم يكن الأقوى، و لو شهد شاهدان بشهادة شاهدين على السرقة لا تقطع، و لا بدّ في الحدود من شهادة الأصل سواء كانت حق اللّٰه محضاً كحدّ الزنا و اللواط أو مشتركة بينه تعالى و بين الآدمي، كحقّ القذف و السرقة (1).

______________________________

(1) امّا عدم قبول الشهادة على الشهادة في الحدود، فمضافاً إلى أنّه لا خلاف فيه بين الأصحاب «1»، بل ادّعي عليه الإجماع «2»، تدلّ عليه موثقة طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) أنّه كان لا يجيز شهادة على شهادة في حدّ «3».

و موثّقة غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام) قال: قال علي (عليه السّلام): لا تجوز شهادة على شهادة في حدّ، و لا كفالة في حدّ «4».

و الظاهر أنّ المراد بالحدّ ما يشمل التعزير، و يؤيّده اقتصار بعض في عنوان كتاب الحدود عليها من دون ذكر التعزير «5»، و إن أضاف إليه بعضهم التعزير أيضاً «6»، كما أنّه يؤيّده كون التعزير حقّا للّٰه كالحدّ، نعم لا فرق في الحدود بين أن يكون حقّا للّٰه محضاً كالزنا و اللواط، أو مشتركاً بينه و بين الآدمي كحدّ السرقة؛ لأنّه بالإضافة إلى القطع حق اللّٰه، و بالنسبة إلى أخذ المال المسروق حق آدمي، و سيأتي في المسألة الثالثة ذلك.

______________________________

(1) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 777.

(2) إرشاد الاذهان 2/ 164، إيضاح الفوائد

4/ 444، التنقيح الرائع: 4/ 317، غاية المرام: 4/ 299، مسالك الأفهام: 14/ 270، جواهر الكلام: 41/ 191، مجمع الفائدة و البرهان: 21/ 475- 476.

(3) تهذيب الأحكام: 6/ 255 ح 667، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 404، كتاب الشهادات ب 45 ح 1.

(4) تهذيب الأحكام: 6/ 256 ح 671، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 404، كتاب الشهادات ب 45 ح 2.

(5) كالشيخ في النهاية: 688، و ابن إدريس في السرائر: 3/ 428، و العلّامة في إرشاد الأذهان: 2/ 169.

(6) كالمحقّق في شرائع الإسلام: 4/ 145، و الفاضل الآبي في كشف الرموز: 2/ 538، و الصيمري في غاية المرام: 4/ 309.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 573

[مسألة 3 إنّما لا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود لإجراء الحدّ]

مسألة 3 إنّما لا تقبل الشهادة على الشهادة في الحدود لإجراء الحدّ و أمّا في سائر الآثار فتقبل، فإذا شهد الفرع بشهادة الأصل بالسرقة لا تقطع لكن يؤخذ المال منه، و كذا يثبت بها نشر الحرمة بأمّ الموطوء و أخته و بنته، و كذا سائر ما يترتّب على الواقع المشهود به غير الحدّ (1).

______________________________

(1) الغرض من هذه المسألة بيان إمكان التفكيك بين الحدود و بين سائر الآثار، و أنّ عدم قبول الشهادة على الشهادة انّما هو بلحاظ الأثر الأوّل دون سائر الآثار، ففي مثل السرقة المتقدّم آنفاً انّما هو لا تقبل بالإضافة إلى القطع الذي هو حدّ شرعي، و أمّا بلحاظ ضمان المال المسروق الموجب لردّه عيناً أو مثلًا أو قيمة فتقبل شهادة الفرع، و كذا في اللواط، فإنّ شهادة الفرع لا تؤثّر في ثبوت حدّه و إن كانت واجدة لشرائط الشهادة فيه، و أمّا بالإضافة إلى نشر الحرمة بأمّ الموطوء و بنته

و أخته و كذا سائر ما يترتّب عليه فتقبل.

و سيأتي في كتاب الحدود «1» إن شاء اللّٰه تعالى أنّ التفكيك بين القطع و الضمان يتحقّق في موارد كثيرة، لاختصاص السرقة الموجبة للحدّ بموارد خاصّة.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 489- 635.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 574

[مسألة 4 تقبل شهادة الفرع في سائر حقوق اللّٰه غير الحدّ]

مسألة 4 تقبل شهادة الفرع في سائر حقوق اللّٰه غير الحدّ، كالزكاة و الخمس و أوقاف المساجد و الجهات العامّة بل و الأهلة أيضاً (1).

[مسألة 5 لا تقبل شهادة فرع الفرع كالشهادة على الشهادة على الشهادة]

مسألة 5 لا تقبل شهادة فرع الفرع كالشهادة على الشهادة على الشهادة و هكذا (2).

______________________________

(1) عدم قبول الشهادة على الشهادة في باب الحدود على ما هو مفاد الروايات الواردة ليس لأجل كون الحدود حقّا للّٰه تعالى حتى يتعدّى عن الحدود إلى سائر حقوق اللّٰه كالأمثلة المذكورة في المتن، بل لخصوصية فيها لا تجري في غيرها سوى التعزيرات على ما تقدّم، و لعلّها ابتناؤها على التخفيف كما يدلّ عليه حديث الدرء «1» غير الجاري في غير مثل الحدود، و عليه فتقبل شهادة الفرع في الأمثلة.

و أمّا الهلال فقد تقدّم البحث عنه في شرح المسألة الأولى من القول في الشهادة على الشهادة، فراجع.

(2) وفاقاً للمشهور «2»، بل ادّعي عليه الإجماع في كلمات غير واحد من الأصحاب «3»، و خلافاً لبعض الأعلام (قدّس سرّه)، حيث جعل الأظهر هو القبول «4»، و دليل

______________________________

(1) تقدّم في ص 174 و 272.

(2) الخلاف: 6/ 266 مسألة 15، إصباح الشيعة: 531، السرائر: 2/ 127، المختصر النافع: 418، شرائع الإسلام 4/ 96، قواعد الأحكام: 3/ 457، التنقيح الرائع: 4/ 261 و 311، مسالك الأفهام: 14/ 239، اللمعة الدمشقية: 55، كشف اللثام: 10/ 158.

(3) كابن زهرة في غنية النزوع: 442، و الشهيد الثاني في مسالك الأفهام: 14/ 269، و المقدّس الأردبيلي في مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 475.

(4) مباني تكملة المنهاج: 1/ 143 مسألة 112.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 575

..........

______________________________

المشهور أمران:

الأوّل: عدم شمول الروايات الواردة في هذا المجال «1» للمقام، و مقتضى

الأصل عدم الحجية.

و يرد عليه أنّ عدم شمول الروايات المذكورة و إن كان حقّا إلّا أنّ عدم شمول إطلاقات أدلّة حجية البيّنة غير واضح، إذ لا فرق فيه بين الأصل و الفرع و فرع الفرع و هكذا، و الإشكال الجاري في مسألة الاخبار مع الواسطة من انّ خبر الثالث كيف يثبت خبر الثاني و الأوّل قابل للدفع هنا بطريق أسهل، إذ المفروض قيام البيّنة في جميع الطبقات، و البيّنة صالحة لإثبات الموضوعات الخارجية حتى البيّنة الأُخرى، كما فرضناه «2» في شهادة الفرع على الأصل، فما المانع من ثبوت البيّنة ببيّنة أخرى ثمّ جريان حكم القبول على كلّ واحدة منها، كما لا يخفى.

الثاني: رواية عمرو بن جميع، عن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه (عليهما السّلام) قال: اشهد على شهادتك من ينصحك، قالوا كيف؟ يزيد و ينقص، قال: لا، و لكن من يحفظها عليك، و لا تجوز شهادة على شهادة على شهادة «3».

و أورد عليه بعض الأعلام (قدّس سرّه) بأنّ الرواية ضعيفة من جهة عمرو بن جميع في نفسه، و من جهة أنّ طريق الصدوق إليه ضعيف «4».

______________________________

(1) وسائل الشيعة: 27/ 402- 404، كتاب الشهادات ب 44.

(2) 569- 570.

(3) الفقيه: 3/ 42 ح 142، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 404، كتاب الشهادات ب 44 ح 6.

(4) مباني تكملة المنهاج: 1/ 143 مسألة 112.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 576

..........

______________________________

و لكن يمكن أن يقال: بانّ استناد المشهور إليها جابر لضعفها على تقديره، فلا مانع حينئذٍ من العمل بالرواية و إن كان على خلاف القاعدة، فالأقوى حينئذٍ ما عليه المشهور كما في المتن، و يؤيّده عدم التحفظ نوعاً مع الزيادة و النقيصة على

اثنين كما لا يخفى، بخلاف الأخبار مع الواسطة التي كان الداعي على حفظها كثيراً، و لذا كان الشائع بينهم المقابلة لئلّا يزيد الخبر و لا ينقص، و الإجازة الروائية ناظرة إلى هذه الجهة، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 577

[مسألة 6 يعتبر في الشهادة على الشهادة ما يعتبر في شهادة الأصل من العدد و الأوصاف]

مسألة 6 يعتبر في الشهادة على الشهادة ما يعتبر في شهادة الأصل من العدد و الأوصاف، فلا تثبت بشهادة الواحد، فلو شهد على كلّ واحد اثنان أو شهد اثنان على شهادة كلّ واحد تقبل، و كذا لو شهد شاهد أصل و هو مع آخر على شهادة أصل آخر، و كذا لو شهد شاهدان على شهادة المرأة فيما جازت شهادتها (1).

______________________________

(1) لا شبهة في أنّه يعتبر في الشهادة على الشهادة ما يعتبر في شهادة الأصل من العدد و الأوصاف المعتبرة في الشاهد المتقدّمة، و قد دلّت الموثقتان المتقدّمتان «1» على اعتبار التعدّد و الأوصاف أيضاً كذلك كما هو واضح، خصوصاً بعد كون المراد شهادة البيّنة على البيّنة، و حينئذٍ فلا تثبت شهادة شاهدي الأصل إلّا بشهادة رجلين عادلين، سواء شهدا معاً على شهادتهما أو شهد اثنان على شهادة كلّ واحد.

و منه يظهر صحّة التركيب بأن يكون هنا شاهد أصل و شهد مع شاهد آخر على شهادة أصل آخر، و كذا اللازم شهادة رجلين على شهادة المرأة فيما تجوز فيها شهادتهنّ، و أمّا فيما لا تجوز فيها شهادتهنّ فثبوت شهادتهنّ وجداناً لا يجدي فضلًا عن الثبوت بالأمارة.

______________________________

(1) تقدّمتا في ذيل المسألة الاولى من هذا المبحث.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 578

[مسألة 7 لا تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ]

مسألة 7 لا تقبل شهادة النساء على الشهادة فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ منفردات أو منضمّات، فهل تقبل فيما تقبل شهادتهنّ كذلك؟ فيه قولان أشبههما المنع (1).

______________________________

(1) امّا فيما لا تقبل فيها شهادتهنّ منفردات أو منضمّات فالوجه فيه واضح، و أمّا فيما تقبل فيها شهادتهنّ كذلك كعيوب النساء الباطنة، فوجه أشبهية المنع أنّ قبول شهادتهنّ لأجل كون المورد ممّا لا

يستطيع الرجال الاطّلاع عليه و النظر إليه غالباً، كما قد وقع التصريح به في بعض رواياته «1» على ما عرفت. و من الواضح وجود هذه الخصوصية بالإضافة إلى شهود الأصل، و أمّا بالإضافة إلى شاهد الفرع فلا مجال لبقاء هذه الخصوصية بعد كون متعلّق الشهادة هي شهادة الأصل، لا اطلاع الشاهد عليها مستقيماً و النظر إليه كذلك، فمقتضى اعتبار الرجولية في البيّنة إلّا في موارد خاصة عدم قبول شهادة النساء هنا، كما لا يخفى.

هذا، و لكنّ المحكي عن ظاهر الإسكافي «2» و المبسوط «3» القبول؛ لإطلاق ما دلّ على قبول شهادتهنّ فيه الشامل لذلك أصلًا و فرعاً، و يرد عليه مضافاً إلى ظهور نصوص الشهادة على الشهادة في الرجل ما عرفت من العلّة في قبول شهادتهنّ منفردات من أنّه لا يستطيع الرجال النظر

______________________________

(1) في ص 556- 557.

(2) حكى عنه في مختلف الشيعة: 8/ 529 مسألة 91.

(3) المبسوط: 8/ 233- 234، و كذا في الخلاف: 6/ 316 مسألة 66.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 579

..........

______________________________

إليه، و من المعلوم عدم جريان هذه العلّة في الشهادة على الشهادة، فالأقوى ما عليه المشهور «1» وفاقاً للمتأخّرين «2».

______________________________

(1) السرائر: 2/ 128 129، شرائع الإسلام: 4/ 140، قواعد الأحكام: 3/ 505، تحرير الأحكام: 5/ 283، الرقم 6700، إيضاح الفوائد: 4/ 447- 448، التنقيح الرائع: 4/ 319، مسالك الافهام: 14/ 284، غاية المراد: 4/ 161- 163، جواهر الكلام: 41/ 208.

(2) كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 779- 870، مفاتيح الشرائع: 3/ 293، رياض المسائل: 13/ 389- 390.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 580

[مسألة 8 الأقوى عدم قبول شهادة الفرع إلّا لعذر يمنع حضور شاهد الأصل لإقامتها]

مسألة 8 الأقوى عدم قبول

شهادة الفرع إلّا لعذر يمنع حضور شاهد الأصل لإقامتها، لمرض أو مشقّة يسقط بهما وجوب حضوره، أو لغيبة كان الحضور معها حرجاً و مشقّة، و من المنع الحبس المانع عن الحضور (1).

______________________________

(1) عدم قبول شهادة الفرع إلّا في صورة العذر هو المشهور شهرة محقّقه «1»، بل في الخلاف الإجماع عليه، و حكى الخلاف عن بعض الأصحاب «2»، و هو والد الصدوق (قدّس سرّه) «3»، و في محكيّ كشف اللثام الأقوى عدم الاشتراط «4»، و يؤيده فرض اجتماع شاهد الأصل و الفرع و اختلافهما في بعض الكلمات. و عمدة الدليل على العدم رواية محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في الشهادة على شهادة الرجل و هو بالحضرة في البلد، قال: نعم، و لو كان خلف سارية يجوز ذلك إذا كان لا يمكنه أن يقيمها هو لعلّة تمنعه عن أن يحضره و يقيمها، فلا بأس بإقامة الشهادة على شهادته «5»، و أورد عليها بعض الأعلام (قدّس سرّه) بضعف السند، فإنّها مروية بطريقين، ففي

______________________________

(1) المبسوط: 8/ 232- 233، غنية النزوع: 442، إصباح الشيعة: 531، الوسيلة: 233، الجامع للشرائع: 544، شرائع الإسلام: 4/ 139، قواعد الأحكام: 3/ 506، و ادّعى الشهرة هنا في مسالك الأفهام: 14/ 277، و كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 779، و رياض المسائل: 13/ 393، و مفاتيح الشرائع:

3/ 293، و جواهر الكلام: 41/ 199.

(2) الخلاف: 6/ 315 مسألة 65.

(3) السرائر: 2/ 127، كشف الرموز: 2/ 532، غاية المراد: 4/ 164، مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 481، و كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 779، و رياض المسائل: 13/ 393، و نقل الشيخ في الخلاف:. 6/ 315 مسألة 65 هذا

القول عن بعض أصحابنا.

(4) كشف اللثام: 2/ 385.

(5) تهذيب الأحكام: 6/ 256 ح 672، الاستبصار: 3/ 20 ح 59، الفقيه: 3/ 42 ح 141، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 402، كتاب الشهادات ب 44 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 581

..........

______________________________

التهذيب بسنده عن محمد بن مسلم، و في السند ذُبيان بن حكيم و هو مهمل، و رواها الشيخ الصدوق بسنده إلى محمد بن مسلم، و في السند علي بن أحمد بن أبي عبد اللّٰه، عن أبيه، و كلاهما لم يوثّقا «1».

هذا، و لكن استناد المشهور إلى الرواية خصوصاً بعد كون مفادها على خلاف القاعدة جابر لضعفها، و لا حاجة إلى ما قيل: من أنّ الفرع أضعف، و لا وجه للعدول إليه عن الأقوى مع الإمكان.

ثمّ إنّ مقتضى الرواية عدم إمكان إقامة الشهادة لشاهد الأصل لعلّة تمنعه عن أن يقيمها، و العلّة المانعة مضافاً إلى أنّ المانعية عرفية لا عقلية تشمل المرض و الغيبة التي كان الحضور معها حرجاً و مشقّة، و الحبس المانع عن الحضور كذلك.

و بالجملة: كلّ أمر يمنع عن الحضور لأجل العسر و المشقة الرافعة للتكليف خلافاً لبعض العامة حيث اعتبر مسافة القصر، و للبعض الآخر حيث اعتبر تعذّر الرجوع إلى منزله ليبيت فيه «2»، بل الضابط ما أفاده المحقّق في الشرائع حيث قال: و ضابطه مراعاة المشقّة على شاهد الأصل في حضوره «3».

______________________________

(1) مباني تكملة المنهاج: 1/ 145 مسألة 115.

(2) الخلاف: 6/ 315 مسألة 65، الحاوي الكبير: 21/ 242- 243، حلية العلماء: 8/ 297- 298، المغني لابن قدامة: 12/ 89- 90، روضة الطالبين: 10/ 71، المحلّى بالآثار: 8/ 540.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 924.

تفصيل الشريعة في شرح

تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 582

[مسألة 9 لو شهد الفرع على شهادة الأصل فأنكر شاهد الأصل]

مسألة 9 لو شهد الفرع على شهادة الأصل فأنكر شاهد الأصل، فإن كان بعد حكم الحاكم فلا يلتفت إلى الإنكار، و إن كان قبله فهل تطرح بيّنة الفرع أو يعمل بأعدلهما و مع التساوي تطرح الشهادة؟ وجهان (1).

______________________________

(1) لو شهد الفرع على شهادة الأصل و حكم الحاكم على طبق شهادة الفرع ثمّ أنكر شاهد الأصل بعد حكم الحاكم، فلا يلتفت إلى الإنكار بعد فرض وقوع الحكم على طبق الموازين، و توقّف الصحة على عدم الإنكار و لو في الآتي مستلزم لعدم صدور الحكم رأساً.

و أمّا لو وقع إنكار الأصل قبل حكم الحاكم فقد ورد فيه بعض الروايات، مثل:

صحيحة عبد الرّحمن، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال: إنّي لم أشهده، قال: تجوز شهادة أعدلهما، و إن كانت عدالتهما واحدة لم تجز شهادته «1»، و رواه في الوسائل في باب واحد بعنوان روايتين مع أنّه من الواضح الوحدة و عدم التعدّد.

و صحيحة ابن سنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في رجل شهد على شهادة رجل فجاء الرجل فقال: لم أشهده، قال: فقال: تجوز شهادة أعدلهما، و لو كان أعدلهما واحداً لم تجز شهادته «2»، و الظاهر أنّ الجملة الأخيرة كانت مثل الجملة الأخيرة في الرواية السابقة

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 41 ح 137، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 405، كتاب الشهادات ب 46 ح 1.

(2) تهذيب الأحكام: 6/ 256 ح 670، الكافي: 7/ 399 ح 1، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 405، كتاب الشهادات ب 46، ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 583

..........

______________________________

ضرورة أنّ ظاهرها غير صحيح، فإنّه مضافاً إلى أنّ الأعدلية في عدلين إذا كانت ثابتة لا تعقل أن تكون في أزيد من واحد يرد عليه أنّ الجملة الأولى تدلّ على جواز شهادة أعدلهما فكيف تدل الجملة الثانية على خلافها، كما أنّ الظاهر أنّ الصحيح في قوله: «لم تجز شهادته» هو لم تجز شهادة في كلتا الروايتين؛ لأنّه مع وحدة العدالة لا معنى لعدم جواز شهادة واحد منهما خصوصاً مع كون المراد الواحد المعيّن.

و كيف كان تدلّ الصحيحتان بالصراحة على جواز شهادة الأعدل فقط، و بالظهور على عدم الجواز مطلقاً مع التساوي.

هذا، و قد استشكل المحقّق في الشرائع فيما ذكر بقوله: و هو يشكل بما أنّ الشرط في قبول الفرع عدم الأصل «1». و لعلّه لأجل ذلك حكي عن ابن حمزة «2» و العلّامة في المختلف «3» العمل بالروايتين بالإضافة إلى ما بعد الحكم، نظراً إلى الجمع بينهما و بين ما دلّ على اشتراط تعذّر حضور الأصل.

هذا، و لكن لا ينبغي إنكار ظهور الصحيحتين بالنسبة إلى قبل الحكم، و لعلّه لذا دفع المحقّق إشكاله بقوله: و ربما أمكن لو قال الأصل: لا أعلم «4»، لا إذا كذّب الفرع، لكنّه كما ترى خصوصاً مع التصريح بجواز شهادة الأعدل أعمّ ممّا إذا كان أصلًا أو فرعاً.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 139.

(2) الوسيلة: 234.

(3) مختلف الشيعة: 8/ 526 مسألة 89.

(4) شرائع الإسلام: 4/ 139.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 584

..........

______________________________

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ منع حضور شاهد الأصل عن الشهادة على طبق شاهد الفرع انّما هو فيما إذا كان الأصل باقياً على شهادته، و إلّا فلو فرض نسيانه رأساً بحيث لا يجدي التذكّر أيضاً

في رفع النسيان لما كان يمنع حضوره عن شهادة الفرع و الحكم على طبقها، و من الممكن أن يكون إنكاره مثل نسيانه، و كيف كان فلا مساغ للاعراض عن الصحيحتين الظاهرتين فيما قبل الحكم، فتدبّر.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 585

[القول في اللّواحق]

اشارة

القول في اللّواحق

[مسألة 1 يشترط في قبول شهادة الشاهدين تواردهما على الشي ء الواحد]

مسألة 1 يشترط في قبول شهادة الشاهدين تواردهما على الشي ء الواحد فان اتفقا حكم بهما، و الميزان اتّحاد المعنى لا اللفظ، فإن شهد أحدهما بأنّه غصب و الآخر بأنّه انتزع منه قهراً أو قال أحدهما: باع و الآخر ملّكه بعوض تقبل، و لو اختلفا في المعنى لم تقبل، فإن شهد أحدهما بالبيع و الآخر بإقراره بالبيع و كذا لو شهد أحدهما بأنّه غصبه من زيد و الآخر بأنّ هذا ملك زيد لم تردا على معنى واحد؛ لأنّ الغصب منه أعمّ من كونه ملكاً له (1).

______________________________

(1) وجه اعتبار توارد الشاهدين على الشي ء الواحد واضح، ضرورة أنّه مع عدم التوارد لم تقم البيّنة على مورد واحد، بل قامت شهادة عدل واحد على كلّ مورد من الموردين، غاية الأمر عدم اعتبار الاتّحاد في اللفظ و العبارة، بل الاتحاد في المعنى على حسب فهم العرف، فلو شهد أحدهما بعنوان الغصب و الآخر بعنوان الانتزاع منه قهراً و عدواناً، أو قال أحدهما: إنّه باع و قال الآخر: إنّه ملّكه بعوض

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 586

..........

______________________________

تقبل الشهادتان.

و أمّا لو كان المعنى المشهود به مختلفاً، كأن شهد أحدهما بعنوان البيع و الآخر بإقراره بالبيع، لم تقبل لمغايرة البيع مع الإقرار، و كذا لو شهد أحدهما بأنّه غصبه من زيد و الآخر بأنّ هذا ملك زيد لم تردا على معنى واحد؛ لأنّ الغصب منه أعمّ من كونه ملكاً له.

و هكذا إذا اتّفقا على أمر و اختلفا في زمانه، فقال أحدهما: إنّه باعه في شهر كذا، و قال الآخر: إنّه باعه في شهر آخر، بخلاف ما إذا كان أحدهما مطلقاً من حيث الزمان

و الآخر مقيّداً بزمان مخصوص، و كذلك لا تقبل إذا اختلفا في المتعلّق، كما إذا قال أحدهما: إنّه سرق ديناراً، و قال الآخر: سرق درهماً و هكذا، ففي جميع ذلك و أمثاله لم يتحقق التوارد على شي ء واحد كما لا يخفى، و سيأتي في بعض المسائل الآتية إن شاء اللّٰه تعالى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 587

[مسألة 2 لو شهد أحدهما بشي ء و شهد الآخر بغيره]

مسألة 2 لو شهد أحدهما بشي ء و شهد الآخر بغيره، فإن تكاذبا سقطت الشهادتان فلا مجال لضمّ يمين المدّعى، و إن لم يتكاذبا فإن حلف مع كلّ واحد يثبت المدّعىٰ، و قيل: يصحّ الحلف مع أحدهما في صورة التكاذب أيضاً، و الأشبه ما ذكرناه (1).

______________________________

(1) لو شهد أحدهما بشي ء و شهد الآخر بغيره، فإن لم يتحقّق بينهما التكاذب الراجع إلى تكذيب كلّ واحد منهما ما يشهد به الآخر، فالمورد من موارد ضمّ يمين المدّعى إلى الشاهد الواحد؛ لأنّ المفروض إمكان الجمع بين الشهادتين و معهما يمين المدّعى، و المورد يكفي فيه الشاهد الواحد مع اليمين، و إن وقع بينهما التكاذب فقد نسب الاجتزاء باليمين في صورة التكاذب في الدروس إلى القيل «1» مشعراً بتمريضه، و لكن ذكر في الجواهر: إنّه في غير محلّه؛ لأنّ التكاذب المقتضي للتعارض الذي يفزع فيه للترجيح و غيره انّما يكون في البيّنين الكاملتين لا بين الشاهدين، كما هو واضح «2».

و لكنّه يمكن أن يقال بوجود ملاك التساقط على ما تقتضيه القاعدة في الأمارتين المتعارضتين في الشاهدين أيضاً بعد كون الاعتبار لهما من هذا الباب، و إن كان لا فائدة فيه مع عدم ضمّ اليمين كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) الدروس الشرعية: 2/ 135.

(2) جواهر الكلام: 41/ 212.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 588

[مسألة 3 لو شهد أحدهما بأنّه سرق نصاباً غدوة و الآخر بأنّه سرق نصاباً عشيّة لم يقطع و لم يحكم بردّ المال]

مسألة 3 لو شهد أحدهما بأنّه سرق نصاباً غدوة و الآخر بأنّه سرق نصاباً عشيّة لم يقطع و لم يحكم بردّ المال، و كذا لو قال الآخر: سرق هذا النصاب بعينه عشية (1).

______________________________

(1) امّا عدم القطع و عدم الحكم بردّ المال في الصورة الثانية فلأجل عدم توارد الشهادتين على فعل واحد؛ لأنّ المفروض شهادة أحدهما بسرقة النصاب غدوة و الآخر بأنّ ذلك النصاب قد سرق عشيّة، و الاختلاف في الزمان موجب لتحقّق المغايرة بين الأمرين، و أمّا في الصورة الأُولى التي يكون المشهود به فيها سرقة النصاب فلأجل ما ذكر من أنّه شهادة على فعلين لم يثبت أحدهما، و قد ذكر المحقّق في الشرائع: لو شهد أحدهما أنّه سرق نصاباً غدوة و شهد الآخر أنّه سرق عشية لم يحكم بها؛ لأنّها شهادة على فعلين، و كذا لو شهد الآخر أنّه سرق ذلك بعينه عشية؛ لتحقّق التعارض أو لتغاير الفعلين «1».

و قال في المسالك: إنّ في التعليل لفّ و نشر غير مرتّب، فإنّ تحقّق التعارض الذي علّل به أوّلًا يحصل في الفرض الثاني، و تغاير الفعلين يحصل في الأول «2».

و أورد عليه في الجواهر بظهور العبارة بل صريحها في كون الأخيرتين علّتين للأخيرة فقط «3»، غاية الأمر انّ العلّة الأُولى مرتبطة بصورة اتفاقهما على اتّحاد الفعل و الأخيرة بصورة عدم الاتفاق، كما إذا احتمل رجوع النصاب منه ثمّ سرقه منه عشية مرّة أُخرى، و كيف كان فالأمر سهل كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 141.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 289.

(3) جواهر الكلام: 41/ 212.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 589

[مسألة 4 لو اتفق الشاهدان في فعل و اختلفا في زمانه أو مكانه أو وصفه بما يوجب تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما]

مسألة 4 لو اتفق الشاهدان في فعل و اختلفا في زمانه

أو مكانه أو وصفه بما يوجب تغاير الفعلين لم تكمل شهادتهما، كما لو قال أحدهما: سرق ثوباً في السّوق و الآخر: سرق ثوباً في البيت، أو قال: أحدهما: سرق ديناراً عراقيّاً و قال الآخر: سرق ديناراً كويتياً، أو قال أحدهما: سرق ديناراً غدوة و الآخر: عشية، فإنّه لم يقطع و لم يثبت الغرم إلّا إذا حلف المدّعى مع كلّ واحد فإنّه يغرم الجميع، فلو تعارضت شهادتهما تسقط، و لا يثبت بهما شي ء و لو مع الحلف، و كذا لو تعارضت البينتان سقطتا على الأشبه، كما لو شهدت إحداهما بأنّه سرق هذا الثوب أوّل زوال يوم الجمعة في النجف و شهدت الأُخرى بأنّه سرق هذا الثوب بعينه أوّل زوال هذا اليوم بعينه في بغداد، و لا يثبت بشي ء منها القطع و لا الغرم (1).

______________________________

(1) لو اتّفق الشاهدان في أصل الفعل و اختلفا في خصوصياته من حيث الزمان أو المكان أو الوصف، كالأمثلة المذكورة في المتن، ففيه لم تكمل شهادتهما، فلا يقطع و لم يثبت الغرم إلّا إذا حلف المدّعى مع كلّ واحد، فإنّه يغرم الجميع، و الوجه فيه ما ذكرنا من عدم توارد الشهادتين على فعل واحد، خصوصاً مع أنّ الخصوصيات المزبورة قيود راجعة إلى الفعل، و نسبته إلى الفاعل على ما حقّقناه في المعاني الحرفية من علم الأُصول من أنّ كلّ القيود ترجع إلى الإضافة، و النسبة التي هي معنى حرفي «1».

هذا، و يكن أن يقال: إنّ الخصوصيات حيث إنّه لا دخل لها في ثبوت الحدّ

______________________________

(1) سيرى كامل در اصول فقه: 1/ 341- 447.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 590

..........

______________________________

ضرورة أنّ الموجب للحكم بثبوت الحدّ هو أصل السرقة

مع الشرائط المذكورة في محلّه «1». و أمّا كون زمان السرقة يوم الجمعة أو يوم السبت، أو كون مكانها السوق أو البيت، أو كون المال المسروق ديناراً عراقيا أو كويتياً فلا دخل له في ذلك، و عليه فأصل السرقة الموجب للحكم بثبوت الحدّ متّفق عليه بين الشاهدين، و الخصوصيات المختلف فيها لا دخل لها في ذلك، لكنّ الذي استظهر صاحب الجواهر من كلام الأصحاب في مثل القتل ممّا لا يقبل التعدّد عدم تكمّل الشهادة و عدم ثبوت القطع «2».

هذا، و لو كانت هناك بينتان و وقع التعارض بينهما، كالمثال الأخير المذكور في المتن، ففيه أنّه سقطتا على الأشبه، و الوجه فيه ما عرفت من أنّ مقتضى القاعدة في تعارض الأمارتين هو التساقط، إلّا في مثل الخبرين المتعارضين اللذين ورد فيهما الأخبار العلاجيّة، كمقبولة ابن حنظلة و غيرها «3»، و لا مجال لإلغاء الخصوصية منها لا بالإضافة إلى مطلق الأمارتين و لا بالإضافة إلى خصوص ما يشابه الخبرين من الأمارتين، كما لا يخفى.

و عليه فلا يثبت بشي ء منهما في المقام لا القطع و لا الغرم.

______________________________

(1) تفصيل الشرية في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 489- 501.

(2) جواهر الكلام: 41/ 213.

(3) وسائل الشيعة: 27/ 106- 124، كتاب القضاء، أبواب صفات القاضي ب 9 و قد تقدّم في ص 252.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 591

[مسألة 5 لو شهد أحدهما أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال في هذا اليوم بدينار، و شهد آخر أنّه باعه أوّل الزوال بدينارين]

مسألة 5 لو شهد أحدهما أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال في هذا اليوم بدينار، و شهد آخر أنّه باعه أوّل الزوال بدينارين لم يثبت و سقطتا، و قيل: كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين، و فيه ضعف، و لو شهد له مع كلّ واحد شاهد

آخر قيل ثبت الديناران و الأشبه سقوطهما، و كذا لو شهد واحد بالإقرار بألف و الآخر بألفين في زمان واحد سقطتا، و قيل: يثبت بهما الألف و الآخر بانضمام اليمين إلى الثاني و هو ضعيف، فالضابط أنّ كلّ مورد وقع التعارض سقط المتعارضان بيّنة كانا أو شهادة واحدة، و مع عدم التعارض عمل بالبيّنة و تثبت مع الواحد و يمين المدّعى الدعوى (1).

______________________________

(1) وقع التعرّض في هذه المسألة لفروع متعدّدة:

الأوّل: ما لو شهد أحد الشاهدين أنّه باع هذا الثوب أوّل الزوال في هذا اليوم بدينار، و شهد آخر أنّه باع هذا الثوب في نفس الوقت من آخر بدينارين، ففي المتن لم يثبت أي البيع مطلقا و سقطتا؛ لأنّ المفروض تعارض الشاهدين لا البينتين، و الدليل عليه ما عرفت من عدم تمامية الشهادة على كلّ واحد من البيعين؛ لأنّ المفروض عدم توارد الشهادتين على مورد واحد بعد كون الثمن قوام البيع من ناحية و اختلافهما فيه من ناحية أُخرى، و عليه فلا يكون للبائع مطالبة أحد المشتريين بشي ء من الثمنين.

و لكن ذكر المحقّق في الشرائع: و كان له المطالبة بأيّهما شاء مع اليمين «1» و استضعفه الماتن (قدّس سرّه)، و لعلّ وجهه أنّ الاكتفاء بالشاهد و اليمين في الحقوق المالية انّما

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 141.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 592

..........

______________________________

هو فيما إذا لم يكن للشاهد معارض، و مع التعارض الموجب للسقوط لا محالة لا مجال للمطالبة بوجه.

الثاني: ما لو شهد له مع كلّ واحد شاهد آخر، بأن قامت البيّنة على كلّ واحد من البيعين، ففي الشرائع ثبت الديناران «1»، و في المتن الأشبه سقوطهما، و الوجه في السقوط

هو التعارض الموجب له، و في ثبوت الدينارين هو قيام البيّنة عليه أيضاً، و عليه فإذا ادّعى الدينارين ثبتا و لغت البيّنة الأُخرى، و لكن في محكي المبسوط «2» و جواهر القاضي «3» أنّ البيّنتين متعارضتان فيقرع، و أُورد عليهما صاحب الجواهر (قدّس سرّه) بأنّه انّما يتمّ إذا كان لكلّ من الثمنين مدّعٍ، كأن يدّعي المشتري أنّه اشتراه بدينار و البائع بدينارين «4»، و الحقّ مع المتن.

الثالث: ما لو شهد واحد بالإقرار بألف أي لزيد في زمان معيّن، و شهد الآخر بألفين أي لزيد في نفس ذلك الزمان، و المذكور في الكتاب المذكور «5» أنّه يثبت الألف بهما و الآخر بانضمام اليمين «6» و لعلّ الوجه فيه أنّ الألف متّفق عليه بينهما و الألف الآخر له شاهد و يمين، و فرّق بينه و بين البيع بدينار أو دينارين صاحب الجواهر (قدّس سرّه) «7»، مع اشتراكهما في

______________________________

(1) شرائع الإسلام: 4/ 141.

(2) المبسوط: 8/ 242.

(3) جواهر الفقه: 232- 233 مسألة 807.

(4) جواهر الكلام: 41/ 215.

(5) أي الشرائع.

(6) شرائع الإسلام: 4/ 141.

(7) جواهر الكلام: 41/ 214- 215.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 593

..........

______________________________

امتناع الوقوع في وقت واحد أنّ المشهود به في البيع غير قابل للاجتماع في نفسه، و أمّا في باب الإقرار فإنّ التلفّظ بلفظين مختلفين في وقت واحد و إن كان ممتنعاً إلّا أنّ الشهادة بدينار لا تنفي الزائد، فيجوز أن لا يكون الشاهد سمع إلّا ديناراً أو لم يقطع إلّا به و تردّد في الزائد أو مثل ذلك.

هذا، و لكن ضعّفه الماتن (قدّس سرّه) نظراً إلى أنّ التعارض مطلقا موجب للتساقط، سواء كان الطرفان هما البينتين أو الشاهدين لما

ذكرنا سابقاً، نعم لو لم يكن هناك تعارض لكان العمل بالشاهد الواحد مع انضمام اليمين في محلّه.

[مسألة 6 لو شهدا عند الحاكم و قبل أن يحكم بهما ماتا أو جنّا أو أُغمي عليهما حكم بشهادتهما]

مسألة 6 لو شهدا عند الحاكم و قبل أن يحكم بهما ماتا أو جنّا أو أُغمي عليهما حكم بشهادتهما، و كذا لو شهدا ثمّ زكّيا بعد عروض تلك العوارض حكم بهما بعد التزكية، و كذا لو شهدا ثمّ فسقا أو كفرا قبل الحكم حكم بهما، بل لا يبعد ذلك لو شهد الأصل و حمل الفرع و كان الأصل عادلًا ثمّ فسق ثمّ شهد الفرع، و لا فرق في حدود اللّٰه تعالى و حقوق الناس في غير الفسق و الكفر، و أمّا فيهما فلا يثبت الحدّ في حقوق اللّٰه محضاً كحدّ الزنا و اللواط، و في المشتركة بينه و بين العباد كالقذف و السرقة تردّد، و الأشبه عدم الحدّ، و أمّا في القصاص فالظاهر ثبوته (1).

(1) لو شهدا عند الحاكم مع اجتماع شرائط الشهادة، و لكنّه قبل الحكم و إنشائه عرض لهما أو لأحدهما الموت أو الجنون أو الإغماء، فلا إشكال بل لا خلاف في جواز الحكم بشهادتهما «1»؛ لأنّ المفروض اجتماع شرائط الشهادة عند إقامتها و أدائها، و لم يدلّ دليل على لزوم البقاء إلى تمامية الحكم بل لا وجه له أصلًا، لعدم دخالة البقاء في حكمه.

و كذا لو شهدا و قبل أن يزكّيا عرض لهما أو لأحدهما شي ء من العوارض السابقة، ثمّ زكّيا بعده أو شهدا ثمّ عرض لهما أو لأحدهما الفسق أو الكفر قبل الحكم، فإنّه لا يمنع ذلك عن الحكم بعد اجتماع الشرائط وجداناً أو بالبيّنة قبل حكم الحاكم، و استناد الحكم إلى البيّنة الجامعة للشرائط، بل نفى في المتن البُعد عن ذلك لو شهد

الأصل و حمل الفرع و كان الأصل عادلًا ثمّ فسق ثمّ شهد شاهد الفرغ.

______________________________

(1) مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 521- 522، جواهر الكلام: 41/ 217، مباني تكملة المنهاج: 1/ 148.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 595

..........

______________________________

ثمّ إنّه لا فرق فيما ذكر بين حقوق الناس و بين حدود اللّٰه تبارك و تعالى في غير الفسق و الكفر، و أمّا فيهما فقد ذكر في المتن أنّه لا يثبت في حقوق اللّٰه محضاً كحدّ الزنا و اللّواط، بل قال في الجواهر: بلا خلاف أجده فيه «1»، بل في المسالك اتّفاق الفريقين على ذلك «2» معلّلًا له في الشرائع بأنّه مبنيّ على التخفيف و لأنّه نوع شبهة «3»، و لأجل ذلك يتحقّق الفرق بين الفسق و الكفر و بين الجنون الذي يكون الظاهر اتفاقهم على عدم سقوط الحدّ فيه.

و أمّا الحقوق المشتركة بينه تعالى و بين العباد، كالقذف و السرقة بالإضافة إلى القطع فقد تردّد فيه الماتن (قدّس سرّه)، و لكنّ المحقّق في الشرائع جعل الأشبه الحكم لتعلّق حق الآدمي به «4»، مع أنّه لا فرق في الشبهة الدارئة للحدّ بين حق اللّٰه محضاً و الحقّ المشترك. نعم في القصاص الذي هو من حقوق الآدميين محضاً و لأجله يسقط بالإسقاط مطلقا أو مع الدّية في صورة رضا الجاني الظاهر الثبوت، و لا مجال لاحتمال كونه من الحدود، كما لا يخفىٰ.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 219.

(2) حكاه عنه في جواهر الكلام: 41/ 219، لكن لم نجد هذه العبارة في مسالك الأفهام، بل قال في ج 14/ 295: اتفق القائلان، و في الطبعة الحجرية منه ج 2/ 419: اتّفق القائلون، و يمكن أن يراد من «الفريقين»

القائلون بقولين السابقين في أصل المسألة.

(3) شرائع الإسلام: 4/ 142.

(4) شرائع الإسلام: 4/ 142.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 596

[مسألة 7 قالوا: لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما لم يحكم به لهما بشهادتهما]

مسألة 7 قالوا: لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما لم يحكم به لهما بشهادتهما، و فيه تردّد و إشكال، و أشكل منه ما قيل: إنّه لم يثبت بشهادتهما لشريكهما في الإرث، و الوجه في ذلك ثبوت حصّة الشريك (1).

______________________________

(1) قالوا: لو شهدا لمن يرثانه فمات قبل الحكم فانتقل المشهود به إليهما لم يحكم به لهما بشهادتهما، و قد نفى وجدان الخلاف فيه في الجواهر «1»، بل عن المسالك اتّفاق الجميع عليه «2» معلّلين له باقتضاء ذلك الحكم لهما بشهادتهما، مع أنّ مقتضى القاعدة خلاف ذلك، فانّ مقتضاها وجدان الشرائط حين إقامة الشهادة و أدائها، و المفروض أنّه كذلك، و الموت قبل الحكم أمر لا يطّلع عليه الشاهدان نوعاً، فإن ثبت إجماع فهو و إلّا فهو محلّ إشكال، و لذا تردّد فيه الماتن (قدّس سرّه) و استشكل، و أشدّ إشكالًا ما قيل كما في محكيّ قواعد الفاضل: من أنّه لا يحكم لهما و لا لشركائهما في الميراث بشهادتهما «3»، و إن احتمل في المسالك «4» و كشف اللثام «5» القبول في حصّة الشريك، لكن في الجواهر لم نجد به قائلًا كما اعترف به في المسالك «6»، لكنّ الماتن (قدّس سرّه) قد استوجهه، و لعلّه لما ذكرنا من أنّ مقتضى القاعدة ثبوت حقّهما فضلًا عن الشريك، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 219.

(2) مسالك الأفهام: 14/ 296.

(3) قواعد الأحكام: 3/ 515.

(4) مسالك الأفهام: 14/ 296.

(5) كشف اللثام: 10/ 393.

(6) جواهر الكلام: 41/ 220.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير

الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 597

[مسألة 8 لو رجع الشاهدان أو أحدهما عن الشهادة قبل الحكم و بعد الإقامة لم يحكم بها و لا غرم]

مسألة 8 لو رجع الشاهدان أو أحدهما عن الشهادة قبل الحكم و بعد الإقامة لم يحكم بها و لا غرم، فان اعترفا بالتعمّد بالكذب فسقا و إلّا فلا فسق، فلو رجعا عن الرجوع في الصورة الثانية فهل تقبل شهادتهما؟ فيه إشكال، فلو كان المشهود به الزنا و اعترف الشهود بالتعمّد حدّوا للقذف، و لو قالوا: أوهمنا فلا حدّ على الأقوىٰ (1).

______________________________

(1) لو رجع الشاهدان أو أحدهما عن الشهادة قبل الحكم و بعد الإقامة و الأداء لم يحكم بسبب هذه الشهادة و لا غرم؛ لأنّ المفروض عدم الحكم، كما أنّ عدم الحكم لأجل وضوح اعتبار عدم الرجوع قبل الحكم و بعد الإقامة، و مجرّد الحدوث لا يكفي في صحّة الحكم، و قوله (صلّى اللّٰه عليه و آله): إنّما أقضي بينكم بالبيّنات و الإيمان «1» يكون المنسبق إلى الأذهان منه البيّنات الباقية على الشهادة التي أقاموها إلى زمان الحكم و إنشائه، و لا يقاس الرجوع بالموت قبل الحكم، حيث إنّك عرفت جواز الحكم بالشهادة في مثل الثاني، فإنّ الموت لا ينافي الشهادة بخلاف الرجوع.

أضف إلى ذلك دلالة مرسلة جميل، عن أحدهما (عليهما السّلام) التي هي كالصحيح على ما في الجواهر «2»، سيّما مع اعتضادها بالفتوى في الشهود إذا [شهدوا على رجل ثمّ «3»] رجعوا عن شهادتهم و قد قضي على الرجل، ضمنوا ما شهدوا به و غرموا، و إن لم يكن قضي طرحت بشهادتهم و لم يغرّم الشهود شيئاً «4».

______________________________

(1) تقدم في ص 135.

(2) جواهر الكلام: 41/ 220، و كذا في رياض المسائل: 13/ 398.

(3) هذه الزيادة من التهذيب.

(4) الكافي: 7/ 383 ح 1، تهذيب الأحكام: 6/ 259 ح

685، الفقيه: 3/ 37 ح 124، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 326، كتاب الشهادات ب 10 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 598

..........

______________________________

ثمّ إن اعترفوا بأنّهم تعمّدوا الكذب فسقوا فلا يعبأ بشهادتهم بعد ذلك ما لم تتحقّق العدالة المعتبرة في الشاهد، و إن كان يمكن أن يقال: بأنّ الاعتراف بأنّهم تعمّدوا الكذب لا ينافي قبول هذه الشهادة؛ لأنّ التعمّد بالكذب انّما يتحقّق بتمامية الشهادة، ضرورة أنّ الصدق و الكذب من عوارض الخبر، و هو متقوّم بالنسبة أو الهوهوية، و عليه فلا ينافي الاعتراف بالتعمّد مع قبول هذه الشهادة، نعم له أثر بالإضافة إلى الشهادة بعداً.

و إن اعترفوا بالخطإ و الاشتباه فلا فسق، و في هذه الصورة إذا رجعوا عن الرجوع فهل تقبل فيها الشهادة منهم بعد كون المفروض عدم تحقق الفسق؟ فقد وردت فيها رواية محمد بن قيس الصحيحة، عن الباقر (عليه السّلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق و ليس الذي قطعت يده، انّما شبّهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدّية، و لم يجز شهادتهما على الآخر «1».

و قد أفتى بمضمونها في محكيّ القواعد «2» و المسالك «3»، و لكن في محكي كشف اللثام القبول إذا كانا معروفين بالعدالة و الضبط «4»، و لكنّ الظاهر لزوم

______________________________

(1) الكافي: 7/ 384 ح 8، تهذيب الأحكام: 6/ 261 ح 692، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 332، كتاب الشهادات ب 14 ح 1.

(2) قواعد الأحكام: 3/ 510.

(3) مسالك الأفهام: 14/ 297- 299.

(4) كشف اللثام: 10/ 378.

تفصيل الشريعة في

شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 599

..........

______________________________

العمل على طبق الرواية و إن كان على خلاف القاعدة و العمومات لصحتها، كما عرفت.

ثمّ إنّه لو كان المشهود به هو مثل الزّنا و اعترف الشهود بالتعمّد حدّوا للقذف؛ لما يأتي في كتاب الحدود «1» من أنّ شهود مثل الزنا إذا لم يكن جامعين لشرائط الشهادة عليه حدّوا جميعاً للقذف، و لو قالوا: غلطنا فعن المبسوط «2» و جواهر القاضي «3» يحدّون أيضاً، و في محكيّ المسالك فيه وجهان: أحدهما: المنع لأن الغالط معذور، و أظهرهما الوجوب لما فيه من التعيير، و كان من حقّهم التثبّت و الاحتياط، و على هذا تردّ شهادتهم، و لو قلنا: لا حدّ فلا ردّ «4»، و يؤيّده مرسلة ابن محبوب، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في أربعة شهدوا على رجل محصن بالزنا، ثمّ رجع أحدهم بعد ما قتل الرّجل، قال: إن قال الرابع: أوهمت ضرب الحدّ و أغرم الدّية، و إن قال: تعمّدت قتل «5»، لكن لا شبهة في أنّ الغالط الغافل معذور، و لا ينبغي الارتياب في سقوط الحدّ مع الشبهة، و لذا يكون مختار المتن عدم ثبوت الحدّ، و المرسلة غير منجبرة، فتدبّر جيّداً.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب الحدود: 132- 133.

(2) المبسوط: 8/ 10.

(3) جواهر الفقه: 1/ 226- 227 مسألة 782.

(4) مسالك الأفهام: 14/ 297.

(5) الكافي: 7/ 384 ح 4، تهذيب الأحكام: 6/ 260 ح 691، و ج 10/ 311 ح 1162 و عنهما وسائل الشيعة:

27/ 328، كتاب الشهادات ب 12 ح 1.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 600

[مسألة 9 لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء و تلف المشهود به لم ينقض الحكم و عليهما الغرم]

مسألة 9 لو رجعا بعد الحكم و الاستيفاء و

تلف المشهود به لم ينقض الحكم و عليهما الغرم، و لو رجعا بعد الحكم قبل الاستيفاء، فان كان من حدود اللّٰه تعالى نقض الحكم، و كذا ما كان مشتركاً نحو حدّ القذف و حدّ السرقة، و الأشبه عدم النقض بالنسبة إلى سائر الآثار غير الحدّ كحرمة أم الموطوء و أخته و بنته، و حرمة أكل لحم البهيمة الموطوءة و قسمة مال المحكوم بالرّدة و اعتداد زوجته، و لا ينقض الحكم على الأقوى فيما عدا ما تقدّم من الحقوق، و لو رجعا بعد الاستيفاء في حقوق الناس لم ينقض الحكم و إن كانت العين باقية على الأقوى (1).

______________________________

(1) وقع التعرّض في هذه المسألة لأُمور مشتركة في كون رجوع الشاهدين بعد الحكم:

الأمر الأوّل: ما لو كان الرجوع بعد الحكم و الاستيفاء و تلف المشهود به عند المحكوم له بالإتلاف أو بغيره، و عليهما الغرم في هذه الصورة من دون أن ينتقض الحكم لمرسلة جميل المتقدّمة، و لموثّقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن عليّ (عليهم السّلام): أنّ النبي (صلّى اللّٰه عليه و آله) قال: من شهد عندنا ثمّ غيّر أخذناه بالأوّل و طرحنا الأخير «1».

و رواية هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: كان أمير المؤمنين (عليه السّلام) يأخذ بأوّل الكلام دون آخره «2» و في نسخة الوسائل «لا يأخذ» «3»، لكنّ الظاهر كما في

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 282 ح 775، الفقيه: 3/ 27 ح 74، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 328، كتاب الشهادات ب 11 ح 4.

(2) التهذيب: 6/ 310 ح 853.

(3) وسائل الشيعة: 27/ 216، كتاب القضاء، أبواب آداب القاضي ب 4 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء

و الشهادات، ص: 601

..........

______________________________

هامش الوسائل نقلًا عن التهذيب الذي هو المصدر هو ما ذكرنا، مضافاً إلى أنّ سياق الكلام يقتضي ذلك، كما لا يخفى.

و بالجملة: لا إشكال في أصل الحكم خصوصاً مع قوّة السبب على المباشر.

الأمر الثاني: ما لو كان الرجوع بعد الحكم و قبل الاستيفاء، فإن كان من حدود اللّٰه تعالى محضاً نقض الحكم على المشهور «1»؛ للشبهة الدارئة للحدّ، و كذا ما كان مشتركاً بين اللّٰه تعالى و بين الناس كحدّ القذف و حدّ السرقة، لاشتراك الجميع في السقوط بعروض الشبهة.

نعم جعل في المتن الأشبه عدم النقض بالنسبة إلى سائر الآثار غير الحدّ؛ لفرض تمامية الحكم كالأمثلة المذكورة في المتن، و أمّا بالنسبة إلى الحقوق عدا ما تقدّم كالقتل و الجرح فقد قوّى فيه عدم النقض، و إن تردّد فيه المحقّق في الشرائع «2»، و الوجه في عدم النقض تمامية الحكم لفرض كون الرجوع بعده و قبل الاستيفاء، و لا يكون المورد حدّا حتى يدرأ بالشبهة.

الأمر الثالث: ما لو كان الرجوع بعد الحكم و قبل الاستيفاء في حقوق الناس، و قد قوّى فيه عدم النقض و إن كانت العين باقية؛ لأنّه لا وجه للنقض، و بقاء العين لا دخل له في جواز النقض، و لكنّ المحكي عن نهاية الشيخ «3» تردّ على صاحبها

______________________________

(1) إرشاد الأذهان: 2/ 165، غاية المرام: 4/ 303- 304، مجمع الفائدة و البرهان: 12/ 490- 491، كفاية الفقه، المشتهر ب «كفاية الأحكام»: 2/ 783، كشف اللثام: 10/ 386، رياض المسائل: 13/ 402- 403، جواهر الكلام: 41/ 222.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 142- 143.

(3) النهاية: 336.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 602

..........

______________________________

و لا غرامة

على الشهود، و استدلّ له برواية جميل، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في شاهد الزور قال: إن كان الشي ء قائماً بعينه ردّ على صاحبه، و إن لم يكن قائماً ضمن بقدر ما أتلف من مال الرجل «1».

______________________________

(1) الكافي: 7/ 384 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 259 ح 686، الفقيه: 3/ 35 ح 116، و عنها وسائل الشيعة:

27/ 327، كتاب الشهادات ب 11 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 603

[مسألة 10 إن كان المشهود به قتلًا أو جرحاً موجباً للقصاص و استوفي ثمّ رجعوا]

مسألة 10 إن كان المشهود به قتلًا أو جرحاً موجباً للقصاص و استوفي ثمّ رجعوا فإن قالوا: تعمّدنا اقتصّ منهم، و إن قالوا: أخطأنا كان عليهم الدية في أموالهم، و إن قال بعضهم: تعمّدنا و بعضهم: أخطأنا، فعلى المقرّ بالتعمّد القصاص و على المقرّ بالخطإ الدّية بمقدار نصيبه، و لوليّ الدم قتل المقرّين بالعمد أجمع و ردّ الفاضل عن دية صاحبه، و له قتل بعضهم و يردّ الباقون قدر جنايتهم (1).

______________________________

(1) لو كان المشهود به قتلًا أو جرحاً موجباً للقصاص، و قد تحقّق الاستيفاء بعد الحكم مستنداً إلى شهادة الشهود ثمّ رجعوا بأجمعهم، فإن قالوا: تعمّدنا ففي المتن اقتصّ منهم، و ظاهره القصاص من الجميع، و أنّه لا مانع من قتل الأربع بقتل نفس واحدة مثلًا، كما لو اشترك اثنان فما زاد في قتل واحد، فإنّه يجوز الاقتصاص من جميع المشتركين إذا أراد الولي. غاية الأمر أنّه يردّ عليهم ما فضل من دية المقتول، فيأخذ كلّ واحد ما فضل من ديته، و في ذيل المسألة التصريح بذلك.

و إن قالوا: أخطأنا فعليهم الدية في أموالهم؛ لأنّه شبه عمد و الدية فيه على الجاني، و ذكر في كشف اللثام: إنّه

لا يثبت بإقرارهم إلّا أن تصدّقهم العاقلة «1» و الوجه فيه أنّه إقرار عليهم لا على أنفسهم، و لا يقبل إقرار العقلاء إلّا على أنفسهم، لكنّ الظاهر أنّ ثبوت الدية عليهم لا لأجل ثبوت الخطأ بل لأجل أنّه لا يعرف التعمّد و الخطأ غالباً إلّا من قبلهم.

و إن قال بعضهم: تعمّدنا و بعضهم: أخطأنا، فعلى المقرّ بالتعمّد القصاص،

______________________________

(1) كشف اللثام: 10/ 375.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 604

..........

______________________________

و على المقرّ بالخطإ نصيبه من الدّية.

و قد عرفت أنّه في صورة الإقرار بالتعمّد لوليّ الدم قتل المقرّين أجمع و ردّ الفاضل عن دية صاحبه، كما في الشركة على ما تقدّم، و يدلّ عليه بعض النصوص كموثّقة السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن علي (عليهم السّلام) في رجلين شهدا على رجل أنّه سرق فقطعت يده، ثمّ رجع أحدهما، فقال: شبّه علينا، غرّما دية اليد من أموالهما خاصة. و قال في أربعة شهدوا على رجل أنّهم رأوه مع امرأة يجامعها و هم ينظرون، فرجم ثمّ رجع واحد منهم، قال: يغرم ربع الدية إذا قال: شبّه عليّ، و إذا رجع اثنان و قالا: شبّه علينا غرّما نصف الدية، و إن رجعوا كلّهم و قالوا: شبّه علينا غرموا الدية، فإن قالوا: شهدنا بالزور قتلوا جميعاً «1».

و من الواضح أنّ المراد بقوله: «قتلوا جميعاً» هو جواز قتل الجميع لا وجوبه.

و ذكر في الجواهر: إنّ من قوله (عليه السّلام) الثاني يعلم أنّ المراد من قوله الأوّل: «رجع أحدهما فقال ..» إلى آخره رجوعهما معاً، و إن كان المتكلّم أحدهما بقرينة قوله «شبّه علينا»، و لذا حكم بغرامتهما معاً الدية «2».

و ممّا ذكرنا ظهر حكم ما لو أراد

قتل بعض المقرّين بالتعمّد.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 285 ح 788، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 332، كتاب الشهادات ب 14 ح 2.

(2) جواهر الكلام: 41/ 226.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 605

[مسألة 11 لو كان المشهود به ما يوجب الحدّ برجم أو قتل]

مسألة 11 لو كان المشهود به ما يوجب الحدّ برجم أو قتل، فإن استوفي ثمّ قال أحد الشهود بعد الرجم مثلًا: كذبت متعمّداً و صدّقه الباقون و قالوا: تعمّدنا، كان لوليّ الدم قتلهم بعد ردّ ما فضل من دية المرجوم، و إن شاء قتل واحداً و على الباقين تكملة ديته بالحصص بعد وضع نصيب المقتول، و إن شاء قتل أكثر من واحد و ردّ الأولياء ما فضل من دية صاحبهم، و أكمل الباقون ما يعوز بعد وضع نصيب من قتل، و إن لم يصدّقه الباقون مضى إقراره على نفسه فحسب، فللوليّ قتله بعد ردّ فاضل الدية عليه، و له أخذ الدية منه بحصّته (1).

______________________________

(1) الفرق بين هذه المسألة و المسألة المتقدّمة أمّا من جهة الموضوع فهو أنّ المفروض هناك ما لو كان المشهود به قتلًا أو جرحاً موجباً للقصاص، و هنا ما لو كان المشهود ما يوجب الحدّ برجم أو قتل، و أمّا من جهة الحكم ففي صورة ما لو قال أحد الشهود بعد الرجم مثلًا: كذبت متعمّداً، و صدّقه الباقون بأن قالوا: تعمّدنا جميعاً، تشترك المسألتان في أنّه يجوز لوليّ الدم قتلهم بعد ردّ ما فضل من دية المرجوم، و يجوز له قتل الواحد و الأكثر، و إن لم يصدّقه الباقون لم يمض إقراره إلّا على نفسه فحسب.

و لكن قال الشيخ في محكي النهاية: يقتل و يردّ عليه الباقون ثلاثة أرباع الدية «1»، و ذكر المحقّق

في الشرائع: أنّه لا وجه له «2»، مع دلالة بعض الروايات عليه، مثل:

صحيحة إبراهيم بن نعيم الأزدي، قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السّلام) عن أربعة شهدوا على رجل بالزنا، فلمّا قتل رجع أحدهم عن شهادته؟ قال: فقال: يقتل الرابع

______________________________

(1) النهاية: 335.

(2) شرائع الإسلام: 4/ 143.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 606

..........

______________________________

(الراجع خ ل) و يؤدّي الثلاثة إلى أهله ثلاثة أرباع الدية «1»، و لكنّه حملها صاحب الجواهر «2» على اعتراف الباقين بالخطإ، كما أنّه قد حمل رواية مسمع كردين، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في أربعة شهدوا على رجل بالزنا فرجم، ثمّ رجع أحدهم، فقال: شككت في شهادتي، قال: عليه الدية. قال: قلت: فإنّه قال: شهدت عليه متعمّداً، قال: يقتل «3» على ربع الدية لا تمامها، و كيف كان فالحقّ مع ما في المتن.

______________________________

(1) الكافي: 7/ 384 ح 5، تهذيب الأحكام: 6/ 260 ح 690، و ج 10/ 311 ح 1160، و عنهما وسائل الشيعة:

27/ 329، كتاب الشهادات ب 12 ح 2.

(2) جواهر الكلام: 41/ 227- 228.

(3) الفقيه 3/ 30 ح 90، و عنه وسائل الشيعة: 27/ 329، كتاب الشهادات ب 12 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 607

[مسألة 12 لو ثبت أنّهم شهدوا بالزور نقض الحكم و استُعيد المال إن أمكن و إلّا يضمن الشهود]

مسألة 12 لو ثبت أنّهم شهدوا بالزور نقض الحكم و استُعيد المال إن أمكن و إلّا يضمن الشهود، و لو كان المشهود به قتلًا ثبت عليهم القصاص، و كان حكمهم حكم الشهود إذا رجعوا و أقرّوا بالتعمّد، و لو باشر الولي القصاص و اعترف بالتزوير كان القصاص عليه لا الشهود، و لو أقرَّ الشهود أيضاً بالتزوير، و يحتمل في هذه

الصورة كون القصاص عليهم جميعاً، و الأوّل أشبه (1).

______________________________

(1) لو ثبت بالعلم من أيّ طريق أنّهم شهدوا بالزور انتقض الحكم، أي ظهر بطلانه و عدم صحّته لتبيّن اختلال ميزان الحكم، و حينئذٍ يستعاد المال المأخوذ باستناد الحكم إن أمكن، و إلّا يكون الشهود ضامناً لاستناد الإتلاف إليهم، و لو كان المشهود به قتلًا ثبت عليهم القصاص، و كان حكمهم حكم الشهود إذا رجعوا و أقرّوا بتعمّد الكذب.

و لو باشر الوليّ القصاص و اعترف هو خاصّة بالتزوير كان القصاص عليه لا الشهود، كما أنّ عليه الدية لو اعترف بالخطإ، و لو أقرّ الشهود أيضاً فقد احتمل فيه وجهين: أحدهما: كون القصاص على الوليّ فقط لا الشهود، ثانيهما: كون القصاص في هذه الصورة عليهم جميعاً من الوليّ و الشهود لتزويرهم كذلك، و لكنّه جعل الأوّل أشبه، و الوجه في الأشبهية كونه المباشر للقصاص، و التزوير و إن كان مشتركاً بينهما إلّا أنّ المباشرة معه موجبة للقصاص، و لا يكون السبب هنا أقوى من المباشر لوجود التزوير فيه أيضاً، و هم معه كالممسك مع القاتل، حيث إنّ القصاص على القاتل، و مجرّد تعاون الممسك على القتل لا يوجب صيرورته كالقاتل من هذه الجهة، كما لا يخفى.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 608

[مسألة 13 لو شهد اثنان على رجل بسرقة فقطعت يده ثمّ ثبت تزويرهما، فللولي القصاص منهما]

مسألة 13 لو شهد اثنان على رجل بسرقة فقطعت يده ثمّ ثبت تزويرهما، فللولي القصاص منهما بعد ردّ نصف الدية إليهما و من واحد منهما، و يردّ الآخر ربع الدية إلى صاحبه، و لو رجعا في الفرض، فإن قالا: تعمّدنا فمثل التزوير، و إن قالا: أوهمنا و كان السارق فلاناً غيره أغرما دية اليد، و لم يقبل شهادتهما على الآخر

(2).

______________________________

(1) هذه المسألة هي التي وردت فيها صحيحة محمد بن قيس المتقدّمة، عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: قضى أمير المؤمنين (عليه السّلام) في رجل شهد عليه رجلان بأنّه سرق فقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل آخر فقالا: هذا السارق و ليس الذي قطعت يده، انّما شبّهنا ذلك بهذا، فقضى عليهما أن غرّمهما نصف الدية، و لم يجز شهادتهما على الآخر «1».

و من الواضح أنّ غرامة نصف الدية إنّما هي فيما لو قالا: أوهمنا، و أمّا مع التعمّد الذي هو مثل التزوير المفروض في أصل المسألة فالحكم فيه القصاص منهما أو من أحدهما، غاية الأمر انّه مع القصاص منهما يجب عليه ردّ نصف الدية إليهما، و مع القصاص من أحدهما يردّ الآخر ربع الدية إلى صاحبه، كما لا يخفى.

______________________________

(1) تقدّمت في ص 598.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 609

[مسألة 14 لو شهدا بالطلاق ثمّ رجعا بعد حكم الحاكم لم ينقض حكمه]

مسألة 14 لو شهدا بالطلاق ثمّ رجعا بعد حكم الحاكم لم ينقض حكمه، فإن كان الرجوع بعد دخول الزوج لم يضمنا شيئاً، و إن كان قبله ضمنا نصف مهر المسمّى، و في هذا تردّد (1).

______________________________

(1) لو شهدا بالطلاق ثمّ رجعا بعد حكم الحاكم و تزويجها بالغير لم ينقض حكمه؛ لأنّ الرجوع لا يستلزم اتّصافهما بالفسق حال الطلاق؛ لأنّه مضافاً إلى احتمال كذبهما في حال الرجوع يمكن أن يكون للرجوع أغراض و مقاصد أُخرى، ففي المتن أنّه إن كان الرجوع بعد دخول الزوج أي الثاني لم يضمن الشاهدان شيئاً، فإنّ الدخول موجب لثبوت تمام المهر على الزوج من دون فرق بين العقد الصحيح و العقد الفاسد، و إن كان قبل الدخول ضمن الشاهدان نصف مهر المسمّى الواجب

بالعقد الصحيح، و قد تردّد فيه الماتن (قدّس سرّه)، و منشأ الترديد مع أنّ البضع لا يضمن بالتفويت و لذا لا يضمن بقتل الغير إيّاها أو قتلها نفسها، و لا يترتّب عليه إلّا ما يترتّب على غيره من دون ضمان البضع وجود بعض الروايات، مثل:

صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السّلام) في رجلين شهدا على رجل غائب عن امرأته أنّه طلّقها فاعتدّت المرأة و تزوّجت، ثمّ إنّ الزوج الغائب قدم فزعم أنّه لم يطلّقها، و أكذب نفسه أحد الشاهدين، فقال: لا سبيل للأخير عليها، و يؤخذ الصداق من الذي شهد و رجع، فيردّ على الأخير و يفرّق بينهما، و تعتدّ من الأخير، و لا يقربها الأوّل حتى تنقضي عدّتها «1».

______________________________

(1) الفقيه: 3/ 36 ح 120، مستطرفات السرائر: 82 ح 18، تهذيب الأحكام: 6/ 285 ح 789، الاستبصار: 3/ 38 ح 129، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 331، كتاب الشهادات ب 13 ح 3.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 610

..........

______________________________

و موثّقة إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) في شاهدين شهدا على امرأة بأنّ زوجها طلّقها فتزوّجت ثمّ جاء زوجها فأنكر الطلاق، قال: يضربان الحدّ و يضمّنان الصداق للزوج، ثمّ تعتدّ ثمّ ترجع إلى زوجها الأوّل «1»، و رواه في الوسائل في الباب الواحد مرّتين مع وضوح الوحدة و عدم التعدّد، و في الجواهر بعد ذكر الخبرين: إلّا أنّ الأخير منهما كما ترى خال عن رجوع الشاهدين أو أحدهما، و حينئذٍ يشكل ضربهما الحدّ، كما أنّه يشكل نقض الحكم بمجرّد إنكار الزوج، فهو حينئذٍ شاذّ غير موافق لما سمعته من الشيخ و لا من غيره،

و حمله على ما ذكره الشيخ ليس بأولى من حمله على تزويجها بشهادتهما من دون حكم الحاكم، ثمّ لمّا جاء الزوج رجعا عن الشهادة و اعترفا بأنّهما شهدا زوراً إلى أن قال-: و أمّا الأوّل فهو مع خلوّه عن الحدّ الذي ذكره الشيخ و الرجوع عن الشهادة أعمّ من إيجاب الحدّ، إذ لعلّه خطأ «2».

و ما حكاه عن الشيخ في النهاية في أوّل البحث هو أنّه إن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته فاعتدّت و تزوّجت و دخل بها ثمّ رجعا وجب عليهما الحدّ و ضمن المهر للزوج الثاني، و ترجع المرأة إلى الأوّل بعد الاستبراء بعدّة من الثاني «3».

أقول: لا يكون في الخبرين فرض الدخول و عدمه، و قد ثبت في كتاب

______________________________

(1) الكافي: 7/ 384 ح 3، تهذيب الأحكام: 6/ 260 ح 689 و ص 286 ح 791، الاستبصار: 3/ 38 ح 128، الفقيه: 3/ 36 ح 119، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 331، كتاب الشهادات ب 13 ح 1 و 2.

(2) جواهر الكلام: 41/ 232- 233.

(3) النهاية: 336، و تبعه القاضي في المهذّب: 2/ 563.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 611

..........

______________________________

النكاح أنّ الدخول موجب لثبوت المهر المسمّى و إن كان مرّة واحدة «1». و قد قلنا: أنّه في هذه الصورة يضمن الزوج الثاني، و في فرض عدم الدخول أصلًا يكون ظاهر الآية الشريفة «2» ثبوت النصف في صورة الطلاق، و هذه لا تحتاج إلى طلاق أصلًا، فثبوت ضمان نصف المهر على الشاهدين مع عدم الدخول محلّ ترديد كما في المتن.

______________________________

(1) تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة، كتاب النكاح: 201- 203، 404- 407، 442- 444.

(2) سورة البقرة

2: 237.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 612

[مسألة 15 يجب أن يشهر شهود الزور في بلدهم أو حيّهم لتجتنب شهادتهم و يرتدع غيرهم]

مسألة 15 يجب أن يشهر شهود الزور في بلدهم أو حيّهم لتجتنب شهادتهم و يرتدع غيرهم، و يعزّرهم الحاكم بما يراه، و لا تقبل شهادتهم إلّا أن يتوبوا و يصلحوا و تظهر العدالة منهم، و لا يجري الحكم فيمن ثبت غلطه أو ردّت شهادته لمعارضة بيّنة أُخرى أو ظهور فسق بغير الزّور (1).

______________________________

(1) قال في الجواهر: يجب تعزير شاهد الزور بلا خلاف أجده فيه بما يراه الحاكم من الجلد و النداء في قبيلته و محلّته بأنّه كذلك، ليرتدع غيره بل هو فيما يأتي «1». و في موثّقة سماعة، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: شهود الزور يجلدون حدّا و ليس له وقت، ذلك إلى الإمام، و يطاف بهم حتى يعرفوا و لا يعودوا. قال: قلت: فإن تابوا و أصلحوا تقبل شهادتهم بعد؟ قال: إذا تابوا تاب اللّٰه عليهم و قبلت شهادتهم بعد «2».

و في رواية عبد اللّٰه بن سنان، عن أبي عبد اللّٰه (عليه السّلام) قال: إنّ شهود الزور يجلدون جلداً «3» ليس له وقت، ذلك إلى الإمام، و يطاف بهم حتى تعرفهم الناس، و تلا قوله تعالى وَ لٰا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ. إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا «4»، قلت: بِمَ تعرف توبته؟ قال: يكذّب نفسه على رءوس الأشهاد حيث يضرب و يستغفر ربّه عزّ و جلّ، فإذا هو فعل ذلك فثمَّ ظهرت توبته «5».

______________________________

(1) جواهر الكلام: 41/ 252.

(2) الفقيه: 3/ 35 ح 117، عقاب الأعمال: 269 ح 4، و عنها وسائل الشيعة: 27/ 333، كتاب الشهادات ب 15 ح 1.

(3) في الفقيه «حدّا» بدل جلداً.

(4) النور

24: 4 5.

(5) الفقيه: 3/ 35 ح 121، تهذيب الأحكام: 6/ 263 ح 699، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 334، كتاب الشهادات ب 15 ح 2.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 613

..........

______________________________

و موثقة غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه (عليهما السّلام) أنّ عليّاً (عليه السّلام) كان إذا أخذ شاهد الزّور، فإن كان غريباً بعث به إلى حيّه، و إن كان سوقيّاً بعث به إلى سوقه فطيف به، ثمّ يحبسه أيّاماً ثمّ يخلّي سبيله «1».

و من ملاحظة هذه الروايات ظهر أنّ المورد ما إذا كذّب الشاهد نفسه بأن اعترف بالشهادة متعمّداً للكذب، فلا يشمل من ثبت غلطه أو ردّت شهادته؛ لمعارضة بيّنة أُخرى أرجح، بل و لو ظهر الفسق من غير هذه الناحية أي شهادة الزور كشرب الخمر و نحوه، كما أنّه ظهر أنّ المراد من قوله تعالى تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا ليس أمرين: التوبة، و الإصلاح زائداً عليها، بل الإصلاح عبارة أُخرى عن التوبة، كما بيّناه في بعض المباحث السابقة، خلافاً لمثل الشيخ و المحقّق (قدّس سرّهما) حيث رأيا كون الإصلاح أمراً زائداً على التوبة فراجع «2».

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات؛ ص: 613

______________________________

(1) تهذيب الأحكام: 6/ 280 ح 770، الفقيه: 3/ 35 ح 118، و عنهما وسائل الشيعة: 27/ 334، كتاب الشهادات ب 15 ح 3.

(2) في ص 468- 469.

تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، ص: 614

..........

______________________________

و قد وقع الفراغ من تسويد هذه الأوراق بيد العبد المفتاق إلى رحمة ربّه الغني محمد الفاضل اللنكراني ابن الفقيه الفقيد آية اللّٰه الحاج الشيخ فاضل اللنكراني قدّس سرّه الشريف في اليوم الثاني من شهر صفر الخير من شهور سنة 1420 الهجرية القمرية، و من اللّٰه أستمد لإتمام شرح كتاب «تحرير الوسيلة» للإمام الراحل الخميني (قدّس سرّه) المسمّى ب «تفصيل الشريعة»، و إن كانت الآلام و الأسقام الروحية و الجسمية ربما تمنعان عن ذلك، لكن نعماؤه التي لا تعدّ و آلاؤه التي لا تحصى فائقة على كلّ شي ء، فالحمد للّٰه أوّلًا و آخراً و ظاهراً و باطناً.

________________________________________

لنكرانى، محمد فاضل موحدى، تفصيل الشريعة في شرح تحرير الوسيلة - القضاء و الشهادات، در يك جلد، مركز فقهى ائمه اطهار عليهم السلام، قم - ايران، اول، 1420 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.